ولست أدري إن كان «لتن ستريتشي» حين قال عن نفسه: «أنا المدنية التي تحاربون من أجلها» قد قصد إلى شيء من هذا التحليل الذي أسلفته لك، أي أنه قصد إلى أن الكلمة لا تكون ذات مدلول ومعنى إلا بمفردات مسمياتها، وأنه لذلك أشار إلى نفسه على أنه هو الفرد الجزئي الذي يحدد معنى كلمة «مدنية» ومدلولها، حين رأى أن في شخصه قد تجمعت عناصر، هي التي نريدها باستخدامنا لهذه الكلمة - أقول إني لا أدري إن كان «ستريتشي» قد قصد إلى شيء من هذا، لكنه على كل حال هو ما نطالب به إذا أردنا أن تكون الكلمة ذات مدلول ومعنى. •••
وهنا ننتقل إلى الجانب الهام من موضوعنا، وهو: ماذا عسى أن تكون العناصر التي إذا ما اجتمعت في شخص، استحق أن يوصف بالتمدن؟
أول ما نذكره في الإجابة عن هذا السؤال هو أن هذه العناصر متغيرة مع تغير الزمن، فلكل عصر «مدنيته» التي قد تعد همجية في عصر آخر، «فالمتمدن» في العصور الوسطى الأوروبية - مثلا - هو المسيحي المتبتل المنقطع لصلاته وعبادته في الصومعة أو الدير، فلما جاءت النهضة تغيرت عناصر «التمدن» وأصبح «المتمدن» رجلا آخر غير راهب العصور الوسطى.
وإنه لمما يقال في هذه المناسبة، أن «سير فلب سدني» (1554-1586م) كان عند الإنجليز إبان نهضتهم نموذجا للرجل المتمدن بمقياس ذلك العصر، فقد كان شاعرا وناقدا وعالما وجنديا محاربا ورجلا من رجال السياسة، فكان يصور بهذه العناصر في شخصه ما كان يصبو إليه الناس من مثل أعلى في الرجل الواحد؛ لأنهم لم يعودوا عندئذ يرون المدنية - كما كان يراها أسلافهم الأقربون - في المسيحي المتبتل الزاهد، بل أصبح مثلهم المنشود فنانا ينتج الفن أو يقدره، أو عالما يدرس ظواهر الطبيعة، أو مغامرا يركب الصعاب، أو رجلا يستمتع بلذات الحياة، فإن اجتمعت هذه الصفات لرجل واحد، فكان مشغوفا بالفن، محبا للعلم، مقاتلا باسلا، مغامرا يمعن في ألوان الرياضة والصيد، عاشقا توافرت فيه شروط الحب كما يعرفه عشاق زمنه؛ كان ذلك الرجل صورة للمثل الأعلى. وقد جاهد الأدباء في عصر النهضة أن يصوروا ذلك المثل الأعلى، ورأى الناس أن هذه الصفات قد تجسدت وتجمعت في «سير فلب سدني» فجعلوه نموذجا يحتذى في عصره.
وإننا لنضل سواء السبيل، إذا ما جاهدنا بدورنا في تصوير نموذج «للمتمدن» في عصرنا، فالتمسناه في أبطال الماضي؛ فهؤلاء الأبطال أبطال في عصورهم، بمقاييس أهل زمانهم، وإني لأجني على الشباب الذين يعيشون اليوم جناية كبرى، إذا رحت أزخرف لهم حياة الزهد والعصر يريد المتعة بالدنيا والفرحة بالحياة، وأجني عليهم جناية كبرى إذا رحت أزخرف لهم حياة التأمل النظري والعصر يريد الصناعة والنشاط والعمل. إنني يستحيل أن أجد للشباب نموذجا من بين أبطال الماضي بكل عناصره، فذلك يكون بمثابة أن ندعوهم إلى العيش في غير عصرهم، والتمدن بغير مدنيتهم.
ونعود من جديد فنسأل: ماذا عسى أن تكون العناصر التي إذا اجتمعت في شخص استحق أن يوصف بالتمدن؟
سأحاول الجواب موجزا في غير إطناب وتفصيل، ومعترفا منذ الآن أنه جواب أسوقه على سبيل «الرأي» لا على سبيل الحصر والتوكيد؛ إذ الموضوع أخطر وأعمق من أن يفصل في أمره بمقال يكتب في ساعة ليملأ بضع صفحات في كتاب.
وسأحاول الجواب على هذا النحو الموجز، مهتديا بالتقسيم الثلاثي الذي اشتهر في علم النفس التقليدي، حتى أصبح عمودا من أعمدة هذا العلم، لا يثور عليه الثائرون إلا ليؤكدوه، وهو أن كل حالة من سلسلة الحالات الشعورية التي تتألف منها حياة الإنسان الواعية، يمكن تحليلها إلى جوانب ثلاثة: إدراك ووجدان ونزوع، فأنت في كل موقف من مواقف حياتك الشعورية الواعية، تدرك شيئا ما أو فكرة معينة، ثم تحس إزاءها وجدانا معينا، ثم تتصرف بناء على ذلك حسب تربيتك وتدريبك على الرد على المواقف المختلفة بألوان معينة من السلوك (وقد يكون الامتناع عن السلوك في موقف ما، ضربا من التصرف).
ولا شك أنك قد رأيت كلمات «الحق والخير والجمال» متجاورة في كثير جدا من المواضع، كلما أراد الكاتبون أن يعبروا بعبارة موجزة عن أحلام الإنسانية وأمانيها، فهذه الكلمات الثلاث تستطيع أن تجعلها تعبيرا آخر للجوانب الثلاثة نفسها التي ذكرناها: «فالحق» هو ما ننشده في حالات الإدراك، و«الجمال» هو ما نبتغيه في حالات الوجدان، و«الخير» هو ما نقصد إليه في جانب السلوك. (1)
وأهم ما يميز الإدراك عند «المتمدن» في عصرنا هذا، هو التقيد بالواقع، وإدراك الواقع كما هو يتطلب القضاء على الخرافة بكل ما يتصل بها من لواحق وأتباع، وللتخريف مظهران أساسيان في طريقة تعليلنا للحوادث والظواهر، الأول أن نعلل حدوث الأشياء المحسوسة بأشياء غير محسوسة، والثاني أن نعلل شيئا محسوسا بآخر محسوس، لكنه لا يرتبط معه ارتباطا يدل عليه طول الملاحظة ودقة التجربة، فلو قلت مثلا إن المرض في جسم المريض سببه شيطان حال في الجسم، أو إن السماء ترعد وتبرق لأنها غاضبة، فأنت مخرف من النوع الأول، ولو قلت إن السفر يوم الأحد مشئوم، ونعيق الغراب نذير بالموت، فأنت مخرف من النوع الثاني - وفي كلتا الحالتين أنت خارج بإدراكك للأشياء على منهج «المتمدن» في هذا العصر الذي أبرز ما فيه هو العلم وما يؤدي إليه وما ينتج عنه.
صفحة غير معروفة