تنحنح القصير الذي صرت أبادله الكراهية، وبعد أن التفت للعجوز مستأذنا، وجه إلي الحديث بلهجة متكلفة: «إن إجابتك المستفيضة تكشف عن سعة اطلاعك في الشئون المعاصرة، ونحن نتمنى أن تكون على نفس القدر من السعة (وهنا لم أملك نفسي من الابتسام) بالنسبة للقضايا التاريخية.»
التمعت العينان الملونتان لذي الشعر الأشقر وقال لزميله القصير: «إذا سمحت لي.»
ثم اتجه إلي قائلا: «سنختبر هذه النقطة حالا. وبالنظر للأهمية التي أعطيتها في حديثك للشكل الهرمي، فليكن الهرم الأكبر موضوعنا. فلا يساورني الشك في أنك تتمنى الجلوس فوق قمته. على أن لك مطلق الحرية في اختيار الزاوية التي تريد الحديث عنها.»
للوهلة الأولى فرحت؛ فها هو موضوع أعرفه جيدا بحكم مصريتي، وأستطيع أن أصول وأجول فيه كما أشاء، لكن قلبي سرعان ما حدثني بأن هناك شركا كبيرا في انتظاري، وتضرعت إلى الله أن يلهمني كي أتجنبه، وأزيل أيضا الأثر السيئ الذي أحدثته كلمتي السابقة. ولم يلبث الله أن استجاب لدعائي؛ فأنار بصيرتي، وانطلقت أتكلم بثقة وطمأنينة: «إن المجموعة المعمارية المؤلفة من الأهرامات الثلاثة وأبي الهول، والتي شيدت قبل خمسة آلاف سنة، ما زالت تمثل لغزا من الألغاز التي تتحدى العقل الإنساني، وتشهد بعبقرية من شيدوها.
وكلنا - ولا شك - تابعنا المحاولة الأخيرة التي قام بها العلماء الأمريكان لكشف هذا اللغز بالأجهزة الإلكترونية المتقدمة، ولم تسفر عن شيء.
فما زال العلماء مختلفين في الغرض من إقامة الأهرامات وكيفية بنائها؛ فمنهم من يرى أنها شيدت لتكون مراصد لتسجيل ما حدث، والتنبؤ بما سيحدث. ويقول دافيدسون: إن السطوح الخارجية للهرم الأكبر صممت بحيث تعكس الضوء. وبذلك يكون الهرم بمثابة مزولة شمسية تعين مواعيد البذار والحصاد.
وهناك بالطبع الاحتمال الأغلب، وهو تخليد أسماء الملوك والمحافظة على جثثهم؛ فلا شك أن الغرض الواضح من بناء الأهرامات هو أن تكون بمثابة مقابر خالدة. وإن كان خوفو قد نجح في تخليد اسمه أكثر من أي ملك آخر في التاريخ، فإن الغرض الأساسي من بناء الهرم، وهو المحافظة على جثته لم يتحقق؛ لأنها اختفت رغم الشبكة الداخلية المتقنة من الممرات والغرف التي أخفيت عمدا أثناء البناء.
ونحن نعرف من هيرودوت أن الأحجار المستخدمة في بناء الهرم الأكبر كانت تنقل بواسطة نهر النيل، عبر طريق بناه مائة ألف عامل في عشر سنوات، وبعد ذلك ترفع من درجة إلى أخرى في البناء بواسطة روافع مصنوعة من قضبان قصيرة.
وليس هناك من دليل على أن المصريين استخدموا - في أي عصر من عصور تاريخهم - أجهزة ميكانيكية عدا الرافعة والبكرة والمنحدر المائل؛ ولهذا يميل الكثيرون إلى الاعتقاد بأن ضخامة البناء ودقته تقطعان بأن وسائل ميكانيكية سرية - ضاع سرها - قد استخدمت في إتمامه. وربما كان هذا مبعث الخلاف الناجم بشأن دور الإسرائيليين في بنائه؛ فالبعض يقول إن خوفو نفسه كان من ملوك بني إسرائيل في حقيقة الأمر، وقد أخفى ذلك طبقا لتقاليد هذا الشعب، الذي أجبره الاضطهاد المتواصل منذ فجر التاريخ على أن يتسلح بالسرية التامة في كل أموره. والبعض الآخر يقول إن خوفو لم يكن سوى فرعون مصري، لكنه استعان بالعبقرية اليهودية لحل المشاكل المعقدة التي طرحها بناء هذه الأعجوبة المعمارية.
والواقع أن الخواص الهندسية للهرم الأكبر تدل على دراية وافرة بعلم الهندسة، وقدرة فائقة على الابتكار والإبداع. وهما أمران لم يتوفرا بالطبع لدى المصريين؛ ولهذا فمن الأرجح أن يكونوا قد استعانوا بالخبرة الأجنبية الإسرائيلية. وإن كان هناك من يؤكد أن الإسرائيليين كانوا عبيدا لخوفو، وأن هذا الملك المستبد أرغمهم على العمل في بناء الأهرام. وهذه النقطة بالذات محل مناقشة، فإذا كان من الصعب إنكار الطابع الاستبدادي لفراعنة مصر على مر الزمن، فمن العسير أن نتصور أن بناء بهذه العظمة والدقة يمكن أن يكون وليد السخرة وحدها، والأقرب إلى التصديق أن يكون وليد إيمان عميق بديانة تضع الفرعون على قمة الوجود.
صفحة غير معروفة