واليوم بعد أن تنوعت أسباب الحياة وتعددت مظاهر الاجتماع، وتبدل شكل الحكومات وتغيرت سلطة الحكام، عادت الخطابة إلى الظهور لابسة ثوبا آخر غير ثوبها الديني، فظهر في الشام لعهد غير بعيد: أديب إسحاق والشيخ العازار وغيرهما، وفي مصر عبد الله النديم والشيخ محمد عبده، ثم مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول أعظم خطباء هذا العصر الحاضر، وأقواهم حجة، وأبعدهم تأثيرا وأكثرهم بيانا.
أنواع الخطابة
قسم اليونان قديما الخطابة ثلاثة أقسام تبعا لأحوال الزمان من ماض وحاضر ومستقبل، وسموها البيانية أو التثبيتية والشوروية والقضائية؛ فالأولى تختص بالزمن الحاضر لمدح فترغيب أو ذم فتنفير، والثانية تتعلق بالمستقبل لتحمل السامع على جلب النفع للجمهورية أو دفع الضرر عنها، أو للحض على الحرب أو السلم وسن هذه الشرعة أو تلك واستمالة رأي الجمهور أو التغلب عليه، وكانت تجرى في الهواء المطلق أمام جماعات متهيجة بين الصخب والضجيج والمقاطعة والمعارضة والتكذيب، وكان على الخطيب أن يقاوم أمواج هذا العداء المتلاطمة من حوله، وكثيرا ما خطب غير واحد في آن واحد كأنما هم في ميدان قتال لا مجال كلام. ولما بطل الاجتماع في «الفورم» أي المحل العمومي أو السوق بطل هذا النوع من الكلام.
والقسم الثالث أي القضائي يختص بالماضي، والغاية منه الدفاع عن متهم أو الحكم عليه، وهو من خصائص المحامين.
هذا التقسيم وضعه أرسطو الذي جعل الخطابة أحد أقسام المنطق، وألف فيه كتابه الذي عربه بشر بن متى في القرن العاشر ولخصه ابن رشد. وقد مشى على هذا التقسيم أرباب الخطابة عشرين قرنا، أما اليوم فقد تبدلت أحوال المعيشة المدنية والسياسية والدينية مما دعا إلى تبديله. دعك من أنه تقسيم بعيد عن الدقة والإحكام لتداخل الواحد في الآخر من هذه الأقسام، فإن الخطيب الذي يتكلم عن الماضي لا بد له من الإلمام بالحاضر والمستقبل على سبيل الاستشهاد وغيره وكذا العكس.
والمعول عليه اليوم هو تقسيم الخطابة إلى خمسة أنواع: سياسية، وقضائية، وعسكرية، ودينية، وعلمية.
الخطابة السياسية
كان لهذا النوع من الخطابة فيما مضى المكان الأول لصلته المكينة بحياة الأمة في هبوطها وصعودها، فإن الأمة كانت كل شيء وكان عليها مدار العمل في الحرب والسلم، فكان تأثير البلاغة أقرب واسطة إلى تحريكها ودفعها في طريق معينة، ولا يخفى أن المقصود بهذا القول الأمم الحرة كاليونان والرومان، وأما المستعبدة المغلوب على أمرها فلم تكن تعرف هذا الفن ولا تحلم به لضعفها وخنوعها وامتناع الكلام عليها.
وكان الخطيب السياسي مضطرا إلى الإلمام بأسرار الدولة الداخلية والخارجية، والتعمق في درس أحوالها المادية والعسكرية فضلا عما يحتاج إليه من حدة خاطر وشدة عارضة وحماسة في القول. ونحن مهما نحاول اليوم أن ندرك بالتصور مقدار الأثر الذي كان لرجل مثل ديموستين، أو شيشرون في أمته لا نصل إلى الظفر بالحقيقة، نقرؤهم بعد هذا العهد العهيد فنعجب بهم أيما إعجاب، فكيف لو سمعناهم واتصلت بنا نظراتهم، وشهدنا عن كثب حركاتهم وما يتجلى فيها من روحهم الثائرة!
وقد أتى على الخطابة السياسية زمن تقلص فيه ظلها من بعد العصر الروماني، إلى أن عادت إلى الظهور في بلاد الإنكليز لعهد اللورد شاتام، ثم دزرائيلي وغلادستون، وفي فرنسا إبان الثورة وبعدها - وكانت أيام الثورة كما مر بنا - أجمل عهد للخطابة بمن لمع فيها من أشباه برناف، ودانتون، ودمولن، وميرابو وغيرهم ولم يقصر في ميدانها من أتى بعدهم من نابليون إلى بنجمان كونستان والجنرال فوي وغامبتا وتيارس إلى كليمانصو، وجيورس، وفيفياني، وبريان، وبوانكارة لعهدنا هذا.
صفحة غير معروفة