وسمع صوتها كأنما هو آت من بعيد، وأراد أن يفتح فمه ويقول لها: لا، أنا لم أنم، ولكني لا أرى ولا أحس.
ولكنه لم يستطع أن يفصل شفتيه الجافتين اليابستين عن بعضهما، أو لعله استطاع أن يفعل لكن صوته لم يخرج من بينهما، وضاع في ذلك السرداب الخاوي المظلم الذي يصل بين قلبه وشفتيه.
وعادت شفتاه إلى الالتصاق، لكن جفونه انفرجت عن عينين واسعتين بارزتين، يغرق سوادهما الصغير الباهت في صفار كروي كبير تتخلله شعيرات دموية حمراء.
ودارت عيناه حول نفسيهما فرأى وجه زوجته يستطيل تارة حتى يشبه البلطة، ثم يستدير تارة أخرى كالبلونة. - أبو محمود، أبو محمود، قوم ربنا يفتح عليك، النهار قرب ينتهي والبنك حيقفل.
وتنبه أبو محمود حين سمع كلمة «والبنك حيقفل»، ورفع رأسه الثقيل وطافت عيناه الصفراوان في الحجرة الضيقة كأنما تبحثان عن شيء، ورأى وابور الجاز على الأرض وإلى جواره صندوق خشبي كبير هو كل ما يملك من أثاث.
ورأى ابنه الرضيع يرفس بقدميه الصغيرتين على البلاط، وإلى جواره فوطة الخبز مبسوطة لا يعلوها شيء.
وقال في صوت ضعيف خائر: فين محمود وسنية يا أم محمود؟ - راحوا للست توحيدة. - مفيش فايدة فيها. - يمكن تحن برغيف يمسك بطنهم لغاية ما ترجع من البنك يا أبو محمود. قوم ربنا يفتح عليك.
واتكأ أبو محمود بذراعيه ونهض على قدميه يستند على الحائط الرمادي المبلل الذي نشعت فيه مياه المطر، وسعل سعالا حادا وهو ينتفض، ثم بصق على البلاط بصقة كبيرة حمراء.
ووضعت زوجته على كتفيه شيئا مهلهلا يشبه المعطف، وقالت وهي تحاول أن تشجعه: ربنا معاك يا أبو محمود؛ يا ريت أروح بدالك النهاردة، لكن أنا دوري بعد أربعة أيام.
وفتح أبو محمود باب الحجرة، فلفحت وجهه ريح باردة، ولف المعطف على رأسه وعبر السطح ثم نزل مستندا على الحائط عشرة أدوار كاملة، وتقطعت أنفاسه وتمزق سعاله حين وصل إلى الشارع الواسع، وأخذ ينقل قدميه بلا وعي، وخيل إليه أنه لا يسير بإرادته، وإنما شيء ما يدفعه من الخلف إلى الأمام.
صفحة غير معروفة