وإذا كانت الأسطورة مثالا على التفكير البدائي لأنها تتعامل مع ظواهر مادية ملموسة، فإنها مثالا على التفكير نفسه نظرا لأنها تصنف الظواهر. ويرى ليفي-ستروس أن جميع البشر يفكرون في إطار تصنيفات، خاصة في إطار أزواج من المتعارضات، ثم يطبقون هذه التصنيفات على العالم. وتعبر العديد من الظواهر الثقافية عن هذه التعارضات. وتعتبر الأسطورة متميزة من ناحية حل أو - على نحو أدق - التخفيف من حدة هذه المتعارضات التي تعبر عنها. وفيما يعتقد تايلور أن الأسطورة مثل العلم نظرا لأنها تتجاوز حدود الملاحظة إلى التفسير، يعتبر ليفي-ستروس الأسطورة علمية بصورة مباشرة نظرا لأنها تتجاوز حدود تسجيل الظواهر المتعارضة التي جرى ملاحظتها إلى تخفيف حدتها. ولا يمكن العثور على هذه التعارضات في الحبكة أو الأسطورة بل فيما يشتهر إطلاق ليفي-ستروس عليه «البنية». وسيخصص فصل بالكامل، هو الفصل
السابع ، لمناقشة أسلوب تناول الأسطورة الذي يطلق عليه بناء على تسمية ستروس «البنيوية»؛ وسيجرى تحليل أسطورة أدونيس فيه باستفاضة.
روبين هورتون
رفض عالم الأنثروبولوجيا الإنجليزي روبين هورتون (ولد 1932)، الذي قضى حياته المهنية في نيجيريا، استغراق تايلور في التفسيرات الخرافية والدينية باعتبارها تفسيرات شخصانية، وفي التفسيرات العلمية باعتبارها غير شخصية. ويسير هورتون على خطى تايلور في جوانب كثيرة، حتى إنه سمي «تايلور الجديد»، وهو لقب منح إياه للتقليل من شأنه، لكنه تقبله بفخر. وعلى غرار تايلور، يعتبر هورتون الدين والعلم مجالين يقدمان تفسيرات حول العالم المادي. وشأنه شأن تايلور أيضا، يعتبر هورتون التفسير الديني بدائيا، ويفضل الإشارة إليه باستخدام التعبير الأكثر قبولا؛ «تقليدي»، كما يعتبر التفسير العلمي حديثا. ومثله كذلك، يعتبر التفسيرين البدائي والعلمي متنافيين بعضهما مع البعض. وبينما لا يركز هورتون على الأسطورة بصورة خاصة، تعتبر الأسطورة بالنسبة إليه، وكذلك تايلور، جزءا من الدين.
لا يفند هورتون معادلة تايلور بين الدين والتفسيرات الشخصانية، وبين العلم والتفسيرات غير الشخصية. في المقابل، يختلف هورتون عن تايلور في رد الأمر إلى مجرد «اختلاف في مصطلح الاجتهاد التفسيري» - وهو الأمر الذي شغل تايلور أيما انشغال. وبما يتعارض مع ما جاء به تايلور، لا يعتبر هورتون استخدام الأسباب الشخصية في تفسير الأحداث أقل تجريبية من استخدام الأسباب غير الشخصية، على الرغم من اعتبار إياها غير علمية، متفقا في ذلك مع تايلور ومختلفا مع ليفي-ستروس.
يرجع تايلور التفسيرات الشخصانية إلى تفكير البدائيين الأقل نقدا، فهم يتقبلون أول التفسيرات المتاحة لهم. وشأنهم شأن الأطفال، يجرون عملية قياس على التفسيرات المألوفة في السلوك الإنساني. ويفترض هورتون أيضا أن البدائيين يعتمدون على ما هو مألوف لديهم، غير أنه يرى أن الحداثيين يفعلون ذلك أيضا. ويرى أن الظواهر المألوفة هي تلك الظواهر التي تنضح بالنظام والتكرار. ونظرا لأنه في «المجتمعات الصناعية المعقدة سريعة التغير، يعتبر المشهد الإنساني في حالة حراك مستمرة»، فإن هذا النظام والتكرار يتجلى «في عالم الجماد»؛ بناء عليه، «يتجه العقل الذي يبحث عن حالات قياس تفسيرية إلى عالم الجماد بسهولة ويسر.» على النقيض من ذلك، في المجتمعات الأفريقية، يعتبر النظام والتكرار «أقل وضوحا بكثير» في عالم الجماد عن عالم البشر؛ حيث «لا يمكن تصور وجود قدر أقل منهما في المنزل مع الأقران، مقارنة بوجودهما في عالم الجماد»؛ بناء عليه، «يتجه العقل الذي يبحث عن حالات قياس تفسيرية تلقائيا إلى عالم الإنسان وشبكة علاقاته»؛ إذن يشكل إرجاع الدين في أفريقيا السبب في الأحداث المختلفة إلى قرارات تتخذها كيانات لها طابع إنساني منطقا نظريا سليما.
يختلف هورتون اختلافا كبيرا عن تايلور في التفرقة بين التفسيرات الدينية والعلمية على أساس «السياق» أكثر من «المحتوى». وباستخدام مصطلحات كارل بوبر، يرى هورتون أن التفسيرات الدينية تسري في المجتمع «المغلق»، فيما تسري التفسيرات العلمية في المجتمع «المفتوح». ففي أي مجتمع مغلق، أو مجتمع غير نقدي، «لا يوجد وعي متطور ببدائل تحل محل مجموعة المعتقدات النظرية الراسخة.» على الجانب الآخر، ينقد المجتمع المفتوح نفسه نقدا ذاتيا؛ حيث يكون فيه «هذا الوعي متطورا للغاية.» وفيما تكون للمعتقدات السائدة في المجتمع المغلق مكانة مقدسة - نظرا لعدم نقدها - ويعد أي نقد لها بمنزلة التجديف والتطاول، لا تملك المعتقدات القائمة في المجتمع المفتوح أي قداسة - نظرا لمعارضتها - ومن ثم يمكن تقييمها بصورة شرعية.
على غرار تايلور، لا يملك هورتون الكثير ليقوله حول أسطورة أدونيس، فيما يملك الكثير ليقوله حول سفر التكوين، الإصحاح الأول، الذي ينظر إليه - وكذلك تايلور - دون مواربة باعتباره تفسيرا قبل علمي لأصل العالم المادي؛ تفسيرا لا يستطيع الحداثيون الاعتقاد فيه جنبا إلى جنب مع التفسير العلمي. وبينما لا يستطيع الحداثيون الاعتقاد في مثل هذا التفسير إلا من خلال إعادة تحديد وظيفته أو معناه، لا يقبل هورتون - شأنه شأن تايلور - أيا من الخيارين.
على النقيض من هورتون، يحيي عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي ستيوارت جثري جهود تايلور واستغراقه في التفسيرات الشخصانية، أو المؤنسنة، في الدين. فيرى جثري، وكذلك تايلور، أن الأنسنة تشكل جوهر التفسير الديني، بما فيه من تفسير خرافي. في المقابل، يختلف جثري عن هورتون، وعن تايلور أيضا، في الإشارة إلى وجود الأنسنة في العلم والدين. وفيما تعد الأنسنة عند كل من هورتون وتايلور طريقة بدائية استثنائيا لتفسير العالم، يراها جثري طريقة عامة وشبه شاملة لتفسير العالم.
كارل بوبر
صفحة غير معروفة