15
وتالله لو أفرغت طيبات الدنيا في جوف هذا الحيوان الإنساني الذي وصفت لك ممن يسمونهم الأغنياء والمستمتعين وأهل الحظ والهناءة؛ ما زادت في لذته على ما يكون من إفراغ حقل من البرسيم في جوف حمار!
قال «الشيخ علي»: وكما يفقد أكثر الناس السعادة في كثرة الاستعداد لها والإغراق في وسائلها، يجدها بعضهم في إهمالها حين لا يبحث عنها، ويذهب باحثا عن حقيقة الحياة.
ويا عجبا للناس! كأنهم ملكوا الأعمار، وضمنوا لأنفسهم دولتي الليل والنهار؛ فقلما يفكر أحدهم إلا في زاد الدهر البعيد والحياة المتطاولة والأمد الواسع، وهو لا يرتاب في أنه لا يعيش غير عمر واحد محدود، ولكنه لا يدري أنه يحمل على نفسه من تلك الأطماع شقاء بضعة أعمار طويلة عالية السن، ويسوقها بين يديه ظالعة عرجاء تطلب السعادة في طريق لا آخرة له، فهي تسير لأن بين يديها غرضا ما ينفك ماثلا على بعد منها، ثم تنبعث لأن الطريق لا تنتهي، ثم تقف عاجزة لأن الحياة قد كلت، ثم تقع وما بها حركة لأنها انتهت إلى الحفرة المجهولة التي تنشق تحت قدمي كل إنسان في الساعة التي هو رهن بها، ولو كان طريقه في النعم واللذات على وادي الجنة بين الشمس والقمر!
كل شيء هو ما شئت أن تتوهم، ولكن الحياة هي الحياة: هي الحقيقة التي تريد أن تعرف، والمدة التي تعمل على أن تنقضي، والمعنى الذي تطير حوله الأقدار وتقع لتلفت الناس إليه؛ هي الحياة التي لا تتسع لأكثر من قضاء الواجبات، ولا تحمل جسدها إلا ريثما نبليه، واسمها الحياة ومعناها النجاح، وهي الحياة لا المال، والحياة لا الشهوات، والحياة لا المطامع، وإنما قيمة الحياة فيما تذهب فيه لا فيما يذهب بها؛ فكل لذة لا تجد لروحك أثرا فيها لذة ميتة، وحقيق بك عندها أن تحسب أن شيئا من عقلك أو من فضيلتك قد مات فيها.
16
ولقد نقلوا في أساطير الأولين عن «ميداس» أنه بلغ من فرط الغنى أن لا يلمس بيده شيئا إلا استحال ذهبا، فأرادت آلهة الخرافات أن لا ينخدع الناس فيه ولا يسحر أعينهم أو يسترهبهم، وأن يعلموا أنه إنسان، وأن فرط الغني مثلة به، فمسخ «أپولون» أذنيه فكانتا أذني حمار، ولعل فرط الغنى يا بني لا يكون في الأعم الأغلب إلا مع هذه الآذان! وما أملحها نادرة وأبدعها إشارة وأحكمها ملحة! فإن كل ما في الحمار لا بد منه لتكوينه حمارا سويا، إلا أذنيه الطويلتين،
17
فلو حملهما إنسان كميداس رزق غنى الحيوانية، فهما برهانان على أنه ليس بإنسان صحيح، ولم يستطع أن يكون شيئا حتى ولا حمارا من الحمير.
وأي شيء هذا الغني الذي يأكل ويتمتع ولا يرتعي من لذات الحياة إلا الخضراء الناضرة، وقد سلط على هلكة ماله أو سلط ماله على هلكته،
صفحة غير معروفة