الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
خيوط واهية
خيوط واهية
تأليف
ثروت أباظة
الفصل الأول
الشيخ متولي وهدان هو الخولي وليس ناظر الزراعة لدائرة فؤاد باشا الجويني، وكانت هذه الزراعة التي هو خولي لها ألفا وستمائة فدان وزيادة، ورثها الباشا عن أبيه الذي ورثها هو أيضا عن أبيه الذي كان يملك خمسة آلاف فدان، وصلت إلى ابنه ألفا وستمائة حين نال أخواه نصيبهما الشرعي، وكان ناظر الزراعة هو زكي النمر الذي كان الفلاحون يطلقون عليه الأفندي، وكان هذا اللقب كافيا للتعريف به دون أن يسبقه الاسم، ورغم كثرة الأفندية في القرية التي كان يقيم بها ناظر الزراعة إلا أن لقب الأفندي مسبوقا بألف ولام التعريف كان لا ينصرف إلا إلى ناظر الزراعة زكي النمر الذي يملك عشرة أفدنة في القرية، وكانت قرية الهدارة التي يقع بها سراي فؤاد باشا ومنزلا الشيح متولي والأفندي؛ قرية كبيرة مساحة الأرض المنزرعة فيها أكثر من ثلاثة آلاف فدان، ولم يكن الشيخ متولي يملك إلا فدانين، ولو كان يستطيع أن يزور في الحسابات ويختلس مليما من أموال الدائرة لما امتنع عن ذلك؛ فلم يكن الشيخ متولي ذا ضمير يردعه عن السرقة، فهو تائب في غير عفة؛ لأن الأفندي كان رجلا يجمع إلى النزاهة اليقظة التي تمكنه من مراقبة العاملين معه؛ فما كان واحد منهم يستطيع أن يختلس من أموال الدائرة شعرة سواء كانت هذه الشعرة مالا أو كانت محصولا؛ ولذلك لم يكن عجبا أن يصبح الأفندي مكروها من كل الذين رماهم القدر أن يعملوا تحت سيطرته بدائرة فؤاد باشا، وكان يقابل هذه الكراهية من موظفي الدائرة حب واحترام وتقدير من الباشا نفسه ومن سائر الفلاحين؛ فقد كان الأفندي حريصا أن يأخذ كل ذي حق حقه حرصه على ألا يغتال أحد حق الدائرة سواء أكان موظفا فيها أو كان متعاملا معها، وكذلك كان الشيخ متولي محبوبا من الفلاحين؛ فقد استقرت نفسه أنه ما دام لا سبيل للسرقة فليجعل الأمانة أصلا فيه وليس أمرا مفروضا عليه، وهكذا لم يكن حب الفلاحين له أمرا مستغربا. وكان موظفو الدائرة يخشون الأفندي والشيخ متولي كل الخشية ويوقروهما، ولم يكن الأفندي يتنازل عن مكانته؛ فجمله أوامر، وكان حريصا ألا يتباسط مع العاملين معه وإن كان مع غيرهم بشوشا طلق المحيا ودودا في صلاته مع الناس، ولذلك كان شهاب ابن الشيخ متولي يكن الغيظ والحقد على زكي النمر لما يراه من ذلة أبيه أمامه، وكان حقده أشد من فؤاد باشا الجويني وقد تمكن شهاب من رؤية أبيه أمام الباشا مرات، وكان يحس أن أباه أمام الباشا وجود بلا وجود، مع أنه لم يكن في المرات التي شهدها شهاب يؤنب أباه أو يزجره بل لعله كان في حديثه معه أكثر رقة ويسرا من زكي النمر، ولكن شهاب كان يحس أن أباه هزيل ضعيف أمام الأفندي، ويفتقد كيان أبيه أمام الباشا فيفقده؛ فكان أبوه يبدو أمامه هباءة هائمة في الهواء لا تكاد ترى أو تحس، وفي مرة من المرات التي رأى فيها شهاب الباشا كان يرافق أباه وهو يشرف على جمع القطن، وجاء الباشا فجأة ليتأكد من نظافة الجمع والقطن، وهرول إليه الشيخ متولي دون أن يلحظ أن ابنه شهاب يهرول خلفه، وسأل الباشا خولي زراعته: هيه كيف الحال يا شيخ متولي؟
وكان متولي حاصلا على لقب شيخ قبل أن يعينه الباشا عنده؛ فقد كان من حفظة القرآن الكريم، وقال الشيخ متولي في استجابة سريعة وحماس شديد: كل شيء تمام يا سعادة الباشا بنفس سعادتك وبركتك. - ومن هذا الذي يقف خلفك؟
واضطرب متولي فهو لم يكن تنبه بعد إلى وجود ابنه خلفه وقال: أين يا سعادة الباشا؟ من يا سعادة الباشا؟
وحينئذ انصرف الباشا عن متولي وأشار إلى شهاب قائلا: تعال يا شاطر.
وامتقع وجه متولي بينما تقدم شهاب في خطوات ثابتة وقال للباشا: شهاب متولي.
والتفت الباشا إلى متولي: أهو ابنك يا شيخ متولي؟
وتلعثم متولي وهو يقول: نعم يا سعادة الباشا، ربنا يطيل عمرك وعمر أنجالك عمر بك وعلي بك وعائشة هانم.
وقال الباشا في أبوة: الله يحفظك. هل أدخلته المدرسة؟ - والله يا سعادة الباشا العين بصيرة واليد ...
ولم يكمل الجملة بل قاطعه الباشا قائلا في حسم: شهاب ابنك يتعلم على حساب الدايرة على شرط أن يكمل تعليمه في الجامعة مفهوم؟
وفي حركة مفاجئة هوى متولي على يد الباشا ليقبلها فإذا الباشا يختطف يده في تلقائية سريعة وهو يقول: أبلغ هذا الأمر إلى زكي أفندي. - أطال الله عمرك ومتعك ومتع عائلتك كلها بالصحة والعافية.
وانصرف الباشا وترك الشيخ متولي مأخوذا بالفضل السابغ الذي ساقته إليه السماء على يد الباشا، بينما ابنه شهاب لم تتحرك في نفسه خلجة من فرح وكأن ما وقع أمر طبيعي لا غرابة فيه، ونظر متولي إلى ابنه الجامد الوجه. - ألست مبسوطا! ما لك هكذا مبهوتا وكأنك لا تدرك الخير العميم الذي تفضل به الباشا عليك وعلى أبيك وأمك.
وقال شهاب في غير مبالاة: أي خير؟ - ستتعلم وتدخل الجامعة على نفقة الباشا. - وما له؟ إن عنده أموالا لا يحصيها عد وماذا يضره أن يعلمني على نفقته.
وصاح به أبوه: خيبة الله عليك.
إلى هذا الحد أنت جاحد؟
ماذا أفعل بك؟ أخشى أن أدعو عليك ويستجيب الله دعائي.
حسبي الله ونعم الوكيل.
الفصل الثاني
وهكذا بدأ شهاب رحلته الدراسية في غير إقبال ولا جنوح، وكان ترتيبه في الدراسة متوسطا لا هو متقدم ولا هو الأخير، ولكن المؤكد أنه لم يحس بفضل الباشا عليه مهما تقدمت به السن؛ فقد كان كلما مرت عليه السنون يزداد حقدا على الباشا وجحودا ونكرانا، ولم يكن يطلع عما يختلج بنفسه إلا تفيدة ياسين أمه حابسا ما تفهق به جوانحه من كراهية للباشا عن أبيه مخافة أن يقسو في عقابه، وإن كان أيضا أمام أبيه لا يحاول أن يكون رطب اللسان على الباشا، وكان أبوه يضيق بهذا منه غاية الضيق. كان شهاب يقول لأمه: ماذا فعل حتى يصبح على هذا الغنى الفاحش؟
وكانت تفيدة قد حفظت القرآن في كتاب القرية فهي لم تكن جاهلة كل الجهل، وكانت تجيبه دائما بالآيات الكريمة. - يا بني ألا تعرف أن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز
أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون .
فيرد شهاب في كفران: لماذا؟
وتنتفض أمه قائلة: أستغفر الله العظيم، إذا لم يكن للباشا هذه الأرض أين كان أبوك يعمل ومن أين يجد قوته؟ فيقول شهاب في إصرار: ولماذا لم يكن الباشا مكان أبي ويكون أبي مكان الباشا؟! - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حينئذ كان أولاد الباشا سيقولون هذا الكفر الذي تقول، أتريد أن تعدل حكمة ربك؟! - أنا فقط أسأل، لا عليك، ماذا؟ هل تنوين أن تحرميني من العشاء؟
وهكذا أراد أن ينهي الحديث لا عن اقتناع ولكن خشية أن تبلغ به أباه الشيخ فتكون العواقب وخيمة عليه وعلى أمه في وقت معا.
ولكن أمه ترفض أن تنهي الحديث: يا بني، رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا.» أو كما قال، فالسعادة ليست بالغنى، دائما بالرضى، هل تعرف إن كان الباشا سعيدا أم غير سعيد؟ لا يعرف النفوس إلا خالقها يا شهاب يا بني. - كلام نردده لنحتمل الذل الذي نعيش فيه، أين العشاء؟ - والله ما دمت كذلك فلن يبارك الله لك ولا في اللقمة التي تأكلها، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل.
ولم يكن شهاب على استعداد لمناقشة حقده على جميع من هم أكثر من أبيه ثروة أو مكانة؛ فقد ترسب الحقد في كيانه كله منذ هو طفل صغير حتى يومه هذا، وهو يوشك أن يتخرج في كلية الزراعة التي اختارها له أبوه، ولما كان غير متعلق بكلية أخرى فقد رضي اختيار أبيه بعد نقاش هين حين قال له أبوه: والآن أي كلية تريد أن تدخلها؟ - والله يا أبي لا أفكر في كلية بذاتها؛ فكل الكليات تحتاج إلى مذاكرة ووجع قلب، وإن كان علي أنا فأنا أريد أن اكتفي بالتوجيهية وأرجو الباشا أن يعينني بإحدى مصالح الحكومة. - لاحول ولا قوة إلا بالله، إنه لا يرفض النعمة إلا لئيم، الباشا ينفق عليك ولا يكلفنا تعليمك قرشا واحدا، ومع ذلك تريد ألا تكمل دراستك؟! - والله إن الباشا لم يفعل هذا إلا ليتظاهر بالكرم. - لعنة الله عليك، وهل كان أحد سيقول عنه إنه بخيل إذا لم يقدم هذه المكرمة لابن الخولي الذي يعمل في أرضه، إن الذي لا يشكر المعروف جاحد لا يستحق ما يقدمه إليه الآخرون من أفضال. - دعك من هذا، ويكفي الباشا شكرك أنت له، هل تريد أن تختار لي كلية بعينها؟ - ألا تفكر أنت في أي كلية؟ - ليس هناك كلية في ذهني. - إذن تتوكل على الله وتدخل كلية الزراعة. - لماذا الزراعة؟ - أنت فلاح ابن فلاح وستجد العلوم سهلة، ثم إنك عندما تتخرج سيكون من السهل تعيينك، فإذا لم تعين في الحكومة فغالبا يعينك الباشا للإشراف على الموالح في أرضه. - ألا نتخلص من الباشا أبدا؟ - لا حول ولا قوة إلا بالله، ألا نأكل لقمتنا من يده؟ - الأمر لله زراعة زراعة.
وهكذا دخل شهاب كلية الزراعة، وظل يتنقل بين سنواتها بدرجة مقبول حتى وصل السنة النهائية.
الفصل الثالث
حصل شهاب على بكالوريوس الزراعة، وامتلأ أبوه زهوا وفخارا؛ فقد حقق ابنه حلمه العريض وأصبح أحد خمسة نالوا الشهادات العليا قبله في البلدة كلها.
وبعد أن هدأت الفرحة قال الشيخ متولي لابنه بمشهد من زوجته تفيدة: والآن ماذا تريد؟ - والله هذه المسألة الباشا هو الذي يبت فيها، إن كان الأمر بإرادتي فأنا أفضل التوظف في الحكومة.
وقالت تفيدة: كله بأمر الله، توكل عليه سبحانه.
وقال شهاب في غير مبالاة: توكلت على الله.
وقال الشيخ متولي في حماسة: على بركة الله الحمد لله الباشا هنا هذين اليومين، جهز نفسك لنذهب إليه بعد المغرب إن شاء الله يكون قد صحا من قيلولته. - وهو كذلك.
