وكانوا جميعا على رأي بغير تشاور ولا اتفاق، فقال حور: مولاي لقد انتصرت على الرعاة في مواقع كثيرة وأقروا لك بالنصر ولأنفسهم بالهزيمة، فمحوت بذلك آثار الهزائم التي ابتلينا بها في ماضينا الأسيف، وقتلت منهم خلقا كثيرين فانتقمت لقتلى قومك البائسين، فلا تثريب علينا الآن أن نشتري حياة ثلاثين ألفا من رجالنا، ونوفر على أنفسنا بذلا للنفوس لا يدعو واجب إليه، ما دام عدونا سيجلو عن بلادنا مغلوبا على أمره، وسيحرر وطننا إلى الأبد.
وقلب الملك عينيه في وجوه قومه فوجد منهم حماسة إجماعية لقبول الفكرة، وقد قال القائد ديب: لقد أدى كل جندي من جنودنا واجبه كاملا، وإن ارتداد أبوفيس إلى الصحراء لهو أشد نكالا من ذوق الموت.
وقال القائد محب: إن هدفنا الأسمى تحرير الوطن من حكم الرعاة وإجلاؤهم عن ربوعه؛ وقد يسر لنا الرب ذلك، فلا يجوز أن نطيل عهد الذل باختيارنا.
وقال أحمس إبانا: إننا نشتري حياة ثلاثين ألفا من الأسرى بالأميرة الأسيرة وشرذمة من الرعاة.
واستمع الملك من رجاله باهتمام شديد وقال: نعم الرأي، ولكني أرى أن ينتظر رسول أبوفيس فترة أخرى حتى لا يظن إسراعنا إلى موافقته على الرأي السلمي لضعف أو ملل الكفاح.
وغادر الرجال السفينة وخلا الملك إلى نفسه، وكان على توافر دواعي الابتهاج له كئيبا ضيق الصدر، لقد كلل كفاحه بالفوز المبين وجثا له عدوه الجبار، ومن الغد يحمل أبوفيس متاعه ويفر إلى الصحراء التي جاء منها قومه خاضعا لإرادة القضاء الذي لا يرد، فما باله لا يفرح ولا يبتهج؟ أو ما بال فرحه ليس صافيا وابتهاجه ليس كاملا؟ .. لقد حمت الساعة الخطيرة، ساعة الوداع إلى الأبد ، كان قبل تلك الساعة الخطيرة يائسا حقا، ولكنها كانت هناك في السفينة الصغيرة، فماذا يفعل غدا إذا رجع إلى قصر طيبة وحملت هي إلى بطن الصحراء المجهولة؟ أيتركها تذهب دون أن يتزود منها بنظرة وداع؟ .. وأجاب قلبه أن لا. وحطم أغلال التجلد والكبرياء، وقام واقفا وفارق المقصورة، وأخذ زورقا إلى سفينة الأميرة الأسيرة وهو يقول لنفسه: «مهما يكن من استقبالها فسأجد ما أقوله»، وصعد إلى السفينة ومضى إلى المخدع فحياه الحراس وفتحوا له، واجتاز الباب خافق الفؤاد، وألقى نظرة على المخدع الصغير البسيط فرأى الأسيرة جالسة في الصدر على ديوان، والظاهر أنها لم تكن تتوقع عودته فبدت على محياها الجميل الدهشة والإنكار، وتفحصها أحمس بنظرة عميقة فوجدها جميلة كعهده بها، ورأى ملامحها كيوم حفرت في قلبه على ظهر السفينة الفرعونية، فعض شفته وقال لها: أنعمي صباحا أيتها الأميرة.
فرفعت إليه عينين لم تذهب منهما الدهشة وكأنها لا تدري بماذا تجيب، ولم يطل انتظار الملك فقال بصوت هادئ وبلهجة لا تدل على شيء: أنت منذ اليوم طليقة أيتها الأميرة.
فلاح في وجهها أنها لا تفهم شيئا، فعاد يقول: ألا تسمعين ما أقول؟ أنت منذ هذه الساعة طليقة حرة، انتهى أسرك أيتها الأميرة وأصبحت الحرية حقا لك.
فازدادت دهشتها ولاح الرجاء في عينيها، فقالت بلهفة: أحق ما تقول؟ .. أحق ما تقول؟ - إن ما أقول حق واقع.
فأضاء وجهها وتورد خداها، ثم ترددت هنيهة وتساءلت: ولكن كيف كان ذلك؟ - آه، إني أقرأ في عينيك آمالك الطموح، ألست تتمنين أن يكون انتصار أبيك هو الذي رد إليك حريتك؟ .. إني أقرأ هذا، ولكنها هزيمته وا أسفاه التي أنهت عبوديتك.
صفحة غير معروفة