من الواضح أن يوسيفوس، في تسجيله لأفعال هيرودس، اتبع النهج الرسمي للرومان في إلقاء اللوم على كليوباترا بدلا من أنطونيو القائد الروماني الذي يسهل خداعه.
توجد أيضا أجزاء متفرقة من أوراق البردي باللغة اللاتينية تحتوي على فقرات تتحدث عن الأحداث عقب معركة أكتيوم، تحدث عنها جاروتي باللاتينية (1958). تصف هذه الأجزاء الصغيرة هروب كليوباترا بعد معركة أكتيوم (1958: 51-56)، وتتحدث عن كورنيليوس جالوس، الشاعر وأول حاكم على مصر (56-58)، وعن كليوباترا ومارك أنطونيو (58-61)، وعن كورنيليوس جالوس والفيالق الرومانية (61-67). تتحدث الأعمدة أيضا عن الفترة التي أعقبت وصول أوكتافيان إلى مدينة الفرما (70-76)، وتخطيط أنطونيو وكليوباترا للانتحار (81-86) مع وضوح تأزم الموقف.
عثر على نقش بارز من الرخام، يظهر على الأرجح سفينة حربية رومانية من معركة أكتيوم، في مقبرة كبيرة قديمة في مدينة برانستي. أصبحت هذه المدينة الصغيرة تعرف حاليا باسم بالسترينا وتقع في ضواحي روما النائية. تشتهر هذه المدينة بصنع قطع كبيرة من فسيفساء النيل، التي شكلت جزءا من الأسلوب الرئيسي المتبع في زخرفة المعابد الرومانية (ميبوم 1995؛ ووكر 2003ج). يوجد حاليا النقش الرخامي البارز لهذه السفينة الحربية في متاحف الفاتيكان (ووكر وهيجز 2001: 262-263، رقم 311). تنتمي هذه الكتلة في الأساس إلى إفريز وتظهر عليها سفينة حربية ذات صفين من المجاديف عليها 11 رجلا. نحتت هذه الأشكال بمستويات مختلفة من النقش البارز مما يجعل الشكل يبدو ثلاثي الأبعاد. على جانب الشكل يظهر جندي على صهوة جواد. تشير صورة مرسومة ظهرت في القرن السابع عشر للنقش نفسه إلى أنه جاء من مقبرة ترجع إلى عصر الجمهورية الرومانية، وهو ما يشير في هذه الحالة إلى أنه كان جزءا في الأصل من نصب تذكاري جنائزي (ووكر وهيجز 2001: 262). أثيرت علاقة النقش بمصر ومعركة أكتيوم على أساس التمساح الموجود بجوار مقدمة السفينة. وقيل إن صاحب هذا النصب التذكاري الجنائزي ربما كان أحد جنود أنطونيو في مصر في ذلك الوقت. كذلك وردت إشارة إلى الصلة بين فسيفساء بالسترينا من ناحية وكليوباترا وأنطونيو من ناحية أخرى (ووكر 2003).
الفصل الثامن
وفاة ملكة وميلاد إلهة
(1) المصادر المكتوبة
عقب وفاة كليوباترا مباشرة أحاطت التكهنات بمصرعها. تركز الروايات القديمة على طريقة انتحارها، خصوصا هل تناولت السم بنفسها أو لدغتها حية. يقول بلوتارخ («حياة أنطونيو» 86): إنه في ظل غياب الملكة عن موكب النصر في روما، أحضر أوكتافيان تمثالا للملكة ومعها حية. يترجم عادة الحال المستخدم في وصف الحية إلى اللغة الإغريقية في هذا السياق بتعبير «التشبث بقوة». إلى أي مدى أصبح هذا التمثال جزءا من الأسطورة هي إحدى القضايا التي تستحق أن نأخذها بعين الاعتبار، خاصة أن الإشارة إليه لم ترد إلا بعد مرور عدة سنوات على الحدث. يبدو محتملا أن يكون هذا الثعبان، نظرا لمحدودية فهم الرومان للصور المصرية في القرن الأول قبل الميلاد، مجرد رأس الأفعى الذي يميز التماثيل المصنوعة على الطراز المصري، وأن هذه الحية هي رأس الأفعى الذي يظهر على جبهة التمثال، ولا تعبر بالضرورة عن كليوباترا وإنما عن أية ملكة مصرية ترتدي الكوبرا الملكية. وبالطبع يستحيل تحديد المصدر الفعلي لقصة التمثال مع الكوبرا بدقة. يشكك المؤرخون في العصر الحديث في إمكانية تهريب كوبرا يبلغ طولها مترين إلى داخل الضريح. كذلك قيل إن التمثال نفسه هو مصدر فرضية انتحار كليوباترا عبر لدغة ثعبان. كذلك أشار جميع الكتاب الأوائل، مثل سترابو وفيرجيل وبروبيرتيوس وهوراس إلى أن كليوباترا انتحرت عن طريق لدغة أفعى سامة (وايتهورن 1994: 191-192). وهكذا يدور الجدل في حلقة مفرغة. بالطبع من المحتمل أن تكون الشائعة التي تحيط بوسيلة الانتحار لا تمت بصلة إلى الحديث عن التمثال. وتعتبر المشكلات المتعلقة بتحديد مدى دقة هذه الروايات جزءا من أسطورة كليوباترا. وأحيانا يكون من المفيد أن نشكك في الإشارات التي تدعم على نحو مناسب الخط السردي الشائع للرواية التاريخية، بدلا من مجرد تقبلها أو تبريرها.
