ترمي العينة الثانية التي أقدمها إلى تناول بعض قضايا التحول في الممارسة الطبية. وهي أيضا مقابلة شخصية طبية، وإن كانت من نوع يختلف اختلافا جذريا. والنص يستخدم النقطة (أي الوقفة الكاملة) للدلالة على التوقف برهة قصيرة، ويستخدم الشرطة للإشارة إلى الوقفة الطويلة، والأقواس المربعة لتداخل الأقوال، والأقوال الدائرية للكلام غير الواضح.
وها هي ذي: و«م» ترمز للمريضة و«ط» للطبيب.
وينتمي الطبيب في هذه الحالة إلى مجموعة تمثل أقلية داخل مرفق الصحة القومي البريطاني، وهي مجموعة تقبل الطب البديل (مثل الطب الكلي) الذي يعني علاج «الشخص كله»، وهو ما يتفق مع استخدام تقنيات تقديم المشورة. والعينة الحالية تفتقر إلى الأبنية السافرة لتحكم الطبيب وسيطرته، على نحو ما شهدنا في العينة الأولى، كما تفتقر إلى التفاوت الواضح بين الأصوات المختلفة وتضاربها.
وأبرز اختلاف بين العينتين، من حيث معالم التحكم في التفاعل، غياب حلقة السؤال والجواب والتقييم من العينة الثانية، إذ إنها مبنية حول الوصف المطول على لسان المريضة، واقتصار دور الطبيب على ردود أفعال كثيرة تتخذ شكل الحد الأدنى من رموز الاستجابة («همم»، «لا»، «نعم»، «صحيح») وطرح سؤال يرتبط موضوعه بأقوال المريضة (السطران 6-7) وتقديم تقييم معين، لا لإجابات المريضة على الأسئلة، كما هو الحال في العينة الأولى، بل لبعض الإجراءات التي يقترحها طرف ثالث (السطر 29) واقتراح مقابلة شخصية أخرى معه.
وتناوب الأدوار في الحديث يقوم على التعاون، بدلا من أن يتحكم فيه الطبيب وحده. وفي النص ما يدل على الطبيعة التفاوضية لتوزيع الأدوار، مثل سؤال الطبيب (السطران 6-7) وهو يطرحه بسرعة وهدوء كأنه حديث جانبي، مما يدل على حساسية الطبيب ل «إقحام» نفسه أثناء «كلام» المريضة، وهي تعامله كما لو كان كذلك فتجيب إجابة موجزة عنه، ثم تستأنف روايتها. وفي النص دليل آخر على ذلك، وهو الوقفة الطويلة من جانب الطبيب في السطر 30 بعد أن قدم تقييمه، ويبدو أنها بمثابة إتاحة فرصة الكلام مرة أخرى للمريضة، حتى تواصل روايتها إذا شاءت، قبل أن ينتقل الطبيب إلى إنهاء المقابلة.
أما التحكم في تقديم الموضوعات وتغييرها، وهو الذي كان أساسا في أيدي الطبيب في العينة الأولى، فإنه انتقل هنا إلى المريضة. وطريقة تطوير الموضوعات تنتمي إلى طرائق المحادثة وعالم الحياة، فالمريضة تتحدث في عدة موضوعات من دون التزام بموضوع واحد، بل تتنقل ما بين عدد من الموضوعات التي لا يرتبط بعضها بالبعض، مثل ظلم والدتها، ومعاقرتها الخمر، والبدائل الممكنة عن الإقامة مع والدتها، وهلم جرا. وبذلك فهي تقدم تفاصيل تربطها علاقات معينة بالمعايير الخاصة بالمحادثة، ولكنها على الأرجح غير مترابطة طبيا، أي من منظور الطب التقليدي. ومن البداية للنهاية يبدي الطبيب ردود أفعال تدل على تركيزه وانتباهه وتوحي ضمنا بقبوله لهذا الأسلوب الخاص بالمحادثة في تطوير الموضوع.
