إنني رجل قد أصيب في عقله بمرض اسمه «تحديد المعاني»، فماذا يراد بعبارة «المثل الأعلى»؟ لأنه من الخير - قبل المضي في حديثنا - أن نعلم في أي شيء يقوم الحديث.
المثل الأعلى فكرة يؤمن بها صاحبها وتشتد به الرغبة في تحقيقها، لكنها رغبة تختلف عن رغبته في تحقيق راحته الشخصية ومتعته، فقد تكون لدي فكرة أن يكون لي منزل أملكه في نهاية مراحل عمري لأتخذ منه مأواي الهادئ عندئذ، وقد تشتد بي الرغبة في تحقيق هذه الفكرة، لكنها مع ذلك لا تكون «مثلا أعلى»، وقد تكون لدي فكرة أن أبلغ منصب الوزارة، وقد تشتد بي الرغبة في تحقيق هذه الفكرة، لكنها أيضا لا تكون «مثلا أعلى» لماذا؟ لأن المثل العليا أفكار نؤمن بها ونرغب في تحقيقها، ثم يشترط فيها إلى جانب ذلك ألا تكون قاصرة على العنصر الشخصي، بحيث تصلح أن تكون موضع اشتهاء أبناء المجتمع جميعا، «فالمثل الأعلى» فكرة مرغوب في تحقيقها، لكنها لا تتصل بذات الراغب اتصالا يحصرها في مصلحة تلك الذات وحدها، بل تصلح إلى جانب ذلك أن تكون هدفا للجميع على السواء.
فإذا رغبت في أن يكون لدي ما يكفيني من الطعام، فليس ذلك «مثلا أعلى» أما إذا رغبت في أن يكون لدى كل إنسان ما يكفيه من الطعام، ثم عملت على تحقيق تلك الرغبة بأية وسيلة مؤدية، كان ذلك «مثلا أعلى»، وإذا رغبت في أن يعاملني الناس بالحسنى، لم يكن ذلك «مثلا أعلى »، وإنما يكون كذلك لو رغبت في أن يعامل الناس جميعا بعضهم بعضا بالحسنى، ثم عملت على تحقيق هذه الرغبة، وإذا رغبت في أن أكون عالما يتقصى في الطبيعة حقائقها، فليس ذلك «بالمثل الأعلى» وإنما يكون كذلك لو رغبت في أن يكون العلم هو الأساس السائد في حياة الناس بحثا وكشفا، أو عملا وتطبيقا، وإذا رغبت في أن أستمتع بنحو معين من ألوان الفن، كائنا ما كان، عمارة أو نحتا أو تصويرا أو موسيقى أو ضربا من ضروب الكلام، فليس ذلك وحده «بالمثل الأعلى»، ولا يكون كذلك إلا إذا تمنيت لهذا اللون المعين من الجمال أن يشيع تذوقه بين الناس أجمعين.
ولا بد لي أن ألاحظ هنا، أن الأمر كله قائم على «الرغبة الشخصية» في نهاية الأمر، لكن هذه الرغبة الشخصية لا تكون مثلا أعلى إلا إذا جاوزت حدود صاحبها بحيث تمناها صاحبها للناس جميعا، ومن ثم تختلف «المثل العليا» في العصور المختلفة؛ لاختلاف أهل تلك العصور في رغباتهم التي يسعون إلى تحقيقها تحقيقا شاملا، فيصح أن نقول عن عصرنا هذا إن الحرية الفردية من بين مثله العليا لأن هناك من أبنائه من أرادوا لأنفسهم هذه الحرية الفردية ثم أرادوها للناس أجمعين، لكن هذه الحرية الفردية لم تكن هي المثل الأعلى في كثير جدا من العصور السابقة، حين كانت عضوية الفرد في جماعة، وانطماسه في أسرته أو في قبيلته، هي المثل الأعلى المنشود، ولعل هذا المثل الأعلى الذي ينشد الحرية الفردية، هو نفسه الذي انبثق منه مثل أعلى آخر لعصرنا، وهو أن تنمحي الحواجز التي تفصل بين الأمم، لتعيش الدنيا كلها مجتمعا واحدا؛ لأن الفرد لا يتحرر حقا باعتباره فردا قائما بذاته، إلا إذا أزيلت عن عاتقه الروابط المكانية التي تجعله تابعا بالضرورة لهذا الوطن أو ذاك.
