وكان الضابط حدثه عن القادم الغريب الذي يرمي في غير مبالاة بحافظة ملأى بقطع الذهب الوهاج، ويسوق قافلة محملة بالهدايا ليتقرب بها من سادة مصر، فرد تحيته بإشارة من يده، وسأله بصوت غليظ أجوف: من أنت ومن أي البلاد؟ - أدعى يا مولاي إسفينيس، من بلدة نباتا من بلاد النوبة.
فهز الرجل رأسه بارتياب وقال: ولكني أرى أنك لست نوبيا، وإن صدق نظري فأنت فلاح!
فخفق قلب إسفينيس لهذا الوصف الذي نطق به الحاكم بلهجة لم تخل من الاحتقار، وقال: صدقت فراسة مولاي، فأنا حقا .. فلاح، من أسرة مصرية هاجرت إلى بلاد النوبة منذ أجيال، واشتغلت بالتجارة عهدا طويلا حتى أغلقت الحدود بين مصر والنوبة، فانقطع رزقها. - وماذا تريد؟ - لدي قافلة محملة بخيرات البلاد التي قدمت منها، أرجو بها التقرب والزلفى من سادة مصر.
فعبث الحاكم بلحيته، وحدجه بنظراته المرتابة، وقال: أتعني أنك تجشمت مشاق السفر، لمحض التقرب والزلفى من سادة مصر؟! - سيدي الحاكم الجليل، نحن نعيش في بلاد ملأى بالوحوش والكنوز، الحياة فيها جد قاسية، والجوع والجدب ينشبان أظفارهما في الرقاب، نجيد صياغة الذهب، ونضنى في الحصول على قدح من الحبوب، فإذا تقبل ساداتي هداياي، وأذنوا لي بالمسير بالتجارة بين الجنوب والشمال، ملأت أسواقكم بالنفيس من الجواهر والحيوان، وبدلت بؤس قومي أنعما!
فضحك الحاكم ضحكة عالية، وقال: أرى الأحلام تطيح برأسك .. أولست تبدأ بالسؤال والتضرع؟ ولكنك ترجو أن يكلل مسعاك بإصدار أوامر فرعونية لمصلحتك .. حسنا .. الحمقى كثيرون .. ولكن ماذا تحمل قافلتك من النفائس يا هذا؟
فحنى إسفينيس رأسه إجلالا، وقال بإغراء التاجر الأريب: هلا تفضل مولاي بزورة قافلتي ليطلع بنفسه على نفائسها، ويختار ما يعجبه من كرائم جواهرها؟
وتحركت لواعج النهم والجشع في نفس الحاكم، فاستطاب الفكرة، فقال لإسفينيس وهو يهم بالقيام للذهاب معه: سأمنحك هذا الشرف.
وتقدمه إلى السفينة الحربية، ثم إلى القافلة، وعرضت لناظريه الحلي والجواهر والحيوان العجيب، فشاهد النفائس بعين يلتمع فيها نور الجشع الخاطف، وأهدى إليه إسفينيس صولجانا من العاج ذا رأس من خالص الذهب المحلى بالزمرد والياقوت فتقبله بلا كلمة شكر، وأخذ بنفسه أساور وخواتيم وأقراطا ثمينة، وأنشأ يقول لنفسه: لماذا لا أسمح لهذا التاجر بالدخول إلى مصر؟ .. ليست هذه تجارة، ولكنها هدايا تسبي العقول، وسيرحب بها فرعون بغير جدال، فإن حقق لصاحبها أمنيته نال ما تمنى، أو رفض مطلبه فلا شأن لي به .. وأمامي فرصة سانحة ينبغي أن أنتهزها، إن خنزر حاكم الجنوب مغرم بكل نفيس، فلأبعث بالتاجر إليه فيذكر لي صنيعي على ما أهديت إليه من كنز، وما أتحت له من فرصة يزداد بها قربا إلى مولاه .. فإذا أراد يوما أن يختار لولاية من الولايات الكبرى حاكما ذكرني بلا ريب!
وتحول نحو إسفينيس وقال: سأعطيك فرصة لتجرب حظك، فسر توا إلى طيبة، وهاك كتابا إلى حاكم الجنوب تذهب به إليه لتعرض نفائسك، وتسأله الشفاعة في رجائك .. واستخف الفرح إسفينيس، فانحنى للحاكم شكرا وارتياحا.
3
صفحة غير معروفة