ودخل لطفي عامر، شاب طيب السمات، ذكي النظرة، تغشى وجهه كآبة وهلع، وقال وهو يجلس: الحقني يا سعادة البك. - خير يا لطفي. - أنا أعمل خادما عند رفعت بك منذ عشر سنوات، وأنت تعرف أننا في العمل عنده لسنا أحرارا؛ فأبي مزارع عنده، وقد رآني وكان عمري ستة عشر سنة وماشي في السابعة عشرة، وقال لأبي: أريد لطفي أن يعمل عندي. وكانت الكلمة العابرة كافية للتنفيذ.
جمعت ملابسي وذهبت معه إلى المركز. له عمارة بشارع الشنواني، بها دور تحت الأرض كله حجرات والدور له منافعه. أعطاني حجرة من هذه الحجرات، وكتب معي عقدا جعل أبي يوقع عليه لأني لم أكن قد بلغت السن القانونية بعد. ووقع أبي، ورأيت المر يا منصور بك، سهر إلى وش الصبح، وتعب. المرتب عشرة جنيهات آخذها شهرا ولا آخذها شهرا آخر، وكلما فاتحته يقول: ألا يكفيك أنك تسكن في حجرة ولا تدفع أجرا؟ أتعرف كم إيجار هذه الحجرة؟ المهم تزوجت يا منصور بك بعد خمس سنوات، وأتيت بزوجتي إلى الغرفة، وأنجبنا ابنا وابنة. الولد لا بد أن يذهب إلى المدرسة. فإذا به يقول: مدرسة؟ ألم يبق إلا ابنك ليذهب إلى المدرسة؟ أوجعتني الكلمة يا منصور بك. أكثير أن أعلم ابني مثل خلق الله؟ وكان الولد واقفا بجانبي، وتمنيت لو أن الأرض ابتلعتني؛ فكل أب يا منصور بك يجب أن يكون محترما أمام ابنه. ولم يكتف رفعت بهذا، بل أكمل: اذهب علمه صنعة أو انتظر عليه حتى يكبر وهاته هنا يخدم وأنا أقبله وأمري لله. - ما الذي جعلك تخبره عن مدرسة ابنك؟ - أردت سلفة عشرين جنيها أحضر للولد ملابس يذهب بها إلى المدرسة. - هيه، وبعد. - سكت. أنا كنت حزينا كل الحزن. لقد تحملت منه الضرب والإهانة والسهر وعدم النوم في الليل أو في النهار، وكأني آلة ولست آدميا مثل كل الناس، وبعد هذا كله يهينني هذه الإهانة أمام ابني. - ماذا فعلت؟ - رحت ولم أستطع حتى تناول الغداء، وإنما أرسلت زوجتي إلى زوجته تخبرها أننا لن نعمل عندها بعد ذلك. - وماذا قالت لها؟ - قالت: الآن طبعا؛ ما داموا قبضوا على رجاله! طيب أخلوا الحجرة. قالت لها وهيبة امرأتي: أي حجرة؟ قالت لها: الحجرة التي تنامون فيها. قالت وهيبة: ولكننا ندفع إيجارها، أكنا نقبل عشرة جنيهات مرتبا لو لم يكن الإيجار محسوبا؟ قالت الست: هل معكم إيصال؟ قالت وهيبة: طبعا لا . قالت الست: ولكن نحن لدينا عقد إيجار. اشربوا من البحر إذن أو عضوا في الأرض. - وماذا قالت وهيبة؟ - وماذا يمكن أن نقول؟ قالت: كتر خيرك يا ست هانم، هذه آخرة خدمتنا السنوات الطوال؟ ولم تسكت الست وإنما لعنت أباها وهي تقول: أكنتم تعملون مجانا؟ امشي اخرجي من بيتي.
