قلت للموكل: لا. إنك جئتني لأن ابن عمتي مدير عام مصلحة الضرائب، فهذه قضية وساطة وليست قضية محكمة، وسأتولاها ولكن لن أتقاضى منك مليما واحدا؛ لأنه سيكون رشوة ولن يكون أتعابا.
وسعيت في القضية ووفقت فيها ولم أتقاض أية أتعاب.
أما الحادثة الأخرى فكانت حين جاءني موكل أعرف أسرته لأترافع عن أخيه المتهم بالاشتراك في قتل سيدة عجوز ابنها ضابط بالجيش، وكان القتل بقصد السرقة، وكانت أسرة المتهم على صلة ببيتنا فقد كنا نبرهم، وكانت القضية شهيرة وقد كان كثير من المحامين على استعداد أن يدفعوا هم أموالا لأقارب المتهم ليترافعوا في هذه القضية، وكان المحامون عن المتهمين الآخرين أحمد بك رشدي، واحد من أعظم المحامين في عصره. وعلي بك أيوب الوزير السابق والمحامي العملاق، وكان مجرد وقوفي إلى جانب هذين الاسمين الجليلين أمرا من شأنه أن يجلب لي شهرة واسعة في دنيا المحاماة.
وعدت أن أطلع على الدوسيه، واطلعت وجاء أخو المتهم فقلت له: هل ارتكب أخوك الجريمة.
فأطرق وقال: نعم.
قلت: لقد قضى أخوك بعض الوقت في مستشفى الأمراض العصبية، وهذا يتيح لي أن أطلب التخفيف وليس البراءة، فإن قبلت أنا تحت أمرك، وإلا فاذهب إلى محام آخر فنحن أقسمنا ألا نقول إلا الحق، ولا أستطيع أن أحنث بقسمي.
وطبعا لم يعد، وقد تتبعت هذه القضية في الصحف وكانت قضية ذات شهرة أسمتها الصحف قضية أم الضابط، وقد تخلى عن القضية كل من أحمد رشدي وعلي أيوب وتولاها محام ذو شهرة واسعة حتى الآن، واستطاع بفضل ألمعيته أن يحصل للمتهمين الأربعة على الإعدام، ولعله من الطريف أن أذكر تعقيبا على هذه الواقعة حدث بيني وبين كبير المحامين في عصرنا مصطفى بك مرعي الوزير السابق، فقد رويت له هذه الواقعة فذكر لي قاعدة لم أكن أعرفها، قال لي: إن المحامي لا يسأل الموكل إن كان ارتكب الجرم أم لا، ولا شأن له إلا بالأوراق التي أمامه هي التي تكلمه، وهكذا يتخلص كبار المحامين من تأنيب الضمير.
وهكذا وجدت نفسي لا أصلح محاميا على أية حال.
وذهبت إلى عمي فكري باشا وقابلت إميل زيدان وتم تعييني فلم أمكث محررا بالمصور إلا نصف ساعة، ولم تكن الصحف قد أممت بعد طبعا، والذي حدث أنني أعطيت مقالة لرئيس القسم الذي سأعمل معه فوجدته يبدي ملاحظات تدل على أنه لا صلة له مطلقا لا بالأدب ولا بالصحافة، وأدركت أنني كل يوم سأظل رائحا جائيا بين مكتبي ومكتب عمي فكري باشا لأكلمه في الخلافات التي ستقع بيني وبين رئيس القسم الذي أعمل معه، والتردد على رئيس التحرير إذا جاز لكل المحررين والكتاب، فإنه لا يجوز لشخص هو بمثابة ابن أخي رئيس التحرير.
فخرجت من دار الهلال إلى لا عودة، وإن ظللت أمدها بقصصي القصيرة من الخارج.
صفحة غير معروفة