وقالت تفيدة: ربنا يجعل في وجهكم القبول إن شاء الله. •••
قال الباشا: مبروك يا باشمهندس شهاب. - بارك الله فيك يا سعادة الباشا، والله أنا لا أدري ماذا أفعل لأشكر أفضال سعادتك، ربنا وحده هو القادر على ذلك.
كان شهاب قد تعلم النفاق فأحسن تعلمه، فإن كان قد نال شهادته العليا بدرجة مقبول فهو في النفاق ممتاز مع درجة الشرف الأول، إن كان الشرف يقبل أن يقترن بالنفاق.
قال الباشا: والآن أين تريد أن تعين؟ - يا سعادة الباشا الأمر لك. - ما رأيك أن تعين عندي بالدائرة مشرفا على حدائق الموالح؟ - يا سعادة الباشا العمل في دائرة سعادتك شرف يتمنى أن يناله أي إنسان. - إذن على بركة الله. - إنما إذا سمحت سعادتك لي بكلمة. - قل ما تريد كلمة أو عشر كلمات. - أظن سعادتك لا ترضى أن أكون رئيسا لأبي؛ فأنا طبعا لن أجرؤ أن أعطي له أوامر، وإذا لم أقم بواجبي فلا خير في، وخصوصا أن الموالح تحتاج دقة كاملة في مواعيد الري والتقليم وغير ذلك، وأنا أخشى ألا أكون صالحا لهذا وأبي يعمل تحت رئاستي. سعادتك خير من يقدر هذه المعاني. - والله كلامك له وجاهته، فهل تريد أن تعين في الحكومة أو في إحدى الشركات الزراعية؟
وقال الشيخ متولي في سرعة صريحة: إنه يتمنى وظيفة في الحكومة.
وقال الباشا: وهو كذلك، ومن حسن حظك أن وزير الزراعة صديق عزيز، يا متولي اطلبه في التليفون، وأخرج الباشا دفتر التليفونات الخاص من جيبه وقال للشيح متولي: هاك رقم منزله.
وصاح شهاب في فرحة صادقة في هذه المرة: هكذا في الحال يا سعادة الباشا. - ولماذا أؤجل ما أستطيع أن أفعله في الحال.
وما هي إلا دقائق حتى كان الباشا يقول لوزير الزراعة بعد التحيات: يا معالي الباشا ابن خولي الدائرة حصل على بكالوريوس الزراعة وأريد أن تعينه.
وجاء رد الوزير عبر الأثير: إذا لم نساعد الذين يعملون معنا فمن نساعد؟
معاليك فلاح أصيل وتعرف هذه الأمور. - هل تحب أن أعينه في مكتبي؟ - والله يكون هذا فضلا أضيفه إلى أفضالك. - أرسله إلي ومعه بطاقة منك. - وهو كذلك، وألف شكر. - هذا واجب، ولا شكر على واجب. - تصبح على خير يا معالي الباشا. - وأنت من أهله يا سعادة الباشا.
وانتهت المكالمة والتفت الباشا إلى شهاب وقال له: إنه سيعينك في مكتبه.
وهب شهاب واقفا، وانكب على يد الباشا الذي أسرع وسحبها وهو يقول: لماذا هذا؟ إن ما فعلته أمر طبيعي.
وأخرج الباشا من حافظته بطاقة، وكتب فيها توصيته وأعطاها لشهاب وهو يسأله: متى تستطيع أن تسافر؟
قال شهاب: بكرة إن شاء الله من الفجر.
وراح الفتى وأبوه يدعوان للباشا بطول العمر وبكل سعادة وهناء.
الفصل الرابع
وفي الصباح الباكر سافر شهاب متولي وهدان إلى مكتب وزير الزراعة، ولقيه السكرتير الخاص فتحي مبروك وسأله عما يريد فقال: أنا آت من قبل فؤاد باشا الجويني، وقد كلم معالي الوزير أمس تليفونيا، وهذه بطاقة من الباشا لمعالي الوزير. - انتظر قليلا.
ودخل فتحي إلى مكتب الوزير، وما لبث أن عاد ليأذن لشهاب بلقاء الوزير.
ولم يكن شهاب هيابا من هذا اللقاء؛ فلقاءاته لفؤاد باشا جعلته مهيأ للقاء ذوي الوجاهة والنفوذ، قال له الوزير: أنت خريج هذا العام أليس كذلك؟ - نعم يا معالي الباشا. - سأعينك في مكتبي كما وعدت فؤاد باشا، وسيخبرك الأستاذ راشد حمدي الجوهري مدير مكتبي عن اختصاصاتك فهو الذي سيكون رئيسك المباشر. - شكرا يا معالي الوزير ربنا يطيل عمرك، أستأذن أنا. - انتظر دقيقة.
ودق الوزير أحد الأجراس المصفوفة على مكتبه وسرعان ما دخل فتحي مبروك. - أوامرك يا معالي الباشا. - اكتب قرار تعيين للأستاذ، ما اسمك؟ - شهاب متولي وهدان يا معالي الباشا.
واستأنف الوزير أوامره: واصحبه للأستاذ راشد الجوهري وقل له إنني عينته بمكتبي. - أمرك يا معالي الباشا. - مع السلامة.
ولكن شهاب أصر أن يعيد الدعاء. - ربنا يطيل عمرك يا معالي الباشا، وأرجو الله أن أكون عند حسن ظنك بي.
وقال الوزير: ادع لفؤاد باشا فهو صاحب الفضل عليك.
مع السلامة.
وخرج فتحي وشهاب من مكتب الوزير، ولم يتوان فتحي في تنفيذ التعليمات التي صدرت إليه من الوزير فصحب شهابا إلى راشد الجوهري وقدم إليه شهابا، وأخبره أن معالي الوزير امر بتعيينه بالمكتب، وكان راشد رجلا طويل القامة عريض الكتفين في غير سمن، بينما كان فتحي نحيفا غاية النحافة، أما شهاب فكان ممشوق القوام منسجم القسمات لا هو بالطويل ولا القصير، كما أنه ليس بالنحيف ولا الممتلئ.
قال له راشد: يا مرحبا يا أستاذ شهاب ما شهادتك؟ - زراعة يا افندم. - عليا أم متوسطة؟ - عليا يا افندم. - عظيم، ستعين إذن على الدرجة السادسة. - المهم أن ترضى سعادتك عني يا افندم. - اقعد.
والتفت إلى فتحي وقال له في صيغة أمر: اذهب أنت يا فتحي واستوف إجراءات التعيين.
ثم قال لشهاب: تحضر غدا مسوغات التعيين.
وسارع شهاب قائلا: جاهزة كلها يا سعادة البك. - على بركة الله.
وخرج فتحي وانفرد راشد بشهاب وسأله: من الذي أوصى بك؟ - فؤاد باشا الجويني يا سعادة البك. - ومن أين يعرفك؟
ولم يتردد شهاب في الإجابة بل سارع قائلا: أبى يعمل في دائرته. - ماذا يعمل؟ - مساعدا للناظر.
وأبى أن يقول خولي حتى لا يهون أمره أمام رئيسه الجديد، وحاذر أن يكذب ويدعى أنه ابن الناظر خشية أن ينكشف أمره فقد توسم في راشد الذكاء والفطنة، وأدرك أنه ليس من السهل أن يغرر به، وسأله راشد: وماذا تريد أن تعمل؟ - والله الأمر يرجع لسعادتك.
وبسرعة فائقة راح يدور ذهن راشد: إنني أستطيع أن أصنع من هذا الولد عجينة في يدي أشكلها كما أريد؛ فأنا أحتاج في معاملة التجار إلى شخص يساعدني ويرضى بالقليل، ولا أستطيع أن أعتمد على فتحي في هذا الأمر؛ فهو مشغول مع الوزير من ناحية وهو من ناحية أخرى سيطمع في مبالغ كبيرة معتمدا على قربه من الوزير، وأنا أيضا لا أثق به فقد يبلغ الوزير بما أصنعه مع التجار إذا لم ينل ما يطمع فيه، وعلى كل حال سأجرب شهاب في عمليات بريئة حتى إذا وفق فيها أجربه في عمليات أخرى صغيرة حتى أطمئن إليه تماما وأدخله بعد ذلك في كل العمليات. - اسمع، ما دمت حاصلا على الزراعة العليا ما رأيك أن تختص أنت بالتعامل مع التجار الزراعيين الذين يشترون محاصيل الوزارة؟ - بارك الله فيك يا سعادة البك، إن شاء الله سترضى عني في هذا العمل وخاصة أنني على خبرة بهذا الاختصاص؛ فكثيرا ما شهدت ممارسة أبي لبيع محاصيل الدائرة. - على شرط. - شروطك أوامر. - أن تجعلني على علم بكل صغيرة وكبيرة في تعاملك. - طبعا يا سعادة البك. - هذا الاختصاص يحتاج إلى أمانة كبيرة وذكاء شديد وسأجربك فيه.
الفصل الخامس
أصبح شهاب معاونا لراشد في العمليات المتصلة بتجارة المحاصيل من وزارة الزراعة؛ فانفتحت له أبواب الثراء على مصاريعها؛ فقد كان راشد يأخذ من هؤلاء التجار أموالا فادحة أخفى أمرها عن شهاب بعض الوقت ثم ما لبث شهاب أن عرف الحقيقة من الذين يكلفه راشد باصطحابهم إلى المزارع على اختلاف أنواعها، وفي أول مرة يصحب فيها تاجرا فوجئ عند انتهاء الزيارة بالتاجر يعطيه خمسين جنيها، وتمنع شهاب أن يأخذ هذا المبلغ الخطير بالنسبة إليه فإذا بالتاجر يلح عليه قائلا: يا بني أنت ما زلت جديدا لا تعرف ما تجري عليه الصفقات مع الوزارة. - ولكن لن أخذ شيئا، وأنا أقوم بعمل هو وظيفتي ولا أستحق شيئا إلا مرتبي. - لا تتفلسف واسمع الكلام، وبكرة ستعرف أن هذه هي قواعد اللعبة. - لا أستطيع. - اسمع الكلام.
وأخذ شهاب المبلغ وقد انتوى في نفسه أمرا وصمم عليه؛ فقد خشي أن يكون راشد هو الذي أوحى للتاجر بأن يعطيه هذا المبلغ ليمتحن أمانته فما إن انصرف التاجر حتى قال شهاب لراشد: تفضل سعادتك.
وقدم له الخمسين جنيها، وقال راشد: ما هذا؟ - المبلغ الذي أعطانيه الحاج عطية التاجر.
وانفرجت شفاه راشد عن ابتسامة عريضة جاوبتها فرحة في مشاعره، إنه كان صادق النظر في أمر شهاب، وقال له: ولم تعطينيها؟
وفي خبث شديد قال شهاب: وماذا يمكن أن أفعل غير هذا؟ - تأخذها ولا من شاف ولا من دري. - أيجوز لي هذا؟! كيف يصح أن أصنع شيئا ولا أخبرك به؟ - مبروك عليك الخمسون جنيها، وأبشر بمستقبل لم تكن تحلم به في وظيفتك الجديدة إن شاء الله. •••
وهكذا فتح شهاب لنفسه أوسع الأبواب بهذا التصرف الذي يبدو بسيطا بينما هو بعيد الدلالة بالنسبة لراشد؛ فقد فهم منه أولا أن شهابا لن يرفض الرشوة بل هو يقبلها ويقبل مبالغ ضئيلة؛ فهو لن يثقل عليه في أنصبته مما يأخذه هو من التجار، وهو أيضا يصارحه بكل ما يحدث بينه وبين المتعاملين مع الوزارة، وما لبثت الأمور أن سارت كما شاء لها راشد الجوهري؛ فأصبح شهاب هو وحده الذي يصحب التجار إلى المزارع وكانوا جميعا يقدمون مبالغ تتراوح بين خمسين ومائة جنيه، وأصبح على وعي تام بما يحدث في مكتب راشد؛ فقد كان التاجر الذي يأمنه راشد على سره يعرف أعلى العطاءات السرية ويقدم عطاء مرتفعا عن أعلى عطاء بمبلغ صوري زهيد ويصحب هذه الدراية مبلغ ضخم يدفع لراشد، وحين تأكد راشد أن شهابا عرف السر أصبح يعطيه جزءا من المبلغ الذي رشاه به التاجر.
