وسار الملك بعجلته بين خيام الجنود فسرت في نفوسهم موجة فرح وحماس، وتردد الهتاف له في المعسكر شمال بلدة شنهور، ثم كر راجعا إلى الخيمة الملكية وفي صحبته القائد بيبي، وكان الملك مطمئنا إلى جيشه الذي بذل أجمل عهود شبابه في تدريبه فقال: جيشنا باسل .. فكيف ترى شعور القواد؟ - كلهم متفائلون يا مولاي ومتحمسون للحرب، وما من واحد منهم إلا يبدي عظيم إعجابه بفرقة القسي ذات الشهرة التاريخية .
فقال الملك: إني أشارككم هذا الإعجاب، والآن أصغ إلي، لا يجوز أن نضيع من الوقت إلا ما تستلزمه ضرورة إراحة هذا العدد من الجنود، فإنه ينبغي أن نلقى عدونا - إذا هاجمنا حقا - في الوادي المنحدر ما بين بانوبوليس وبطلوس، فهو واد شديد الوعورة ضيق المسالك، والميزة الحربية فيه لمن يسيطر على عاليه، ومجرى النيل فيه ضيق فيمكن أن نساعد أسطولنا في أثناء اشتباكه مع العدو! - سنشرع في المسير يا مولاي قبيل الفجر.
فأومأ برأسه دلالة على الموافقة وقال: ينبغي أن نبلغ بانوبوليس ونعسكر في واديها قبل أن يعود خيان إلى منف.
ثم دعا الملك قواده إلى الاجتماع به.
8
وتحرك الجيش قبيل الفجر يسبقه إلى أهدافه قوة الكشافة، وتتقدمه فرقة العجلات المكونة من مائتي عجلة على رأسها فرعون، وتتبعها فرقة الرماح، ثم فرقة القسي والنبال، ثم فرقة الأسلحة الصغيرة، وعربات المؤن والسلاح والخيام، وأبحر الأسطول في الوقت نفسه إلى الشمال، وكان الظلام شديدا لا يخفف من سواده سوى شعاع النجوم الساهرة وأضواء المشاعل، فبلغوا مدينة قسي فهبت جميعا لاستقبال فرعون وجيشه، وهرع الفلاحون من أقصى الحقول يحملون سعف النخل والرياحين ودنان الجعة، وساروا مع الجيش يهتفون له ويهدون إلى الجنود الأزهار وأكواب الجعة الشهية، ولم يتركوه حتى أوغل في المسير، وبهتت ظلمة الليل وانسكب في الأفق الشرقي نور الفجر الأزرق الهادئ يتقدم بشائر النور، ثم أسفر الصبح وغمر الضوء الدنيا والجيش يجد في السير حتى بلغ كتوت قبيل العصر، فاستراح فيها وقتا بين المستقبلين من أهلها المتحمسين، ورأى الملك أن يكون مبيت الجيوش في تنثيرا، فأصدر أمره باستئناف المسير، وجد الجيش حتى بلغ تنثيرا عند سدول الظلام وهنالك استسلم للنوم العميق.
وكان يستيقظ قبل الفجر ويضرب في الأرض حتى حلول الظلام يوما بعد يوم حتى عسكر في أبيدوس، وكانت الكشافة تجول شمال المدينة، فرأى ضباط من رجالها عن بعد سحيق أقواما تضرب في الأرض، فعدا على رأس ثلة من رجاله نحو القادمين، وكان كلما هبط الوادي تبين له الأمر فرأى خطوطا متعرجة من الفلاحين يسيرون جماعات يحملون ما خف من متاعهم، ومنهم من يسوق غنما أو ثيرانا يدل منظرهم على البؤس والتشرد، فعجب الرجل واعترض سبيل المتقدمين منهم وهم بسؤالهم، ولكن رجلا منهم صاح به: الغوث أيها الجندي .. أدركونا فقد هلكنا!
فصاح الضابط منزعجا: تطلبون الغوث؟ .. ماذا يفزعكم؟
فأجاب كثيرون منهم في نفس واحد: الرعاة ... الرعاة!
وقال الرجل الأول: نحن أهالي بانوبوليس وبطلمايس، جاءنا جندي من جنود الحدود وقال لنا: إن جيش الرعاة يهاجم الحدود بقوات عظيمة لن تلبث أن تتدفق إلى بلدتنا ونصحنا بالهجرة إلى الشمال، فساد الفزع البلد والحقول وهرعنا جميعا إلى ديارنا ننادي النساء والأطفال ونحمل ما يخف حمله، ثم تركنا البلاد وراءنا فارين، فما ذقنا الراحة منذ صباح الأمس!
صفحة غير معروفة