وإنما الإيمان هو ذلك المعنى الذي يلقي على روحك السكينة لأنها متصلة بالله، وفي ضميرك المحبة لأنه متصل بالناس، وهو ذلك المعنى الذي يعلمك ما أنت ممن حولك، وما حياتك مما وراءها، وهو ذلك الاعتقاد الكبير الذي تصغر عنده الحياة بما فيها من الخير والشر، وتهون بما فيها من النفع والضر؛ لأنه قائم على الفكر الذي هو بقية ما نفخ الله من روحه في الإنسان الأول،
4
فلا يضعف أبدا ما دام في الكون قوة، ولا يفتقر أبدا ما دامت الطبيعة غنية بجمالها، ولا يسقط أبدا ما دامت السماء قائمة، ولا يموت أبدا ما دامت الحياة باقية؛ ومتى خضعت له استحال عليك أن تذل لصغائر الحياة؛ لأنه هو لا يذل، ومن مظاهره تلك العظمة التي تكون في الأبطال فيستهينون بالحياة إذ هم أهل الموت، وفي العظماء فيتنزهون عن الدنايا إذ هم أهل الأخلاق، وفي الحكماء فيزهدون في حطام الدنيا إذ هم أهل النفوس.
ومن ثم كان الإيمان الصحيح حرية صحيحة؛ لأنه يعصم من ضروب الذل كلها، وكان منفعة خالصة؛ لأنه الحد القائم بين النفس وشهواتها، وكان عزاء نافعا؛ لأنه العقل السماوي الذي يلهم الإنسان حكمة كل مصيبة، أو يلهمه الثقة بالحكمة التي يجهلها، ولو أن للفضيلة عبادة لكان لها من أخلاق كل رجل صحيح الإيمان مسجد تعبد الله فيه!
ولا يصح إيمان المرء حتى يتبين لنفسه طريقا إلى ربه، فيرى كأن قطعة من السماء في باطنه تضيء له الحياة، ومتى عرف هذه الطريق وامتد بها ضميره إلى حيث يتصل بجلال الله، فمن هذه الطريق نفسها يرد مصائبه إلى الغيب كما جاءت من الغيب؛ لأن للقدر طريقين: فواحدة يندفع منها، وهذه لا تعرف إلا بعد أن تقع الواقعة فتدل عليها بنفسها، والأخرى هي التي ينصرف إليها القدر في حركة الدهر، وهذه لا يوفق إلى معرفتها غير السعداء، ومن كتب الله لهم أن يكونوا مظهر حكمته أو مظهر حمده.
فقوم يجدونها في إيمانهم الوثيق، وآخرون يصيبونها في حكمتهم البالغة، والمؤمن إنما هو صورة قلبية من الرجل الحكيم، والحكيم إنما هو صورة عقلية من الرجل المؤمن، فإذا نزلت بأحدهما المصيبة، وبلغت منه ما لا يبلغ الصبر، فتح لها طريق السماء في باطنه فيبصرها كأنها مدبرة، والمصيبة متى وجدت كالحياة متى ولدت، لا محل للعقل أبدا في أولها، فإن هي ذهبت مدبرة اعترضها المرء على عينه فتنكشف له عن معناها، فيتبين حكمة الله منها، ويرى حينئذ كيف تنقح يد الله في تاريخه.
وما أرى المصائب في نظام الكون إلا حركات ظاهرة تسير بها نعم مجهولة لا تزال من وراء الغيب، وكثيرا ما يكون من هذه المصائب ما ينبه الله به الناس من غفلاتهم حتى لا يقعوا في أشد منها إذا تركوا لما هم فيه؛ فليست النازلة هي المصيبة، ولكن المصيبة من جهلنا وضعفنا؛ ألم تر إلى كل نعمة مع الجهل والضعف كيف تحمق
5
وتضعف حتى لا تكون مع صاحبها إلا قريبا مما تكون المصيبة مع صاحبها؟
قال «الشيخ علي»: والحقيقة يا بني أن من لم يكن كفؤا لما يناله هلك بما يناله؛ فالحظ توفيق، والتوفيق أن لا يكون لك إلا ما تصلح له، فأنت بذلك مطمئن، ومن ثمرة الاطمئنان الرضا، ومن غاية الرضا أن تستمتع بما أنت فيه؛ فأيما رجل أصاب فاطمأن فرضي فاستمتع، فهذا هو ذو الحظ وإن كان عند غيره لم يصب إلا قليلا، ولم يطمئن إلا من ضعف، ولم يرض إلا من عجز، ولم يستمتع إلا بأهون المتاع.
صفحة غير معروفة