وسارت الأيام رغدا لشهاب بصورة لم تكن تخطر له على بال، وتوثقت الصلة بينه وبين راشد الذي يدعوه في كثير من الأوقات ليتناول الغداء أو العشاء بمنزله، وكان المنزل شقة أنيقة في عمارة فخمة بجاردن سيتي، وكان أثاث الشقة فاخرا بصورة لم يتصور شهاب أن الفضل فيها يرجع إلى راشد، وحين رأى شهاب زوجة راشد السيدة مها مرسي وشاهد ما هي عليه من أناقة عرف السر في هذا الأثاث الفاخر الذي أذهله في أول مرة زار فيها رئيسه، وقد كان شهاب على دراية بأناقة الأثاث مما كان يشهده بمنزل فؤاد باشا الجويني سواء في بيته بالبلدة أو في قصره بالقاهرة الذي كثيرا ما صحب أباه إليه.
كانت زوجة راشد أنيقة رفيعة الذوق؛ الأمر الذي يبلوره أثاث البيت كما يظهر بوضوح فيما ترتديه من ملابس أو ما تختاره لنفسها من حلي غاية في الجمال، ولم يكن شهاب يعنى كبير عناية إن كانت هذه الحلي أصيلة أو غير أصيلة، ولكن الذي أدهشه أن هذه الملابس والحلي لم تستطع أن تجعل منها هانم سيدة جميلة، فلو أنها استبدلت بفاخر الملابس والحلي الجميلة ملابس أقل شأنا ولو أنها لبست الحلي البسيطة التي لا تتسم بالإبهار، لو أنها فعلت هذا لما توقف عندها نظر الناس لحظة من زمن سواء كان هؤلاء الناس رجالا يبحثون عن الجمال أو كن نساء يبحثن عما يثير فيهن الغيرة أو الحسد.
ولم يعرف شهاب أن راشدا تزوجها لأنها في مكانة ابنة عمه، ولأن والدها على شيء من الثراء ولكنه ثراء متواضع إلا أنه بالنسبة لراشد كان كافيا لأن يختارها زوجة له. وقد رزق الزوجان بابنين وابنة؛ أما الابنان فقد تخرج أحدهما وهو مرسي الذي يحمل اسم جده لأمه في كلية الهندسة، وأما الآخر فهو حمدي المسمى على اسم جده لأبيه فقد تخرج في كلية الحقوق، وأما الابنة فقد رآها شهاب في إحدى زياراته وعرف اسمها سعاد على اسم جدتها لأمها. وكانت فتاة رشيقة، وكان طبيعيا ألا يتوفر لها أي نصيب من الجمال؛ فلا الأب يستطيع أن يمنحها إياه، ولا الأم بقادرة أن تعطيها أي مسحة منه، ولعل هذا الحرمان من الجمال هو الذي جعلها متفوقة في دروسها. وقد كانت حين رآها شهاب في السابعة عشرة من عمرها توشك أن تنتهي من المرحلة الثانوية، وتعد نفسها للالتحاق بكلية الطب، ولكن الأمر الذي أدهش شهابا أن راشدا مع قبح زوجته لم يكن عربيدا أو باحثا عن النساء بل كان فيما عدا الرشى التي يقبضها من التجار رجلا محافظا كل المحافظة على دينه، ويقيم الصلوات في مواقيتها ويصوم مضان، وقد استطاع أن يجذب شهابا إلى هذا المضمار، وانجذب شهاب ليرضيه، أما هو في داخل نفسه فلم يكن يشعر بذرة من الإيمان أو بفائدة تعود عليه من هذه العبادات، وإنما يسير في هذا الطريق إرضاء لرئيسه راشد وليس غير.
وقد عجب من هذا الحفاظ على فرائض الإسلام من راشد، وكان مبعث عجبه أمرين؛ أولهما قبوله للسحت والمال الحرام مع هذا الحرص الشديد على طاعة الله ورسوله، وثانيهما زهده في النساء مع قبح زوجته، ولكن هذا العجب ظل دفينا في نفس شهاب لا يبين عنه وهو عجب قد يسري في خبيء النفس، وهو بطبيعته غير قابل أن يكشف عنه خوافي نفسه أو يبين ما استسر بها من مشاعر.
الفصل السادس
قامت الثورة وأوشكت أن تمسك بتلابيب كل المصريين لا تترك منهم أحدا. تغير وزير الزراعة، وأطاح الوزير الجديد بفتحي السكرتير الخاص، وبراشد مدير المكتب، أما شهاب فقد ظل في مكانه لهوان أمره فما كان أحد يشعر به، ولم يسارع الوزير الجديد بتعيين سكرتير خاص له أو مدير مكتب فكان حتما من الحتم أن يتولى شهاب أعمال السكرتير، وهو واثق أنه يقوم بها بصفة مؤقتة. ومرت أيام وهو يتوقع في كل لحظة أن يعين الوزير الجيد سكرتيرا له إلا أنه فوجئ في مرة كان يعرض فيها على الوزير بعض أوراق وإذا بالوزير يسأل عن شهادته. وعن عمل أبيه، وعن كل شأن من شئونه الخاصة. وكان شهاب مع الذعر الذي شاع في الحياة حريصا كل الحرص أن يكون صادقا غاية في الصدق فيما أدلى به من معلومات، ويبدو أن الوزير لم يجد فيما سمع من سكرتيره ما يمنع أن يظل سكرتيرا له، وكانت المفاجأة مذهلة لشهاب أن طالعه الوزير بعد الأسئلة العديدة التي وجهها إليه بقوله: أنا سأبقي عليك سكرتيرا.
وفي دهشة فرحة قال شهاب: تحت أمرك يا افندم. - ولكن هناك شروطا. - تحت أمرك يا افندم. - ما يجري هنا لا يعرفه أحد في الخارج حتى وإن كان أباك . - طبعا يا افندم. - الشرط الثاني أن تكون صادقا معي غاية الصدق، وتطلعني على كل شهيق أو زفير لكل الموظفين أو الزوار أو أي أحد تعرفه. - هذا أمر مؤكد يا افندم. - ومقابل هذا سأبقي درجة مدير المكتب خالية حتى أتأكد من تنفيذك لهذه الشروط بكل دقة. - ربنا يطيل عمر سيادتك يا افندم. - وسأبدأ الآن. - تحت أمرك يا افندم. - ما الذي تعرفه عن مدير المكتب السابق راشد حمدي الجوهري؟
ولم تستغرق الإجابة من شهاب كثير تفكير؛ فإن أي مساس براشد سيأخذ بخناقه هو أيضا؛ فكلاهما في شبكة واحدة وما أسرع ما قال: رجل طيب. - وما معنى طيب. - أولا لا بد أن أقول لسيادتكم إنه لم يكن له شأن بالوزير السابق؛ فأسرار الوزير كانت كلها مع فتحي أما الأستاذ راشد فكان صورة فقط، ونادرا ما كان يدخل إلى الوزير أو يستدعيه الوزير، وهو إلى جانب هذا رجل يصلي ويصوم ولم أر عليه طوال مدة خدمتي معه أي شيء يشينه. - هل هو من الإخوان المسلمين؟ - أعوذ بالله يا سيادة الوزير، إنه لا شأن له بهذه الجماعة أبدا، إنه رجل يرتعد إذا انفجرت عجلة سيارة. - إذن تنقله، أين تظن المكان الذي يصلح له؟ - والله أعتقد أن طول مدة خدمته بالوزارة ترشحه أن يعمل في شئون الموظفين. - والله فكرة لا بأس بها، اكتب قرارا بنقله بدرجته إلى شئون الموظفين. - أمرك يا افندم. - أما فتحي فلن أرفته إنما قل لي من أي بلد هو؟ - أظن أنه من طنطا يا سيادة الوزير. - إذن ننقله إلى جرجا. - أحسن من الرفت على كل حال. - اكتب قرارا بهذا. - أمرك يا سيادة الوزير. •••
طبق قانون الإصلاح الزراعي على فؤاد باشا الجويني طبعا، ولكنه لما كان رجلا بعيدا عن السياسة فقد أعتقه قانون الحراسات العشوائي، واحتفظ الباشا بحدائق الموالح، وهكذا أصبح في مقدوره أن يبقي على زكي النمر وعلى متولي وهدان في وظيفتيهما وبنفس المرتب أيضا، وهكذا لم تؤثر الثورة على متولي وهدان تأثيرا سيئا بل إنها مكنته من أن يحصل على وعد من موظفي الإصلاح أن ينال خمسة أفدنة من أرض الباشا التي وزعت على الفلاحين المعدمين، وما أيسر على متولي أن ينفق على موظفي الإصلاح الزراعي بضعة جنيهات ليجعلوا منه معدما، ويغضوا البصر عن الفدانين اللذين يملكهما؛ الأمر الذي لم يفكر فيه زكي النمر أولا لأمانته، وثانيا للصعوبة البالغة التي ستواجه موظفي الإصلاح، فإن إخفاء فدانين لا يمكن أن يكون مثل إخفاء عشرة أفدنة.
وهكذا أصبح الشيخ متولي في حالة مالية منتعشة؛ فسبعة أفدنة مع مرتب الباشا يعتبر بالنسبة له غنى أي غنى، ولكن مالا آخر كان في الطريق إليه؛ فقد كان قانون الإصلاح الزراعي يتيح لمن يملكون أكثر من نصابه أن يبيعوا في حدود خمسة أفدنة لا تزيد للفرد الواحد وفي مدة محددة، وفي جلسة جمعت مع الباشا زكي النمر ومتولي وهدان قال الباشا: كم بعنا من الأرض الزائدة يا زكي أفندي؟ - حوالي ثلاثمائة فدان تقريبا يا سعادة الباشا. - والله لا بأس، اسمع أنا عندي فكرة؛ لماذا لا أبيع لك أنت خمسة أفدنة، ومثلهم للشيخ متولي، ومثلهم لكاتبي الحسابات بالدائرة، بيعا حقيقيا نقوم بتسجيله دون أن أتقاضى ثمنا منكم؛ ألستم أنتم أولى من الذين سيوزع عليهم الإصلاح الأرض ممن لا نعرفهم.
وقال زكي النمر ومتولي وهدان في وقت واحد: أطال الله عمرك يا سعادة الباشا. - هذه أقل مكافأة لكم على أمانتكم في العمل.
أبلغ كمال أفندي الكاتب بأن يحرر العقود الأربعة ويكتب الثمن مثل ما بعنا به الأرض الأخرى، ويذكر في العقد أنني قبضت الثمن كله. - أمرك يا سعادة الباشا.
وفي مدة وجيزة تم الاستيلاء على أرض الباشا الزائدة، وفي مدة وجيزة أخرى تسلم زكي النمر خمسة أفدنة من الباشا كما تسلم متولي وهدان أفدنة الباشا الخمسة ولم يمض كثير وقت حتى وزع المختصون من موظفي الإصلاح الزراعي الأرض على الفلاحين، وصدقوا وعدهم لمتولي وتسلم خمسة أفدنة مثل الفلاحين الآخرين الذين وزعت الأرض عليهم.
وهكذا أصبح متولي يملك اثني عشر فدانا الأمر الذي جعله يرسل لابنه شهاب أن يتوقف عن إرسال الخمسة جنيهات التي كان يبعث بها في كل شهر لأبيه، وطبعا هو لم يخبر أباه بالأموال التي تنسكب عليه من التجار المتعاملين مع الوزارة ومن راشد الجوهري؛ فإن كانت الجنيهات الخمسة متوائمة مع مرتبه الضئيل إلا أنها لا تناسب بأية حال من الأحوال دخله الحقيقي.
الفصل السابع
ومرت السنون وتولى شهاب منصب مدير مكتب الوزير وأصبح هو المشرف على تعاملات الوزارة مع الغير؛ فأصبح المال الذي كان يغتاله راشد يتدفق على شهاب وحده لا يشاركه فيه أحد؛ ولذلك لم يكن عجيبا أن يفكر شهاب في الزواج، وهو لم يكن يذهب إلى مجتمعات، ولو كان يذهب ما شجعه هذا على طلب أي فتاة؛ فقد كان شرطه الوحيد الذي وضعه لمن يتزوجها أن تكون ذات ثراء يجعلها على الأقل مسئولة عن نفقات البيت، وقفز اسم سعاد راشد الجوهري إلى ذهنه، ولكنها ليست على شيء من الجمال ولكنها أيضا ليست قبيحة وأستطيع أن أجد الجمال في أماكن أخرى، أي أماكن، الأماكن التي أسمع عنها ولا أرتادها، الزوجة شيء والجمال شيء آخر، على الأقل لا تجعلني أغير عليها، وأظل وأنا خارج البيت مطمئنا غاية الاطمئنان أن عرضي مصان. ولا تنس أنها أصبحت طبيبة وهذا الأمر سيزيد من دخلها كما أنه سيشغلها عن مغامراتي التي أنوي بإذن الله أن أقوم بها، هي سعاد وليس أنسب لي من سعاد، وكان راشد الجوهري قد بلغ سن المعاش ولا يعرف شهاب إن كان يعمل أم أنه متقاعد في البيت.