ومع ذلك فلا يمكننا أن نستنتج ببساطة أن الطبيب قد تنازل للمريضة عن التحكم في التفاعل. فعلينا أن نلاحظ أولا أن الطبيب هو الذي يبادر دائما بتسليم قدر من التحكم إلى المريض في المقابلات الشخصية الطبية المنتمية إلى هذا النوع ، وهو ما يعني أن الأطباء لا يزالون يمارسون التحكم على مستوى معين، حتى بالشكل الذي يمثل مفارقة وهو التنازل عن التحكم، ولكن الواقع يقول: إن لدينا حتى في هذه الحال معالم تحكم سافرة؛ إذ إن طرح الطبيب السؤال المهم طبيا عن مواصلة المريضة شرب الخمر يتضمن تقييما، ويتحكم فعلا في استهلال المقابلة وإنهائها (وإن لم يتضح ذلك من هذه العينة) ويتحكم فيما ينبغي اتخاذه من إجراءات في المستقبل.
ولكنه يفعل ذلك بتحفظ واقتضاب على عكس ما تتميز به الممارسة الطبية التقليدية والعلاقات التقليدية بين الطبيب والمريض، وهو ما يأتي بنا إلى «النوعية» و«التأدب» و«الجو الخلقي». فالتقييم الوارد في السطر 29 يتضمن عبارة تميز النوعية «الذاتية» تمييزا صريحا («أظن ذلك») وهي توضح أن التقييم خاص برأي الطبيب فقط، وتخفف من درجة «سلطويتها» (انظر القسم الخاص بالنوعية أدناه): أي إن عبارة «ذلك من الحكمة» وحدها توحي باطلاع الطبيب على مصادر مضمرة وغامضة للأحكام المهنية. والسؤال الوحيد الذي يطرحه يتخذ شكل العبارة التي تقال عرضا كأنما يقولها الطبيب لنفسه، كما سبق أن ذكرت، وهو يتكون من صياغة مبدئية غامضة وغير مباشرة («هل رجعت الآن إلى ذلك، هل عدت إليه؟») وتتبعها صياغة صريحة («هل بدأت تشربين من جديد؟») ومعالم السؤال المذكورة تقلل من إمكان خدشه للحياء، وبهذا المعنى تزيد من تأدبه. واقتراح الطبيب بإجراء مقابلات شخصية أخرى يتسم بالتأدب أيضا بهذا المعنى. فالاقتراح غير مباشر إلى حد بعيد، فالواضح أن الطبيب يطلب من المريضة تحديد مواعيد مقابلات أخرى، لكنه يستخدم في الواقع تعابير غير قاطعة («أود أن ... إن كان ذلك ممكنا»)، أي إنه يريد أن يراها مرة أخرى. كما أنه يصوغ الغرض من المقابلات الشخصية التالية صياغة توحي بأنها زيارات اجتماعية («أن أرى كيف تسير الأمور») كما يستخدم المراوغة في اقتراحه باستخدام «كما تعرفين» مرتين، وإبداء التردد «أظن. كما تعرفين. أسمع» وهكذا يوحي بالتعثر في التعبير.
ولنا أن نربط بين هذه التعليقات وبين فكرة الجو الخلقي. فإذا كان أسلوب الطبيب في الكلام في العينة الأولى يتفق مع الخلق العلمي، فإن ما يبديه الطبيب في هذه العينة من تحفظ وتردد وتعثر ظاهري في التعبير يتفق مع الجو الخلقي لعالم الحياة؛ أي إن الأطباء يبدون في هذا اللون من المقابلات الطبية في صورة الرافضين لمذهب النخبة، والجو الرسمي وابتعاد شخصية العالم بالطب (عن الناس)، والذين يؤثرون صورة الشخص «العادي» «اللطيف» الذي «يجيد الإصغاء» (وهي الصورة التي كثيرا ما تكون مصطنعة). ويتفق هذا مع التحولات العامة في القيم الثقافية السائدة في مجتمعنا وهي التي تخفض من قيمة مذهب النخبة المهنية، وتعلي من قيمة طرح الرسميات والتصنع، واكتساب المسلك الطبيعي.
وتختلف العينة الثانية عن الأولى أيضا من حيث ما بها من تناص، إذ إنها تخلو من كل ما يشبه الجدلية بين صوت الطب وصوت عالم الحياة الذي لاحظته في العينة الأولى، بل إن الطبيب نفسه يبدو في صورة من يستعين بصوت عالم الحياة، وذلك مثلا عندما يشير إلى المقابلات المقترحة في المستقبل بقوله إنه يريد «أن يرى كيف تسير الأمور»، ويؤازر لجوء المريضة إلى هذا الصوت بإتاحة الفرصة لها حتى تقول ما تريد بأسلوبها الخاص، مشجعا إياها بردود أفعال ضافية.
صفحة غير معروفة