يقدم هوراس في بعض المواضع رواية موجزة لوفاة كليوباترا. تعتمد هذه الرواية على معلومات معاصرة لا بد أنها انتشرت في قطاعات معينة من المجتمع الروماني، ومن الواضح أنها كانت تهدف إلى تكريم أوكتافيان ، الذي أصبح يسمى الآن أغسطس، وتعزيز مكانته، فهو راعي هذه المجموعة من الشعراء والرجل الذي أنقذ الوضع، وهو من يقول عنه هوراس إنه «أخرجها [كليوباترا] من حالة الجنون إلى حالة من الرعب الحقيقي»؛ أي أجبرها كما نقول اليوم على «التحكم في نفسها». تظهر كليوباترا في كتابات هوراس على أنها امرأة مضطربة لم تكفر عن ذنوبها بالانتحار إلا كي تنقذ نفسها من التعرض لمزيد من الإحراج. لم يكن من السهل أبدا أن تكون امرأة في عالم يحكمه الرجال، ويبدو من المنطقي استنتاج أن سمعة كليوباترا ساءت نتيجة لعلاقتها بأنطونيو، الذي يبدو أن تصرفاته تعرضت لنقد الكتاب المعاصرين، بصرف النظر عن علاقته بالملكة. وعليه نجد كليوباترا قد تورطت في فساد مارك أنطونيو، ونجد كذلك أن نقطة ضعفه المتمثلة في اتباعه للملكة فكرة رئيسية شائعة في المصادر المكتوبة. وفي نهاية قصيدة هوراس الغنائية نجد تفسيرا لانتحار كليوباترا لطالما استشهد به كثير من كتاب سيرتها، فيقول: إن كليوباترا لم تكن تريد الوقوع في الأسر ولا أن تعرض في روما على أنها إحدى غنائم الحرب.
في قصائد الرثاء لبروبيرتيوس 3. 11 تغلبت الضرورة الشعرية بحيث وصف الشاعر كيف أن كليوباترا قيدت وعرضت في الموكب في روما وعلامات لدغة الأفعى واضحة على ذراعيها (سلافيت 2002: 67-70). في الواقع تشير مصادر أخرى إلى تمثال للملكة. كتب سترابو بعد وفاتها بوقت قصير، في المجلد 17. 1. 10، وأشار إلى نظريتين تحيطان بالحدث؛ فكتب أن الملكة خضعت لسلطة أوكتافيان وهي على قيد الحياة لكنها سرعان ما أنهت حياتها بعد ذلك إما عن طريق «لدغة من أفعى أو عن طريق وضع دهان سام» (ترجمة ثاير، طبعة لوب). تشيع فكرة دهاء كليوباترا في الروايات التاريخية لوفاتها؛ فعلى سبيل المثال كتب فيليوس باتركولوس (2: 87) يقول: إن «كليوباترا تمكنت من مراوغة حراسها اليقظين وهربت أفعى إليها، وأنهت حياتها عن طريق لدغتها السامة دون أن يسيطر عليها خوفها كأنثى» (ترجمة ثاير، طبعة لوب).
لم يرد فعليا الحديث بالتفصيل عن وفاة كليوباترا إلا في كتابات بلوتارخ وكاسيوس ديو اللاحقة، فلم يكتب هذان الكاتبان إلا بعد وقت طويل من وقوع هذا الحادث وتحتوي الروايتان كلتاهما على أجزاء ظنية إلى حد كبير. كذلك فإن رواية بلوتارخ هي مجرد جزء في سيرة مارك أنطونيو. (1-1) وفاة أنطونيو
صفحة غير معروفة