لقد أجرى الأستاذ فريد على لسان المنشد في أول حديثه هذا المبدأ النقدي، الذي عبر به في الحقيقة عن رحابة صدره ورجاحة عقله وطيبة نفسه وميله الشديد إلى التسامح، إذ قال المنشد لسامعيه ... «سأنشدكم وأنشد ليلة بعد ليلة، ولكم أن ترضوا إذا أرضاكم ما يصدر عني، ولكم أن تنكروا كما شئتم إن بدا لكم من ذلك ما لا يروقكم، لكم أن تصفقوا استحسانا أو تظهروا استهجانكم بغير مداراة! فهذا حق لكم، أما أنا فما أقصد إلا أن أظهر ما عندي مما يهتز له فؤادي وما أودعته ثمرة حياتي وأرسلت فيه عصارة روحي، فإذا وقع عندكم موقعه عندي زادت بذلك سعادتي ...»
فإذا رأيتني قد أسرفت في استخدام هذا الحق الذي أبحته لقارئك، فاغفر لي ضلالا دفعني إليه إيماني بحق الفرد في أن يعيش فردا مستقلا قائما بذاته، سواء كان ذلك في الحياة الواقعة أو في القصة التي تصور تلك الحياة.
آباء وأبناء
يحكى أن جماعة من القنافذ كانت تعيش معا في سفح الجبل، فلما جاءها الشتاء ببرده المثلوج، وأخذتها في الليل رعشة تناولت منها المفاصل والعظام، اقترح عليها واحد منها أن يجتمع شتيتها في كومة متلاصقة حتى يدفئ بعضها بعضا بحرارة أجسادها، لكن جماعة القنافذ لم يكد يلتصق بعضها ببعض طلبا للدفء، حتى أحس كل منها وخز الإبر الحادة المسنونة التي تغطي أجساد زملائه، فما هو إلا أن أفصحت كلها عن كظيم آلامها وطلبت أن تعود إلى مواضعها المتفرقة، فلذعة البرد أهون من هذا الوخز الأليم، وعادت القنافذ فتفرقت كما كانت أول أمرها، لكنها كذلك عادت فأحست زمهرير الشتاء يهز كيانها هزا عنيفا، وكأنما نسيت إزاء هذا البلاء ما كان من ألم الوخز منذ قريب، فصاح بعضها ببعض ينشد كلها التلاصق مرة أخرى حتى يعود لها الدفء، وعاد وخز الإبر وأنساها الألم الحاضر ألم الماضي، فضجرت وتفرقت مرة أخرى - وهكذا دواليك: اقتراب وابتعاد واتصال وانفصال، إلى أن قال منهم قائل حكيم: خطؤنا في المبالغة والإسراف، فإذا ابتعدنا أوغلنا في البعد حتى فقد كل منا دفء أخيه وتعرض للبرد الشديد، وإذا اقتربنا أوغلنا في القرب حتى وخز كل منا جلد أخيه فأدماه، والحكمة هي في اختيار الموضع الصواب بين الطرفين بحيث ننجو من الوخز دون أن نفقد دفء التقارب ما استطعنا إليه سبيلا.
وحكاية القنافذ هذه تقفز إلى ذهني كلما سمعت بخلاف يدب بين أفراد الأسرة الواحدة، أو بين جماعة من الأصدقاء ... فكأنما أراد الله لنا ألا نقع أبدا على هذا الموضع الصواب في علاقتنا بعضنا ببعض، بحيث يبعد كل منا عن شئون الآخرين بعدا يتيح لهؤلاء الآخرين أن يشعروا بشخصياتهم مستقلة قائمة بذاتها، وبحيث لا يكون ذلك البعد سببا في حرماننا من دفء العاطفة التي يستمدها بعضنا من بعض.
وتبلغ هذه المأساة غايتها حين تقع حوادثها بين الآباء وأبنائهم. إنني لا أعتز بخبرة واسعة في شئون الناس وأمور حياتهم من حيث الدخائل والتفصيلات؛ لأنني أعيش حياة أقرب إلى العزلة في ركن هادئ لا يصطخب بكثير من الناس في تشابكهم واتصالهم، لكنني في حدود خبرتي الضيقة القليلة، لم أكد أصادف أسرة مصرية واحدة لا يأكل أفرادها بعضهم بعضا، فكل ينهش لحم أخيه حيا، ومع ذلك لا يجدون إلى التباعد سبيلا، فالتقاليد الشرقية تحتم أن يتكوم أفراد الأسرة الواحدة حتى لا يكون بينها فرقة في أعين الناس، لكنها إذا ما تلاصقت على هذا النحو الشديد ، أصابها ما أصاب القنافذ في اجتماعها: وخز أليم يدمي الجلود، وشر المأساة هو - كما أسلفت - حين يكون هذا الوخز الأليم بين الوالد وأبنائه، فيستحيل على الوالد أن يرضيه ابتعاد أبنائه عنه، إما لشدة في عاطفته الأبوية - ولا أظن ذلك - وإما لخوفه مما يقوله الناس لو تفرق أفراد أسرته، وفي الوقت نفسه يستحيل على ذلك الوالد أن يبقي على شخصيات أبنائه سليمة من الوخز، وقل مثل ذلك أيضا بالنسبة للأبناء إزاء آبائهم، فلا هم يحزمون أمرهم فيستقلون بعيشهم حين تسعفهم القدرة الاقتصادية، ولا هم يظلون مع آبائهم تحت سقف واحد بحيث يحرصون على جلود هؤلاء الآباء من التجريح والتمزيق.
