الطبيعة الخطابية للتغير الاجتماعي، فالممارسات الخطابية المتغيرة عنصر مهم من عناصر التغير الاجتماعي.
وتعد هذه مجموعة حافلة من المقولات النظرية والافتراضات عند محاولة إدراجها وتفعيلها في تحليل الخطاب ذي التوجه النصي.
ومع ذلك فإن التحليل المذكور يواجه بعض الصعوبات في عمل فوكوه، من بينها تجاهله للتحليل النصي، ورؤيته للخطاب باعتباره «تكوينيا». والغرض من تقديم هذا القسم الأخير مناقشة هذه الصعوبات، والإشارة إلى الجوانب التي لا ينبغي أن نتبع فوكوه فيها عند إجراء تحليل الخطاب ذي التوجه النصي.
سبق أن ذكرت أن أحد أوجه الخلاف الرئيسية بين فوكوه وتحليل الخطاب ذي التوجه النصي أن تحليل فوكوه للخطاب لا يتضمن تحليل نصوص حقيقية من الناحيتين الخطابية واللغوية. ومع ذلك، فإن إدراج مثل هذا التحليل قد يكون وسيلة للتغلب على بعض نقاط الضعف التي اكتشفها المعلقون في عمل فوكوه. لست أقترح اختزال تحليل الخطاب في التحليل النصي أو اللغوي، بل أقول: إن القضية تتعلق بضرورة إدراج نماذج فعلية من الخطاب في التحليل. وعندما تدرج، كما هو الحال في تحليل الخطاب ذي التوجه النصي، فيجب ألا تخضع وحسب للأشكال اللغوية للتحليل النصي، بل للتحليل بأبعادها الثلاثة: وهي تحليل النص، وتحليل العمليات الخطابية الخاصة بإنتاج النص وتفسيره (بما في ذلك السؤال عن أنماط الخطاب وأنواعه التي ينهل منها، وأساليب الإفصاح عنها وترابطها) والتحليل الاجتماعي ل «الحادثة» الخطابية من حيث أحوالها الاجتماعية وآثارها، على شتى المستويات (من زاوية الحال، ومن الزاوية المؤسسية والمجتمعية) (انظر الفصل الثالث أدناه). إذن، فإن ما أدعو إليه هو التحليل النصي المقترن بأنماط أخرى من التحليل، والقضية الرئيسية هي إن كان ينبغي تحليل نماذج محددة (ونصوص معينة).
وأما نقاط الضعف التي تهمنا في عمل فوكوه فتتعلق بمفهومي السلطة والمقاومة، ومسألتي الصراع والتغير؛ إذ إن فوكوه متهم بالمغالاة في تصوير مدى تلاعب السلطة بغالبية الناس؛ وهو متهم بأنه لا يولي الوزن الكافي لطعن الناس في الممارسات والصراعات بين القوى الاجتماعية حولها، والإمكانات المتاحة للجماعات المقهورة بمعارضة النظم الخطابية وغير الخطابية المهيمنة، وإمكانات التغيير في علاقات السلطة الذي يأتي به الكفاح، وهلم جرا (لوكور، 1972م؛ ماكدونيل، 1986م). والواقع أن فوكوه لا يتجاهل أمثال هذه المسائل، فهو يبدي اهتمامه بالتغيير، على سبيل المثال ما دام يخصص له فصلا كاملا في كتابه (1972م) بعنوان «التغيير والتحولات»، حيث يؤكد باستمرار أن قواعد تشكيل التشكيلات الخطابية لا تتناول موضوعات ومفاهيم ثابتة، بل مجالات تحولاتها الممكنة. ونجد في هذا الكتاب، مثلما نجد في فوكوه (1982م) مناقشة كاملة لأشكال الصراع، ولكن الانطباع المهيمن الذي نجده في مجمل أعماله وتحليلاته الرئيسية يصور الناس الخاضعين، بلا حول ولا طول، لنظم سلطة راسخة. ولا شك أن فوكوه يصر على أن السلطة تستتبع المقاومة بالضرورة، ولكنه يقدم انطباعا يقول: إن السلطة تحتوي المقاومة عموما (أي لا تسمح بانتشارها) ولا تجعلها مصدر تهديد. ويبدو أن هذا هو الحال فيما يتعلق بما يسميه فوكوه «الخطاب العكسي» للميول الجنسية المثلية. أي إن الانشغال بهذه الميول في خطابي الطب النفسي وفقه القانون في القرن التاسع عشر أدى إلى أن بدأت هذه الميول «تتكلم باسمها ... وكثيرا ما كانت تستخدم المفردات نفسها، والمعايير نفسها التي أدت إلى نبذها طبيا» (1981م، 101)، ومن ثم فإنه خطاب مقاومة لا يتجاوز حدود تشكيله الخطابي.
