حتى القمار
لم تجد إسعاد إلا موائد القمار لتعوض بها الانحدار الذي أصاب الإقبال عليها، وبدأت تواجه تلك الفترة العصيبة التي تواجهها كل من تعمل في الفن حين يصبح الفنانون في سن لا يصلحون فيها لأدوار الشباب، ولا يصلحون أيضا لأدوار الكبار، ومرحلة أدوار الكبار هذه ليست مؤكدة؛ فليس كل الممثلين يصلحون لها لأنها تحتاج إلى ممثل فنان أو ممثلة فنانة؛ فقد كان شبابهم يغتفر لهم ولهن سوء التمثيل، أما إذا علت بهم أو بهن السن أصبح الفن وحده هو الذي يعتمدون عليه.
ولم تدرك إسعاد أن الإقبال الذي كانت تلاقيه على موائد القمار يرتبط ارتباطا وثيقا بالإقبال الذي كانت تلاقيه على شاشة السينما. وبدأت تخسر على نفس الموائد التي كانت تكسب عليها دائما. وحين دخل معتز إلى المدرسة كانت إسعاد في حالة انتعاش مالي فراحت تنفق عليه في غدق.
ولم يكن في أول حياته يرى فيما ينفق عليه إلا أمرا طبيعيا يتفق مع شهرة أمه ومع الغنى الذي تلاقيه.
ولكنه مع الأيام وجد هذا الغدق يتناقص في حين بدأ هو يختار ملابسه ومأكله ويستحسن الأشياء ويستقبحها، وتولاه نوع من العجب ولم يلتفت، وأنى له أن يلتفت، إلى أن أمه لم تعد تعمل إلا نادرا. ولم يلتفت وأنى له أن يلتفت أن التليفزيون هذا الأعجوبة الجديدة لم يطلبها في سنوات إلا مرات قليلة تكاد تحصيها أصابع اليدين أو اليد الواحدة. ولكن لم يغب عنه أن أم حسين هي الطباخة ولم يكن في البيت غير خادم معها صغير ذي مرتب بخس. •••
اكتمل بناء الجامعة وافتتحها المسئولون وتصدر نديم ويحيى الداعين إلى حفل الافتتاح مندوبين عن الشركة ولم يظهر فرغلي مطلقا. وبدأت الدراسة وتوافد الطلبة على قاعات الدرس وعلى مساكن الطلبة وعلت الطبول تحيي عصر العلم وعصر الثقافة وعصر الاشتراكية التي تتيح المستقبل المشرق لأبناء مصر، وأراد مدير الجامعة أن يقدم شكره للشركة التي أنجزت هذا الإنجاز العظيم فاختار ممدوح طبيب الشركة - ولم يقل ابن عمة رئيسها - أستاذا غير متفرغ بكلية الطب، وطبيبا للجامعة بجانب عمله بالشركة طبعا.
وكانت عمته قد ماتت كما مات زوجها ولكن بعد أن شهدا مطالع سعوده وشهداه وهو يأخذ بيدي ابنيهما فحنيا له الجباه التي كانت تشمخ بالابن الطبيب والآخر المهندس.
الوحيد الذي لم يمت هو فهيم. ماتت زوجته وكبر أبناؤه وتفرقت بهم الحياة في كل متجه وهو باق يرقب الحياة في مصر من مرقبه الخبيء هناك في القرية، ويعرف أنباء فرغلي كلها ويعرف كل ما يقف وراءها ولكنه يصمت، لا يدعو لابنه بالفلاح؛ فقد كان يرى في فلاحه حتفه، ولا يدعو عليه؛ فالأب يدرك أن دعاءه على ابنه يعرف وهو في طريقه إلى السماء أنه انطلق عن لسان ولم يصدر عن قلب ويعرف الدعاء أن حقيقة طريقه ليست أن يستجاب.
واستطاع فرغلي بقوته الخارقة أن ينسى أباه كما استطاع بقوته الأعظم أن ينسى ابنه، ومضى طريقه يستذل كل من حوله حتى لم يعد إذلالهم يكفيه، متخفيا أو معلنا إعلانا غير صريح وإنما أصبح يحس أن من الطبيعي أن يذلهم بكل وسائل الإذلال وكل وسائل الإعلان.
لم يكن يهمه أن يسب نديم ويحيى وممدوح أمام الجميع بل كان يجد أن من الطبيعي أن يحقرهم أعظم تحقير أمام أبنائهم كلما وجدهم أمام أبنائهم.
صفحة غير معروفة