مسكينة! مسكينة!
قال «الشيخ علي»: واسمع الآن يا بني ما أقص عليك، فإني محدثك بخبر ليتني ما علمته، بل ليتني إذ علمته ما وعيته، وليتني إذ وعيته ما أثبته ولا نفذت فيه كما نفذ في.
ولكن الحياة كما تقضي علينا أن نشهد أموات الأحياء، ونحملهم إلى أبواب الآخرة من تلك الحفر، تقضي علينا كذلك أن نشهد أحياء الأموات من أهل الرذائل، ونحمل من أخبار ضمائرهم الميتة إلى أبواب السماء في أنفسنا!
فواها لك أيتها الحياة الدنيا! تقتلين بالشر وتجرحين بأخباره، ولا توتين عسل الحكمة إلا بعد لسع كثير.
وقد علمنا أن كل شيء يسير، فإنما هو يذهب في طريق يتهدى أو يعتسف،
1
وكأن الأسف على أهل الشر لم يجد له طريقا في هذه الحياة إلا من ضمائر أهل الخير؛ وبهذا يضرب الشر أهله وغير أهله.
كانت لنا يا بني في هذه القرية النضرة فتاة بائسة ضاق بها العريض من هذا البر، فخرجت إلى بعض المدن تستطعم الحياة، فحدثتني أنها استضاقت حتى كأنما كانت تنفذ إلى رزقها من شق في صخرة في غار في جبل، ثم استضاقت فكأنما ولجت هذا الغار فانحدرت تلك الصخرة، فسدت عليها فلا وراء ولا أمام، وأعجزها حتى المعاش الملفق.
2
وخرجت يوما على الناس وكأنها لقذارتها قطعة من الحياة البالية مدرجة في بعض الأطمار، أو روح من الهواء تمشي ساكنة في أودية من الغبار، وما تحصي العين تلك البقع المنتشرة في ثيابها؛ كأنها أرقام للفقر يعد بها ليالي عذابها، وهي - علم الله - بقع أشأم منها أنها في رقع، وقد اغبر شعرها الفاحم وتلبد، فكأنه بعض ما وقع على رأسها من حظها الأسود، ولاح من تحته وجه كالدينار الزائف في صفرته ورده، وكالقمر الممحوق في استطالته تحت الظلام ومده ، وهي فتاة عليلة قد أخذ السقام من حجمها، كما أطفأت الأقدار من نجمها، وخفي من المرض في صدرها أكثر مما خفي بين الناس من قدرها؛ وما تعرف من أسماء الأموات والأحياء غير أسماء أهلها، ولا تملك من الأرض كلها أكثر من غبار نعلها، وقد خرجت تتحامل فكلما خافتت في مشيها قليلا خافت العثار، فاستندت إلى جدار، فإذا رأيت ثم رأيت صورة البؤس، ولكن في غير إطار.
صفحة غير معروفة