التوقيع: الأمير بهرام شقيق ملك ملوك ميديا وفارس
فلم يكتف الملك بقراءة الرسالة في نفسه، بل تلاها على الملأ بلسان تثقله نشوة الطرب، فاشتغل المجلس للحين بتهيئة الموكب المطلوب، وحملت إلى الأميرة وإلى منقذها الأمير ملابس الزينة اللائقة بمقامهما الخطير، هذا بعض ما اتخذت الحكومة من التدابير، وما أعدت من الاحتفال لاستقبال الأميرة والأمير، فما بال الشعب وقد عرف القارئ مكان لادياس عنده، وكيف كان يحبها جهده، ولا يريد أن يولي سواها عهده، فلا تسل عن مجالي أفراحه، ومظاهر سروره وانشراحه، وحدث بما شئت عن معالم الأنس في المدينة، وما أضفى عليها توا من حلل الزينة.
فلم يكن الأصيل إلا والبلد قد أزين، والموكب قد سار بين إعظام الخلائق والإكبار.
وكان الملك في انتظار وفود الأميرة بالقصر، فحين أقبل موكبها استقبلها هو وسائر أهل مجلسه، كما يستقبل الشحيح كنزه المفقود، أو العليل الفاني عائد الوجود، وهنأها الجميع على نجاتها من شر الأشقياء، ثم أقبلوا على الأمير بهرام وكان متوجا بأكاليل الغار، علامة على الفوز والانتصار، وعنوانا على كسب المجد والفخار، فهنئوه كذلك بخروجه سالما غانما من تلك المعارك، وشكروا له منته العظيمة على الملك والملكة بإنقاذ الأميرة الفخيمة، ثم خاطبه بوليقراط فقال: «أيها البطل المجامل وغدا أقول أيها الصهر الكريم، لقد أعدت للوالد مهجته، ورددت على التاج درته، ومثلك يرجى لهذا ولمثله، وهذا الكنز على عظم قيمته، سوف يقدم لك برمته، فقد أصبحت آمل أن الحكومة والشعب يوافقانني على الاكتفاء بما كان لتقرير القران، وإن نكن قد حصلنا على شرط واحد وبقي شرطان اثنان.»
فقام الأمير على إثر ذلك فقال: «أعد من سعودي أن مولاي الملك قد اختارني للشرف السامي، شرف مصاهرته العلية، وأني بما نلت من جليل ثقته لأسعد، إلا أنه برغمي أن يعلم الملك أن ما مر على الأميرة من الحادثات واختلف عليها من الأهوال لا يزال له أثر خفيف في قواها العقلية، فلقد عهدتها تفقد الصواب في بعض الأحيان فتهذي بوساوس أعجز عن فهمها، وتذكر من الأسماء ما لا وجود له إلا في وهمها، ولكني أبشر الملك بأن هذه الحال، وشيكة الزوال، وأنه لا يمضي على الأميرة أيام، حتى تحصل على الشفاء التام، فقد ذهب عنها الآن معظم ما كانت فيه من الذهول المتاخم للجنون وأصبحت تتماثل، وتنبعث قواها وتتكامل، فكيف اليوم وهي موفورة الراحة والهناء مردود أمرها إلى عناية الأطباء، فما استتم الأمير حتى عاد الكدر فاستولى على الملك بوليقراط، واشتغل سائر أهل المجلس بهذه الحادثة الجديدة، وأخذ الكل يسألون الأميرة عن أمور حدثت لها في صباها، فأجابت أحسن جواب ولم تخرج قط عن دائرة الصواب، حتى جاء ذكر الحادثة التي نحن بصددها فأحسنت الوصف، ووفت الشرح، وما زالت تفصلها للمجلس تفصيلا من ساعة أن وقعت في أسر الأشقياء إلى ساعة أن دخل عليها حماس، فلما نطقت الأميرة بهذا الاسم كاد الملك يجن لذكره، وكاد جنون أورستان يكون أشد وأعظم، فصاحا معا: وهل خرج حماس من بطن الحوت؟ ثم أردف أورستان بأن قال: أما الأمير فلا يخلو من مشابه من حماس، وأما أن يكون حماس حيا يرزق فهذا ما لا أصدق ولو لقيته وجها لوجه وكلمته فما لفم؛ وحينئذ فلا أحسب الأميرة إلا ذاكرة ما كنت أقوله للملك عن حماس وهي حاضرة، فعلقت اسم ذلك البطل، وهي الآن تهذي به في جملة خطراتها.
ثم انتهت الكلمة الأخيرة من بعد ذلك إلى الطبيب الخاص وكان في المجلس، فلم ير في أحوال الأميرة ما يدعو إلى القلق والفزع؛ بل أبدى أن بضعة أيام تكفي لذهاب الروع عنها، فلا تلبث أن تعود إلى ما كانت عليه من تمام صحة العقل والجسم، وعلى ذلك انفض المجلس بعد أن أمر الملك للأمير الفارس بالمقر اللائق بمقامه، ووكل بخدمته من يعتنون بأمره ويبالغون في إكرامه.
قرية الوحش الهائل
لما بلغ حماس الصخرة الصماء وكانت الشمس في رونق الضحى، افتقد اللوح فوجده حيث تركه، ووجد عنده ذاك الزاد وذا الماء، فتأبط من فوره اللوح وحمل ما يكفيه هو والأميرة من الطعام والشراب، وحينئذ ذهبت السكرة، وجاءت الفكرة، وأدرك الفتى أنه أساء إلى لادياس إساءة قد تتناول حياتها بتركه إياها وحيدة فوق طريق اللصوص والوحوش، فندم أعظم الندم ورجع على الفور القهقرى وهو يعدو عدو الظلوم، فلم يكن الظهر حتى وصل المكان المعلوم، وهنالك فتش عن مضجع لادياس فلم يجدها فكاد الموقف يطير بلبه، ودخل في أشبه الحالات بالجنون فذهب بالبحث في غير كنهه، ومضى من بين الصخور يهيم على وجهه، وكان العقل أنه يسلك الطريق الأقصد الأقصر، طريق الدرب الأصفر.
فبينما هو في هيامه يوغل في الصخور إيغالا، ويذهب فيها يمينا وشمالا، سمع زئيرا مادت له الصخرة الصماء، واهتزت له جوانب الفضاء، فما فزع ولا انذعر، بل وقف يتقصى النظر، فإذا هو بأسد هائل كتلة الجسم وقد قصد نحوه يتخطى له الصخر، وهو يهدر كالفحل، فثبت حماس في مكانه، يتراءى للوحش بكل عيانه، ثم اندفع يهتز ويتثنى، ويترنم بهذا الكلام ويتغنى:
إني أنا حماس
صفحة غير معروفة