قال منصور: والآن ماذا حدث؟ - حدث أنني أصبحت أمدح فيك في كل مكان، وصحت معك: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وعرف هو هذا، وفوجئت يا سعادة البك بهذا الإعلان قادما. - ما هذا؟ إعلان طرد؟ مبلغ كم؟ ألف ومائتي جنيه قيمة إيجار متأخر، هيه. - ما رأيك يا سعادة البك؟ - رأيي أنه يملك أن يطردك. - ومعي أربعة آخرون تركوا خدمته ويسكنون معي في البدروم، وجاءت لهم إعلانات مثل هذه. - أكلها بمبالغ كبيرة مثل هذه؟ - المبالغ تتراوح. - توكل على الله. - هل له حق في هذه المطالبة؟ - من جهة له حق، فلا شك في ذلك. - إذن. - هات زملاءك وتعالوا إلى مكتبي اليوم بعد الظهر. - جميعا؟ - جميعا، ومعكم الإعلانات.
وجاءوا. وكان في انتظارهم منصور وأمين عبد الصادق. وجمع منصور الإعلانات فوجد المبالغ المطلوبة ثلاثة آلاف وأربعمائة جنيه، فدق الجرس وجاء راضي.
فقال له في هدوء: خذ هذه الإعلانات، وهذا المبلغ ثلاثة آلاف وأربعمائة جنيه، تدفعه غدا في المحكمة، إيداع لحساب رفعت بموجب هذه الإعلانات. - أمرك. - مع السلامة.
ثم نظر إلى زملاء لطفي وقال لهم: هذه المبالغ مني ومن الأستاذ أمين هدية لكم، وعليكم بعد ذلك أن تدفعوا الإيجار. - ماذا نقول لك وللأستاذ أمين؟ - تعرفون جميعا ماذا تقولون. - لقد رأينا العذاب ألوانا، ماذا نقول لك؟ - ما نقوله جميعا. - لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
10
أكرم الأشموني، شاب في مقتبل العمر، يملك عشرة أفدنة في الناحية، غير بيت كامل في المركز، مات عنه أبوه وهو في السنة الثالثة من كلية التجارة، فأكمل تعليمه وتخرج. وكان وهو في الكلية معجبا بزميلة له، نهى سعدون، وكان طوال سنوات الدراسة يحاول أن يتقرب منها هذا التقرب المعهود بين أبناء الجامعة؛ كراسة المحاضرات، المذاكرة، الإعادة على المحاضرة، إلى غير هذا. وكانت تتقبل منه هذه المحاولات في نفس راضية؛ فقد كان مرتب العقل، لا يرتكب الصغائر التي يرتكبها الشباب في هذه السن من التظاهر بما ليس فيهم أو ادعاء ما ليس لهم. وكان منتصب القامة في غير تكبر، يحترم نفسه في غير تعاظم. وكانت تشهد منه إذا لم تعطه كل اهتمامها كبرياء الأصيل، حتى لتضطر أن تعتذر إليه مدركة ما وقعت فيه من خطأ.
وكان أكرم ونهى ينجحان كل عام نجاحا معقولا؛ لا هو في الحضيض ولا هو في القمة، حتى إذا بلغا البكالوريوس ومر من العام ثلاثة أشهر قال لها: الآن وجب الكلام. - أفهمك. - والدك موظف بوزارة المواصلات بدرجة مدير عام. - أنت تعرف أسرتي كلها، وزرتنا كثيرا. - الذي أقوله مقدمة من المقدمات في أغلب أمرها يكون فيها أشياء معروفة. - إذن أكمل. - إذا خطبتك منه فسيقع في حيرة ما بعدها حيرة، وأنا والحمد لله لست غنيا، ولكنني مستور. - وماذا تريد؟ - أريد أن أكلم عمي سعدون بك دون أن أبث في نفسه أي نوع من الحيرة. - وكيف يكون ذلك؟
قال باسما: هذا أمر لا دخل لك أنت فيه. - إنه أنا التي سأتزوج. - إن دورك قاصر على أن عمي سعدون سيسألك رأيك، وتقولين موافقة.
صفحة غير معروفة