قال أما تعبده رضي الله عنه فإنه قل أن سمع بمثله، لأنه كان قد قطع جل وقته وزمانه فيه، حتى إنه لم يجعل لنفسه شاغلة تشغله عن الله تعالى ما يراد له من أهل ولا من مال. وكان في ليلة متفردا عن الناس كلهم، خاليا بربه عز وجل، ضارعا، مواظبا على تلاوة القرآن العظيم. مكررا لأنواع التعبدات الليلية والنهارية. وكان إذا ذهب الليل وحضر مع الناس بدأ بصلاة الفجر يأتي بسنها قبل إتيانه إليهم. وكان إذا أحرم بالصلاة يكاد يخلع القلوب لهيبة إتيانه بتكبيرة الإحرام. فإذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه حتى يميد يمنة ويسرة. وكان إذا قرأ يمد قراءته مدا كما صح في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ركوعه وسجوده وانتصابه عنهما من أكمل ما ورد في صلاة الفرض. وكان يخف جلوسه للتشهد الأول خفة شديدة، ويجهر بالتسمية الأولى حتى يسمع كل من حضر. فإذا فرغ من الصلاة أثنى على الله عز وجل هو من حضر بما ورد من قوله [اللهم أنت السلام.. الحديث]. ثم يقبل على الجماعة، ثم يأتي بالتهليلات الواردات حينئذ. ثم يسبح الله ويحمده ويكبره ثلاثا وثلاثين، ويختم المائة بالتهليل. كما أورد، وكذا الجماعة، ثم يدعو الله تعالى له ولهم وللمسلمين أجناس ما ورد.
وكان غالب دعائه (اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، وأمكر لنا ولا تمكر علينا، وأهدنا ويسر الهدى لنا، اللهم اجعلنا لك شاكرين، لك ذاكرين، إليك راغبين، لك مخبتين، إليك راهبين، لك مطاويع. ربنا تقبل توباتنا، وأغسل حوباتنا، وثبت حججنا، واهد قلوبنا، واسلل سخيمة صدورنا) يفتتحه ويختمه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم يشرع في الذكر. وكان قد عرفت عادته لا يكلمه أحد بغير ضرورة بعد صلاة الفجر. فلا يزال في الذكر يسمع نفسه، وربما يسمع ذكره من الروحانية، مع كونه في خلال ذلك يكثر من تقليب بصره نحو السماء. هكذا دأبه حتى ترتفع الشمس وتزول، وقت النهي عن الصلاة.
صفحة ٢١