وبدا سور طيبة الجنوبي وأبوابها الرائعات تتصاعد من ورائه الهياكل والمسلات، فبدا الجلال مجسما يروع الناظرين، ورنا الرجلان إلى المدينة بعينين لاح فيهما الحنين والحزن، وقال لاتو: حياك الرب يا طيبة المجيدة!
وقال إسفينيس: وأخيرا يا طيبة .. بعد أعوام طوال في المنفى!
وانعطفت السفينة نحو الشاطئ، تتبعها على الأثر سفن القافلة، وقد ضمت الشرع ورفعت المجاديف، فشقت طريقها بين عدد وافر من زوارق الصيد ملأى بالسمك، منه ما تزال تدب فيه الحياة، ويقف في أوساطها الصيادون بأجسادهم العارية النحاسية وعضلاتهم المفتولة؛ فانبعث في نفس إسفينيس نشوة طرب لرؤيتهم، وقال لرفيقه: عجل بنا، فنفسي مشوقة إلى محادثة أي من المصريين.
وكان الجو معتدلا لطيفا، والسماء صافية الزرقة، والشمس مشرقة تغمر أشعتها النيل والشطآن والحقول والمدن، فنزلا إلى الشاطئ يلتفان في عباءتيهما، ويضعان على رأسيهما قلنسوتين مصريتين ككبار التجار، وتقدما خطوات نحو حي الصيادين، وكانت جماعات منهم تقف على الشاطئ، وأيديها آخذة بحبال الشباك التي ترميها الزوارق في لجة النيل، يغنون وينشدون، وكان غيرهم يملأ العربات بالسمك، ويلهبون ظهور الثيران المشدودة إليها صوب الأسواق، وعلى مسير دقائق من الشاطئ أقيمت أكواخ صغيرة أو متوسطة الحجم من الآجر، مسقوفة بجذوع النخيل، يدل مظهرها على السذاجة والفقر.
وكان إسفينيس ينتقل من مكان إلى مكان، مرهف الحواس، مفتوح العينين، يتفحص الصيادين ويتتبع حركاتهم ويصغي إلى أناشيدهم، وكان يشعر نحوهم بالحنان والحزن المقرونين بالإعجاب والإكبار، وخالط قلبه وهو يشق جموعهم إحساس ألفة وطمأنينة ومحبة، فتمنى لو يستطيع أن يعترض سبيلهم ويضمهم إلى صدره ويقبل وجوههم السمر المعناة بالكفاح والفقر، وذكر ما حدثته به عنهم توتيشيري؛ فقال لصاحبه: يا لهم من رجال أشداء صابرين!
فقال لاتو، وكان يشارك الشاب جل عواطفه: أحسب هؤلاء الصيادين أسعد حالا من الفلاحين. لأن الرعاة يترفعون عن النزول إلى حيهم، فيعفونهم من غير قصد من صلف أخلاقهم وسوء صنيعهم.
وقطب الشاب غضبا وتألما ولم يتكلم، وجدا في السير يلفتان الأنظار بوجاهة منظرهما وفخامة لباسهما، ورأى إسفينيس عن كثب شابا يافعا يتجه نحوهما يحمل سلة، وكان يرتدي وزرة قصيرة في خاصرته، أما بقية جسمه فعار، وقد بدا طويلا رشيقا ووجهه حسنا، فقال إسفينيس: انظر يا لاتو إلى هذا الشاب، ألم يخلق ليكون فارسا في فرقة العجلات لولا أن خانه زمانه؟
واقترب الشاب منهما، فرغب في الحديث إليه، وحياه بيده وقال: حياك الرب أيها الشاب .. هل تدلنا على مكان نستريح فيه ولك الشكر؟
فوقف الشاب عن المسير وهم بالرد عليه، ولكنه حين وقعت عيناه عليهما أغلق فمه، وألقى عليهما نظرة غريبة تفصح عن الغضب والاحتقار، وولاهما ظهره ومضى، فتبادل الرجلان نظرة دهشة وإنكار، وتبعه إسفينيس على الأثر واعترض سبيله قائلا: أيها الأخ، ما الذي جعلك تزهد الرد علينا وتولينا ظهرك غاضبا؟
فصاح الشاب مزمجرا: إليك عني يا عبد الرعاة.
صفحة غير معروفة