توكل على الله طلب راشدا في التليفون. - آلو من؟
وعرف صوته فقال: تلميذك. - شهاب. - إذن لم تنسني. - أنت الذي نسيتنا يا خائن. - أنا لا أنساك أبدا. - أية مناسبة سعيدة جعلتك تفكر في الاتصال بي؟ - هي سعيدة إن شاء الله، متى أستطيع أن أزورك؟ - أي وقت؛ فأنا كما تعلم على المعاش ووقتي كله ملكي. - ربما تكون وجدت شركة تنتفع بخبرتك. - والله هناك وعود ولم يتحقق منها شيء؛ فأنا الآن لا عمل لي إلا المقهى في الصباح والبيت بعد الظهر حتى اليوم التالي. متى تحب أن تجيء؟ - بكرة. - وهو كذلك، الساعة السابعة تناسبك؟ - على بركة الله. - أهلا وسهلا. - أهلا بك. سلام عليكم.
وذهب شهاب في الموعد المحدد، وجلس في حجرة الاستقبال الفاخرة مع راشد، وما لبث أن جاء الخادم بالقهوة، ولم يضع شهاب الكثير من الوقت بل عاجل راشدا قائلا: أنا أجيء إليك كوالد لي أولا، ثم بصفة ثانية سأطلعك عليها في وقتها. - مرحبا بك بأي صفة تريدني فيها؟ - ألا ترى أن الوقت الآن مناسب لي أن أتزوج؟ - طبعا مناسب جدا؛ فأنت الآن ميسور الحال، وأنا على علم بكل صفقاتك فأنا ما زالت لي صلات بالوزارة والمتعاملين معها. - أنا لا أشك في هذا فلنتوكل على الله. - وأنعم بالله وكيلا. - أريد أن أتزوج الدكتورة سعاد.
ووضحت المفاجأة على وجه راشد وسرعان ما تغلب عليها وقال: ولم لا؟ إنما هناك شيء لا بد أن أذكره لك حتى أكون صريحا معك، أنا أعرف أنك لست أمينا في عملك في الوزارة ولا تقل لي إنني أيضا لم أكن أمينا، ولكني أنا بالذات حالة خاصة. - كيف ذلك؟ - أنا استطعت أن أفصل تماما بين عملي في الوزارة وبين حياتي الخاصة، ولا أعرف إنسانا مثلي؛ فإني لم أخن زوجتي في حياتي مطلقا مع أنك لاحظت أنها غير جميلة، لا تعجب فقد تبينت هذا في عينيك منذ أول يوم قابلتها، فأنا شخصيا مثال فردي لا يقاس عليه ولا يتوسع فيه. - ولماذا لا أكون مثلك؟ - يا شهاب يا بني أنا رجل عركت الحياة فإن لم تنتفع ابنتي من خبرتي فهي إذن خبرة لا قيمة لها، سعاد ليست جميلة ومالها ليس بالكثرة التي تتصورها؛ فهي ستساعد في مصاريف البيت ولكن بقدر معلوم، وقد تكسو نفسها ولكنها لن تكسوك. - هذا كلام معقول وأنا أرحب به ولا أريد أكثر منه. - أخشى أنك تقول هذا الآن ثم تنساه. - أنت رجل تعرف الله فتوكل عليه. - توكلت على الله، ولكن لا بد أن أسأل سعاد. - طبعا، وإذا وافقت فسأذهب إلى أبي وأمي وآتي بهما ليخطبا لي ويباركا زواجي. - هذه علامة طيبة. - أنت تعرف ماذا يعمل أبي، ولن يكون غريبا أن ترى أبي يلبس جلبابا وأمي متوشحة بالطرحة. - من ينسى أباه ينسه أبناؤه، أنت رأيت سعاد أكثر من مرة ورأتك، ولكن لا أظن أنها فكرت فيك كخاطب لها سيصبح زوجا، والزواج صلة لا مثيل لها في كل الصلات الأخرى، ولا يشبهها أي آصرة، فأنا سأسألها وربما طلبت أن تجلس إليها. - أنا تحت أمرك وأمرها. •••
ولم لا؟! إن هذا الشاب يخطبني لذاتي؛ فأبي لم يعد رئيسا له ولا لأحد غيره، ولماذا أرفضه؟ أنا أعلم أنني لست جميلة، وقد عوضت هذا بنبوغي في العلم، وهو أيضا في مركز مرموق، ومن المرات التي رأيته فيها تبين لي أنه ذو ذكاء وحدة بادرة وليس سخيفا في تعليقاته، أو حديثه وشكله، لا بأس به وملامحه ومتناسقة، وإذا أكل فبطريقة متحضرة نظيفة؛ وذلك يدل على ذكائه الذي جعله يتعلم كيف يأكل بالشوكة والسكين فلا يجعل الذي يؤاكله ينفر منه أو يتقرف. الواقع أنه لا بأس به وأنا لا أتوقع لنفسي خيرا منه. وقالت لأبيها: هل أنت راض عنه؟ - المهم رضاك أنت. - على بركة الله.
وقال راشد لشهاب: على بركة الله.
وفرح شهاب وسارع قائلا: متى أحضر أبي وأمي؟ - اليوم الإثنين، لنجعل الخطبة يوم الخميس إن شاء الله. - وهو كذلك. •••
فرح متولي وتفيدة بقدوم ابنهما؛ فقد كان قليل الزيارة لهما رغم أنه اشترى سيارة، وبعد الاحتفاء به قال لأبيه وأمه سبب مجيئه، وفرح أبوه غاية الفرح، أما أمه فلم يكن فرحها عظيما كأبيه. - ألم تكن واحدة من قريباتنا أولى بك؟
وأجاب عنه متولي: يا شيخة اسكتي. ومن في قريباتنا تستحقه، إنه يقول لك إن عروسته دكتورة، ألا تفهمين معنى دكتورة؟ وأبوها كان رئيسا له في الوزارة يعني بك. وقالت تفيدة: هذا يوم المنى عندي. نريد أن نفرح بأولاده.
وقال متولي: هذا هو الكلام، زغردي يا أم شهاب، زغردي. وقال شهاب: طبعا ستصحباني لتخطبا لي.
وقال متولي في بعض حذر: أترى ذلك؟! - بل لا بد من ذلك. - وأذهب بالجلباب وأمك بالطرحة. - وهل قلت لهما إنني ابن باشا أو بك، إن راشد بك وأسرته يعلمون جميعا أنني فلاح وابن فلاح وفلاحة، وإذا لم تخطب لي أنت وأمي فلن تكون هناك خطبة، كيف تتم إجراءات الخطبة إذا لم تخطب لي أنت وأمي أطال الله عمركما؟ - على بركة الله.
وقالت تفيدة: تعيش يا بني، وهل نتمنى أنا وأبوك شيئا أجمل من الخطبة لك. - اليوم الثلاثاء. بكرة إن شاء الله نسافر في الصباح. - وهو كذلك.
وفي المساء ذهب متولي إلى الباشا وأخبره، فأصر الباشا على حضور الخطبة.
اشترى شهاب شبكة بخمسمائة جنيه، وكانت شيئا مشرفا له ولعروسه أمام كبار القوم الذين دعاهم راشد لحفل الخطبة، ولو أنهم لم يكونوا كثيرين، ولم يخبر متولي أحدا إلا الباشا. أما شهاب فهو الآخر قد أخبر الوزير الذي يعمل مديرا لمكتبه ووعد بالحضور، ولكنه لم يحضر. ودعا شهاب اثنين فقط من زملائه في العمل هما حماد شريف صديقه اللصيق، ويسري خطاب سكرتير الوزير منذ أصبح شهاب مديرا للمكتب.
وفي أثناء الحفل دعا فؤاد باشا شهابا إلى غرفة جانبية وأعطاه ظرفا قائلا: لم يتسع وقتي لشراء هدية، خذ هذا واشتر أنت وعروسك ما تريدان.
وتناول شهاب الظرف وهم بتقبيل يد الباشا وهو يفهم أن الباشا لا يقبل أن يقبل يده أحد؛ ولهذا لم يكن عجيبا أن يختطف الباشا يده قائلا: يا شهاب أنت ابني مثل عمر وعلي. - أطال الله عمرك يا سعادة الباشا، وأسعدك بعمر بك وعلي بك وعائشة هانم. - شكرا يا بني.
وقام الباشا ليعود إلى الآخرين وتبعه شهاب وخالطوا المدعوين، وبدأت مراسم الخطبة ولكن شهابا كان مشغولا عن دوره المفروض أن يقوم به بهذا الظرف الذي أعطاه له الباشا، كم يحوي هذا الظرف يا ترى؟ كان توقه إلى معرفة المبلغ الذي يحويه الظرف يأخذ عليه تفكيره كله، ليس للمبلغ في ذاته ولكن ليعرف إن كان الباشا ما زال كريما كشأنه، وهل ما زال غنيا قادرا أم قصم الإصلاح الزراعي ظهره فأصبح لا هو بالكريم ولا هو بالقادر.
تمت إجراءات الخطبة في شكلها المرسوم، وكان شهاب وعروسه وأهل عروسه جميعا قد ملأهم الزهو بالشبكة التي قدمها العريس. وهكذا نال شهاب ما كان يصبو إليه من تفاخر بفخامة الشبكة.
الوحيد الذي مسه كثير من العجب والدهشة هو متولي أبو العريس؛ من أين جاء شهاب بثمن هذه الشبكة التي بهرت المدعوين جميعا؟ إنه حتى لم يطلب مني أي مساعدة مالية، وربما عاونه حموه حتى يتاح له الزهو بالشبكة أمام المدعوين، هذا هو الأرجح؛ فالعروس وإن كانت دكتورة إلا أنها من المؤكد أنها ليست جميلة وليس عجيبا أن يعاون أبوها خطيبها لتكون الشبكة غالية الثمن إلى هذا الحد، وكانت بجواره زوجته تفيدة فإذا هي تلكزه بمرفقها سائلة زوجها: ما رأيك في العروس؟ - ليس الآن. - ومن أين أتى شهاب بهذه الشبكة التي بهرت المدعوين؟ - قلت لك ليس الآن. - على كل حال ربنا يزيده، هل أعطيته أنت شيئا؟ - لو كنت أعطيته لكنت أنت أول من يعرف. - عجيبة، ربنا يكثر ماله. - آمين. - آمين على أن يكون حلالا. - آمين وخلاص يا تفيدة.
وانتهت مراسم الخطبة وصحب شهاب أباه وأمه إلى بيته الذي لم يتمكنا من رؤيته على حقيقته في الليلة السابقة التي باتا فيها عنده؛ فقد خرجا في صباح يوم الخطبة ليزورا أولياء الله الصالحين، وأصر شهاب أن يدعوهما ليكون غداؤهما كبابا في سيدنا الحسين، وحين عادا إلى شقة شهاب بعد الظهيرة لم يكن الوقت متاحا ليسأله أبوه وأمه الأسئلة التي وجهاها إليه بعد حفل الحطبة. - الشقة عظيمة من أين لك كل هذا يا ولد؟ - خير الله كثير والحمد لله.
وقالت أمه: على أن يكون من الله لا من الشيطان. - اطمئني يا أمه. - والشبكة التي بهرت الأكابر الذين كانوا مدعوين. - الذي يهمك أنت وآبا أن يكون المال حلالا، وهو حلال، وأنا لم أطلب من أبي شيئا. - أنت لم تطلب وعلى كل حال أنا مستعد أن أساعدك بالذي تطلبه. - أعرف هذا، ولكن لماذا ما دامت مستورة؟ - الواقع أن أمورك أكثر من مستورة بكثير. - بركة دعواتك أنت وأمي، دقائق ويكون العشاء جاهزا.
وقالت أمه: أي عشاء؟ أنت جوعان يا متولي؟ - أبدا. - وهل بعد الذي أكلناه من حلوى عند العروس يمكن أن نأكل شيئا، هذا من رابع المستحيلات. - إذن تصبحان على خير.
وتركهما في غرفتهما وسارع إلى حجرته ليخلو إلى الظرف الذي أعطاه له فؤاد باشا الجويني. - يا قوة الله ثلاثمائة جنيه! أولاد الكلب، هؤلاء لا ينفع معهم لا إصلاح زراعي ولا إلغاء الرتب ولا حكم عسكري، الرجل يقدم هذا المبلغ الفادح هدية لي ليجعلني أتأكد أنه ما زال السيد صاحب الأفضال وأنه قادر، وأنه ما زال صاحب الغنى والأموال، إلى متى سيظل أولاد الكلب هؤلاء سادة ويدهم هي العليا، إلى متى؟!
