كان من الطبيعي أن تحس سامية بالفراغ بعد موت أبيها، ولكن حرب رفعت لها ردت عنها هذا الشعور؛ فقد كانت حربا شرسة لا تهدأ، فلا يمر أسبوع إلا ويطالعها بكيد جديد وهي في دوامة تحس بانفرادها فيها، وكان يملؤها حسرة انفضاض أهلها من حولها، حتى لقد كانت السيدات يخشين زيارتها حتى لا يتعرضن أو يتعرض أزواجهن أو أبناؤهن لشبهة غضب من رفعت الربيعي.
لم يقف معها في هذه المحنة إلا مراد الأشرم، وقد كان رجلا ذا ضمير، وكان يشعر أن سامية في مكان ابنته؛ فقد كان يعمل مع أبيها قبل أن تولد، بل وقبل أن يتزوج أبوها أيضا.
كان منصور قد اتفق مع مراد أن يأتي إليهم بعد أن يدرس القضايا، ويناقش ظروف كل قضية معه ومع الآنسة سامية؛ فقد كان يرى أنها يجب أن تعرف أمور القضايا جميعها؛ فهي متعلمة ومن حقها وواجبها معا أن تكون على علم بما يجري في المحاكم باسمها.
ضرب جرس التليفون في منزل سامية، وقد كان منزلا جميلا يتوسط حديقة صغيرة تعتني بها سامية كل العناية. - ألو، من؟ - أنا منصور النقيب يا أفندم. - أنا سامية يا أستاذ منصور، أهلا وسهلا. - هل أستطيع أن أجيء اليوم في الساعة الثامنة بعد المكتب لنناقش القضايا؟ - طبعا، أهلا وسهلا. - الحاج مراد موجود؟ - طبعا. - وهو كذلك. مع السلامة يا هانم. •••
فتاة جذابة الروح، تحسن الاستماع كل الإحسان، أسئلتها تدل على ذكاء وقاد وفهم عميق لما يدور حولها. ملبسها غاية في الأناقة والبعد عن البهرجة في وقت معا. لا تحاول أن تتظاهر بما ليس فيها، واثقة أن فطرتها نقية ليس بها ما يدعوها إلى إخفائه. بلورية الضمير لا تحمل حتى لرفعت سخيمة أو كرها. نورانية الطلعة، لا يجرؤ من يراها إلا أن يعاملها بأقصى ما يطيق وما لا يطيق من الاحترام. تختار ألفاظها في طبيعة مواتية واثقة أنها لن تقول إلا ما ينبغي له أن يقال. •••
في الساعة الحادية عشرة من نفس الليلة كان منصور يطرق بيت عم أبيه عبد الوارث: - وقعت في نفسي أكرم موقع. - لم نسمع عنها إلا كل خير. - إذن عجل بخطبتها. - للأسف ليس لها رجال أكلمهم، لم يعد أمامي إلا أن أكلمها هي. - في حضور الحاج مراد؛ فهو في منزلة أبيها، وتحسن صنعا لو وجهت الكلام إليه؛ فإن هذا سيرضيه ويرضيها في وقت معا. ••• - ألو، منزل المرحوم نشأت بك؟ - نعم يا أفندم. - الحاج مراد موجود؟ - موجود يا أفندم. من يريده؟ - عبد الوارث النقيب.
ومع نبضة ودهشة وفرح، أجابت سامية: دقيقة واحدة من فضلك.
جاء الحاج مراد إلى التليفون. - أنا عبد الوارث النقيب يا حاج مراد. - يا مرحبا يا سعادة البك، يا أهلا وسهلا. - أريد أن أزور سامية هانم، وأريدك أن تكون حاضرا الزيارة. - وماله يا سعادة البيه تشرف، دقيقة واحدة، أسألها.
وبعد لحظة أو أقل: متى تريد التشريف يا عبد الوارث بك؟ - أي وقت. - غدا بعد المغرب معقول. - أمرك. - أهلا وسهلا. - سلام عليكم. - سلام عليكم. ••• - يا حاج مراد، أنت في مكان والد سامية، أطال عمرها وعمرك. - أعمل مع المرحوم نشأت بك قبل أن تولد وقبل أن يتزوج أيضا. - أنا واثق أن سامية عرفت ما أنا قادم من أجله، فهل عرفته أنت أيضا. - عبد الوارث بك تفضل بالحديث.
كانت سامية جالسة شبه غائبة؛ فقد كانت تعرف عن منصور كل شيء. وحين رأته لأول مرة ورأت عظمته في خلقه وأدبه وفهمه ازدادت به إعجابا . ولم تكن تتصور أن تجري الأمور إلى غايتها في هذه السرعة. قال عبد الوارث في حسم: نريد ابنتنا سامية لابننا منصور. طبعا لن تسألوا عنا ولن نسأل عنكم؛ فكلنا في المركز نعرف كل خافية عن أبناء المركز، ولم يبق إلا أن تسأل الآنسة الفاضلة وتجيب ندائي. أمر عليكم غدا في مثل موعد اليوم. السلام عليكم.
صفحة غير معروفة