كتابة السنة في عهد النبي ﷺ والصحابة وأثرها في حفظ السنة النبوية
الناشر
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
تصانيف
كتابة السنة في عهدي النبي ﷺ والصحابة وأثرها في حفظ السنة النبوية
أ. د. رفعت فوزي عبد المطلب
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة البحث
الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرا طيبًا مباركًا فيه، وصلى الله تعالى وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فهذا البحث يهدف إلى إثبات أن كثيرًا من السنة قد كتب في عهد رسول الله ﷺ وصحابته رضوان الله عليهم.
وطبعي أنه لا يتسع مجاله المحدود لتقديم ما كتب في هذين العهدين وشواهده التي تثبت لها الكتابة تبعًا - كما بينا.
ولكنه مدخل جيد لهذا الأمر، لا يترك مجالًا للشك في أن السنة لم تكن عرضة للنسيان والتحريف في هذين العهدين؛ لأنها لم تكتب، كما يرجف المرجفون.
وسنقدم في القريب العاجل إن شاء الله طائفة كبيرة من السنة المكتوبة في هذين العهدين؛ ليبدو واضحًا لكل ذي بصيرة أن بين أيدينا كثيرًا من هذه السنن، والله ﷿ يهدي إلى سواء السبيل.
1 / 1
تمهيد:
هناك لبس فهم من التأريخ لتدوين السنة المشرفة، أدى هذا اللبس إلى أن السنةلم تكتب إلا في نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني الهجريين، وبالتحديد ابتداء من عهد عمر بن عبد العزيز ﵀ حين أمر بتدوين السنة.
وممن دونها في هذا العهد بأمر من عمر بن عبد العزيز محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري (ت١٢٤هـ) الذي قال: "لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني"؛ قال ابن حجر (١): "وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز.
"ويقول السيوطي (٢): وأما ابتداء تدوين الحديث فإنه وقع على رأس المائة في خلافة عمر بن عبد العزيز. وفي الحلية عن مالك قال: أول من دون العلم ابن شهاب (٣) .
فهم من هذا وغيره أن كتابة السنة لم تكن إلا في عهد عمر بن عبد العزيز وبعده، وأنه كان يعتمد في حفظها قبل ذلك على الصدور.
وتلقف ذلك المستشرقون، فجعلوا ذلك دليلًا على أن السنة كانت عرضة للنسيان والتغيير، ولا يفيدها أنها دونت بعد تسعين عامًا أو أكثر.
_________
(١) فتح الباري (١/٢٠٨) .
(٢) تدريب الراوي للسيوطي (١/٩٤) .
(٣) حلية الأولياء: (٣/٣٦٢) .
1 / 2
وكان هذا الاتهام في عصرنا، أما المصنفون القدماء فكانوا على يقين أن السنة حفظت؛ سواء كانت في الصدور أو في الصحف والكتب؛ بل كانوا على يقين من أنه كانت هناك كتابات - وكثيرة في هذه السنين، قبل عهد عمر بن عبد العزيز - كما سيتبين في هذه الصفحات.
وكانوا يعنون بتدوين السنة جمعها في دواوين وليس ابتداء كتابتها، كما يدل على ذلك لفظ التدوين فمعناه هو تجميع الصحف في ديوان.
يقول ابن منظور في اللسان (١): "الديوان: مجتمع الصحف"، فعلى ضوء هذا نفهم أن السنة كانت قبل نهاية القرن الأول في صحف، ثم ابتدئ في تجميعها، أي في تدوينها في عهد عمر بن عبد العزيز، وهذا ما فعله ابن شهاب الزهري، وحق له أن يقول: لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني، أي ما جمعه أحد قبلي، كما سبق.
ولا شك في أن استعمال الكتابة بمعنى التدوين في الأعصر المتأخرة واستعمال التدوين بمعنى الكتابة أسهم في هذا اللبس، وكان مادة خصبة للمستشرقين ومن لف لفهم وسار على تلبيسهم للطعن في السنة والوثوق بها.