الفصل الثامن
أنجب شهاب وسعاد ولدا وبنتا وأسميا الولد أمجد والبنت فضيلة، ولكن شهاب لم يكن بالزوج المثالي صاحب الفضيلة؛ فقد كان يضيق بالبيت ويبحث لنفسه عن تسلية مع صديقه حماد شريف.
تغير الوزير الذي كان شهاب مديرا لمكتبه وجاء وزير جديد ولم يغير شهابا لأنه كان لا يعرف أحدا في الوزارة، وارتأى أن يجرب شهابا، واستطاع شهاب في دربة ومران أن يكتسب ثقة الوزير سواء كان ذلك في أعمال الوزارة أو في الأعمال الخاصة؛ فما هو إلا بعض الوقت حتى رقي شهاب إلى درجة مدير عام، وظل على صلته بالمتعاملين مع الوزارة، ولم تثر حول الرشى التي كان يقبضها أية إشاعات، وكان التجار أشد ما يكونون حرصا على بقاء شهاب في اختصاصه، وكان هو على ذلك أحرص؛ ولذلك لم يفعل مثل سلفه راشد الجوهري الذي أشركه معه عند أول تعيينه؛ فقد كان شهاب مصرا على أن ينفرد هو بهذا الاختصاص حتى لا يسلبه أحد شيئا مما ينهمر عليه من مال.
حين رقي شهاب إلى درجة مدير عام أنبأ سعاد بالخبر وهما على مائدة الغداء، وفرحت به فرحا شديدا كما فرح أمجد وفضيلة وقالت سعاد: لا بد من هدية لأمجد ومثلها لفضيلة. - اشتري أنت الهدايا التي تريدينها وأنا علي أن أدفع ثمنها. - ألا تسهر معنا الليلة لنحتفل بك؟ - نحتفل بكرة على الغداء، أما اليوم فإني على موعد هام.
وقالت سعاد في أسى: في المقهى؟ - في هذه المقهى أتمم أعمال في غاية الأهمية، ثم إنك لا بد ذاهبة إلى المستشفى ففيم تريدين بقائي؟ - كنت سأعتذر عن الذهاب إلى المستشفى. - اعتذري وابقي مع ابنيك فهما لا يكادان يريانك، وأنت أوكلت أمرهما إلى المربية عظيمة. - إنك أنت الذي لا نراك إلا على الغداء وكثيرا ما تتغيب حتى عن الغداء. - أنا لا أتغيب إلا حين يكون الوزير في الوزارة، هل تتصورين أنى أترك الوزير في الوزارة وأقول له عن إذنك أنا ذاهب لأتغدى مع أسرتي؟ - أنا أعلم أنه لا فائدة من المناقشة معك، أفعل ما تريد، وعلى كل حال مبروك. - بارك الله فيك.
وفي المقهى تلقفه حماد شريف والأصدقاء الآخرون بالترحاب والتهليل، وحين انتهى احتفال الأصحاب اجتذبه حماد إلى مكان ينفردان فيه وقال له: معك فلوس؟ - معي. - أنا متأكد أن جيبك دائما عامر بالمال. - أنا تحت أمرك. - أخطأت فهمي، أنا الليلة معد لك سهرة ستظل تحلف بها طول عمرك. - أين؟ - أترك لي الأمر، هيا لنقعد مع الصحاب. - ومتى تبدأ السهرة؟ - لا تخف ما زال الوقت مبكرا على بدئها. •••
صحب حماد شهابا إلى كباريه ليالي الفرح، وشاهدا العرض وبعد العرض سعى حماد إلى الراقصة فتنة لتجالسهما، وبهذه المجالسة بدأت لشهاب حياة جديدة.
الفصل التاسع
بهر شهاب بفتنة، وكانت تصغره بسنوات ليست كثيرة، وحين خرج من الكباريه بصحبة حماد قال له: واضح أن هذه ليست أول مرة تأتي فيها إلى هنا. - أتيت قبل اليوم مرات قليلة. - ولماذا لم تصحبني؟ - هل جننت؟! كنت سكرتير الوزير في حكومة مخابرات، لو عرفوا أنك تأتي إلى هنا فالله أعلم بالعواقب. - لك حق، الأمور اليوم فيها انفراج كبير. - هل أعجبتك السهرة؟ - أنا مصمم على المجيء إلى هنا أغلب أيام الأسبوع. - من أجل فتنة فقط أم من أجل الجو العام؟ - فتنة أهم ما في هذا الجو العام. - البنت هبلتك. - أنعم وأكرم بهذا الهبل. •••
منذ ذلك اليوم وشهاب لا يكاد ينقطع عن الذهاب إلى الكباريه والجلوس إلى فتنة سواء كان حماد معه أم لم يكن.
وعرف أن فتنة فتاة نالت قدرا من التعليم صحبه قدر كبير من البؤس حتى التقت في بيت إحدى صديقاتهما بالراقصة الشهيرة ناهد فكري وطبعا كانت شهرتها ناهد فقط. وكانت ناهد في سن لا تسمح لها بالبقاء على مسرح الرقص فترة كبيرة وكانت تملك الكباريه الذي تعمل به؛ فانتهزت من فتنة فرصة لا تعوض؛ فقد رأت فيها فتاة في ربق العمر تتمتع بقسط وافر من الجمال والنضارة، وكانت ظروف فتنة تجعلها ترحب بما عرضته عليها ناهد من العمل كراقصة لديها بالكباريه، وماذا سأخسر؟ لست ابنة أسرة كبيرة تحافظ على اسمها، أما شرفي فأنا قادرة على المحافظة عليه، ولكن ربما أجد في الزبائن من يتزوجني وليس هذا شيئا بعيدا. وهكذا قبلت فتنة ما عرضته ناهد وبدأت حياتها كراقصة ما لبثت أن نالت إعجاب من يرتادون الملهى، وحرصت فتنة أن تقوم بكل ما تقوم الراقصات به من مجالسة ومشاربة، كما حرصت في حزم عن مصاحبة أحد إلى ما يدعوها إليه.
وكان بين الرواد عادل صبري الذي كان يحمل رتبة بك قبل أن تلغى الرتب، وكان مولعا أشد الولع بفتنة، ولم يكن شابا بل كان رجلا في الخمسين من عمره له ابنان متخرجان في الجامعة، وكان على قدر من الثراء؛ فقد كان من القليلين الذين يوردون الأحذية إلى روسيا، وقد بذل كل جهده المصحوب بعروض مالية تغري مثيلات فتنة إغراء شديدا، ولكنها أصرت على التمسك بعرضها رغم العروض الخيالية التي قدمها إليها عادل بك صبري، والتي كانت تعلم أن بوسعه المالي أن يجعل هذه العروض حقيقة لا شك فيها، وكان الحفاظ على شرفها هذا يزيد جنون عادل بك بها، وربما كان هذا الجنون بها هو الذي ترمي إليه فتنة؛ فمع أنها كانت في سن باكرة إلا أنها كانت حريصة ألا يكون مصيرها كمصير الراقصات اللواتي يرخصن أنفسهن حتى إذا علت بهن السن أصبحن كالخرقة الممزقة تعافهن النفوس، ويهرب منهن الأصدقاء القدامى الذين كانوا يرتمون تحت أقدامهن.
وهكذا لم يجد عادل وسيلة معها إلا أن يعرض عليها الزواج. - أهذا معقول؟ - ولماذا لا يكون معقولا؟ - وزوجتك وأولادك؟ - لا شأن لك بهم. - إذن لي شرط. - كل شروطك مقبولة. - أن أظل في عملي. - وما حاجتك إلى عملك وأنت ستكونين في غنى عنه كل الغنى؟ - أنا لي اسم وشهرة والزبائن تحب رقصي، وقد تطلقني فيكون من الصعب كل الصعوبة أن أستعيد ما أتمتع به اليوم من شهرة. - إذن موافق على أن تقبلي شرطا لي. - ما هو؟ - ألا أعلن زواجنا؛ فإني أخشى بهذا الزواج أن أسيء إلى ولدي بين زملائهما من الموظفين أو قد يعوق هذا زواجهما، وقد أصبح كلاهما موشكا على الزواج، فأرجوك وأقبل يديك أن تقبلي هذا الرجاء ولا أسميه شرطا.
وفكرت فتنة لحظات وقالت: ربما كان رجاؤك خيرا؛ فما دمت سأعمل في الكباريه فالأحسن لي ألا يعرف الزبائن أني متزوجة فهم لا يحبون المتزوجات. - إذن اتفقنا.
وتم الزواج فعلا وكان عادل فرحا بهذا الزواج غاية الفرح، وقد تمثلت سعادته في إغداق المال على زوجته الجديدة، أما فتنة فقد أسعدها المال ولم تلق كثير اهتمام إلى فارق السن بينها وبين زوجها.
وشأن رواد الكباريهات ما لبث عادل أن زهد في زوجته الثانية، وبدأ يبحث عن أخرى في الكباريه، ولم يكن الطريق وعرا ليجد أخرى، وما يحدث في الكباريه هيهات أن يكون سرا على العاملين فيه.
وانفجرت فتنة في زوجها: رضينا بالهم والهم لا يرضى بنا. - أما أنك حقا تربية كباريهات! أكل هذا العز الذي جعلتك تعيشين فيه هم؟ - لا تنس فارق السن بيني وبينك، والعز الذي تقول عنه تعويض عن سنك، وعن كونك زوجا لغيري، وأبا لولدين متخرجين. - ماذا تريدين الآن؟ - أنا قبلت أن أكون زوجة ثانية، ولكن لا يمكن أن أكون زوجة ثالثة. - وهل أنا تزوجت؟
سيكون هناك ثالثة على كل حال سواء بالزواج أم بغيره وهذا ما لا أقبله. - المهم ما غرضك؟ - الطلاق. - أنت طالق. - مع السلامة ولا تنس المؤخر والنفقة. - بجملة ما صرفته عليك.
وتم الطلاق وأعطاها المؤخر والنفقة الشهرية في مبلغ واحد، وأصبحت فتنة حرة مرة أخرى، واستمر طبعا عملها في الملهى الذي تعمل به، وفي هذا الملهى عرفت شهابا وعرفها شهاب وجن بها.
الفصل العاشر
عرف شهاب أن فتنة ترفض العلاقات غير الشرعية، وكان هذا الأمر قد أصبح شهيرا عنها أنها ترفض أي صلة غير شرعية، وقد وصل هذا إلى علم شهاب من الأخريات اللاتي حاولن أن يغرين شهابا بهن ويرمين في نفسه اليأس من أن تكون بينه وبين فتنة أي صلة.
ولم يعبأ شهاب بما تدعيه أولئك الراقصات؛ فمن الناس نوع يظن نفسه شيئا غير الآخرين، إنها رفضت أن يكون لها علاقة بأي واحد من رواد المقهى، ولكن لم يكن شخص من الرواد مثل شهاب متولي؛ فالذي لم يتحقق لغيري لا بد أن يتحقق لي فأنا غير هؤلاء وليس بينهم من يماثلني. وهكذا راح يطارد فتنة دون يأس سنين عدة وهي تخضع له بالقول ولكن تأبى عليه ما ردت عنه الآخرين.
ولكن شهابا ظل يقصد إليها كل ليلة ولم يعد في حاجة للاعتذار لزوجته سعاد؛ فقد ألفت هذا الأمر منه وامتنعت عن مساءلة زوجها مع أنها بذكائها أدركت أن وراء سهره الليالي أمورا جديرة باهتمام الزوجة غاية الاهتمام، إلا أنها هي اكتفت من الزوجية بظاهر الأوضاع، وكما توقف شهاب عن الاهتمام بزوجته توقف عن الاهتمام بابنه وابنته إلا ما تلقيه إليه زوجته من أخبار على مائدة الغداء إذا التقيا عليها صدفة. وهكذا تهرأت روابط الزوجية والأبوة بين شهاب وأسرته، أما عن الناحية المالية فقد تغافل عنها لما وجد سعادا لا تطالبه بها واعتبر إنفاقها على شئون المنزل والأبناء أمرا مفروغا منه ما دامت هي لا تناقش هذا الأمر، وهي من جهتها أضافت الناحية المالية إلى أركان الحياة الأسرية المنهارة، واحتملت الإنفاق على ابنيها والبيت فقد كانت موفورة الدخل من عملها الطبي ومن أبيها أيضا.
