وكأنما خلقت روحية لتقدم منصور للحياة وترعاه حتى يطمئن إلى الحياة ويهدأ مستقره فيها، ثم تودعه لتستقبله يوم يريد الله أن يضمه إليه!
حزن منصور حزنا شديدا، ولكن العجيب أنه لم يشعر بأي لون من الهلع أو الجزع؛ فقد اطمأن قلبه إلى الإيمان، وهو من حفظة القرآن، وحمله في قلبه!
بكى بكاء حزن لا خوف، وعرف الأسى الآخذ الشديد الذي يعرف الناس حين يفقدون أمهاتهم. ومن كالأم حبا وتضحية وحنانا وحدبا وشفقة وإيثارا؟ فقد كان حب منصور لأمه حبين في وقت معا؛ فقد كانت أمه وأباه. وإن جده عبد الهادي يسكب عليه العطف والحب ألوانا وأفانين، ولكن هل في الدنيا جميعا شيء كنداء الأب لولده ذلك النداء الذي يكاد الأب يضع قلبه فيه؟ نداء لم يعرفه منصور، ولكنه أحسه في أصوات الآباء وهم ينادون أبناءهم، وافتقده هو لنفسه ولم يسمعه.
لحكمة يعلمها ربي وبيده أرادني أن ألقى الحياة بغير أب وبغير أم، ولكن سبحانه لطف بي فأحاطني بقلوب حانية. وما يريد الله كائن. والحمد لله على ما شاء حمدا يرضيه في عليا السموات.
وسارت الحياة كما تعودت أن تسير دائما. ومرت السنون. وربما كانت وفاة روحية سببا في أن يشعر منصور أنه مسئول عن نفسه في خاصة شأنه. أما المأكل فهو مبذول، وأما الملبس فهو يصل إليه بطريقة تلقائية؛ فقد كان عبد الوارث يصحبه في أول الشتاء ويشتري له ملابس الشتاء وكذلك يفعل في الصيف، وكان ملبسا من أحسن الأنواع دائما.
أما من يلبسه هذا الملبس ومن يؤانسه حتى يعود متأخرا من المدرسة ويتناول طعامه وحيدا؟ ومن يؤنسه إذا نبا به مضجع وعز عليه نوم؟ ومن يسمع منه إذا أحب أن يقول، وأن يروي عن مدرسته وصحابه ونفسه؟ لم يبق له إلا الله. وكانت نفسه ينير جوانبها القرآن والسجية النقية والصفاء الذي يهبه الله لبعض النفوس، فيشيع به الرضى في حياتهم. والرضى أسمى درجات السعادة. وحسبك أن الله وهو الله قال لنبيه وهو نبيه:
ولسوف يعطيك ربك فترضى .
أما في المدرسة، فقد صاحب منصور الأصدقاء، وأحسوا جميعا أنه متميز عنهم بحفظه للقرآن، ثم هم في مدرسة المركز يعرفون قدر الحاج عبد الهادي، ويسمعون من آبائهم ثناء عليه. وهكذا كانت تحيط بمنصور هالة من العلم وكرامة الأسرة في وقت معا. وأصبح إخوانه الطلبة ينظرون إليه نظرة خاصة، فيها حب وفيها احترام وتقدير. وفي حياة التلاميذ، وفي ساعات اليوم الدراسي، تقع قصص متتابعة صغيرة لا تروى، ولكنها تجعل كل تلميذ يكون رأيه عن الآخر، في فصول الدراسة، في مناقشة الأساتذة، في ملعب الفسحة. تتشابك خيوط من الحكايات التي تمر في حياة الناس فلا يلقى إليها أي التفات. وتدور مناقشات وتنتهي دون عنف في الخصومة أو لجاجة في الرأي، ولكن التلميذ مع حكاية تتبعها حكاية ومناقشة في أثر مناقشة يكون رأيه عن زملائه حبا أو غير حب قد لا يصل إلى الكراهية، وإعجابا أو عدم إعجاب قد لا يصل إلى الاحتقار. ومن هذه المشاعر تتكون الصداقات، وبهذه الصلات تكونت صداقة وثيقة بين منصور وأمين عبد الصادق؛ فقد أعجب أمين برفيق فصله منصور، وأعجب به منصور، وتكونت صداقة بينهما قوية العرى يخالطها الإعجاب. وقد كان أمين ابن أسرة ثرية ثراء واسعا، وكان أبوه يعمل بالتجارة. وهو بطبيعة الحال صديق للحاج عبد الهادي صداقة بعيدة في أغوار الزمان، وصديق لأخيه الأصغر عبد الوارث أيضا، ولكن صداقة الآباء لا تعني بالحتم صداقة الأبناء، ولكن إن كان الآباء أصدقاء فصداقة الأبناء، خاصة في سن منصور وأمين الباكرة، تكون حميمة تجد التشجيع والتبريك من الآباء. وأصبحت صداقة منصور وأمين شهيرة في المدرسة.
وكان منصور حريصا أن يقيم صلاة الظهر في وقتها في المدرسة، وكان يصليها معه أمين، وكان كثير من التلاميذ أصدقاء أو كانوا مجرد زملاء، وكانوا يصلون على حصير الحاج أبو العلا فراش المدرسة. وفي يوم كثر المصلون حتى لقد نبتت فكرة في ذهن منصور: جدي، عندي فكرة. - قل يا شيخ منصور. - عجيبة أنك قلت يا شيخ! - لقد أردت أن أدللك فقط. - ولكن اللقب يتفق تماما مع ما سأتحدث فيه. - خيرا. - لقد بنيت جامعا حين استجاب الله لك دعاءك أن تنجب أبي. - فلنفرض. - فما رأيك لو أقمت جامعا صغيرا لوجه الله فقط، ودون نذر منك واستجابة من العلي القدير؟ - أفعل. ما المناسبة؟ - أنا لا أريد منك إلا مسجدا صغيرا في المدرسة؛ فنحن نصلي الظهر في المدرسة وأحيانا في الشتاء يحل موعد العصر مبكرا ونصليه هناك أيضا. والتلاميذ يتزاحمون على حصير متهرئ ولا يتسع لهم، فيصلون على البلاط. وصحيح أن الله أكرم نبيه
صلى الله عليه وسلم
صفحة غير معروفة