الرابع
من هذا الكتاب.
تتمثل الصعوبة الكبرى في رؤية تايلور وفريزر للأسطورة كنظير بدائي للعلم في عجزها الواضح عن تبرير وجود الأسطورة بعد ظهور العلم. فإذا كانت الأسطورة لا تؤدي أكثر من الدور الذي يؤديه العلم ، فلماذا لا تزال موجودة؟ بطبيعة الحال، ربما يجيب تايلور وفريزر عن هذا السؤال على الفور قائلين إن أيا ما ظل قائما من الأسطورة لبعد ظهور العلم، فهو ليس أسطورة، وذلك يرجع إلى أنه لا يؤدي أي وظيفة علمية. في المقابل، يرى الفيلسوف الألماني المعاصر هانز بلومنبرج (1920-1996) أن استمرار الأسطورة إلى جانب العلم يقدم دليلا على أن الأسطورة لم تؤد «أبدا» نفس وظيفة العلم. رغم ذلك لم يقدم بلومنبرج أو تايلور أو فريزر تفسيرا حول سبب استدعاء الأسطورة، أو الدين ككل، «إلى جانب» العلم عند تفسير الأحداث المادية.
على سبيل المثال، عندما ينجو عدد محدود من الركاب من حادث اصطدام طائرة، يجري تفسير الاصطدام تفسيرا علميا، بينما يعزى سبب نجاة المسافرين على متنها إلى العناية الإلهية وليس - مثلا - إلى موضع المقاعد في الطائرة. وقطعا يمكن أن يرد تايلور وفريزر على ذلك قائلين إن الناجين لم يتقبلوا حقيقة عدم توافق تفسيرهم الديني مع التفسير العلمي، غير أنه يطغى على هذه المطالبة بالتوافق بينهما حاجة أكثر إلحاحا لا يمكن تلبيتها إلا بالتفسير الديني.
لوسيان ليفي-بريل
لوسيان ليفي-بريل (1857-1939) هو فيلسوف فرنسي وعالم نظري في مجال الأنثروبولوجيا، عارض آراء تايلور وفريزر ومنظرين آخرين ممن أطلق عليهم «المدرسة الإنجليزية للأنثروبولوجيا»، وإن لم يتحر الدقة عند اختيار هذا الاسم. وفي معارضته لآرائهم، أكد على وجود فجوة كبيرة جدا بين الأسطورة والعلم. وفيما يفكر البدائيون، من منظور تايلور وفريزر، مثل الحداثيين - ولكن على نحو أقل دقة - يفكر البدائيون في رأي ليفي-بريل تفكيرا مختلفا عن الحداثيين. وبينما يعد تايلور وفريزر التفكير البدائي منطقيا، وإن كان يشوبه الأخطاء، يعتبر ليفي-بريل هذا التفكير البدائي غير منطقي، أو باستخدام اصطلاحه المفضل، «قبل منطقي».
ووفقا لليفي-بريل وكذلك تايلور، لا يؤمن البدائيون بأن كل الظواهر الطبيعية لها أرواح فردية كالأرواح البشرية، أو آلهة، بل يؤمنون بأن جميع الظواهر، بما في ذلك البشر ومتعلقاتهم، تمثل جزءا من عالم غير شخصي ومقدس، أو «غامض»، يتخلل العالم الطبيعي . إضافة إلى ذلك، يؤمن البدائيون بأن «مشاركة» جميع الأشياء في هذا الواقع الغامض لا تجعل الظواهر تؤثر بعضها على بعض تأثيرا سحريا فحسب، بل تمكنها من أن تصبح إحداها الأخرى، وأن تحتفظ في الوقت نفسه بماهيتها: «يمكن أن تصبح الأشياء والكائنات والظواهر، نفسها وشيئا آخر غير نفسها - وإن كان بطريقة لا نفهمها نحن [الحداثيين].» فأفراد قبائل البورورو البرازيلية يعدون أنفسهم طيور مكاو حمراء، أو ببغاوات براكيت، إضافة إلى كونهم بشرا. ويصف ليفي-بريل هذا الاعتقاد بأنه قبل منطقي؛ نظرا لمخالفته قانون عدم التعارض، الذي ينص على أن الشيء يمكن أن يصبح ذاته وأن يصبح شيئا آخر في آن واحد.
وبينما تتضمن الأسطورة وفق وجهتي نظر تايلور وفريزر نفس عمليات الملاحظة والاستدلال والتعميم بصفتها علما، أو على الأقل علما حسب تفكيرهم؛ يرى ليفي-بريل أن التفكير الخرافي هو النقيض للتفكير العلمي. وفيما «يدرك» البدائيون العالم نفسه، في رأي تايلور وفريزر، كإدراك الحداثيين - وإن كانوا «يتصورونه» على نحو مختلف - فإن ليفي-بريل يظن أن البدائيين يرون العالم، ومن ثم يتصورونه، بصورة مختلفة عن الحداثيين؛ أي يرونه متوحدا معهم.
ويرى ليفي-بريل، وكذلك تايلور وفريزر، أن الأسطورة جزء من الدين، وأن الدين بدائي، وأن الحداثيين يرجحون كفة العلم على الدين. في المقابل، بينما يدرج تايلور وفريزر كلا من الدين والعلم تحت الفلسفة، يربط ليفي-بريل الفلسفة بالتفكير المتحرر من التوحد الروحي مع العالم. ويعتبر التفكير البدائي غير فلسفي؛ نظرا لعدم انفصاله عن العالم، وبذلك يمتلك البدائيون عقلية خاصة بهم، عقلية تشهد عليها أساطيرهم.
بل إن توظيف الأسطورة في وجهة نظر ليفي-بريل يتعلق بالاندماج الشعوري، وليس بالانفصال الفكري كما يراه تايلور وفريزر. ولا يستخدم البدائيون الدين، خاصة الأسطورة، لتفسير العالم أو التحكم فيه، بل يستخدمونه في التواصل مع العالم، والسبب الأدق لاستخدامهم الدين هو استعادة التواصل «الغامض» الذي بدأ في التلاشي تدريجيا:
صفحة غير معروفة