وما إن يئست من جدوى الاستمرار في مكاني، حتى نهضت واقفا وأنا أجذب سروالي إلى أعلى بسرعة، وخطوت نحو الغرفة شاعرا بضيق وإحباط شديدين. وجلست إلى مكتبي، بينما احتل هو المقعد ذي المسندين.
أشعلت سيجارة جديدة، ومددت يدي إلى البطاقات المصفوفة في صندوق الأحذية، وجعلت أقلب بينها وأنا أشعر بعيني القصير على وجهي.
كان علي أن أجد وسيلة لمواصلة البحث الذي بدأته، ترضى عنها اللجنة وتباركها، فهل يتحقق ذلك باستبعاد جوانب معينة من سيرة «الدكتور»؟ أم بالاقتصار على ناحية بعينها من نواحي شخصيته الغنية؟ وأي ناحية منها؟ أم أن الأمر يتطلب التخلي تماما عن المنهاج المبتكر الذي عرضته على اللجنة، والأخذ بالمنهج التقليدي الذي يتتبع مراحل الحياة؟
وكلما أمعنت التفكير استولى علي القنوط؛ فالمنهج التقليدي حافل بأخطار بالغة، أشرت إليها في حينها، وتجلى لي من ناحية أخرى، الترابط بين جوانب كل من سيرته وشخصيته بحيث يصعب تناول أحدها بمعزل عن الأخرى.
فكيف يمكن الحديث عن ثرائه دون الإشارة إلى مصدره. وعندئذ لن يكون بوسعي تجاهل الحقائق المتعلقة بهذا الشأن، وإلا أكون قد أخللت بالمبدأ الأساسي الذي بلوره بلزاك في عبارته الشهيرة: «خلف كل ثروة كبيرة، جريمة كبيرة.» وأصبحت من بعده ديدنا لكافة الباحثين المعاصرين.
ولا يمكنني بالمثل أن أتجاهل ضعة أصله، أو دوره الوطني وعلاقته بالثورة، أو دعوته للوحدة العربية والاشتراكية، ونشاطه الاقتصادي المتشعب، أو عمالته للشركات الأجنبية، والجوائز الدولية التي فاز بها في هذا المضمار، ولا طمعه في أموال بترول الخليج، التي تذهب إلى أصحابها الحقيقيين في أوروبا والولايات المتحدة عن طريق وسطاء غيره. فماذا يتبقى منه لو فعلت؟
خاطبني القصير بغتة في لهجة ودية، ظاهرها عدم المبالاة: «بالمناسبة، لقد سمعتك أمس تتحدث عن اكتشافات هامة توصلت إليها من خلال دراستك عن «الدكتور». وإن لم تخني ذاكرتي فإنك قلت إنك قادر على إماطة اللثام عن ألغاز كثيرة، فماذا كنت تعني؟»
شعرت بالخطر ؛ فحاولت التهرب من الإجابة.
قلت مهونا: «الواقع أني لم أتوصل بعد إلى شيء. وما أردت أن أقوله - ولعل التعبير خانني - هو أني مقبل على فهم العلاقة بين عديد من الظواهر المتفرقة.»
قال: «مثل؟»
صفحة غير معروفة