وبقدر الذكاء الذي تنكشف عنه هذه التجربة نلمح الغباء في ثناياها. خرج التلاميذ من الجامع وجابهتهم الجريمة فاغرة الأفواه بشعة تدعو إلى الحيرة والغيظ في وقت معا. وكان ناظر المدرسة بين المصلين. ترك حذاءه الذبيح وذهب إلى غرفته وأعلن الأحكام العرفية. كلف المدرسين أن يفتشوا جميع التلاميذ بحثا عن موس أو مطواة.
وشاع الخبر، وبدأت فرق التفتيش عملها. - وفجأة أدرك فرغلي أنه وقع على فرصة لا تعوضها الأيام كثيرا تسلل من الفصل في هرج تناقل الأخبار والتعليق عليها وقصد إلى غرفة الناظر. - أنا أعرف ذابح الأحذية. - من؟ - شلبي المبوع. - كيف عرفت؟ - أراني مطواته في الصباح وقال إنه سيصنع بها انقلابا في المدرسة. - ولماذا لم تأت قبل الآن. - كنت متعبا ولم أترك الفصل في فسحة الظهر، وحين عرفت الخبر سارعت أقول لحضرتك.
وجاء شلبي المبوع واعترف ولكنه وقد وجد الاتهام موجها إليه من فرغلي أفشى الأسرار كلها والكلمات التي تبادلاها وهما يقومان بمهمتهما، واتضحت الحقيقة أمام الجميع حتى أصبحت لا تحتاج إلى شك.
وفصل شلبي وفرغلي من المدرسة.
كان فرغلي في السنة النهائية من المدرسة الإلزامية وكان الدخول إلى المدرسة الابتدائية لا يحتاج إلى شهادة تدل على بقاء التلميذ بالمدارس الإلزامية فترة معينة لأن دخول المدرسة الابتدائية كان لا يتم إلا بامتحان، فلم يكن لهذا الفصل الذي وقع على فرغلي أي أثر عدا أنه ذهب مرة أخرى إلى منعزله ببيت أمه، ولكنه طمأن نفسه أنه كان على أية حال عائدا إلى هذا المنعزل فقد كانت السنة الدراسية موشكة على الانتهاء، وكان قد أعد لإجازة الصيف عدة. - أمه ... لماذا لا أخرج إلى القرية. - وما الداعي؟ - أنا الوحيد من أبناء القرية الذي لا ألعب مع الأطفال. - البيت بعيد عن القرية. - وهل هذا ذنبي؟ - لقد بنى أبوك بيته بجانب عمله. - وما ذنبي أنا؟ - لو لم تعمل عملتك المهببة لكنت الآن في المدرسة. - المدرسة لم يبق على إجازتها إلا بضعة أيام. - أحسن من قعدتك في البيت. - ولو كنت مثل كل الأمهات ما كنت أنا في البيت.
وأحست تحية كأن طعنة خنجر حاد الشفرتين قد أصابتها من لسان ابنها، واختلطت في نفسها حميا الألم مع رعب القلق ... أيكون قد عرف أنها ليست مثل الأمهات؟! - وله ... أنت شايفني اختلفت عن كل الأمهات. - طبعا. - فيم أختلف عنهن. - أولادهن جميعا في الطرقات يلاعب بعضهم بعضا إلا أنت ... فهل مثلهن أنت؟
وانهدمت جالسة.
تبدد ألمها، وزال قلقها إلى اطمئنان، واستطاعت بلسان جاف أن تقول: من خوفي عليك. - وهن ألا يخفن على أبنائهن؟ - كل شيخ وله طريقة. - إلا شيخك فطريقته عجيبة!
وكأن ريقها أصبح دمعا وهي تقول: ولكنك لا تعرف شيئا يا فرغلي. - بالتأكيد هناك شيء لا أعرفه. - بل أنت لا تعرف شيئا على الإطلاق. - أنا على وش الدخول إلى المدرسة الابتدائية، وأعرف القراءة والكتابة والحساب. - ومع ذلك لا تعرف شيئا. - عرفيني. - ستعرف. - قولي. - ستعرف ... من المؤكد أنك ستعرف. - وما دمت سأعرف فلماذا لا تقولين أنت. - سيأتي الوقت. - وإلى أن يأتي الوقت الذي أعرف فيه سأبقى محبوسا هكذا في البيت. - ليس الأمر بيدي. - فالأمر إذن بيدي أنا.
ودقت صدرها في عجب. - كسر يدك! أتريد أن تخالف أمري يا وله؟ - من غير مخالفة. - ماذا تريد أن تفعل؟ - رأيت من في سني يعملون في المركز. - ماذا يعملون؟ - أعمالا كثيرة. - مثل ماذا؟ - صبي في قهوة، مساعد بقال، أي شيء. - (ونظرت إليه مليا) ألست صغيرا على هذه الأعمال. - رأيت زملاء لي كثيرين يقومون بهذه الأعمال. - إذن فأنت تستطيع أن تعمل. - ما دمت لا أستطيع أن ألعب مثل العيال فلماذا لا أعمل مثل الكبار. - الحكاية هذه لا بأس بها ولكن. - لا تكملي ... أعمل وأساعد أبي على المعيشة.
صفحة غير معروفة