ومما يدل على التفرقة بينهما قول ابن حجر: إن آثار النبي ﷺ لم تكن في عصر أصحابه وكبار من تبعهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة (٢) .
_________
(١) اللسان: (دون) .
(٢) هدي الساري: ص (٦) .
1 / 3
فتأمل في قوله: "مدونة في الجوامع" أي في كتب جامعة. وفي قوله: "ولا مرتبة":
أي ليست مرتبة كما كانت في المصنفات المرتبة بعد هذه الفترة. ولا يعني ذلك أن الحديث لم يكتب في صحف في القرن الأول الهجري ابتداء من عصر رسول الله ﷺ. ومما يزيد الأمر وضوحًا أن ابن حجر قال بعد هذا: " ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار وتبويب الأخبار ... فأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما، وكانوا يصنفون كل باب على حدة، إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة، فدونوا الأحكام" (١) .
فهذا النص في غاية من الأهمية في مسألة الكتابة والتدوين والتصنيف، فبالإضافة إلى قوله "مدونة في الجوامع" أي جمعت ما كان موجودًا، وقوله و"تبويب الأخبار" يعني أن هذه المرحلة لم تكن مرحلة الإنشاء، وإنما مرحلة التبويب.
بالإضافة إلى ذلك نجد أن قوله: "فأول من جمع ذلك" يفيد أن الجمع يعني أكثر من عمل التسجيل، وكأن هناك كتابات جمعت في هذا العصر.
وكذلك قوله "وكانوا يصنفون كل باب على حدة إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة، فدونوا الأحكام، فصنف الإمام مالك".
_________
(١) المصدر السابق: ص (٦)
1 / 4
فإذًا كانت هذه المرحلة مرحلة ترتيب وتصنيف وجمع كل باب على حِدَة، وهذا غير الكتابة في القرن الأول التي سنجدها واقعًا عمليًا إن شاء الله ﷿.
وهذا على الرغم من أن كلمة التدوين تستعمل بمعنى الكتابة الآن، ولكن هذا لا يحجب عنا الحقيقة، وهي أنهما كانا يستعملان بمعنيين مختلفين.
ومهما يكن من أمر فمن الثابت أن هناك صحفًا كتبت في عهد رسول الله ﷺ وصحابته، وذلك ما يُعْنَى به هذا البحث.
وحتى تسلم لنا هذه الحقيقة إجمالًا لابد لنا من التعرض لأمرين:
الأمر الأول النهي عن الكتابة: هو مارُوي من أن النبي ﷺ نهى عن كتابة السنة.
١- روى مسلم في صحيحه من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله ﷺ قال: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه" (١) .
٢- وعن سفيان بن عيينة، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: جهدنا بالنبي ﷺ أن يأذن لنا في الكتاب فأبى (٢) .
_________
(١) م: (٤/٢٢٩٨) (٥٣) كتاب الزهد والرقائق (١٦) باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم.
من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله ﷺ به.
(٢) المحدث الفاصل. (ص:٣٧٩) .
1 / 5
هذا ما هو مرفوع عن النبي ﷺ في النهي عن كتابة السنة. وهناك آثار في كراهة الكتابة سنعلق عليها فيما بعد.
والحديث الثاني فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف (١) .
والأول، وإن كان رواه مسلم إلا أن من النقاد من أعله وقال: الصواب وقفه على أبي سعيد. قاله البخاري وغيره (٢) .
إلا أننا نميل إلى تصحيح مسلم رحمه الله تعالى، ونسلك سبيل التوفيق بينه وبين أحاديث الإذن بالكتابة، وذلك بعد أن نوردها.
أحاديث الإِذن بالكتابة:
إذا كنا لا نجد إلا حديثًا واحدًا في النهي عن الكتابة، رواه مسلم وأعلَّه بعض النقاد بالوقف - فهناك أكثر من حديث في الإِذن بالكتابة، وهناك كتابة للحديث في عهد رسول الله ﷺ واقعًا وعملًا.
