فلقد والله بالغ الناس في اعتبار هذين الحجرين،
1
وأسرفوا على أنفسهم في محبتهما والكد في طلبهما بأخلاق وشيم ليس لأكثرها موضع في الإنسان، ولا يتسع لها عمره القصير، وإن هي إلا من كلب الحيوانية فيه، بل هي تطور فاسد في أخلاقه التاريخية؛ فقد كانت الجماعة الأولى تنازع الحيوان وتتعاون عليه، وكانت الحيوانية قبيلا والإنسان قبيلا آخر، وغبرت الإنسانية على ذلك دهرا، ثم انفرعت وانشقت وترامت على أقطار الدنيا؛ فصار لكل أرض إنسانها، وبقي الحيوان كله قبيلا واحدا؛ ومن ثم ظهر أثر الإنسان على الإنسان، وأخذت تلك الحيوانات العاقلة تملي تاريخ الأرض في الأرض غير مهذب ولا منقح، بل أصواتا تتعاوى،
2
ويومئذ كان عمل الفرد الواحد للقبيلة كلها؛ لأنه في الاجتماع بقبيلته لا بنفسه، وكان الفرد في عهد الجماعة إنما يقاتل على الرزق، فأصبح في عهد القبيلة يقاتل على الطماح إليه والاستكثار منه، ولم يكن في تاريخه ما يقذع هذا الطماح أو يكفه أو يرد فيه ردا، فاسترسل إليه، ونشأ من ذلك في نفسه معنى الجمع والادخار، وأن يمهد
3
لغيره من بعده.
ثم استفاض الدهر بحوادثه وعصوره، وقامت الممالك واستجمعت الأمم واستبحر العمران، وما برح ذلك المعنى يتسع ويتتابع ويتلون في تاريخ طويل ليس كتابنا بصدده؛
4
حتى عاد ذلك القتال الأول، فرق ثم رق إلى أن صار قتالا في الأسواق بين جماعات الدراهم والدنانير، وكان النزاع بين فرد وفرد وبين قوة وقوة، فارتقى وتهذب حتى رجع إلى أن صار نزاعا بين خلق وخلق وبين حيلة وحيلة، وبعد أن كان الميدان في رقعة هذه الأرض، صغر شيئا فشيئا أو كبر شيئا فشيئا حتى أصبح في رقعة الضمير.
صفحة غير معروفة