ويبدو أن هذه المشاكل ترتبط بغياب مفهوم الممارسة في تحليلات فوكوه، ومن بينها غياب النص والتحليل النصي. وأنا أعني ب «الممارسة» النماذج الحقيقية للناس الذي يفعلون أو يقولون أو يكتبون أي شيء. والواقع أن فوكوه (1972م) يشير فعلا إلى الممارسة في معرض تقديمه لمفهوم «الممارسة الخطابية»، ولكنه يعرفها بأسلوب مشوش ، أي باعتبارها «قواعد» تقوم عليها الممارسة الفعلية، قائلا: إن الممارسة الخطابية «نظام من القواعد التاريخية مجهولة المؤلف» (ص117). وبعبارة أخرى نقول: إنه يختزل الممارسة في عكسها، أي في المباني، مستخدما ذلك المصطلح بالمعنى العام للموارد التي تقوم عليها الممارسة، واللازمة لها (إلى جانب كونها نتاجا لها)، ويبدو أن المباني هي التي يقع عليها التركيز دائما، سواء كانت قواعد التشكيل عند فوكوه (1972م) أو التقنيات، مثل تقنية الفحص عند فوكوه (1979م)، ومع ذلك فإن فوكوه يزعم بطبيعة الحال أنه يتحدث عن الممارسة؛ إذ إن تركيزه على المباني يرمي إلى تفسير ما يمكن أن يحدث وما يحدث فعلا.
والافتراض المشكوك في صحته هو إمكان استنباط حقائق الممارسة من فحص المباني، أي إمكان التوصل إلى نتائج خاصة بالممارسة من دون التحليل المباشر لنماذج حقيقية منها، بما في ذلك النصوص. وقد يوحي ذلك ضمنا، على سبيل المثال، بأن الممارسة تتمتع بقدر من الاتساق يفوق كثيرا ما نعرفه عنها؛ وأن المباني تتحكم في الممارسة إلى مدى لا يتغير، وبطرائق لا تتغير، وهو ما لا يبدو لنا صحيحا؛ وأن البت في القواعد - أو مجموعات القواعد - التي تستند إليها الممارسة أمر يسير مباشر، وهو ما ينفيه الواقع. ونقول بإيجاز: إن ما نفتقده هو القول بأن الممارسة تتسم بخصائص ذاتية، وإن هذه الخصائص (1) من المحال اختزالها في إعداد المباني، وإن هذه الخصائص تعني (2) استحالة افتراض ظهورها في الممارسة بل لا بد من البت في هذه المسألة، وأنها (3) تساعد آخر الأمر على تشكيل المباني.