١- روى البخاري ومسلم بسنديهما عن رسول الله ﷺ قال: "اكتبوا لأبي شاه" قالها ﷺ بعد أن طلب منه أبو شاه أن تكتب له خطبة من خطبه ﷺ عام الفتح (٣) .
_________
(١) عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعفه أحمد وغيره، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء، توفي اثنتين وثمانين ومائة (التذكرة بمعرفة رجال الكتب العشرة (١/٩٨٨ رقم ٣٨٧٥) .
(٢) فتح الباري: (١/٢٠٨) .
(٣) متفق عليه:
خ: (١/٥٦) (٣) كتاب العلم (٣٩) باب كتابة العلم. رقم (١١٢)
م: (٢/٩٨٨) (١٥) كتاب الحج (٨٢) باب تحريم مكة وصيدها. رقم (٤٤٥/١٣٥٣)
1 / 6
٢- وكان مع علي بن أبي طالب صحيفة كتبت في عهد رسول الله ﷺ فيها أمور كثيرة عنه ﷺ (١) .
وسنعرض لها إن شاء الله ﷿ وتعالى.
٣- وكتب عبد الله بن عمرو عن رسول الله ﷺ صحيفة سماها الصادقة فيها الكثير من الأحاديث التي روى منها الكثير الإمام أحمد في مسنده (٢)، والتي رواها عنه حفيده عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو.
وقد أشار إلى ذلك أبو هريرة حين قال: ما من أصحاب النبي ﷺ أحد أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب (٣) .
٤- ولما اشتد بالنبي ﷺ وجعه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده.
قال عمر: إن النبي ﷺ غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله، حسبنا، فاختلفوا، وكثر اللغط، قال: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع.
فخرج ابن عباس يقول: إن الرَّزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ﷺ وبين كتابه (٤) .
_________
(١) متفق عليه.
خ: (١/٥٦) (٣) كتاب العلم (٣٩) باب كتابة العلم. رقم (١١١) .
م: (٢/٩٩٥) (١٥) كتاب الحج (٨٥) باب فضل المدينة. رقم (٤٦٧/١٣٧٠) .
(٢) انظر مسند أحمد (١١/ ٢٤٠-٣٨٦) – أرقام: (٦٦٥٩-٦٧٧٢) .
(٣) خ: (١/٥٧) الكتاب والباب السابقين. رقم: (١١٣) .
(٤) متفق عليه:
خ: (١/٥٧) في الكتاب والباب السابقين: رقم: (١١٤) .
م: (٣/١٢٥٧/١٢٥٨) (٢٥) كتاب الوصية (٥) باب ترك الوصية لمن له شيء يوصي عنه. رقم: (٢٠/١٦٣٧) .
1 / 7
وغير ذلك من الأحاديث القولية والعملية التي تثبت أن أحاديث كتبت في عهده ﷺ.
وهذا جعل العلماء يوفقون بين هذه الأحاديث وبين نهي رسول الله ﷺ في حديث أبي سعيد الخدري عن الكتابة.
وقد أوجز ذلك ابن حجر بقوله: "والجمع بينهما أن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره، والإذن في غير ذلك".
"أو أن النهي خاص بكتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد والإذن في تفريقهما".
"أو النهي متقدم والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس، وهو أقربها مع أنه لاينافيها".
"وقيل: النهي خاص بمن خُشِي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ، والإذن لمن أُمِن منه ذلك" (١) .
واختار ابن القيم النسخ وفصَّل فيه فقال: "قد صح عن النبي ﷺ النهي عن الكتابة والإذن فيها، والإذن متأخر، فيكون ناسخًا لحديث النهي؛ فإن النبيَّ ﷺ قال في غزاة الفتح: "اكتبوا لأبي شاه" - يعني خطبته التي سأل أبو شاه كتابتها، وأذن لعبد الله بن عمرو في الكتابة، وحديثه متأخر عن النهي؛ لأنه لم يزل يكتب، ومات وعنده كتابته، وهي الصحيفة التي كان يسميها الصادقة، ولو كان النهي عن الكتابة متأخرًا
_________
(١) فتح الباري (١/٢٠٨) .
