رغم ذلك، لا يفسر قول إن الأسطورة يمكن أن يقبلها الحداثيون من أصحاب العقول العلمية سبب وجوب تقبلها. فعندما قدم بولتمان هذا «الموضوع» الحديث حول الأسطورة، لم يقدم لها «وظيفة» حديثة. فربما يرى أن الوظيفة واضحة من تلقاء نفسها؛ ألا وهي وصف الحالة الإنسانية. ولكن، لماذا يعتبر وصف الحالة الإنسانية مهما؟ ولماذا تستخدم الأسطورة في وصفها؟ لا يستطيع بولتمان قول إن الأسطورة «تكشف» عن الحالة الإنسانية؛ لأنه هو نفسه يستخدم الفلسفة في العثور على المعنى نفسه في الأسطورة.
إضافة إلى ذلك، يمكن أن يتقبل الحداثيون الأسطورة، حتى عند تجردها من عناصرها الخرافية، فقط عندما يجرد وجود الإله من العناصر الخرافية بالمثل. وعلى قدر حماسة بولتمان لجعل الأسطورة مقبولة للحداثيين من أصحاب العقول العلمية، فإنه غير مستعد لاستبعاد تفسير الإله بكل جوانبه؛ أي خلع ثوب الأسطورة عنه تماما. فيجب على كل من يقبل الميثولوجيا أن يستمر في الإيمان بالإله، مهما كان هذا التصور معقدا . وفيما ربما يكون التوافق مع العلم ضروريا من أجل اعتناق الأسطورة في عالم اليوم، فإن ذلك وحده ليس كافيا على الإطلاق.
ماذا عسى بولتمان أن يقول عن أسطورة أدونيس؟ بكل تأكيد، سيجري بولتمان مقارنة بين العوالم التي يجد أدونيس نفسه فيها؛ إذ ينشأ أدونيس، الذي لم يبتعد أبدا عن عناية إلهة تغمره بالاهتمام الخانق، ويترعرع في عالم يشبه الرحم، عالم آمن تماما يشعر فيه بالحماية، بل وينغمس فيه إلى الدرجة التي لا يعبأ عندها بالمخاطر الموجودة في العالم «الواقعي» الذي - وفق رواية أوفيد - تحاول فينوس تحذيره منه مرارا وتكرارا. فبتجرد هذه الأسطورة من عناصرها الخرافية، نجدها تصف خبرات متعارضة في العالم المادي؛ وهذا العالم هنا ليس علمانيا في مقابل عالم ديني، بل هو عالم طفولي في مقابل عالم ناضج.
جدير بالذكر أن بولتمان يتسم بتناقض طرحه. فعلى الرغم من توصيفه الظاهري للأسطورة في حد ذاتها بأنها تعبير رمزي للحالة الإنسانية، فإنه يأخذ الأساطير القديمة، التي انبثقت عنها المسيحية، مأخذا حرفيا، مثل الأساطير اليهودية الخاصة بسفر الرؤيا وأساطير الغنوصية؛ بناء عليه، بينما يخص بولتمان المسيحية فحسب بالتجرد من العناصر الخرافية، فإنه يقر في عدم اتساق واضح بفضل يوناس الوجودي المعاصر له في تجرد الغنوصية على نحو غير مسبوق من عناصرها الخرافية!
هانز يوناس
يرى هانز يوناس أن الغنوصية القديمة تقدم الرؤية الأساسية نفسها للحالة الإنسانية التي تقدمها الوجودية الحديثة، وإن كانت وجودية إلحادية، كما يراها بولتمان، أكثر منها وجودية دينية. وتؤكد الغنوصية والوجودية كلاهما على اغتراب البشر الشديد عن العالم:
يتكون جوهر الوجودية من ثنائية؛ غربة بين الإنسان والعالم و... أن هناك موقف واحد [فقط] ... تتحقق فيه هذه الحالة وتعاش بكل ما يحمله أي حدث جلل من شدة واحتدام؛ وتلك هي الحركة الغنوصية. (يوناس، «الدين الغنوصي»، ص325)
على النقيض من بولتمان الذي يسعى جاهدا لرأب الصدع بين المسيحية والحداثة، يقر يوناس بالفجوة بين الغنوصية والحداثة؛ وبناء عليه، لا يسعى إلى اكتساب معتنقين جدد حداثيين للغنوصية. ونظرا لأن الغنوصية القديمة، على عكس المسيحية السائدة، تضع اللامادي في مقابل المادي، يظل البشر مغتربين عن العالم المادي حتى بعد عثورهم على الإله الحق. وفي حقيقة الأمر، لا يمكن العثور على هذا الإله إلا من خلال رفض العالم المادي وإلهه المزيف. ويتغلب الغنوصيون على الغربة عن هذا العالم من خلال التسامي عنه. في المقابل، يظل اغتراب الغنوصيين مؤقتا، بينما يعتبر الاغتراب دائما عند الحداثيين. ويرى يوناس أن الميثولوجيا الغنوصية لا تزال مقبولة لدى الحداثيين، ولكن ليس المؤمنين منهم، كما هي الحال مع بولتمان، بل المتشككين. وتستطيع الميثولوجيا نيل قبولهم؛ نظرا لأنها لا تدور حول طبيعة العالم، بل حول طبيعة العيش في العالم - أي هذا العالم - إذا جرى فهمها على النحو الصحيح. ومثل بولتمان، يسعى يوناس إلى التوفيق بين الأسطورة والعلم من خلال إعادة توصيف موضوع الأسطورة.
ولجعل الغنوصية القديمة مستساغة في رأي الحداثيين، يجب على يوناس، مثل بولتمان، تخطي تلك الجوانب التي تنطوي عليها الأساطير والتي تتعدى على العلم من خلال تقديم أصل العالم أو مستقبله. وتعتبر «حقيقة» اغتراب الإنسان عن العالم، وليس مصدر الاغتراب أو الحل المقترح له، هي موضوع الأسطورة الذي تم تجريده من العناصر الخرافية؛ بناء عليه، تلقى العناصر الغنوصية في صفات الألوهية، وفي الفيض الإلهي، وفي الإله الخالق، وفي العالم المادي؛ تجاهلا. والأدهى من ذلك، يتم تجاهل إمكانية النجاة من العالم المادي التي تنطوي عليها الغنوصية. باختصار، تختزل معظم جوانب الميثولوجيا الغنوصية إلى مجرد ميثولوجيا يجب استبعادها، أو خلع الثوب الخرافي عنها، مثل «جميع» الميثولوجيا في رأي تايلور.
لا يعرض يوناس - شأنه شأن بولتمان - أي وظيفة للأسطورة تؤديها للحداثيين. وحتى إذا كانت الأسطورة تعبر عن الحالة الإنسانية، فما الداعي للتعبير عن تلك الحالة بصفة عامة، بعيدا عن الأسطورة، إذا كانت الفلسفة تعبر عنها؟ لم تصدر عن يوناس إجابة عن هذا السؤال، بل يحصر هو وبولتمان مجال بحثيهما في معنى، أو موضوع، الأسطورة.
صفحة غير معروفة