وينتقل الزائران إلى الحلقة الخامسة من حلقات الجحيم، وقد خصصت لمن أخذ زمانه بالدقة فلا يؤخر موعدا، ولا يؤجل عملا إلى غد، ويغضب ويحزن إذا ما رأى من المستهتر تراخيا وتفريطا، كان هؤلاء المغفلون يسكنون في الجحيم قاع بحيرة من وحل، يتنهدون فتنتفخ على سطح البحيرة فقاقيع لا تلبث أن تنفجر، وقد قال منهم قائل حين أحس مرور الشاعرين إلى جانب البحيرة: «كنا ذات يوم حزانا على الفوضى الضاربة في أرجاء البلاد، كنا رغم الهواء الحلو الذي كانت تبهجه أشعة الشمس، نحمل في أجوافنا نفوسا مظلمة وضبابا ثقيلا؛ لذلك حق علينا الحزن في هذا المكان القاتم.»
وبعدئذ وصل الشاعران إلى مكان الحلقة السادسة حيث أبصرا خلال الضباب الكثيف أبراجا وقبابا متوهجة بألسنة اللهب، فقيل لهم إن هذا مدخل مدينة الشيطان، وكانت طائفة من الجن قائمة على حراسة أبوابها، ويدخل الرجلان بابا فإذا هما يشهدان سهلا فسيحا ملأته أجداث مكشوفة لا يسترها غطاء، تتأجج في كل منها نار تلتهمه؛ لأن صاحبه كان حرا في رأيه يعلنه كيف شاء، فحقت عليهم جميعا هذه الفضيحة المنكرة لجرأتهم الشنعاء.
وبلغ الراحلان حدود الحلقة السابعة من حلقات الجحيم فهبطاها خلال شق من صخور ممزقة الجوانب، حتى انتهيا إلى نهر من دماء وقف في لججه أولئك الحمقى الذين كانوا يتورعون في حياتهم عن اعتراك الأحزاب السياسية، ويقفون في ركن هادئ يفكرون، أو يمضون في سبيلهم الجاد ينشئون ويعلمون.
وكانت الحلقة السابعة ذات شقين، فدخل الشاعران شقها الثاني، وأبصرا فريقا آخر من المغفلين الذين أخذتهم الغيرة في سبيل الضعفاء والمرضى والمعوزين، فهؤلاء قد انقلبوا في الجحيم أشجارا جافة قصيرة، تتدلى منها ثمار مسمومة، وكان كلما انكسر فرع من شجرة تدفق الدم كأنه ينصب من جسم مجروح، وذلك جزاء ما أحدثوه من قلق في نفوس كانت آمنة مطمئنة.
وفي الحلقة الثامنة من حلقات الجحيم حشدت طائفة أولئك الذين كانوا لا يراءون ولا ينافقون في عالم خلقه الله للرياء والنفاق؛ فحق على هؤلاء الكفار عقاب شديد، إذ غمسوا في حفرة ملئت بقار يغلي، وقد يحدث الفينة بعد الفينة أن يعلو الآثم بظهره فوق سطح القار من لذع الألم، ثم يختفي في سرعة أين منها لمحة البرق الخاطف. فكما تقف الضفادع من بركة الماء عند حافتها، لا يبدو فوق الماء منها غير خياشيمها، كذلك وقف هؤلاء الآثمون في لجة القار، ولكن سرعان ما يأتيهم الحارس فيغوص الجناة تحت الموج.
وقد شهد «دانتي» هنالك مشهدا رهيبا، إذ شهد أحد الجناة يطفو ويطيل الظهور على سطح القار بعض الشيء، فجاءه الحارس وأمسك بخصلات شعره وجذبها جذبا شديدا، ثم ألقى به في عنف طريحا حتى بدا له كأنه كلب من كلاب الماء.
وفي الحلقة التاسعة حشر أولئك المجانين الفدام البلهاء الذين استنصحوا في حياتهم فنصحوا بالحق، فكل فرد من هؤلاء قد ألبسوه هناك قلنسوة ثقيلة من رصاص زخرفوه له بالذهب، وكلما ثقلت القلنسوة على رأس المذنب حتى مال عنقه إلى صدره، ألهبه الحارس بسوطه على ظهره، قائلا له: اعتدل فإن على رأسك طلاء من ذهب هو علامة الصدق في القول والإخلاص في العمل.
وفي الحلقة العاشرة والأخيرة من حلقات الجحيم، شهد الشاعران - ويا هول ما شهدا - شهدا فريقا من الناس أتوا في حياتهم أمرا إدا، واقترفوا جريمة هيهات أن تجد لها عند الله غفرانا، هؤلاء هم الذين لم يتشفعوا بشفيع أو يتوسطوا بوسيط وعملوا في صمت، مع أن الله قد أراد لهم أن يصيحوا ويملئوا الدنيا جلبة كلما خطوا خطوة أو نطقوا كلمة، فكان جزاؤهم في جهنم أن ينزلوا في قاع الجحيم، وهو بحر من ثلوج تبدو فيه أشباح المعذبين كأنما هي ذباب يضطرب في وعاء من البلور، وكتب عليهم هناك أن يقرض بعضهم عظام بعض من الجوع كما تفعل الكلاب الجائعة، فهذا جزاء من يعمل صامتا معتمدا على نفسه، فلماذا خلق الله للناس آذانا إذا لم يسمعوا بها صياح الصائحين، ولماذا خلق لهم قلوبا إذا لم ترق لشفاعة المتشفعين؟
وكانت الكروب عندئذ قد أضاقت صدر «دانتي» وطلب من دليله أن يسرع به إلى حيث الفردوس ونعيمه، فما هو إلا أن وجد مركبة مغطاة بالزهر، حملته مع زميله بين مروج من الخضرة اليانعة والقصور الشامخة والأكل الطيب وطمأنينة النفس وراحة البال؛ فها هنا يقيم من رضي عنهم الله من المنافقين أصحاب الشهوة المسعورة والكذب المبين والخداع والرياء.
وأفاق «دانتي» وهمس لزميله فرحا مستبشرا، فقال: ادع لنا الله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم بهذا النعيم.
صفحة غير معروفة