1 / 8
لمحاها عبد الله؛ لأمر النبي ﷺ بمحو ما كتب عنه غير القرآن، فلما لم يمحها وأثبتها دلَّ على أنَّ الإذن في الكتابة متأخر عن النهي عنها. وهذا واضح والحمد لله" (١) .
ومهما يكن من أمر فقد ثبتت كتابة أحاديث في عهد رسول الله ﷺ.
ومما يثبت أن النهي لم يكن قائمًا - كما قررت في دراسة سابقة - أن بعضًا من الصحابة كرهوا كتابة الحديث، لكن أغلبهم لم يعلل هذه الكراهة بكون رسول الله ﷺ نهى عن الكتابة، وإنما كانوا يعللون بعلل أخرى. ومن يتأمل تقييد العلم للخطيب البغدادي يتأكد من ذلك (٢) .
وقد بيَّن الخطيب البغدادي في "تقييد العلم" الأسباب التي كره من أجلها بعض السلف الكتابة، فلم يذكر منها أن رسول الله ﷺ نهاهم إلا ما كان في أول الإسلام؛ لقلة الفقهاء والمميزين بين الوحي وغيره.
يقول الخطيب: "فقد ثبت أن كراهة مَنْ كره الكتاب من الصدر الأول إنما هي لئلا يُضاهى بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عن القرآن بسواه، ونهى عن الكتب القديمة أن تتخذ (التوراة والانجيل) لأنه لا
_________
(١) تهذيب مختصر سنن أبي داود، مع المختصر. (٥/٢٤٥) .
هذا ومع وضوح أن الإذن كان متأخرًا وكون بعض ما هو مكتوب كان في قائم سيف - رسول الله ﷺ، وعزم رسول الله ﷺ على أن يكتب لهم كتابًا مع وضوح كل ذلك يرى رشيد رضا أن النهي هو المتأخر، ويكون بالتالي ناسخًا للإذن! (مجلة المنار ١٠/٧٦٧) .
وتلقف ذلك محمود أبو رية في كتابه أضواء على السنة المحمدية، ص (٤٨) .
(٢) تقييد العلم: (ص ٣٦ – ٦٠) وانظر مزيدًا في هذا الباب في توثيق السنة في القرن الثاني الهجري (ص:٤٣ – ٥٦) .
1 / 9
يعرف حقها من باطلها، وصحيحها من فاسدها، مع أن القرآن كفى عنها، وصار مهيمنًا عليها، ونهى عن كتْب العلم في صدر الإسلام وَجِدَّتِهِ؛ لقلة الفقهاء في ذلك الوقت، والمميزين بين الوحي وغيره؛ لأن أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين، ولا جالسوا العارفين، فلم يؤمن أن يلحقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن، ويعتقدوا أن ما اشتملت عليه كلام الرحمن" (١) .
الأمر الثاني: الذي نتعرض له حتى يسلم لنا أن السنة ابتدئ في كتابتها في عهد رسول الله ﷺ وما بعده هو أن المكتوبات من السنة في هذا العهد وكذلك عهد الصحابة رضوان الله عليهم لم ينص على أنها مكتوبة عند رواية أحاديثها.
ولنأخذ مثالين على ذلك في عهد رسول الله ﷺ: صحيفة عبد الله بن عمرو ﵄، وصحيفة همام بن منبه في عهد الصحابة رضوان الله عليهم.
أما صحيفة عبد الله بن عمرو فتروى أحاديثها منها دون إشارة إلى أنها كانت مكتوبة في عهد رسول الله ﷺ.
ولولا أنه قد أثيرت قضية أن أحاديثها: هل هي متصلة أو منقطعة نقلت من كتاب لم نعرف أن شعيبًا حفيد عبد الله بن عمرو أخذها كتابة من صحيفة جده.
_________
(١) تقييد العلم: (ص: ٥٧) .
