وعاد ينظر إلى الناس يأكل بعضهم بعضا، ويسرق بعضهم أقوات بعض، ويتزاحمون على الحياة فيسارعون إلى الموت؛ فدمعت عيناه ولكنه كان يبتسم، وعاد يقول: «حكيم أنت يا رب! ليتهم وليلتي ... ليتهم يعلمون شيئا من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس! كل شيء في هذا الكون العظيم يجري على قدر منك وتدبير حكيم!»
ثم شرع يؤلف كتابه «المساكين». •••
أخرج الرافعي كتابه هذا في سنة 1917، وهو الكتاب الرابع مما ألف في المنثور، وثاني ما ألف في أدب الإنشاء، ويعرف به الرافعي في الصفحة الأولى منه فيقول: هو كتاب «أردت به بيان شيء من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس ...» وقدم له بمقدمة بليغة في معنى الفقر والإحسان والتعاطف الإنساني يقول فيها: «هذا كتاب حاولت أن أكسو الفقر من صفحاته مرقعة جديدة ... فقد والله بليت أثواب هذا الفقر، وإنها لتنسدل على أركانه مزقا متهدلة يمشي بعضها في بعض، وإنه ليلفقها بخيوط من الدمع، ويمسكها برقع من الأكباد، ويشدها بالقطع المتنافرة من حسرة إلى أمل، وأمل إلى خيبة، وخيبة إلى هم؛ وأقبح من الفقر ألا يظهر الفقر كاسيا، أو تكون له زينة إلا من أوجاع الإنسانية، أو المعاني التي يتمنى الحكماء لو أنها غابت في جماجم الموتى الأولين ...»
والكتاب فصول شتى، ليس له وحدة تربط بين أجزائه إلا أنه صور من آلام الإنسانية كثيرة الألوان، متعددة الظلال، تلتقي عندها أنة المريض، وزفرة العاشق، ودمعة الجائع، وصرخة اللهفان المستغيث؛ فهنا صورة «الشيخ علي» الرجل الذي يعيش بطبيعته فوق الحياة وفوق الناس؛ لأنه يعيش في نعمة الرضا، وإلى جانبه قصة الغني الذي حسب أنه سيطر على الحياة لأنه ملك المال، وهذه صاحبته الصغيرة التي انتشلها الشيخ بماله من الفقر الجائع، فوهب لها المال ولكنه سلبها نعمة الشعور بالحياة، وهذا ... وهذه ... من صور المساكين الذين يعيشون يحتسون الدموع أو يتطهرون بالدموع!
وأول أمر الرافعي في تأليف كتاب المساكين أنه كان في زيارة أصهاره في «منية جناج»، فلقي هناك الشيخ علي، والشيخ علي رجل يعيش وحده، ليس له جيب يمسك درهما، ولا جسد يمسك ثوبا، ولا دار تئويه، ولا حقل يغل عليه؛ يجوع فيهبط على أول دار تلقاه يتناول ما يمسك رمقه، ويدركه النوم فيتوسد ذراعه حيث أدركه النوم من الدار أو الطريق. رجل يعيش بطبيعته فوق كل آمال الناس، وآمال الحياة، ولقيه الرافعي واستمع إلى خبره فعرف من فلسفته فلسفة الحياة، ووجد عنده الحل لكل ما في نفسه من مشكلات، فكان هذا الكتاب من وحي الشيخ علي الفيلسوف الصامت في الرافعي الأديب، واجتمعت له مادة الكتاب في مجلس واحد لم ينطق فيه أحد بكلمة.
ويصف الرافعي الشيخ علي فيقول: ... هو حليم لنفسه، غضوب لنفسه، وكذلك هو في الخفة والوقار، والضحك والعبوس، والزهو والانقباض، وفي كل ضدين منهما لذة وألم، كأنه جزيرة قائمة في بحر لا يحيط بها إلا الماء، فلا صلة بينهما في المادة وإن كانت هي فيه؛ فالناس كما هم وهو كما هو، يرونه من جفوة الزمان أضعف من أن يصاب بأذى، ويرى نفسه من دهره أقوى من أن يصيب بأذى، ويتحاشونه رأفة ورحمة، ويتحاماهم أنفة واستغناء، ثم إن مسه الأذى من رقيع أو سقيط أحسن إلى الفضيلة بنسيان من أساء إليه، فيألم وكأن ألمه مرض طبيعي، ولا فرق عنده في هذه الحال بين أن يمغص بطنه بالداء أو يمغص ظهره بالعصا! وهو والدنيا خصمان في ميدان الحياة، غير أن أمرهما مختلف جدا، فلم تقهره الدنيا لأنه لم يطمح إليها ولم يقع فيها، وقهرها هو لأنها لم تظفر به.
وهو رجل سدت في وجهه منافذ الجهات الأربع كلها إلا جهة السماء، فكأنه في الأرض بطل خيالي يرينا من نفسه إحدى خرافات الحياة، ولكنه مع ذلك يكاد يخرج للدنيا تلك الحقيقة الإلهية التي لا تغذوها مادة الأرض ولا مادة الجسم، فهي تزدري كل ما على الأرض من متاع وزينة وزخرف، وكل ما ردت عليك الغبطة من بسطة في الجسم أو سعة في المال أو فضل في المنزلة، وكل ما أنت من إقباله على طمع، ومن فوته على خوف ...
فهو من أجهل الناس في الدنيا وأجهل الناس بالدنيا ... وأنت إذا سطعت له بالجوهرة الكريمة النادرة، فلا يعدو أن يراها حصاة جميلة تتألق، وإن هولت عليه بألوان الخز والديباج، حسبك مائقا لم تر قط نضارة البرسيم وألوان الربيع ...
هذا هو الشيخ علي الذي أوحى إلى الرافعي كتاب المساكين، ونسب إليه القول فيه ورده إلى إلهامه، وهو عنده النموذج الكامل للرجل السعيد والفيلسوف الصحيح.
وقد فرغ الرافعي من كتاب المساكين في سنة 1917، وفرغ الشيخ علي من دنياه بعد ذلك بقليل، ولكن روحه ظلت تعمل في نفس الرافعي وتملي عليه وتلهمه الرأي إلى آخر أيامه بعد ذلك بعشرين سنة. والواقع أن الرافعي كان يؤمن بفلسفة التسليم والرضا فيما لا طاقة له به، إيمانا كان مادة حياته ونظام عمله، وإيمانه ذاك هو الذي كان يفيض عليه أمارات المرح والسرور حتى في أعصب أوقاته وأحرج ساعاته، فكنت لا تراه إلا مبتسما أبدا، أو ضاحكا ضحكة السخرية والاستسلام. •••
صفحة غير معروفة