والملخص إذن أن العينة الأولى تبدي تأدبا سلبيا للمريضة، ولا تبدي تأدبا سلبيا أو إيجابيا للطبيب، ولكن العينة الثانية تبدي التأدب الإيجابي والسلبي للطبيب، والتأدب الإيجابي للمريضة. وتتفق هذه الفوارق مع العلاقات الاجتماعية المتضادة للممارسة الطبية المعتمدة والممارسة الطبية «البديلة». ففي الممارسة الطبية المعتمدة نجد مغايرة واضحة في المعرفة والسلطة بين الطبيب والمريضة، وهو ما يوحي باحترام المريضة للطبيب وتأدبها السلبي. كما أن المريضة لا تعامل باعتبارها شخصا بل باعتبارها صاحبة مشكلة؛ وهو ما يبرر غياب التأدب السلبي من جانب الطبيب، وهو الذي كثيرا ما يتعرض للانتقاد على وجه الدقة باعتباره دليلا على عدم حساسية الطبيب للمريضة باعتبارها شخصا. وأما في الممارسة الطبية البديلة، فإن الطبيب يتظاهر بالتناظر، وغياب الطابع الرسمي، والتقارب الاجتماعي، وهو ما يحول دون إظهار التأدب السلبي من جانب المريضة، ويشجع التأدب الإيجابي المتبادل. ومعنى معاملة المريضة باعتبارها شخصا أن التأدب السلبي سوف يخفف من وقع الأفعال التي قد تشكل تهديدا لماء الوجه، وهي التي لا تنفصل عن معاملة الطبيب لأي مريض. (9) الجو الخلقي
أشرت أثناء مناقشتي للعينتين الطبيتين إلى الفوارق في الجو الخلقي، أي في أنواع الهوية الاجتماعية التي تبدو ضمنا عند الأطباء من خلال سلوكهم اللغوي وغير اللغوي. ومسألة الجو الخلقي مسألة تناصية، بمعنى أننا نحاول تحديد النماذج المستقاة من الأنواع النصية الأخرى وأنماط الخطاب الأخرى، والتي يستعان بها في تشكيل الذاتية (الهوية الاجتماعية، أو «النفس») للذين يشاركون في التفاعلات. فأما في حالة العينة الأولى فقد كانت النماذج مستقاة من الخطاب العلمي، وأما في حالة العينة الثانية فهي مستقاة من ضروب الخطاب في عالم الحياة.
ومع ذلك فمن الممكن أن ننظر إلى الجو الخلقي باعتباره يمثل جانبا من عملية «نمذجة» واسعة، حيث يتشكل مكان التفاعل وزمانه، وتتشكل مجموعة المشاركين فيه أيضا والجو الخلقي المشارك فيها، من خلال إسقاط بعض الروابط في اتجاهات تناصية معينة دون غيرها. ويضرب منجينو (1987م، 31-35) مثالا من خطاب الثورة الفرنسية (الخطب السياسية على سبيل المثال)؛ إذ كان ذلك الخطاب يقوم على نموذج الخطاب الجمهوري في روما القديمة، من حيث المكان والوقت و«المشهد» (بمعنى الظروف الشاملة للخطاب ) إلى جانب المشاركين والجو الخلقي للمشاركين.
وتعتبر العينة الثانية حالة تمثل درجة أقل من الامتداد التاريخي. فالطب «البديل» من هذا النوع يشكل خطاب الممارسة الطبية القائمة على نموذج من عالم الحياة وهو «الحديث عن المتاعب» (جيفرسون و«لي»، 1981م؛ تن هاف، 1989م) بين شخص لديه مشكلة ومستمع متعاطف. ومن المنطقي أن نفترض أن هذا النموذج قد وجد طريقه إلى الخطاب الطبي من خلال خطاب جلسات المشورة. وهو الذي يقوم على هذا النموذج. ويرتبط المشاركون بعلاقة تضامن وخبرة مشتركة، إن لم تكن صداقة، ويوحي بناء المشهد بأنه يقوم على أساس تخليص المرء من متاعبه. وإذا كان المكان طبيا بوضوح، ما دام غرفة الكشف في عيادة الطبيب، فإنه من الشائع للأطباء من ممارسي الطب البديل (وكذلك للمعلمين والمهنيين الآخرين الذين يتخذون مواقع مماثلة) أن يولوا اهتماما خاصا بمسائل أثاث الغرفة أو ديكورها، في محاولة لتغيير الطابع المؤسسي لها وجعل زوارهم يشعرون بالراحة أو ب «الألفة». والجو الخلقي الذي يوحي به حديث الطبيب، أو بأسلوب سلوك الطبيب في أمثال هذه المقابلات الشخصية بصفة أعم، جو الصديق المتعاطف الحريص على مصلحة الزائر، ما دام «يجيد الإصغاء» إليه.
