وكنت إذا عرض لي أمران أقدم في أغلب الأحوال حق الحق، فأحسن الله تدبيري وأجراني على ما هو الأصلح لي، ودفع عني الأعداء والحساد ومن يكيدني، وهيأ لي أسباب العلم، وبعث إلي الكسب من حيث لا أحتسب، ورزقني الفهم وسرعة الحفظ وجودة التصنيف، ولم يعوزني شيئا من الدنيا، بل ساق إلي مقدار الكفاية وأزيد، ووضع لي في قلوب الخلق من القبول فوق الحد، وأوقع كلامي في نفوسهم فلا يرتابون بصحته. وقد أسلم على يدي نحو من مائتين من أهل الذمة، ولقد تاب في مجالسي أكثر من مائة ألف، وقد قطعت أكثر من عشرين ألف جمة مما يتعاناه الجهال.
ولقد كنت أدور على المشايخ لسماع الحديث فينقطع نفسي من العدو لئلا اسبق، وكنت أصبح وليس لي ما آكل، وأمسي وليس لي شيء، وما أذلني الله لمخلوق، ولكنه ساق رزقي لصيانة عرضي، ولو شرحت أحوالي لطال الشرح، وها أنا، ترى ما قد آلت الحال إليه، وأنا أجمعه لك في كلمة واحدة وهي قوله تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله} [سورة البقرة/الآية 282].
فصل في التعجيل بالتوبة والندم واستدراك ما فات واغتنام ما بقي
من العمر
فانتبه يا بني لنفسك واندم على ما مضى من تفريطك، واجتهد في لحاق الكاملين، ما دام في الوقت سعة، واسق غصنك ما دامت فيه رطوبة، واذكر ساعاتك التي ضاعت، فكفى بها عظة، ذهبت لذة الكسل فيها، وفاتت مراتب الفضائل، وقد كان السلف رحمهم الله يحبون جمع كل فضيلة، ويبكون على فوات واحدة منها.
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: دخلنا على عابد مريض، وهو ينظر إلى رجليه ويبكي، فقلنا: ما لك تبكي؟ فقال: ما اغبرتا في سبيل الله تعالى؛ وبكى آخر فقيل له: ما يبكيك؟ قال: على يوم مضى ما صمته، وعلى ليلة ذهبت ما قمتها.
صفحة ٥