للفضائل وسائل مختلفة تعين على غرسها، نذكر هنا أهما: (1)
فأول ذلك تكوين العادات الصالحة في الطفل منذ صغره، وذلك عمل الآباء في بيوتهم، والمدرسين في المدارس، وخصوصا المدارس الأولى، فهم بإلزامهم الطفل أن يكرر عملا صالحا يصبح عادة له، كتعويده النظافة وقول الصدق والطاعة ونحو ذلك، وإذا تأصلت هذه العادات أصبح لها من السلطان عليه ما يقرب من الطبيعة التي خلق عليها الإنسان، ولذلك قالوا: «العادة طبيعة ثانية» وبعد أن ينشأ الناشئ وينمو عقله يصبح تكوين العادات الصالحة موكولا إليه هو، وهو المكلف بها والمسئول عنها، فإذا عني بنا آباؤنا ومربونا في صغرنا، وعنينا بأنفسنا في شبابنا بتكوين العادات الصالحة عنيت هذه العادات بنا في بقية حياتنا، وجنينا من ورائها ربحا عظيما، فنحن كالمصور يعمل صورة من جبس لين لا يلبث بعد أن يتصلب، فإن اعتنى بالصورة وجملها كانت - مدة بقائها - زينة تسر الناظرين، وإن لم يعن بها وخرجت مشوهة جمدت على شكلها وكانت غصة للرائين.
والإنسان يكاد يكون مجموع عادات تمشي على الأرض، فطريقته في معيشته تعتمد على عاداته، بل هو سعيد أو شقي بالعادة، أمين أو خائن بالعادة، شجاع أو جبان بالعادة، فإذا عني بنا في صغرنا ربحنا كثيرا في حياتنا. (2)
ومما يعين على غرس الفضائل «القدوة الصالحة»، لأنها تثير الشعور، وتحي الضمير، وتكون القدوة بأمور: (أ)
الصداقة، فالإنسان يقترب جد القرب من أخلاق من يصادق، وكما قال بعضهم: «خبرني من تصادق أخبرك من أنت» وتقليد الصديق لصديقه ظاهر في نواح مختلفة - في القول - فنحن نبدأ نتكلم بالألفاظ التي يتكلم بها الصديق، فإذا كانت سيئة بذيئة شعرنا في أول الأمر بكراهيتها والإشمئزاز منها، ثم نتعود سماعها بتكررها على آذاننا، ولا نشعر بما كنا نشعر به من اشمئزاز، ثم لا نلبث أن ننطق بها كما ينطق صديقنا، كذلك - في الفعل - فنحن نعمل أعمال أصدقائنا بحكم ما فينا من ميل إلى التقليد، ننسخها كما ننسخ صفحة أمامنا، بل نحن نقلد أصدقاءنا في كثير من أعمالهم من غير شعورنا، فالكلمات التي نسمعها منهم والأعمال التي تصدر عنهم تحفظ في أذهاننا، ثم تبعثنا على العمل على وفقها ولو لم نتعمد ذلك.
والصديق يؤثر في صديقه خيرا كان أو شرا، فالصديق السيئ ينضح أفكارا سيئة وأقوالا سيئة وذوقا سيئا يتشربها صديقه، والصديق الصالح ينضح أفكارا صالحة وأقوالا نقية وذوقا طاهرا يتأثر بها صديقه.
كل هذا يوجب علينا أن نعني كل العناية بتخير الأصدقاء، وأن نفر من الصديق السيئ كما نفر من المحموم خشية العدوى، ونعده خطرا يتهدد أخلاقنا، نهرب من مجلسه، ونهرب من سماع قوله، ونهرب من رؤية عمله، لأن الشر الذى يصدر منه يعلق بنا. (ب)
كذلك، من القدوة الصالحة التي تعين على الفضيلة سير الأبطال ورجال الأخلاق، فالقراءة في كتب تراجم العظماء وقصصهم وأعمالهم في حياتهم يودع في أذهاننا ذخيرة نقلدها في أعمالنا، وكما أن كثيرين ممن أجرموا كان سبب إجرامهم قراءة رواية لص أو مشهد سينما أو نحو ذلك، كذلك كثير من العظماء إنما كانوا عظماء برؤيتهم القدوة الصالحة وتتبعهم لسيرة بطل رأوه أقرب إلى نفوسهم، فعرفوا تفاصيل حياته، فكانت منبعا لعظمتهم.
الحياة الأخلاقية حياة تأثر وتأثير، فكل إنسان يتأثر بمن حوله ويؤثر فيمن حوله، كالشيء الحار والبارد، فإنهما إذا تلامسا اكتسب الحار برودة والبادر حرارة، فيجب أن نعني بهاتين الناحيتين، فمن ناحية التأثر يجب ألا نختلط إلا بمن يفيدنا التأثر بهم، ومن ناحية التأثير يجب أن نكون قدوة صالحة لأصدقائنا والذين يعاملوننا، ونعلم أن عملنا الشر ليس مقصورا علينا، بل سيسهل لآخرين أن يعملوا الشر مثلنا، وأن يكون مثلنا الأعلى أن لو عرضت حياتنا بجميع دخائلها لم يجد الناس فيها إلا خيرا يحتذى. (3)
كذلك مما يعين على غرس الفضائل دراسة علم الأخلاق، فكل علم يمنح دراسة عينا ناقدة في دائرة الأشياء التي يبحث عنها، وكذلك الشأن في علم الأخلاق، فدارسه أقدر على نقد الأعمال التي تعرض عليه وتقويمها تقويما مستقلا غير خاضع إلى إلف الناس وتقاليدهم، بل هو يستمد آراءه من نظريات العلم وقواعده ومقاييسه، وهذا يعينه على أن يكون فاضلا.
صفحة غير معروفة