نعم تتغير المثل العليا من عصر إلى عصر، فجمهورية أفلاطون كانت صورة للمثل الأعلى كما أراده للناس في حياتهم الاجتماعية، وفي رأيي أنه يستحيل على كاتب معاصر أن يتمنى للناس مثل هذا النظام، الذي لا يمنيهم إلا بالانتصار في الحروب الخارجية، وبتوفير الطعام في الداخل، إنه مجتمع يخلو من البحث العلمي ومن الفنون، فأين هذا المفكر اليوم الذي يرسم لنا مثلا أعلى لتحقيقه، فيرسم لنا حياة لا علم فيها ولا فن؟ الحقيقة أن هذه الجمهورية الأفلاطونية قد أزاغت الأبصار عن حقيقتها قرونا طويلة، وحسبوها نموذجا لزمانها وغير زمانها، ولو أمدني الله بقوة أحقق بها مشروعات كثيرة أتمنى أداءها، فسيكون من بينها تحليل هذه الجمهورية تحليلا يبين مواضع النقص فيها باعتبارها مثلا أعلى يصلح لزماننا، كما يقع في وهم كثير جدا من شبابنا الذين يتاح لهم أن يلموا بطرف منها - لكن ذلك لا ينفي إمكان صلاحيتها مثلا أعلى لزمانها. •••
ولنا في ضوء هذا التحليل أن نسأل: هل طافت برءوس الجيل الدابر أفكار، اشتدت بهم الرغبة في تحقيقها، بحيث تصلح كذلك أن تكون موضع الرغبة عند الناس جميعا؟
هل بينهم مثلا من أخذ ينادي بفكرة في النظام الاقتصادي على نحو مفصل بحيث تحمس لها وراح ينشرها بكل وسيلة ممكنة؟ فإذا شخص الجيل الصاعد بأبصاره ليهتدي في هذه الناحية من حياته، أفتراه واجدا عند الجيل السابق ما يهتدي به، بحيث يتحمس بدوره لهذا المذهب الاقتصادي أو ذاك تحمسا بصيرا مستنيرا؟
هل بينهم من جعل ينادي بطريقة معينة في المعيشة الفردية، يحياها هو أولا، وينشرها بكل وسيلة ممكنة حتى يجد الجيل المقبل نماذج يتخير منها ما يشتهي؟ إن غاندي بطريقة عيشه كان ينشر «مثلا أعلى» لأنه تمنى لنفسه وللناس، و«سارتر» برأيه في الوجودية ينشر «مثلا أعلى»؛ لأنه كذلك يتمنى لنفسه وللناس، وقد تعمدت أن أضرب هذا المثل الأخير؛ لأني أعلم أن كثيرين ممن يسيئون فهم وجودية سارتر، سيقولون: أين «العلو» في هذا المثل؟ فأجيبهم بأن أية فكرة كائنة ما كانت، تصلح أن تكون «مثلا أعلى» ما دام صاحبها «يعيشها» ويحاول أن يشرك معه الناس فيها، والفرض هو بالطبع ألا يتمنى الإنسان لنفسه إلا ما يراه مؤديا إلى الحياة السعيدة.
أين بيننا «المدارس» الفكرية على النحو الذي نراه في الأمم الحية؟ ضع أمامك قائمة بعشرة من أئمة الفكر في جيلنا الدابر، وحاول أن تصنفهم شيعا مختلفة من فلسفات أو مذاهب في طرائق العيش، فلن تستطيع؛ ذلك لأن تفكيرهم لم يقم على أساس المذهبية التي تصدر عن عقيدة وإيمان، وبالتالي لم يكن لديهم «مثل عليا» بالمعنى الذي حددناه.
إننا أمة بغير مثل عليا، إن قادة الجيل الماضي - من غير رجال السياسة - لم يحملوا لمن يجيء بعدهم المشاعل، فجاء هؤلاء وهم يتخبطون في الظلام.
صفحة غير معروفة