وجاء وزير لوزارة الزراعة استغنى عن شهاب كمدير لمكتبه، ولكنه في مقابل هذا جعله بدرجة وكيل وزارة لشئون السماد ومواد المقاومة للآفات والحشرات، ومع انقطاع صلته بأهل بيته لم يجد ما يمنع أن يخبر زوجته وأمجد وفضيلة بالخبر ولم يدهش أن وجد فرح الأسرة بالخبر هينا متهافتا.
وسعى شهاب سعيا حثيثا أن ينشر الخبر في الصحف؛ فقد انتوى أن يستفيد من هذا النشر فائدة كبرى.
وحين التقى بفتنة كان حريصا أن يصحب معه جريدة من الصحف التي نشرت الخبر، وكان فرح فتنة أعظم بكثير من فرح أسرته ورأى أن هذا أمر طبيعي.
وفي مدى شهور قليلة عرف شهاب أسرار وظيفته الجديدة، وعرف تمام المعرفة كيف يكسب منها مكاسب لم تكن تخطر له على بال، بالإضافة إلى أنه ما زال كما كان المشرف على علاقات الوزارة بالتجار وما زالت أرباح هذه الوظيفة تنهمر على حساباته بالبنوك.
وفكر شهاب وأمعن في التفكير كيف يجعل مكاسبه تتضخم، وأدخل في حساباته ما سيعود إليه من وظيفته الجديدة، ولكن أحلامي وآمالي هذه تحتاج إلى تعاون من الموردين والمصدرين معي حتى أكون قادرا على ربح الملايين، فتنة، ماذا لو تزوجت فتنة وكانت هي وسيلتي إلى أصحاب الملايين، أعرف أنها شريفة ولكن كل إنسان يظن نفسه أنه قادر على ما لا يستطيعه غيره كما ظننت أنا بنفسي حتى ردني حرص فتنة على شرفها إلى صوابي وكذلك سيكون الحال مع كل من تقصد إليه من أصحاب الأموال الشامخة التي تكال كيلا ولا تعد، فتنة وسيلتي وليس غيرها. - ما رأيك أن نتزوج؟ - وبيتك؟ - ما شأنه؟ - لقد مررت بهذه التجربة وأكره أن أكررها. - ليس في العالم اثنان متشابهان في الخلق حتى وإن تشابها في الخلقة. مهما تفلسفت لن أكرر التجربة. - فإذا طلقت زوجتي؟ - أقبل الزواج.
لن يكون الطلاق أمرا يدعو إلى الدهشة من سعاد أو حتى من أمجد وفضيلة؛ فنحن في الفترة الأخيرة علاقاتنا منفصلة تماما وسعاد وحدها هي التي تقوم بشأن البيت والولد والبنت، ترى في أي كليات هما؟ أظن أمجد في الطب، وفضيلة في الاقتصاد والعلوم السياسية، ربما كان صحيحا، ولكن المؤكد أنني لا أعرف إلى أي سنة وصل الولد أو البنت، لقد كان زواجي من سعاد وإنجابي منها فترة وانتهت أو لا بد أن تنتهي على كل حال.
الفصل الحادي عشر
وما أيسر أن طلق شهاب زوجته ولم يعبأ بأبيها صاحب الفضل عليه، وما أيسر ما تزوج من فتنة وأقام لهذا الزواج حفلا دعا إليه كل من ينتوي أن يعمل معهم، وكان من الطبيعي أن يلبوا دعوة وكيل الوزارة التي يتعاملون معها.
واستقبلت سعاد الطلاق في حزن غامر؛ فقد تغاضت عن كل حقوقها الزوجية بل وضربت صفحا عن إهمال زوجها غير ابنيها، فعلت كل هذا لتتقي الطلاق من أجل نفسها ومن أجل ابنها وابنتها؛ فهي تعلم أنها ليست جميلة ولكن هو الذي اختارها، وكانت تعلم منذ تقدم للزواج منها أنه اختارها لأسباب بعيدة كل البعد عن جمالها وهي واثقة كل الثقة أنه لم يشعر نحوها بما يسمونه الحب أو العاطفة الجياشة أو غير الجياشة أو حتى الود والسكينة التي تضم الزوجين في رباط واحد، وقدرت أنه خطبها ليرتفع بطبقته من ابن خولي إلى زوج لكريمة وكيل وزارة مهما يكن وكيلا سابقا، ولم يفت فطنتها أن حالة أبيها المالية المنتعشة كانت ضمن الأسباب الهامة في خطبة شهاب لها، وحينذاك قدرت أنها لن تخطب إلا لهذه الأسباب، وما دام الأمر كذلك فلا فرق هناك بين شهاب وغيره؛ فهي على الأقل تعرفه وهو على كل حال أحسن ممن لا تعرفه. وتحملت الحياة الزوجية معه بعد إنجابها لابن وابنة ولم تحاول أن تذكره بواجباته المالية والأبوية مسقطة من حسبانها واجباته الزوجية إسقاطا تاما، وشغلت نفسها بالعمل في المستشفى، وتمكنت من العثور على شقة محترمة جعلتها عيادة لها، ولما كانت متخصصة في أمراض النساء كما كانت ماهرة كل المهارة في تخصصها كانت عيادتها مصدر ربح وفير جعلها تواجه في يسر مطالب البيت ومطالب أمجد وفضيلة حتى أوشكا على التخرج.
أمجد في كلية الطب تخصص جراحة، وفضيلة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وكانت دائما تنجح بدرجة امتياز حتى لم تستبعد أمها سعاد أن تعين معيدة بالكلية.
وكانت سعاد فخورة بابنها وابنتها كما كانت تزهى في نفسها أنها وحدها صاحبة الفضل في تفوقهما، وكانت تحمد لنفسها أنها لم تذكر لزوجها هذا الفضل منها قط، محاولة بكل ما تستطيع من جهد أن تبعد فكرة الطلاق عن ذهنه؛ فقد كانت كل تصرفاته في السنوات الأخيرة توحي إليها أنه في غالب الأمر ينتوي الطلاق، وأنه لا ينتظر إلا سببا مهما يكن هينا ليقدم عليه، وها هو ذا السبب قد وجد وطلق زوجته.
ورضخت سعاد للأمر الواقع في حزن حاولت أن تبدده في مزيد من العمل، أما أمجد وفضيلة فقد تملكهما الأسى لما أحساه من حزن أمهما، ولكن كليهما كان لا يشعر بالأبوة كعنصر أساسي في حياته، فما هو إلا يوم أو بضعة أيام قليلة حتى نسيا ما كان من أمر الطلاق كأن شيئا لم يقع.
صمدت سعاد بضعة أسابيع ولكن غريزة المرأة فيها جعلتها تحاول البحث عن سبب طلاقه لها.
ولم تفكر إلا في حماد شريف لتسأله عن السر الخافي عليها: أستاذ حماد؟ - هو أنا، من المتكلم؟ - أنا سعاد الجوهري.
وفوجئ حماد وأدرك السبب الذي تطلبه من أجله، وأحس ببعض الحرج ثم حزم أمره على أن يقول لها كل شيء؛ فهي إن لم تعرف منه ستعرف من غيره، واستجمع نفسه سريعا وقال لها في التليفون: أهلا وسهلا يا مرحبا، والله أنت لا تعرفين كم أنا حزين لما حدث، وأنت طبعا متأكدة أنني حاولت أن أمنع وقوعه ولكنك تعرفين أنه لا يسمع كلام أحد. - أنا شاكرة لك ولكن هل عندك مانع أن أراك؟ - الآن إذا أمرت. - أهلا وسهلا.
وجاء حماد وعرفت سعاد منه كل شيء بدءا من صلة شهاب بفتنة حتى زواجه منها، ولكن الأمر الذي لم يكن يعرفه حماد هو سبب هذا الزواج؛ الأمر الذي كان خبيئا في نفس شهاب ولا يعرفه أحد إلا هو، وهكذا وقع في ظن سعاد أن شهابا تزوج من فتنة لجمالها؛ فقد كان هذا هو ظاهر الأمر ولا يعرف باطن الأمور إلا الله.
ووقع الأمر وقوع الكارثة على سعاد، وأصبحت كارثة طلاقه لها أهون من كارثة زواجه براقصة؛ مقدرة أثر هذا على ابنيه؛ا فأن يطلقها أبوهما شيء يمكن أن يسيغه المنطق، أما أن يتزوج من راقصة فتلك هي الداهية الدهياء لها ولابنها ولابنتها جميعا، ما مصير أمجد إذا تقدم للزواج من إحدى الأسرات المحافظة؟ والأدهى ما مصير فضيلة إذا تقدم لها واحد من هذه الأسرات؟
كانت سعاد تعلم أن المصيبة قد وقعت ولا سبيل لردها، ولكن لا بد من محاربتها مهما كانت الحرب غير مجدية.
أخبرت سعاد أمجد وفضيلة بالنبأ ووقع عليهما وقوع الصاعقة؛ فإن يكونا قد تقبلا الطلاق في هوادة إلا أنهما لم يكونا ينتظران أن يتزوج أبوهما من راقصة. وفي سرعة خاطر وحسم قال أمجد لأمه: أنا مسافر إلى جدي الآن. - فكرة لا بأس بها ولكن ماذا يستطيع جدك أن يفعل؟ - لا بد أن يعرف على كل حال، إنك تجدينه حتى الآن لم يعرف شيئا عن الطلاق وطبعا لا يعرف شيئا عن هذا الزواج الهباب، وكلا الأمرين لا بد أن يعرفه. - توكل على الله.
لم يكن أمجد أو فضيلة يسافران إلى جدهما أو جدتهما ولكن الجدين كانا كثيرا ما يأتيان لزيارة ابنهما وأسرته، ولم يكن يخفى عليهما حقيقة الأمور والصلات بين ابنهما وزوجته وابنه وابنته، ولكنهما كانا يتظاهران بأنهما لم يلحظا شيئا يدعو إلى السؤال محاولين أن يقنعا زوجة ابنهما وابنيه بأنه ليس هناك شيء يدعو إلى التعجب أو الاستغراب، ولكن أسرة شهاب بجميع أفرادها كانت موقنة أن أمرها لم يغب عن أبي شهاب وأمه.
كانت سعاد قد اشترت سيارة لكل من أمجد وفضيلة منذ دخلا الجامعة.
وما أسرع ما استقل أمجد سيارته وتوجه إلى جديه في الهدارة.
الفصل الثاني عشر
وما إن أتم أمجد حديثه إلى جديه حتى قال له الشيخ متولي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هل سيارتك معك؟ - طبعا. - تبيت الليلة معنا ونسافر في الفجر. - إذا أحببت نذهب من الآن. - غدا أضمن عثوري عليه في الوزارة أما الآن فكيف أجده؟ - معقول، خاصة وأنا لا أعرف له عنوانا أو محل إقامة، ربما يكون مقيما في شقة زوجته؟
وقالت تفيدة في أسى: قطعت وذررت في الهواء، أهكذا يا شهاب؟! ألم تفكر في أبيك وأمك؟ وانخرطت في البكاء بكاء ذا نشيج ولوعة وأسف، وقال لها زوجها: إذا كان لم يفكر في نفسه وعائلته وابنه وابنته تنتظرين منه أن يفكر فينا، أتذكرين آخر مرة زارنا فيها؟ - يا أخي لا عليك من الزيارة ربما كان مشغولا. - الآن عرفنا فيم هو مشغول. - لا، إنه يحترمك ويعمل لك ألف حساب. - يا تفيدة الذي يعمل ما عمله لا يعمل لأحد أي حساب. - أخاف أن أدعو عليه ويستجيب ربنا للدعاء. •••
ذعر شهاب وهو يرى أباه داخلا إلى غرفته بالوزارة، وسارع إليه يقبل يده: أهلا يابا أهلا وسهلا. - لا أهلا ولا سهلا. - إذن بلغوك. - وماذا كنت تنتظر؟ - أن تعرف ولكن ليس بهذه السرعة. - المهم أنه كان لا بد أعرف، راقصة يا شهاب راقصة؟! - وحياتك يابا إنها في غاية الشرف. - دع حياتي وشأنها. - وتترك زوجتك وابنك وابنتك. - يكفيهما أمهما. - هل يستغني أحد عن أبيه؟ - هما استغنيا عني. - لما رأياك لا تسأل عنهما. - يابا لا أراك الله البيت الذي كنت أعيش فيه معهم، كان بالنسبة إلي كالسجن. - لماذا؟! هل كان أحد في بيتك يخرج عن طاعتك؟ - الحقيقة لا. - فما هذا الكلام الفارغ الذي تقوله؟ - بذمتك يابا وحياتي عندك وحياة أمي، هل ترى في سعاد شيئا من الجمال؟ - ألست أنت الذي اخترتها؟ وهل أخفت عنك وجهها حين خطبتها؟ - غلطة، هل كتب علي أن أظل حياتي كلها أدفع ثمنها؟ - يا بني سعاد زوجة ليس لها مثيل، والجمال ليس كل شيء. - يابا الجمال قد لا يكون مهما للآخرين، ولكنه بالنسبة للزوج شيء مهم، ومهم جدا. - يا بني إن أمجد وفضيلة على وش زواج. - ولنفرض، أليس لي الحق أنا أيضا أن أعيش؟ - يعني لا فائدة من الكلام؟ - الكلام الآن لا فائدة منه. - إذن فكل منا حر فيما يفعله. - اعذرني يابا، أنا عندي زعلك أنت وأمي بالدنيا كلها. - ولما عملت عملتك ماذا كنت تنتظر؟ أن أفرح وتزغرد أمك؟! لقد تركتها ودموعها سائلة كالمطر حتى وهي نائمة. - اعذرني يابا أنت وأمي، الظروف أقوى مني. - بل أنت الذي صنعت هذه الظروف، ولا تظن أنني سأسكت وغدا تشوف ماذا سأفعل، سلام عليكم. - يابا انتظر، أين ستذهب؟ - هذا ليس شأنك، ابق حيث أنت.