وهنا تعود إلي ذكريات أعوامي الماضية، حين اكتملت رجولتي وأوغلت في الحلقة الرابعة من عمري، ومع ذلك ظللت أساكن والدي في بيت واحد، وحرص كلانا جهد الاستطاعة ألا يتلقى الإساءة من الآخر، فكان كل منا كأنه يلعب بالبيضة والحجر كما يقولون، لا يريد للحجر أن يكسر البيضة، لكن ذلك محال على الطبيعة البشرية، ولما كان لوالدي - رحمه الله - ميزة أنه والد، فكثيرا جدا ما صب على رأسي الإساءة تلو الإساءة على مسمع ومشهد من الناس، وكنت أكظم غيظي وأنطوي على نفسي في غرفتي أمزق أعصابي تمزيقا، ولا يعود إلي هدوء النفس إلا بعد أيام، إني لا أعلم أين قرأ والدي أو أين سمع فكرة أعجبته وصادفت في نفسه هوى، وهي أن الوالد يكرر نفسه في أبنائه، فالابن نسخة من أبيه، وما دام الأصل موجودا فهذه النسخات لا ينبغي أن يعترف لها بوجود، والحق أنه إذا كانت المقدمة صحيحة للزم أن تكون هذه النتيجة صحيحة أيضا؛ إذ ما دمنا صورا مكررة له، فله هو القيمة كلها، وأما نحن فلا يلتفت إلينا إلا في غيبته.
لكن المقدمة خطأ فاحش ونتيجتها خطأ أفحش، وهذا هو ما نريد أن نحفره حفرا في رءوس الآباء عندنا، فلكل ولد شخصيته الفردة المستقلة القائمة بذاتها، وقد أعلنت الطبيعة ذلك إعلانا صريحا يوم قطعت القابلة الحبل السري الذي كان يصل الجنين بأمه، ففصلتهما شخصين بعد أن كانا شخصا واحدا. إن صميم الحياة في كافة الأحياء هو هذا التفرد، فيستحيل عليك أن تجد على سطح الأرض من أقصاها إلى أقصاها ورقتين من أوراق الشجر متماثلتين كل التماثل، وانظر إلى بصمات الأصابع كيف يستحيل تكرارها في شخصين على نحو يحقق التطابق التام، ليس الأمر في الحياة والأحياء كالأمر في المصنع ومنتجاته، نعم إن المصنع يستطيع أن يخرج لك مئات الأحذية أو مئات السيارات بحيث تجيء على تشابه تام أحيانا، لكن ذلك محال في كافة الأحياء من الأميبا الوضيعة البسيطة إلى الإنسان.
لقد حدث لي أن اشتركت في مؤتمر لليونسكو في باريس عام 1947م، وكان بين الشخصيات الكبيرة التي لقيتها هناك السيدة مرجريت ميد، وهي من أكبر العلماء العالميين في علم الأجناس البشرية، كنت أسمع اسمها يذكر في المحاضرات مقرونا بالتبجيل والاحترام، وكنت أرجع إلى كتبها رجوعي إلى الثقة، وكنت أتصورها سيدة عجوزا أربت على الستين، فلما رأيتها في أربعينها ما تزال مليئة بالحياة، عجبت أن تجيء هذه السمعة العلمية العالمية كلها لهذه المرأة التي لم تزل تعنى بنفسها وثيابها ... وتحدثت إليها، وكان مما حدثتني أن ذكرت لي كيف جاءتها الدعوة وهي في أمريكا لحضور اجتماع اليونسكو بباريس، وكان لها طفلة في السادسة من عمرها، فعرضت على الطفلة كلا من الصورتين: صورة مرافقتها إلى باريس (وهو أمر لم تكن توده الأم) وصورة بقائها مع أبيها، وما زالت بها حتى اختارت طفلتها عن طيب خاطر أن تبقى ... قالت لي الأم: إنها لا تذكر مرة واحدة أرغمت فيها طفلتها هذه على شيء، فما الإنسان - في رأيها - إلا قوة اختيار لنفسه، وإنما أرادت هذه الأم العالمة لابنتها أن تنمو على إنسانية كاملة.
لكن قل هذا لمعظم آبائنا يضحكوا منا، وحتى إن هم أرغموا على فعله أمام عناد أطفالهم، فإنما يرغمون عليه إرغاما، ولا يصدر منهم عن عقيدة في تربية أبنائهم تربية سليمة.
صفحة غير معروفة