لقد سألني تروبمان أن أدافع عنه، فإذا بي أمام واجب لا بد من أدائه، وربما أدهش موقفي هذا بعض الذين يجهلون وظيفة المحامي. إن الذين قالوا إن من الجرائم ما يفوق هولها كل وصف، ومن المجرمين من بلغوا غاية القسوة والفظاعة، فمن العبث أن نسعى إلى تخفيض عقابهم، أقول إن هؤلاء ليسوا على حق وهم في غضبهم المحمود يخلطون بين العدل وحب الانتقام. هؤلاء يتبعون عاطفة النفس الكريمة مشفقين على الضحايا، ولكن إشفاقهم يجرهم من حيث لا يدرون إلى ارتكاب ذنب اجتماعي هو من أشد الذنوب خطرا؛ لأن فيه تضحية القانون. أما أنا فأفهم واجبات الدفاع على خلاف ذلك؛ لأن المشترع أراد أن يكون إلى جانب المتهم أيا كان صوت شريف صادق يرتفع؛ ليوقف - إذا أمكن - تأثيرات الجمهور تلك التأثيرات الصادرة عن طيبة نفس، ولكنها قد تكون وخيمة المغبة؛ لأنها تستطيع أن تطمس الحقيقة.
القانون لا يغضب يا سادة، ولا يعرف هذا الفوران مهما يكن كريما شريفا. القانون يقول إنه لا سبيل إلى الحقيقة إلا إذا اشترك الاتهام والدفاع في البحث عنها. هو أدرك أن هناك ساعة يجب أن تتحول فيها الأبصار عن مشهد الدماء، وأن يلقي من بعد المجني عليه نظرة على الجاني، بل رأى أن من واجبات العدل والقضاء أن يسأل هذا الجاني، وتدرس حالة عقله ونفسه وسلطان الطبيعة والعادة عليه، حتى إذا تم له ذلك قال للمحامي: قف على المنبر أنت وضميرك. هذه هي أول كلمة يخاطب بها الرئيس المحامي. لقد وكل المشترع إلى شرفه حق الدفاع وحرية الدفاع؛ ليوفق بين حقوق الاجتماع الشرعية وحقوق المحاماة المقدسة هنا، ولا حاجة للقول إننا في مثولنا أمامكم اليوم أيها السادة نبحث بنزاهة وإخلاص مجتهدين في كشف النقاب عن الحقيقة كما نفهم.
أي جريمة في العالم تضاهي هذه الجريمة وتفتقر مثلها إلى الدفاع؟ لقد اهتزت البلاد من أقصاها إلى أقصاها لهذه الجناية الفظيعة، وتعالت الأصوات من كل الصدور طالبة الانتقام وإنزال العقاب الصارم بالجاني. أفتدركون أيها السادة أن كلام المحامي هو ليقيكم هذا الخطر، لقد أقسمتم أن لا تظلموا الاجتماع ولا المتهم، وأخذتم العهد على أنفسكم أن لا تخرجوا عن الحقيقة مجردين من عاطفة الهوى أو تأثيرات الجمهور، أقسمتم أن تدعوا الحكم إلى ضمائركم بعد أن تستوفوا التأمل، وبعد أن تستوفوا السماع، فأستحلفكم إذن أن تسكتوا هذه الضمائر، وأن تنتظروا فلا تستشيروها حتى النهاية ...
يا سادة سأبحث معكم عن الحقيقة كما أفهمها، ولا أدافع عنها كما يمثلها المتهم، أو تظنون أنني جئت هنا لأعيد الأقوال التي فاه بها؟ أي نظرة تنظرون إذن إلى مهنتي؟ إنها والله لأذل المهن إذا لم يكن قوامها إلا أن يعاد كل ما قاله المتهم في الدفاع عن نفسه، سواء أكان فيه موفقا أو غير موفق. فاطمئنوا فما أنا بملق إليكم غير ما يمليه علي الضمير والواجب، فقد عاشرت الرجل وخبرته، وتحدثت إليه طويلا، وجعلت نفسي حكما عليه قبل أن أصير محاميا له.