1 / 10
هذا مع إجماع كل من الفريقين على أنها نقلت كتابًا، والاختلاف في كون هذه الصحيفة نقلت سماعًا والتقى شعيب بجده أولا.
أما صحيفة همام بن منبه فمن الواضح أن المصنفين بعدها تداولوها صحيفة كالبخاري ومسلم، ومن هنا نشأ الكلام في كيفية رواية أحاديث من هذه الصحيفة وأمثالها، وكانت للبخاري مثلًا طريقته، ولمسلم طريقته في ذلك (١) .
لكن واحدًا منهما أو من غيرهما لم يذكر عند هذه الأحاديث أنها من صحيفة، ذلك أن الاهتمام كله كان منصبَّا على إظهار الالتقاء والسماع، واتصال الأسانيد، ولم يكن منصبَّا على الكتابة التي قد يصاحبها الوجادة، ورواية الأحاديث بها، وبخاصة في الأعصر المتقدمة غير مشروع، وغير معترف به طريقًا لنقل الأحاديث موثقة عند جمهورهم.
وهذا نتذكره دائمًا عند الكلام على صحيفة ما، ولا نجد إلا إشارات عن الكتابة في قليل من أسانيدها.
وعلى هذا فلا يعطي عدم ذكر الكتابة في رواية الأحاديث دليلًا على أن الأحاديث كانت غير مكتوبة.
وفي ظني أنه لولا هذا لظهر كثير مما كتب، مما روي سماعًا في عهد رسول الله ﷺ وعهد صحابته رضوان الله تعالى عليهم.
_________
(١) تدريب الراوي: (١/٥٥٣/٥٥٤) .
1 / 11
القسم الأول: كتابة السنة في عهد رسول الله ﷺ
الفصل الأول: ما كتب في عهد رسول الله ﷺ على وجه الإجمال
وسنتناول منها ما له أثر في الرواية فيما بعد عهده ﷺ من العصور:
١- صحيفة علي بن أبي طالب رضى الله عنه:
وهذه الصحيفة كانت عند رسول الله ﷺ، وخص بها عليًّا رضى الله عنه كما قررنا في دراسة مستقلة لصحيفة علي (١) .
٢- الصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو بن العاص ﵄.
عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ﷺ أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله ﷺ، ورسول الله ﷺ بشر يتكلم في الغضب والرضا،
_________
(١) صحيفة علي بن أبي طالب ﵁، عن رسول الله ﷺ دراسة توثيقية دار السلام - بالقاهرة - ١٤٠٦؟/١٩٨٦م.
1 / 12
فأمسكت عن الكتابة. فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال: "اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق" (١) .
وعنه قال: "قلت يا رسول الله، أكتب ما أسمع منك؟ قال: نعم. قلت في الرضا والسخط؟ قال: نعم، فإنه ما ينبغي لي أن أقول في ذلك إلا حقًّا".
وفي رواية: "يا رسولَ الله إني أسمعُ منك أشياء، فأكتبها؟ قال: نعم" (٢) .
_________
(١) إسناده صحيح.
حم: (١١/٥٧ – ٥٨) رقم (٦٥١٠)
من طريق يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن الأخنس، عن الوليد بن عبد الله، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله ابن عمرو به.
وهذا الإسناد صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير الوليد بن عبد الله، وهو ابن أبي مغيث العبدري، وهو ثقة.
المستدرك (١/١٠٤ – ١٠٥) (٢) كتاب العلم. من طريقين عن الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن عبد الواحد ابن قيس، عن عبد الله بن عمرو، به.
وقال: هذا حديث صحيح الإسناد أصل في نسخ الحديث عن رسول الله ﷺ، ولم يخرجاه. وقد احتجا بجميع رواته إلا عبد الواحد بن قيس وهو شيخ من أهل الشام، وابنه عمر بن عبد الواحد الدمشقي أحد أئمة الحديث، وقد روى عبد الواحد بن قيس عن جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة وأبو أمامة الباهلي وواثلة بن الأسقع – ﵃، وروى عنه الأوزاعي أحاديث.
