وما دام الإنسان يتوافر لجسده شرط الجمال حين تتوافر له سهولة الحركة ويسرها، إذا فليجعل من الحركة المنسابة مقياسا يقيس به جمال الجدول الجاري، وانطلاق الصوت وكل ما يذكره بحركة الحياة النامية في جسده هو، كاحمرار الشفق عند غروب الشمس، وميسان الأغصان وميلانها السهل مع هبوب الريح، وصوت حفيفها الذي يذكر بهمس العاشقين.
والخلاصة هي أن رأي الإنسان في جمال الأشياء مستمد في النهاية من رأيه في جمال جسمه، وجمال جسمه مستمد من خبرته التي دلته على أن الحياة تكون أضمن بقاء حين تتوافر للجسم نسب معينة بين أعضائه، فهذه النسب - إذا - هي عنده المرجع الأخير. •••
وبعد أن قررت لنفسي ذلك في الأحكام الجمالية، عدت إلى المثلين اللذين أردت بحثهما من أمثلة الخير المتفق عليه، مثل الصحة ومثل الغنى، وسألت: متى يكون الجسم صحيحا معافى؟ يكون كذلك حين تلتزم عناصره نسبا معينة، فإذا زاد أو قل السكر أو الزلال أو الملح أو غير ذلك عما ينبغي، اعتل الجسم، وكان شفاؤه في الحد من الزيادة إن كانت زيادة، أو في سد النقص إن كانت قلة.
ومزاج الإنسان يختلف من ساعة إلى ساعة، فهو الآن في نشوة من نفسه، وهو الآن في غم وضيق، لماذا؟ لأن «مزاج» العناصر يختلف من ساعة إلى أخرى، فإذا كانت نسبة «المزج» صحيحة كان «المزاج» النفسي صحيحا كذلك، وإذا كانت نسبة المزج مضطربة كان المزاج النفسي مضطربا.
فالصحة البدينة والصحة النفسية على السواء، هي في أساسها صحة النسبة بين العناصر، لكن الجمال في الشيء الجميل إن هو - كما أسلفنا - إلا احتفاظ الأجزاء بنسب معينة كذلك، وإذا فالجسم الصحيح هو كذلك جسم جميل؛ لأن الأساس في الحالتين واحد. ولما كانت الصحة خيرا متفقا عليه، كان الخير والجمال شيئا واحدا، وكان الخير هو نفسه الجميل.
وننتقل إلى المثل الآخر من أمثلة الخير، الذي أردنا تحليله لتوضيح ما أردنا توضيحه، وهو الغنى؛ فالمال خير متفق على خيريته عند الكثرة الغالبة من الناس، وحتى أولئك الذين يذمونه ويجعلونه شرا، إنما يذمونه بالكلام ويسعون وراء جمعه بالفعل والعمل.
لكن الناس كذلك متفقون بما بينهم من فهم مشترك للأمور، على أن هنالك نسبة معينة لا بد أن يراعيها صاحب الحاجات لإنفاق مقادير معينة من المال بين كسبه وإنفاقه، فإذا كسب مالا ولم ينفقه لم يكن عند الناس موضع مدح، كذلك إذا أنفق مالا ولم يكسبه، بل ترى الناس يكادون يحددون أنواعا معينة من العمل لكسب مقادير معينة من المال، ثم أنواعا معينة من المال المكسوب، ولا يكون صاحب المال عندهم موصوفا بالخير إلا إذا حافظ على هذه النسب كلها بين نواحي كسبه وأوجه إنفاقه جميعا، فرجل يمدح لأن معظم ماله من كسبه عن طريق العمل، ورجل يذم لأن معظم ماله هو مال زوجته، وغني يمدح لأنه يجود بماله، وغني يذم لأنه يبخل، وهكذا.
وهكذا يتوقف الخير المنسوب إلى المال على نسب مطلوبة في طريقة كسبه وطريقة إنفاقه على السواء، وقد أسلفنا أن التناسب هو أيضا أساس الحكم بالجمال على الشيء الجميل، وإذا فالخير هنا أيضا هو نفسه الجميل؛ لأن الأصل واحد في الحكمين. •••
وأعود إلى السادة من أصحاب الحكم والسلطان، الذين أوجه إليهم الحديث فيما أوهمت نفسي، فأقول:
أيها السادة، لقد اختل في أيديكم الميزان فاضطربت النسبة الصحيحة بين الأشياء والأوضاع، فامتلأت البلاد بالقبح الذميم لأنها امتلأت بصنوف الشر، وقد أوضحنا لكم أن الشر هو القبح، وأن الخير هو الجمال.
صفحة غير معروفة