ويتجلى الجو الخلقي إذن من خلال التعبير بالجسد كله لا بالصوت وحسب، ويقول بورديو (1984م، الفصل الثالث): إن لنا أن ننظر إلى اللغة باعتبارها «بعدا من الأبعاد الجسدية التي تعبر عن العلاقة الكاملة للمرء بالعالم الاجتماعي». فنجد على سبيل المثال أن «أسلوب التعبير لدى الطبقات الشعبية » لا ينفصل «عن العلاقة الكلية بجسد المرء، وهي التي يسيطر عليها رفضه لمظاهر التصنع والتأنق الشديد، وإعلاؤه للذكورة والفحولة». ومعنى هذا أن الجو الخلقي لا يتجلى فقط في الطريقة التي يتكلم بها الأطباء، بل في الآثار المتراكمة لأوضاعهم الجسدية كلها، أي كيف يجلسون، وتعبيرات وجوههم، وحركاتهم، وطرائق رد الفعل الجسدي لما يقال، وما يسمى سلوك الاقتراب (أي إن كانوا يقتربون من مرضاهم أو حتى يلمسونهم، أو يحافظون على الابتعاد عنهم).
الخاتمة
يمثل مفهوم الجو الخلقي المرحلة التي نستطيع فيها تجميع المعالم المختلفة، لا للخطاب وحده بل للسلوك بصفة أعم، وهي التي تسهم في بناء صورة معينة للنفس. وداخل هذا الإطار الشامل ينهض كل جانب من جوانب تحليل النص التي ركزت عليها في هذا الفصل بدور معين، والجوانب المقصودة هي التحكم في التفاعل، والصيغة النوعية، والتأدب. والواقع أن معظم - إن لم نقل جميع - أبعاد الخطاب والنص التي تقبل الفصل بينها عند التحليل تسهم إسهاما معينا، مباشرا أو غير مباشر، في بناء النفس.
ومع ذلك فإن هذه القضية تلقى التجاهل، كما ذكرت في بداية هذا الفصل، في دراسات اللغة وتحليل الخطاب، إذ إن معظم الاهتمام بالنفس عادة في الخطاب يتركز حول مفهوم «التعبير»، فمن الشائع تمييز الوظيفة «التعبيرية» أو «العاطفية» للغة، وهي التي تتعلق بطرائق الصياغة التي تبين مشاعر الناس إزاء أشياء معينة، أو مواقفهم تجاهها، ويوجد مفهوم واسع الانتشار عما يسمى «المعنى العاطفي»، وهو الذي يطلق على الجوانب «التعبيرية» لمعنى الألفاظ. وعلى سبيل المثال نجد أن وصف ياكوبسون لوظائف اللغة يميز وظيفة «عاطفية» أو «تعبيرية» قائلا: إنها «ترمي إلى التعبير المباشر عن موقف المتحدث تجاه ما يتحدث عنه» (1961م، 354). وأما ما يتجاهله هذا فهو المنظور النقدي البالغ الأهمية للبناء، أي دور الخطاب في تكوين النفوس أو بنائها. وعندما يؤكد المرء البناء تبدأ وظيفة اللغة في بناء الهوية تكتسب أهمية عظمى، لأن طرائق المجتمعات في تصنيف الهويات وبنائها لأفرادها تمثل جانبا أساسيا من جوانب عملها، وكيف تفرض علاقات السلطة وتمارس، وكيف يعاد إنتاج المجتمعات وكيف تتغير. وأما التركيز على التعبير فقد أدى إلى التهميش الكامل لوظيفة بناء الهوية فجعلها جانبا ثانويا من جوانب وظيفة الصلة «بين الأشخاص». ولهذا قمت بتمييز وظيفة الهوية في التعديل الذي أدخلته على شرح هاليداي (1978م) لوظائف اللغة، ومع ذلك فلا بد من الدفاع دفاعا تقنيا مفصلا عن ضرورة القول بوجود وظيفة مستقلة خاصة بالهوية، وأما في نظر هاليداي، فإن تحديد وظيفة مستقلة يقتضي أن يثبت المرء وجود مجال يتمتع باستقلال نسبي للتنظيم النحوي يتفق مع هذه الوظيفة.
الفصل السادس
تحليل النصوص: بناء الواقع الاجتماعي
صفحة غير معروفة