ولهذا الحديث شاهد قد اتفقا على إخراجه على سبيل الاختصار: عن همام بن منبه، عن أبي هريرة أنه قال: ليس أحد من أصحاب النبي – ﷺ أكثر حديثًا مني إلا عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب.
وعن عمرو بن دينار، عن وهب بن منبه، عن أخيه همام، عن أبي هريرة نحوه، وقد وافقه الذهبي.
أقول: حديث همام ووهب هو من أفراد البخاري، وليس في مسلم. كما ذكر الحاكم.
(٢) صحيح
حم: (١١/٥٢٣ –٥٢٤)
عن يزيد بن هارون ومحمد بن يزيد، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
ومحمد بن إسحاق وإن كان مدلسًا فقد توبع كما ترى.
المستدرك: (١/١٠٥ - ١٠٦) (٢) كتاب العلم. من طريق ابن وهب عن عبد الرحمن بن سلمان، عن عقيل ابن خالد، عن عمرو بن شعيب، أن شعيبًا حدثه ومجاهدًا، أن عبد الله بن عمرو حدثهم.
ثم قال: فليعلم طالب هذا العلم أن أحدًا لم يتكلم قط في عمرو بن شعيب؛ وإنما تكلم مسلم في سماع شعيب من عبد الله بن عمرو؛ فإذا جاء الحديث عن عمرو بن شعيب عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو فإنه صحيح.
كما قدم الحاكم لهذا الحديث بروايته عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قوله: إذا كان الراوي عن عمرو بن شعيب ثقة فهو كأيوب عن نافع عن ابن عمر.
ومعروف أن هذا من أصح الأسانيد.
1 / 13
وعنه قال: استأذنت النبي ﷺ في كتاب ما سمعت منه. قال: فأذن لي فكتبته، فكان عبد الله يسمي صحيفته تلك الصادقة (١) .
وعن مجاهد قال: رأيت عند عبد الله بن عمرو صحيفة فسألت عنها فقال: هذه الصادقة، فيها ما سمعت من رسول الله ﷺ، ليس بيني وبينه فيها أحد (٢) .
وعن عبد الله بن عمرو قال: ما يرغبني في الحياة إلا خصلتان: الصادقة والوَهْطَة (٣)، فأما الصادقة فصحيفة كتبتها عن رسول الله ﷺ (٤) .
وسنتناول هذه الصحيفة فيما بعد من جوانب أخرى.
٣- صحيفة عمرو بن حزم
استعمله النبي ﷺ على أهل نجران.
وكتب - رسول الله ﷺ معه كتابًا في الفرائض والصدقات والديات.
_________
(١) طبقات ابن سعد: (٢/٣٢١ – ٣٢٢) .
(٢) المصدر السابق: (٢/٣٢٢) .
(٣) أرض بالطائف تصدَّق بها عمرو بن العاص، السير (٥/١٧٦) .
(٤) سير أعلام النبلاء (٥/١٧٥-١٧٦) .
1 / 14
قال ابن سعد: وكتب رسول الله ﷺ لعمرو بن حزم حيث بعثه إلى اليمن عهدًا يعلمه فيه شرائع الإسلام وفرائضه وحدوده، وكتب أُبَي (١) .
وقال ابن عبد البر: "وكتب له كتابًا فيه الفرائض والسنن والصدقات والديات (٢) .
٤- كتاب رسول الله ﷺ في الصدقات.
عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: كتب رسول الله ﷺ كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض، فقرنه بسيفه، فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض (٣) ...
وهو نفسه - إن شاء الله - كتاب أبي بكر الذي رواه البخاري بسنده عن أنس، ورواه عنه حفيده ثمامة بن عبد الله: أن أبا بكر رضى الله عنه
_________
(١) طبقات ابن سعد (١/٢٣٠)
وقال في موضع آخر: "كان في كتاب رسول الله ﷺ الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران: ألا يمس القرآن إلا طاهر ولا يصلي الرجل وهو معتقص، ولا يحتبي الرجل، وليس بين فرجه وبين السماء شيء ... إلخ (الطبقات ٥/٣١٨) .
