أجل إن فن الخطابة لجميل، ولكنه أقرب إلى الزوال من سواه. انظر إلى الأنصاب التي خلد فيها الإنسان الحياة بألوانها وصورها، فإنها باقية على الزمان الفاني ولا تزال على قدمها توحي الإعجاب إلى الناظرين، وتأمل بأنغام الموسيقى الساحرة فقد تفجرت آياتها من قلب الموسيقي النائم اليوم بعيدا عنها ولا تزال ترافق السامع إلى آخر الدهر، وما الذي لا يقال عن الشاعر أيضا وكلامه يتردد على كل لسان وينشد في كل مكان؟ أما الخطيب فهو يحمل معه ما عمل ويطويه في أكفانه؛ الصوت، والإشارة، والجاذبية، وهالة النور التي تحيط بالمنبر. كل هذا يختفي ولا يبقى غير صورة الخطاب.
عندما يتكلم الخطيب يصبح ملكا للجمهور، وهو لا يصل إلى قلوبهم إلا بعد صراع عنيف بين نفسه ونفسهم، فالخطابة فن ولكنها حرب إذا خبت نارها عفت آثارها؛ ولهذا لا نستطيع أن ندرك فعل أجمل خطاب بعد مرور السنين عليه.
فإذا أحببت أيها القارئ أن تجد في هذه الخطب المترجمة بعضا من جمالها القديم فعليك أن يكون لك فيها دور مستقل، وهو أن تحاول الشعور أكثر من الفهم، فتذكر الماضي وتضع نفسك وسط الحوادث التي ولدته، وتتمثله تمثلا أكثر مما تقرؤه قراءة، فتصدق فيك كلمة لاكوردير: «إن نفس الفرد تستطيع لدى السمع أن تكون جمهورا كبيرا.»
هذا العمل من تمثل الماضي والأحوال التي قيلت فيها الخطب؛ يطلب البساطة قبل المعرفة، والشعور قبل الاضطلاع، ويحتاج إلى حسن إرادة أكثر مما يحتاج إلى علم. (2) سوكرات
من خطبة له عندما حكم عليه بالموت
أي قضاتي، كونوا إذن مثلي على رجاء من الموت، ولا تفكروا إلا بهذه الحقيقة، وهي أنه لا خوف على رجل البر حيا أو ميتا، وأن الآلهة لن تتخلى عنه أبدا.
لم يكن ما أصابني اتفاقا، وإني لواثق أن موتي في هذه الساعة خير لي من تحمل هموم الحياة. أنا لا أحفظ حقدا على الذين حاكموني أو اتهموني، ولكني ألومهم لأنهم قصدوا في حكمهم واتهامهم إلى الإساءة إلي فساء فألهم وما كانوا صادقين.
والآن في نفسي حاجة أسألكم قضاءها: أيها الأثينيون، إذا اشتد أولادي ورأيتم فيهم جورا عن الحق، وزيغا عن قصد السبيل، وإيثارا للمال على الفضيلة فعذبوهم مثلما عذبتكم، وإذا ذهب بهم الغرور فظنوا أنفسهم شيئا وهم لا شيء؛ فعنفوهم بمثل ما عنفتكم. إن فعلتم فقد أصبت من عدلكم أنا وولدي.
والآن دنت ساعة الفراق، فليسر كل في طريقه، أنا نحو الموت وأنتم نحو الحياة. من هو السعيد منا بهذه القسمة؟ إن الله وحده لعليم. (3) ديموستين
من خطبته الفيليبية الأولى
صفحة غير معروفة