ويرتبط بتركيز فوكوه على المباني غياب أمر آخر، ألا وهو غياب آليات التغيير التفصيلية. إذ كيف اتخذت المباني شكلها الحالي؟ كيف تتغير المباني؟ وفي معرض حديث تيلور (1986م، 90) عن فوكوه، يقول ما يلي: «فيما يتعلق بالشرح القائم على التتابع الزمني، لنا أن نتشكك في وجوب الإشارة إلى أولوية اللغة على الفعل؛ فالعلاقة بينهما دائرية، فمباني الفعل أو اللغات لا تستمر قائمة إلا بفضل تجديدها المتواصل في الفعل/الكلام، وإذا عجزت عن أن تظل قائمة فإنما يكون ذلك في الفعل /الكلام، وهكذا تتغير». وبعبارة أخرى يقول: إن المباني يعاد إنتاجها وتتحول أشكالها أيضا في الممارسة.
ولكن إذا كان من الممكن إعادة إنتاج المباني أو تحويلها في الممارسة، فما العامل الذي يحدد النواتج الفعلية في الحالات المختلفة؟ أو بصورة أعم وأشمل: ما العامل الذي يحدد النواتج التراكمية للممارسة في مجالات اجتماعية أو مؤسسات معينة، ويحدد أوجه اختلاف صورتها في اتجاهات إعادة الإنتاج عن صورتها في الاتجاهات التحويلية في الخطاب؟ أريد أن أقول: إن المباني يعاد إنتاجها أو تتحول وفق حالة العلاقات القائمة، أو «ميزان السلطة»، بين القوى المتصارعة في مجال ممارسة معين وثابت، مثل المدرسة أو مكان العمل، أي إن التركيز البالغ الشدة على المباني يعتبر بمثابة اتخاذ منظور من زاوية واحدة تجاه هذه الصراعات، وهو منظور أصحاب السلطة، من تتمثل مشكلتهم في الحفاظ على النظام الاجتماعي والإبقاء على الهيمنة. وتصوير جرامشي للسلطة باعتبارها هيمنة أفضل من تصوير فوكوه؛ لأن الأول يتجنب أمثال هذه الاختلالات (جرامشي، 1971م؛ هول، 1988م). فصورة الهيمنة في مدخله صورة توازن قلق مبني على التحالفات وعلى توليد الرضى من الطبقات والجماعات الثانوية، وضروب زعزعة موقفها تمثل بؤرة التركيز الدائمة للصراعات (انظر الفصل الثالث حيث المزيد من المناقشة). والواقع أن تجاهل فوكوه للممارسة ولآليات التغيير التفصيلية يصحبه تجاهل للصراع، وطرائق أخرى ل «المقاومة» التي يفترض أنها تفتقر إلى القدرة على تغيير الأبنية تغييرا أساسيا.
وغياب التركيز على الممارسة والصراع يمكن أن يساعد على إيضاح السبب الذي يدفع النقاد إلى اعتبار تحليلات فوكوه «تتسم بانحياز شديد» من زاوية أخرى (تيلور، 1986م، 81)؛ إذ إن فوكوه يفسر تقنيات السلطة التي يناقشها في دراساته للأنساب قائلا: إنها أدوات صريحة للهيمنة والتلاعب، ولكن انظر في تقنية «جلسات المشورة» باعتبارها شكلا من أشكال الاعتراف في المجتمع المعاصر: إن «جلسات المشورة» تستخدم فعلا لإخراج ما يدور في رءوس الأشخاص وإدراجه في مجال السلطة/المعرفة، ولكنها أيضا تقنية لتأكيد قيمة الشخص وطابعه الفردي في مجتمع يزيد من تعامله معهم باعتبارهم أصفارا (كما بين لنا فوكوه). والواقع أن جلسات المشورة تتسم بدلالتين متفاوتتين إلى حد بعيد، والتعقيد الواضح في علاقتها بالسلطة لا بد أن ينفي أي زعم بأن أبعادها التحررية أبعاد وهمية. وإذا أردنا طريقا أكبر فائدة للتقدم في هذا الصدد فعلينا البحث في أسلوب عمل جلسات التشاور باعتبارها من تقنيات الخطاب العملية، بما في ذلك دراسات الصراعات في الخطاب حول توجهاته المتناقضة إلى السيطرة والتحرر (انظر الفصل السابع أدناه).
صفحة غير معروفة