(٢) الاستيعاب ٢/٤٣٧.
(٣) المستدرك (١/٣٩٢ – ٣٩٤)
قال الحاكم بعد روايته: هذا حديث كبير في هذا الباب يشهد بكثرة الأحكام التي في حديث ثمامة عن أنس (الذي رواه البخاري) إلا أن الشيخين لم يخرجا لسفيان بن حسين الواسطي في الكتابين، وسفيان بن حسين أحد أئمة الحديث وثقه يحيى بن معين ... ويصححه على شرط الشيخين حديث عبد الله بن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، وإن كان فيه أدنى إرسال، فإنه شاهد صحيح لحديث سفيان ابن حسين.
ثم روى حديث الزهري، ثم روى كتاب النبي ﷺ إلى عمرو بن حزم شاهدًا صحيحًا لهذا الكتاب. ووافقه الذهبي.
1 / 15
كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين. وقال: بسم الله الرحمن الرحيم؛ هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله ﷺ على المسلمين (١) .
والكتب كثيرة تلك التي كتبت في عهد رسول الله ﷺ، ولكننا لا ندري ألها أثر في نقل أحاديثها فيما بعد أم لا؟ ونظرة إلى كتاب الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، ومكاتيب رسول الله ﷺ تعطينا عددا كبيرًا من الكتب التي كتبت في عهده ﷺ (٢) .
وسنكتفي بهذه لندرس بعضها، ونرى كم هي أسهمت في نقل حديث رسول الله ﷺ موثقًا بالكتابة مع السماع في الكثير من الأحاديث.
وهناك أحاديث كتبها الصحابة رضوان الله عليهم، ولكننا لا ندري هل كتبوها في عهد رسول الله ﷺ أو بعده، وسنتناولها فيما بعد حين نعرض لما كتب في عهد الصحابة رضوان الله عليهم.
_________
(١) خ: (١/٤٤٩ – ٤٥٠) (٢٤) (٣٨) باب زكاة الغنم. رقم (١٤٥٤) وأطرافه التي تجمع بين متفرقه في البخاري: (١٤٤٨، ١٤٥٠ – ١٤٥١، ١٤٥٣ – ١٤٥٥، ٢٤٨٧، ٣١٠٦، ٥٨٧٨، ٦٩٥٥) .
(٢) الكتب التي ألفت في كتب الرسول ﷺ:
١- إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين لابن طولون الدمشقي (٩٥٣) .
٢- المصباح المضيّ في كُتَّاب النبيّ لمحمد بن علي بن أحمد بن حديدة الأنصاري (٧٨٣ هـ) .
٣- مكاتيب الرسول ﷺ.
1 / 16
الفصل الثاني: دراسة مفصلة لنماذج كتبت في عهد رسول الله ﷺ
أولا: صحيفة علي رضى الله عنه.
هناك دلالة قوية من نصوص الصحيفة على أنها كتبت في عهد رسول الله ﷺ كما قررت في دراسة سابقة (١) .
فعلي رضى الله عنه قال: "ما عندنا شيء من الوحي، أو قال: كتاب من رسول الله ﷺ إلا ما في كتاب الله وهذه الصحيفة.
وفي رواية ما ترك رسول الله ﷺ غير كتاب الله الذي أنزل إلا وقد بَلَّغْتُهُ غير هذا:
"بسم الله الرحمن الرحيم، محمد رسول الله قال: لكل نبي حرم، وحرمي المدينة".
فالصحيفة كانت عند رسول الله ﷺ، وأعطاها لعلي، وهذا هو الذي يمكن أن يفهم من الخصوصية لعلي رضى الله عنه، إذ الذي في الصحيفة ليس خاصًا به، ولا بآل البيت، فقد نقله كثير من الصحابة رضوان الله عليهم - كما سنذكر - إن شاء الله تعالى - بل هناك ما يثبت أن شيئًا ما في الصحيفة كان مكتوبًا عند بعض الصحابة رضوان الله عليهم.
