وها هنا يأمر الله تلك الأحزاب المتأففة المتضجرة الغاضبة الشامتة، والتي ترى أنفسها ملائكة أطهارا أتقياء إذا قيست إلى الحاكمين الفجار، يأمر الله تلك الأحزاب الغاضبة الشامتة أن تختار من أفاضل رجالها نفرا تلقي بين أيديهم مقاليد الحكم، لعلهم أن يكونوا الصالحين المصلحين، فينزل الملائكة المختارون إلى الأرض ليحملوا الناس على الحق، ثم لا يلبثون أن تسري في دمائهم الشهوات الحيوانية الملتهبة العارمة، فتفتنهم عن أنفسهم فتنة بعيدة المدى، لا يتورعون معها أن يسجدوا لغير الله، إنهم عندئذ لا يتورعون أن يسجدوا للشيطان العابث بهم وبأحلامهم، وهو الشيطان الذي ما يزال بغوايتهم حتى يأخذ منهم كلمة السر التي يصعد بها إلى السماء حيث يلمع ويسطع كما يلمع كوكب الزهرة في السماء ... وأما هم، فيعلقون من شعورهم بين الأرض والسماء، فلا إلى الناس هبطوا واضطربوا معهم في شئون العيش الشريف، ولا إلى السماء صعدوا ليعودوا مع الملائكة أبرارا أطهارا.
والتتمة التي لم تذكرها الأسطورة، هي أن تعود ذرية آدم إلى مكان القيادة مرة أخرى، وسرعان ما تنشر الفساد في الأرض كما نشرته أول مرة. وهكذا دواليك حلقة بعد حلقة إلى يوم الدين. •••
هكذا تصور الأسطورة القديمة حياتنا السياسية الحديثة أبدع تصوير وأبرعه، لكنها إلى جانب ذلك تصور كثيرا جدا من جوانب حياتنا الأخرى، فلنا في كل يوم من أمثال هاروت وماروت مئات ومئات، ولنا في كل يوم من أمثال الزهرة كذلك مئات ومئات.
وهنا يجمل بنا أن نحدد للقارئ معنى «البغي» كما يجب أن نفهمه، فالبغي قد يكون رجلا كما قد تكون امرأة، والصفة الجوهرية في البغي أن يبيع مثله العليا من أجل نفع عاجل، وقد تكون هذه المثل العليا مبادئ خلقية تواضع عليها الناس، أو أهدافا فكرية أو فنية اتفقت عليها كلمة العالم المتحضر كله، يبيع البغي هذا كله بثمن بخس من مال أو جاه، يبيع كل ما لديه من عزة وكرامة ثمنا لصعوده، حتى إذا ما صعد البغي إلى منازل الكواكب المنيرة اللامعة، لم يسأل الناس كيف كان وكيف أتيح له الصعود ومن أين جاءه النور الذي يلمع به.
وفي حياتنا العامة، بل في حياتنا العلمية والفنية من أمثال هؤلاء البغايا كثيرون ، كثيرون جدا، ففي مكان الرياسة قد ترى من ليس له رأس يفكر، وفي مكان العلماء قد تجد من لا يقوم على علمه برهان واحد من آثاره، بل قد تصادف في مكان الصدارة من حياتنا الأدبية من سوف لا يذكره الغد القريب بصفحة واحدة خطها قلمه ... كل هؤلاء كواكب نيرات في سمائنا، كالزهرة اللألاءة كانت بغيا ثم مسخها الله كوكبا! •••
كذلك رأيت في الأسطورة معنى آخر، يمس جانبا آخر من جوانب حياتنا العلمية والسياسية.
ففي الأسطورة قد فسد الملائكة عندما نزلوا إلى الأرض، وتعريف «الملائكة» أنهم الكائنات التي تعقل بغير أجساد، أعني أنهم الكائنات التي لها ما للإنسان من فكر، دون أن يكون لها ما له من بدن، وسنتخذ «الأرض» هنا رمزا للحياة الدنيا بشئونها العملية، وبخاصة شئون السياسة.
وفي ضوء هذا التفسير للكلمتين، نسأل هذا السؤال: هل يجوز لأصحاب العقل والفكر أن يشتركوا في سياسة الجماعات اشتراكا عمليا؟ بعبارة أخرى: هل يجوز لأصحاب الفكر النظري أن يتولوا مقاليد الحكم؟
ولهذا السؤال جوابان: فأما هذه الأسطورة التي نحن اليوم بصددها، فتجيب جوابا واضحا، وهو أن لا؛ لأن العقل الخالص إذا نزل إلى الأرض واضطرب في محيط الحياة العملية انحرف عن صوابه، وضل ضلالا بعيدا؛ ذلك لأن الحياة العملية ستضطره اضطرارا أن يميل مع «الهوى» - والهوى في الأسطورة غرام بامرأة بغي، لكن الأهواء قد تتعدد صنوفها - وشرط الفكر الخالص ألا يميل مع الأهواء كائنة ما كانت، فيستوحي إملاء المنطق العقلي وحده دون أن يحب أو يكره، شرط المفكر أن يقف من موضوع تفكيره على الحياد التام، فلا يبدي عاطفة هنا أو هناك، فإذا تناول العالم الفكر وردة، انقلبت الوردة في يديه جسما يحلله إلى أجزائه كما يحلل الأوساخ والأوحال، أما إن شمها فأعجبته بأريجها، فعندئذ يصبح فنانا ويخرج من دائرة العلماء أصحاب الفكر الخالص والعقل المحايد.
وهيهات أن تشترك في عالم السياسة بفكرك وتظل محايدا لفكرتك فلا تحيد بدوافع العاطفة ذات اليمين مرة وذات اليسار أخرى، ومن ثم كان فساد الملائكة في هذه الأسطورة عندما نزلوا إلى الأرض ...
صفحة غير معروفة