الدفاع ملكي وأنا سيده، كلا لست هنا صدى للمتهم، ولي من الشرف ما يكفي ليحمي أقوالي من الزيغ عن الحق والجور عن القصد فاسمعوا.
من هو تروبمان؟ هذا ما لم أبرح أسأل عنه دون أن أجد جوابا شافيا. أإنسان أم وحش كاسر؟ وعاقل أم مجنون؟ تلك هي العقيدة التي لا تحل. إن ما يشعر به النائب العمومي من جراء هذه القضية أشعر به أنا أيضا، ومن هو الرجل الذي لا ينتفض جزعا وغضبا لمرأى هذه الضحايا أو لتذكارها؟ لقد قال لنا الرئيس بالأمس إنه بينما الرعدة نافضة في مفاصل القوم، كان الرجل وحده هادئا لا أثر للحزن عليه. لماذا؟ من أية طينة جبل هذا الإنسان؟ من يكون؟ فلنبحث. •••
لم يكن لتروبمان طفولة ولا شباب كسائر الناس، وإنكم لتذكرون حالة عقله وتقيده بفكرة لا تحول عنها، وفي الحديث الذي أسره لأحد رفقائه معان كثيرة. لقد استولت عليه وهو في السابعة عشرة أفكار غريبة لا تتزعزع؛ والسبب أنه قرأ كتابا أهاج أعصابه وأضاع صوابه، هذا الكتاب هو اليهودي التائه يقص عليه ثروة تبلغ المائتي مليونا، يشتهيها رودين فيقتل من أجلها أسرة عن آخرها. ستة من الأبرياء يموتون موتا فظيعا. كان هذا الكتاب رفيقه الدائم وسميره ليل نهار، فتركت قراءته أثرا غريبا في دماغه حتى اعتل بدنه، ودبت إليه عقارب المرض، وأصبحت أفكاره كلها منصرفة إلى جهة واحدة محصورة في دائرة لا قبل له بالخروج منها، وأصبحت فكرة القتل قتل ستة من الناس حلما لا يتخلى عنه في قعوده وقيامه ويقظته ومنامه. سلوا أهل العلم يجيبوكم أن مثل هذا الرجل غير صحيح ولا سليم، افحصوه وادرسوه، حولوا نظركم قليلا عن الضحايا إليه، وافهموا ما انطوى عليه، انظروا إلى تركيب جسمه الغريب، إلى ذراعيه ويديه، فقد قال لي بالأمس أحدهم: تأمل إن في صورة هذا الرجل شيئا من الضواري. أجل إذا كانت قضيتنا قضية وحش لا مسئولية عليه فقصاصه الربط والتكميم لا القتل (حركة وضجة في الجمهور). إن ضميري يتكلم، وعندما أتشرف بأداء الواجب فإني أشفق على الذين لا يفهمون ما يجب عليهم من الاحترام لوظيفتي. (15) كليمانصو
من خطبة له، وهو رئيس الوزراء ردا على جورس
أما وقد دقت الساعة لأشرح لكم أعمالي إفحاما للمعارضين فإني أقول: إن أعداء الطبقة العاملة هم في نظري أولئك الذين يشجعونها على التطرف في الفكر، ويبعثون فيها اعتقاد أن عدم احترام الحق والقانون مباح لها. هم أولئك الذين يصورون لها الحكومة في صورة العدو؛ لأنها تقوم بحفظ النظام خدمة للمجتمع.
أقول إن أعداء الطبقة العاملة هم أولئك الذين يدفعونها إلى التمادي في ضلالها؛ فتتوهم أنها معصومة عن الخطأ، وأن من حقها الشرعي أن تحول إلى غيرها الضغط الذي تئن منه.
صفحة غير معروفة