8
وانقضى النصف الأول من اليوم الثاني في الإعداد لزورة الحاكم، وكان إسفينيس يقدر قيمة هذه الزورة حق قدرها، ويعلم أن حياة آماله جميعا رهينة ببعض عواقبها، وكذلك آمال من خلفهم وراءه في نباتا يعترك في نفوسهم الكبيرة اليأس والأمل، فشحن سفينته بصناديق التحف واللآلئ، وأقفاص الحيوان الغريب والقزم زولو، وعدد كبير من العبيد، وقبيل الأصيل وافاهما أحمس، فحياهما بفرح وقال: أنا منذ الساعة من عبيدكما!
فتأبط إسفينيس ذراعه، ومضوا ثلاثتهم إلى المقصورة، ثم أبحرت السفينة صوب الشمال في جو رائق وريح مؤاتية، وقد صمت من في المقصورة، واستغرق كل منهم في تأملاته، مرسلا بناظريه إلى شاطئ طيبة، وعبرت السفينة أحياء الفقراء، وأقبلت على القصور الشم الغارقة بين أدواح النخيل وأشجار الجميز، تهفو عليها الأطيار من كل نوع ولون، وتفصل بينها وتترامى وراءها الحقول ذات الخضرة، تشقها الجداول الفضية والوديان والنخيل والكروم، وترعاها الثيران والبقر، ويعكف عليها الفلاحون العراة الصابرون، وعلى الشاطئ أقيمت المنازف تغرف من النيل على أنغام الأناشيد الرقيقة، وكانت النسائم تعابث الأشجار حاملة في حناياها هسيس النبات وزقزقة العصافير وخوار الثيران، وشذا الأزهار والرياحين، فأحس إسفينيس أن أنامل الذكريات تداعب جبينه المحترق، وذكر أيام الربيع حين كان يخرج إلى الحقول محمولا على هودجه الملكي، يسير بين يديه العبيد والحرس والفلاحون يحيونه فرحين بطفولته الطاهرة، ناثرين الورد في طريقه السعيد.
وأيقظه صوت أحمس وهو يقول: هذا هو ذا قصر الحاكم.
فتنهد إسفينيس ونظر إلى حيث يشير الشاب، ونظر معهما لاتو وقد لاحت في عيني الشيخ نظرة دهشة وإنكار.
وعرجت السفينة نحو القصر وقد سكنت مجاديفها، فاعترض سبيلها زورق حربي غاص بالجنود، وصاح بهم ضابط في عنف وعجرفة: ابتعد بسفينتك القذرة أيها الفلاح.
فقفز إسفينيس من المقصورة، ودنا من حائط السفينة وحيا الضابط باحترام وقال: معي رسالة خاصة إلى صاحب العظمة حاكم الجنوب.
فحدجه الضابط بنظرة حادة وحشية، وقال: أعطنيها وانتظر.
فأخرج الشاب الكتاب من جيب عباءته وأعطاه للضابط، وتفحصه هذا بأناة، ثم أمر رجاله فوجهوا الزورق نحو درج الحديقة، ونادى حارسا فناوله الرسالة، فأخذها الحارس ومضى ناحية القصر، وغاب زمنا يسيرا وعاد مسرعا إلى الضابط وأسر إليه كلمات، فأشار الضابط إلى إسفينيس أن يدنو بسفينته، فأمر الشاب ملاحيه بالجدف حتى رست السفينة في مرفأ القصر، وقال له الضابط: إن صاحب العظمة ينتظرك، فاحمل إليه بضاعتك!
وأصدر الشاب أمره إلى النوبيين، فحملوا الصناديق وبينهم أحمس، ورفع آخرون أقفاص الحيوان وهودج زولو. وقال لاتو للشاب وهو يودعه: فليكتب الرب لك التوفيق.
صفحة غير معروفة