وخرج الشيخ متولي ووجد أمجد ينتظره فركب السيارة وهو يقول لحفيده: هيا بنا إلى بيتكم يا بني.
وكانت سعاد بالمنزل.
الفصل الثالث عشر
قال لها الشيخ متولي: أنا خجلان أن أريك وجهي كأنني أنا الذي عملت ما عمله ابني. - أعوذ بالله يا عمي، وأنت ما ذنبك؟ - ذنبي أنه ابني. - أنا متأكدة أن أسفك لما عمله أشد من أسفي أنا وابنه وابنته. - ولهذا قررت أمرا لا رجعة لي عنه، أولا أن تعتبري بيتي بيتك، وأنا لن انقطع عن زيارتكم بل سأكثر من هذه الزيارات، واعتبريني مسئولا عنكم مسئولية الأب عن أبنائه، وأنتم أبنائي فعلا؛ فالقدماء يقولون إنني ولدت أبناء ابني مرتين لا مرة واحدة، توكلي على الله ثم علي. - والله يا عمي أنا أضعك في مكان والدي تماما، وأعرف تماما مكانتي وأنا وأبنائي عندك. - انتظري لم تعرفي بعد ما قررته. - تحت أمرك يا عمي.
أنا أعرف أن ربنا فاتحها عليك وأنك لا تحتاجين إلى مال إلا أنني ملزم أن أساهم، وأنا أمام الله المسئول عن هذا ولو أدى الأمر أن أرفع القضايا باسمكم على وحيدي جزاه الله، وأنا لا أملك إلا اثني عشر فدانا كما تعلمين، توكلت على الله وسأبيعها لأمجد وفضيلة بالميراث الشرعي على أن يأخذ ريعها بعد وفاتي أنا وتفيدة. - يا عمي لا داعي لهذا فنحن مستورون والحمد لله. - أنا أعرف ذلك ولكن لا بد أن يعرف ابني كم أنا غاضب عليه ورافض لما فعله حتى إني منعته أن يرثني، ولا تحاولي مناقشتي في هذا الأمر، وللأسف لا أملك إلا هذا التصرف بالنسبة لك ولأحفادي. •••
وحين عاد الشيخ متولي إلى زوجته نقل إليها كل تصرفاته مع ابنه ومع سعاد والعجيب أن تفيدة أيدته في بيع الأرض لحفيده وحفيدته. وبدأ من غده في اتخاذ الإجراءات حتى تمت على الوجه الأكمل. •••
بدأ شهاب حياته الزوجية بشراء شقة فاخرة توخى أن يكون الاستقبال فيه متسعا غاية الاتساع، وفرشت فتنة الشقة فرشا فاخرا؛ فقد تعلمت الذوق من كثرة البيوت التي دخلتها. وفرضت فتنة على شهاب أن يكون أوائل المدعوين هم رجال الصحافة والإعلام على أن تكون تلك الاستقبالات فردية حتى يظن الصحفي المشرف على الصفحة الفنية في جريدته - والمدعو إلى بيت فتنة لا شهاب - أنه وحده المقرب عند الراقصة، ولا بأس أن يفوز بعض هؤلاء المدعوين بهدايا قيمة أيا كان نوع هذه الهدايا وحجمها. ونفذ شهاب ما أرادته فتنة، وما هي إلا أسابيع قلائل حتى تصدرت صورة فتنة الصحف وأحاديث الإذاعة والتليفزيون وتم لها ما دبرت له في نجاح منقطع النظير، وحينئذ قالت لشهاب: الآن تستطيع أن تدعو من تشاء من رجال الأعمال الذين تحاول أن تقيم بينك وبينهم صلات اقتصادية.
وهكذا أقام شهاب وفتنة حفل عشاء فاخرا كان المدعوون فيه رهطا ضخما من رجال الأعمال، وفي نفس الوقت من الصحفيين والصحفيات والعاملين والعاملات بميدان الإعلام، ولبى أغلب المدعوين الدعوة وكثير منهم اجتذبه أن فتنة الشهيرة هي ربة البيت، وتوثقت صلة شهاب بثلاثة من العاملين بسعة في الميدان الذي يشرف عليه في الوزارة.
كان أول الثلاثة وأهمهم هو نبيل فواز الملط ولو أنه أخفى لقب الملط هذا من اسمه تماما فأصبح لا يعرفه عنه إلا الذين يعرفون أصله الأول، وكان أكبر مستورد للأسمدة الزراعية والمواد المبيدة لحشرات النبات.
وكان نبيل فواز رجلا في الخمسينيات من عمره، شديد العناية بمظهره وملبسه، وطبعا لم يكن حاصلا على شهادة تجاوز الابتدائية، وقد مارس السوق في السنوات الأولى من حياته وكان ذلك عن طريق التاجر الذي يبيع لهم الأسمدة في قريته النكارية بالشرقية. ولاحظ التاجر في الفتى الصغير نبيل ذكاء وتفتحا فضمه إليه، وحين تأكد نبيل أنه أصبح على علم بأسرار السوق وخوافيه تشجع أن يطلب من عمه عبسي الملط يد ابنته نبوية التي لم يكن يجرؤ على طلب يدها من قبل؛ فعمه صاحب ثلاثة أفدنة وفواز الملط أبو نبيل لا يملك إلا عشرة قراريط، وقبل عبسي طلب نبيل على حرف؛ فلم يكن مطمئنا إلى أن نبيل قادر أن يفتح بيتا، وكانت نبوية صبوحة الوجه يظلمها من يقول عنها جميلة، وكانت وحيدة أبويها عبسي وخيرية؛ ولذلك لم يكن غريبا أن يدخلها أبوها إلى المدرسة الإلزامية وتتعلم القراءة والكتابة العاجزة.
وقد كان نبيل شغوفا بها وكانت هي تدري ذلك، ولكنها أخذت من حب ابن عمها لها موقفا محايدا لا هو بالمقبل ولا هو بالرافض؛ ولهذا لم تكن فرحة نبوية غامرة حين أبلغها أبوها عن خطبة نبيل لها وقبلت في غير حماس ولا عزوف، وبعد أن تم الزواج راجت تجارة نبيل واتسعت حتى شملت الشرقية جميعها، وبفضل حذقه ومهارته تخطت جهوده الشرقية إلى محافظات أخرى كثيرة، فما هي إلا سنوات حتى أصبح أكبر تاجر في المواد التي يتاجر فيها، وبلغت أمواله الملايين، ولكن كل هذا لم يجعله يرضى عن زوجته فهو حين يقارن بينها وبين النساء اللواتي يحتم عليه عمله أن يلتقي بهن يجد الفرق شاسعا في كل شيء سواء في الجمال أو الحديث أو التصرفات، فإن يكن نبيل قد أفاد من علاقاته ثقافة في الكلام أو المعاملة فإن نبوية ظلت على حالها الذي كانت عليه يوم تركت بيت أبيها عبسي.
ولهذا لم يكن عجيبا أن يبهر نبيلا جمال فتنة في الدعوة التي دعاه إليها شهاب وخاصة حين عقد المقارنة بينها وبين زوجته؛ لهذا ظل نبيل في ذيل فتنة طوال العشاء ولو أنه لم يكن وحده الذي نهج هذا النهج، وكان شهاب سعيدا غاية السعادة بإعجاب هؤلاء الأساطين بزوجته؛ فلهذا تزوجها ولهذا نفسه أقام هذا الحفل الفاخر.
أما ثاني الثلاثة فهو صفوت بك رمزي ، وهو تاجر قديم من عائلة متوسطة الحال وزوجته من نفس المستوى، وهو حاصل على شهادة التجارة وعمل في اثنين من البنوك الكبرى في القاهرة، وتمرس بالأسهم والسندات وعمل بالتجارة التي يعمل بها نبيل وحقق أرباحا واسعة، وإن كان نبيل قارب الستين من عمره فإن صفوت لم يكن تجاوز الخمسين، وهو أيضا أعجب بفتنة غاية الإعجاب ولم يخف إعجابه بل أعلنه وصارح به زوجها الذي سعد بهذه المصارحة غاية السعادة، وإن لم يكن صفوت في مثل ثراء نبيل ولا هو يضاهيه في سطوته على السوق.
أما ثالث الثلاثة فهو أسامة البدري، وهو في الأربعين من عمره وشبابه أو قربه من الشباب يجعله أكثر نضارة من التاجرين الكبيرين وإن كان يجعله أيضا أقل ثراء، وهو أيضا لم يحاول أن يطوي في صدره إعجابه بفتنة مع أنه متزوج من ابنة عمه راوية منذ سبع سنوات فقط، وقد تحرى ألا يقدم على الزواج إلا بعد أن يضع قدمه في تمكن على طريق الثراء، وهو خريج حقوق ولكنه لم يشتغل بالمحاماة وإنما عمل مع فريد السعيد صديق والده، وهو رجل أعمال ضخم الثراء، وقد عمل معه أسامة في الشئون القانونية، ومن طوايا الملفات شرب التجارة فما هي إلا سنوات ثلاث حتى كان له ميدانه الخاص، وقد اختار تجارة الأسمدة والمبيدات الحشرية في الزراعة.
وكان شهاب قد تعرف على هؤلاء الثلاثة وغيرهم من خلال مكتبه في الوزارة، ولكنه انتقى هؤلاء الثلاثة ليوطد صلاته؛ فقد تعرف على ميولهم وما قد يثير اهتمامهم وما لا يثيره، واستطاع أن يعرف أن فتنة تستطيع بجمالها أن تكون ذات تأثير فادح على مشاعرهم، وهكذا دعاهم إلى العشاء، وما لبث بعد ما رآه من اهتمامهم الشديد بفتنة أن يدرك أنه كان صادق الحدس مع ثلاثتهم، أما فتنة فقد أدركت ما يهدف إليه زوجها فبذلت حفاوتها بهم ومدت بينها وبينهم الوشائج وإن كانت وهي تمدها تهدف إلى شيء آخر؛ فقد انتوت أن تقاسم زوجها في الأرباح التي سيجنيها من جمالها، وإن كانت قد حزمت أمرها على أن يكون ذلك بعد أن يحقق زوجها الثمار الواسعة من جمالها.
أما شهاب فلم يضع وقتا بل حادث ثلاثتهم في الأمور التي تمكنهم من ربح طائل هو شريك فيه لا شك بحكم منصبه وجمال زوجته الفاتن.
