وفي الأسرة يتجلى ما قدمناه عن مميزات الجسم العضوي من أن الضرر الذي يصيب عضوا يتأثر به سائر الأعضاء، فالولد سيئ الخلق يحرم الأسرة كلها سعادتها، والأب السكير أو المقامر يؤثر سلوكه في معيشة أسرته فيضايقها بما يصرف من مال، وما يتبع سكره أو لعبه من إهمال لشؤون بيته، والأم الجاهلة يؤثر جهلها في حال الأسرة، فكم من ولد أصابته آفة، أو شوهت خلقته عاهة أو أدركه الموت من جراء جهل أمه، وهكذا.
كذلك الشأن في الجمعيات التي هي أكبر من الأسرة كالمدرسة، فطلبة المدرسة ومدرسوها وخريجوها جسم عضوى، يستطيع كل فرد منهم بعمله الشخصي أن يرفع من شأن المدرسة، أو يحط من قدرها، والصورة التي في أذهان الناس وقيمتها عندهم نتيجة سيرة طلبتها.
والحزب من الأحزاب يأتي فرد من أفراده عملا مجيدا فيمجد الحزب ويعلي مقامه، وكذا العكس، وقيمة الحزب أو المدرسة حاصل جمع ما يأتي به الأفراد من الأعمال.
والأمة أسرة كبيرة، فهي جسم عضوى تتحد في اللغة والدين غالبا، يحكمها قانون واحد، ويشترك أفرادها في المنافع والمضار، كالأمة المصرية، يفيض نيلها باعتدال فينتفع بذلك كل المصريين، وتحسن زراعة القطن فيها سنة وترتفع أثمانه فيكون القطر كله في رخاء، تاجر يبيع للفلاح ما يحتاجه ومؤجرون يسهل عليهم تحصيل إجارتهم، وحكومة تحصل الخراج من غير عناء، وتتيسر المعاملات بين الناس، فالملاك بقبضهم أجور أملاكهم يعمرون ويبنون، فينتفع البناءون والنجارون ومنهم ينتفع غيرهم وهكذا.
وأوضح المثل لاشتراك الأمة في المنافع والمضار المثل الجغرافية، فخزان أسوان - مثلا - بقعة من بقاع القطر المصري؛ يؤثر في سعادة مصر جميعها، فيصرف المياه بقدر حسب الحاجة إليها، ولو تهدم ولم يؤد عمله لتضرر القطر المصري جميعه لا أسوان وحدها.
والمدارس العليا في القاهرة لم تنشأ لمنفعة القاهرة فحسب، بل أنشئت لمصلحة مصر كلها، يتعلم فيها أبناؤها من مختلف الأنحاء.
بل تأمل في كل طائفة من طوائف العمال كعمال السكك الحديدية وعجلات النقل ترى أن أعمالهم مرتبطة ارتباطا وثيقا بأعمال غيرهم، واعتبر ذلك في أوقات اعتصابهم، كيف يعطل كثير من الأعمال، ويتأذى كثير من الناس.
وعلى مثال ما قدمنا يمكن القول بأن الأمة كلها يلحقها ضرر بليغ من وجود عدد كبير من أفرادها يشتغلون في معامل غير صحية، ويسكنون في أزقة قذرة، لا يصل إليها هواء نقي، ولا تطهر مساكنها أشعة الشمس، فتضعف صحتهم، وتقصر آجالهم، ويكثر العجز فيهم، فلا يستطيعون أداء أعمالهم حق أداء، ويصبح كثير منهم عالة على الأمة، يأكلون من عمل غيرهم، فهم عضو مريض عاجز في جسم حي، وكذلك الشأن في الأمة إذا كثر فيها عدد الجاهلين أو السكيرين، ومحال أن يكون جسم الأمة صحيحا وفيها يكثر المقامرون أو المدمنون.
وكما أن كل عضو في الجسم ينفع سائر الأعضاء وينتفع منها، ويضر سائر الأعضاء ويتضرر منها، كذلك الحال في جسم الأمة، فالمتعلمون مثلا ينتفعون من الأمة بمالها وسعيها لتنتفع الأمة منهم بعد بعلمهم وعملهم، وهكذا كل طائفة من طوائف العمال، فالمعلمون والنجارون والمزارعون والتجار وغيرهم أعضاء يكونون جسم الأمة، وكل فرد عضو في أمته، يؤثر فيها أثرا صالحا أو سيئا، فالمدرس الصالح يبث في روح تلاميذه أخلاقا صالحة، ويجعلهم أقرب إلى الخير، وغيرهم يقتدى بهم، والقاضي العادل يعدل بين الناس فيأمنون على حقوقهم، ويثق ذو الحق بأنه سيصل إلى حقه ويخاف المجرم من عقوبة الإجرام فيبتعد عنه، ويجد العامل في عمله لأنه يعلم أن نتيجة سعيه له، وأنه إن اغتصب حقه فالقضاء كفيل برده إليه، وعلى العكس من ذلك القاضي المرتشي.
ولا يخلو إنسان من أثر في الأمة وإن لم تره عيوننا، كالشعرة لها ظل وإن لم تدركه أبصارنا، فإذا ضم إليها شعرات كان الظل جليا واضحا، وهذا الأثر يختلف تبعا لاختلاف درجات الناس في الصلاح والفساد، ومقياس رقي الأمة وانحطاطها مجموع عمل أفرادها.
صفحة غير معروفة