_________
(١) صحيفة علي بن أبي طالب – ﵁: (ص ٣٩) .
1 / 17
فقد روى مسلم بسنده عن نافع بن جبير أن مروان بن الحكم خطب الناس، فذكر مكة وأهلها وحرمتها، ولم يذكر المدينة وأهلها وحرمتها، فناداه رافع بن خديج فقال: ما لي أسمعك ذكرت مكة وأهلها وحرمتها، ولم تذكر المدينة وأهلها وحرمتها؟ وقد حرَّم رسول الله ﷺ ما بين لابتيها، وذلك عندنا في أديم خَوْلاني، إن شئت أَقْرَأتكه (١) .
وفي بعض الروايات تصريح بأنه أخذها من رسول الله ﷺ (٢) .
محتويات هذه الصحيفة:
عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: قال علي رضى الله عنه ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله غير هذه الصحيفة. قال: فأخرجها، فإذا فيها أشياء من الجراحات وأسنان الإبل.
قال: وفيها: المدينة حرَمٌ ما بين عَيْرٍ إلى ثَوْر، فمن أحدث فيها حدثًا، أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل، وذمة المسلمين واحدة يفي بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه يوم القيامة صَرْفٌ ولا عدْل.
_________
(١) المصدر السابق (ص٤٠) .
(٢) حم (١/١١٩)
عن يحيى بن آدم، عن شريك، عن مخارق عن طارق بن شهاب، عن علي: "وهذه الصحيفة أعطانيها رسول الله ﷺ فيها فرائض الصدقة".
وفي رواية أخذتها من رسول الله ﷺ، رواها المحاملي في أماليه بالسند المذكور (ص١٥٥) رقم: (١٢٤) .
1 / 18
وفي حديث آخر: إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم المدينة؛ حَرَمٌ ما بين حرتيها، وحماها كله، لا يُخْتَلىَ خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشار بها، ولا تقطع شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره، ولا يحمل فيها السلاح لقتالٍ.
وفي هذه الرواية: ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده.
وفي حديث منها: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر.
وفي حديث آخر: ومن ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا.
وفي حديث: "وفيها فرائض الصدقات".
وفي حديث: "لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى مُحْدِثا".
وهكذا حفلت الصحيفة بموضوعات شتى.
١- حرم المدينة.
٢- ذمة المسلمين وأمانتهم.
٣- تكافؤ دماء المسلمين.
٤- قتل المسلم بالكافر.
٥- فكاك الأسير.
٦- بعض الكبائر وعقابها.
1 / 19
٧- المعاقل (الديات والجراحات) .
٨- فرائض الصدقة.
وجدير بالذكر أن في هذه الصحيفة إشارات إلى موضوعات كبيرة، ولم يرد في الصحيفة منها إلا هذه الإشارات.
وذلك كالديات، وتفصيلها يطول في الروايات والأحاديث، بل ويطول في صحف أخرى كما سنرى، وكما في صحيفة عمرو بن حزم.
وكذلك فرائض الصدقة كما سنرى تفصيلها في كتاب رسول الله ﷺ الذي كان عند أبي بكر، ثم عند عمر.
ويحتمل أن هناك أمورًا أخرى في هذه الصحيفة.
وقد رُوي أنها كانت في قائم سيف رسول الله ﷺ، وقد روت السيدة عائشة أجزاء من هذه الصحيفة وقالت: إنها كانت في قائم سيف رسول الله ﷺ:
عن عائشة ﵂ أنها قالت: وجدت في قائم سيف رسول الله ﷺ كتابًا:
إن أشدَّ الناس عتوًّا مَنْ ضرب غير ضاربه، ورجل قَتَلَ غيرَ قاتله، ورجل تولىَّ غيرَ أهلِ نعمته.
فمن فعل ذلك فقد كفر بالله ورسوله، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا.
وفي الآخر: المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده، ولا يتوارث أهل ملتين، ولا
1 / 20