الفصل الرابع عشر
في عام وبعض عام أصبحت ثروة شهاب أصفارا تجاوز الستة، ولم يكن هذا خافيا على فتنة فهي أيضا أصبحت ذات مال غامر باشتراكها فيما يربحه زوجها من عمليات يشوبها كثير من الخروج على القانون، وانتهاب الربح من كل مظانه شريفة كانت أو غير شريفة، وكان زوجها يعطيها نصيبها وهو غاضب أشد الغضب ولم تكن تنال هذا النصيب إلا إذا هددت زوجها بامتناعها عن الذهاب إلى أصحاب الملايين، وكانت واثقة أن تهديدها سيجعله يلبي ما تريد دون أي نقاش ودون أي إنقاص مما تطلب، وفوجئ شهاب بزوجته تقول له: أريد أن أنتج فيلما سينمائيا أكون البطلة فيه، وصمت شهاب لحظات ثم وجد شيئا يقوله بعد فترة من السكوت: وهل أنت ممثلة؟ - أهذه هي الحجة التي وجدتها بعد هذا السكوت الطويل؟ - أليس في طلبك ما يدعو إلى الدهشة؟ - بل سؤالك أنت الذي يدعو إلى الدهشة. - ومع ذلك لم تجيبي عليه. - لأنه سؤال يدل على التمحك وليس له غرض آخر. - إذن فأنت ممثلة ولا أعلم! - أنت في دنيا غير الدنيا؛ أغلب الراقصات ينتجن أفلاما. - وهل تنجح هذه الأفلام أم هي مجرد خراب لا داعي له؟ - إذا لم تكن تنجح ما تكرر إنتاجهن لها. - وإذا كان التكرار مجرد مكابرة ورمي فلوس لم يتعبن فيها. - لا شك أن أفلامهن تنجح ولكنك تكابر، وأنت تعرف أنني راقصة لا أقل عنهن شهرة إن لم أكن أزيد. - المهم ماذا تريدين مني؟ - أن تنتج لي هذا الفيلم. - هذا لن يكون أبدا، هل يعقل أن أرمي في الهواء هذا المال الضخم الذي يتكلفه الفيلم بعد أن شقيت كل هذا الشقاء في جمع هذا المال؟ - لا تنس أنه لولاي ما جمعت هذا المال. - ولنفرض، مع أن هذا ليس صحيحا . - ليس صحيحا؟! إذن لن أذهب في المهمات التي ترسلني لها وسوف نرى ساعتها ماذا تستطيع أن تكسب. - نفس التهديد الذي تهددينني به ولكني في هذه المرة لن أستجيب. - أنت حر.
لم أعد في حاجة إليها، والذين أعمل معهم أصبحوا يحتاجون إلي أكثر مما أنا في حاجة إليهم، من بكرة سأقدم استقالتي من الوزارة وأنزل السوق ولا أصبح في حاجة إلى أسماء أختفي وراءها ولن أكون في حاجة أيضا إلى مساعي فتنة أو غيرها. •••
أنا لم أتزوجه عن حب وإنما كان كل ما أريد أن يكون معي رجل أحتمي فيه، ولكنه بخيل شديد البخل، وأنا كنت متأكدة أنه سيستغني عني في اللحظة التي ينتهي فيها انتفاعه بي؛ فالرجل الذي يرمي أولاده وأمهم كما فعل هو لا يمكن أن يكون مأمونا ولا يمكن أن أطمئن على مستقبلي معه، أنا أعرف ماذا أستطيع أن أفعل؛ فالرجال الثلاثة الذين أذهب إليهم يتمنون مني إشارة، وأنا فعلا اخترت واحدا وسأتزوجه وليخبط شهاب رأسه في الحائط؛ ففي فترة زواجي به لم أعرف الاستقرار ولا الهدوء لحظة واحدة؛ فأنا دائما أخشى أن يطلقني في أية لحظة؛ فهو لم يتزوجني إلا لأنني امتنعت عليه كما أنني الآن ممتنعة عن نبيل وصفوت وأسامة، والثلاثة حاولوا إغرائي بكل وسائل الإغراء ولكنني كشأني دائما لا أهب نفسي لغير زوجي؛ فالمرأة التي تهب نفسها لغير زوجها عليها أن تتوقع الاحتقار من هذا الذي وهبت له نفسها ومن جميع الذين علموا بهذه العلاقة، وشهاب لا يعلم عني هذا الرأي إلا من امتناعي عليه قبل زواجنا ولكن هو يهمه مصلحته وحدها مهما كان الثمن. ورجل كهذا ليس من الحكمة البقاء معه. أنا أعرف طريقي بوضوح وأعرف ماذا سأفعل تماما. •••
حاول نبيل وصفوت وأسامة أن يستميلوا فتنة بشتى الطرق ومختلف الوسائل، وكان المال أهم هذه الطرق والوسائل، ولكن أحد منهم لم يظفر منها بأكثر من قبلة على يدها وليس شفتيها أو خدها. وكانت هي تقبل المال الذي يقدمونه إليها على أي صورة له ولكن لا تعطي مقابله شيئا يذكر، وكان أسامة أول اليائسين منها إلا أن جمالها ولباقتها في الحديث لم يجعلاه يقطع أواصر الود بينهما، أما الاثنان الآخران فلم يصل الأمر بهما إلى حد اليأس؛ فكل منهما ما زال يأمل أن يصل إليها وأدركت فتنة بغريزة المرأة فيها اليأس الذي ران على أسامة كما أدركت بنفس الغريزة ما يراود كلا من نبيل وصفوت من آمال وبقي لها أن تختار واحدا منهما.
الفصل الخامس عشر
حين لقى الشيخ متولي ربه سارع شهاب إلى البلدة وعانق أمه باكيا معها إلا أنه أحس أن الأحضان التي تحيط به ليست أحضان أمه التي ربي في ظلها والتي كان يعهدها قبل أن تغضب أمه وأبوه عليه، ولكنه لم يقل لأمه شيئا وتفرغ لإقامة المأتم الذي كان جديرا بثرائه وبوكيل وزارة سابق.
وبعد المأتم خلا إلى أمه: أنا تحت أمرك ولن أجعلك تحتاجين لشيء أبدا. - كتر خيرك، ما عندي يكفيني. - لا تغضبي علي كل هذا الغضب. - أبوك كان حريصا ألا أقبل منك شيئا. - ماذا تعنين؟ - إذن فأنت لا تعرف! - أعرف ماذا؟ - ألا تعرف أن أباك باع الأرض لابنك أمجد ولابنتك فضيلة وكتب في العقد شرطا ألا يحصلا على ريع الأرض إلا بعد موتنا أنا وهو، وأن يحصل على الريع خالصا له من يبقى حيا منا بعد الآخر. - إذن فأنا لم أرث من أبي شيئا؟ - لم ترث سهما واحدا من أبيك. - ومتى تم هذا؟ - ألا تعرف؟! منذ تزوجت الراقصة. - أنا لا تهمني الأرض فإن ثروتي الآن أضخم بكثير مما تتصورين، ولكن الذي يؤلمني ويحز في نفسي أن يكون أبي غاضبا علي إلى هذا الحد. - أتظن أن الذي فعلته شيء بسيط، إنه كبير جدا يا شهاب. - على كل حال يا أمي هذا الذي حصل لم يغير من الأمر شيئا، أنا سأظل ابنك حتى وإن رفضت أن تكوني أمي، ولن أتأخر عنك أبدا ولن أجعلك تحتاجين لشيء ولا لإنسان. - ربنا يغنيني، وإن شاء الله لن أحتاج شيئا ولا إنسانا حتى ولو كان أنت . - أنا مصمم أن أظل ابنك وتحت أقدامك مهما كنت غاضبة علي. - ربنا ينير لك طريقك، وغضبي ليس عليك وإنما أنا غاضبة لك ولما فعلته بنفسك.
ولم يجد شهاب شيئا يفعله إلا أن يقبل يدي أمه وينصرف عائدا إلى القاهرة.
الفصل السادس عشر
قال نبيل لفتنة: أليس لها آخر؟ - اسمع يا نبيل أنت أكرمتني غاية الإكرام بالهدايا الثمينة وبالمال الصريح، ومن حقك علي أن تعرف أنني لا أهب نفسي إلا لزوجي. - أنا فاهم هذا من زمن بعيد، ولكن كيف؟ - طبعا كيف وأنا متزوجة؟ فما قولك إذا طلقت؟ - أتزوجك في اليوم الذي تنتهي فيه شهور العدة. - إذن اتفقنا. - وكيف تحصلين على الطلاق؟ - هذا شغلي أنا. - وأنا منتظر. - لن تنتظر طويلا. •••
كانت فتنة قد أعدت أمرها للحصول على الطلاق من زوجها؛ فراحت تجمع أموالها جميعا من البنوك وأخفتها جميعا في خزانة حصينة في شقتها التي كانت تعيش فيها قبل أن تتزوج من شهاب.
وجمعت كل الأوراق التي تدين شهابا في العمليات التي قام بها وتوجهت إلى المدعي الاشتراكي.
ووجد شهاب نفسه أمام زوجته، هي شاهدة عليه وهو متهم.
وصدر قرار المدعي الاشتراكي بوضع أمواله جميعا تحت الحراسة كما وضع القرار أموال زوجته، وتغاضى عن ولديه حين أكدت فتنة أن شهابا لا صلة له بابنه أو ابنته وأنه طلق أمهما منذ سنوات، وأنهما لا يملكان شيئا خاصا بهما في البنوك. •••
وخرج شهاب من لقائه بالمدعي الاشتراكي إلى المأذون فورا، وطلق فتنة وأرسل إليها ورقة الطلاق عن طريق القسم. •••
وحين تسلمت فتنة الورقة ذهبت إلى نبيل فواز، وفوجئت منه بوجه متجهم ولقاء نافر مما أدهشها دهشة زلزلتها: مالك؟ - هل حصلت على الطلاق؟ - وهذه هي الورقة. - طبعا، وماذا كنت تنتظرين غير هذا؟ - ألم أقل لك إنك لن تنتظر طويلا؟ - كنت أتوقع أي شيء إلا ما فعلته. - ولماذا توقعت غير هذا؟ لقد كان شهاب معي بخيلا كل البخل كما أنه لم يكن أمينا على عرضي، كان المال هو كل ما يفكر فيه. - لا عذر مطلقا لما أقدمت عليه. - أتلومني على أنني تخلصت منه لأتزوج منك؟ - لا شيء في العالم يبيح لك أن تفعلي ما فعلته. - لقد فعلت هذا لنتزوج. - انسي هذا الموضوع نهائيا. - إلى هذه الدرجة؟ - الست التي تفعل ما فعلته مع زوجك لا يأمن أي رجل آخر أن تكون زوجته الحفيظة على أسراره، وأنا رجل تاجر وفي عملي كثير من الأسرار إن حجبتها عن الناس لا أستطيع أن أحجبها عن زوجتي. - إذن؟! - إذن لست على استعداد أن أوضع تحت الحراسة. - إن في يدي أوراقا تدينك. - وهذا أدهى وأمر. - ألا تخاف أن أفعل معك نفس الشيء الذي تصرفت به مع شهاب؟ - شهاب زوجك ومن الطبيعي أن تعرفي أسراره، وقد يقبل المدعي الاشتراكي فضحك له على أساس أنك زوجة تريد أن تتخلص من زوجها، أما إذا قدمت الأوراق التي تدينني فسيكون السؤال الذي يوجه إليك من أين حصلت على هذه الأوراق إلا إذا كانت هناك علاقة بيني وبينك وهو الأمر الذي تحرصين على ألا يلحق بك، وحينئذ يسقط عنك حجاب العفة الكاذب الذي تتمسكين به كل التمسك. - سوف نرى. - إذا كنت تهددينني لأتزوجك فماذا أنت فاعلة إذا تزوجت منك يا فتنة هذا فراق بيني وبينك. - ألا أطمع في مجرد الصداقة؟ - ولا هذه أيضا فأنت نوع لا يأمنه إنسان على نفسه، لا صداقة ولا صلة بيننا من هذه اللحظة، مع السلامة. - وتطردني أيضا. - كان يجب أن أطردك منذ جئت إلي، مع السلامة، بل إنني لا أرجو لك السلامة.
وخرجت فتنة وكيانها مزيج من الغضب والرغبة في الانتقام والعجز عنه. ودون أن تذهب إلى صفوت رمزي أو أسامة البدري أدركت أن موقفهما سيكون هو نفس موقف نبيل فواز؛ فانطوت على نفسها وانحسرت عنها الآمال في إنتاج فيلم أو حتى تمثيلية تليفزيونية مدتها نصف ساعة.
الفصل السابع عشر
قال شهاب لأمه: لم يعد لي ملجأ إلا أنت. - أهلا وسهلا. - وقبل أن تسألي طلقت الراقصة. - البيت بيتك طبعا، ولكن لماذا لا تعود إلى زوجتك وابنك وبنتك؟ - بأي وجه ألقاهم؟ - لعلهم يغفرون لك . - المهم أنني أنا لا أغفر لنفسي ما صنعته بهم. - للزمن سحر عجيب في النسيان. - إلا الذي فعلته مع زوجتي وأبنائي، أتمانعين في بقائي معك؟ - أنا أمك وأنت قطعة مني، واترك الأيام تفعل فعلها. - توكلت على الله. (انتهت بحمد الله.)
مجلس الشورى في 9 من شعبان عام 1419ه
الموافق 28 من نوفمبر عام 1998م
صفحة غير معروفة