الإهداء
تصدير
شكر وتقدير
مقدمة
1 - مداخل تحليل الخطاب
2 - ميشيل فوكوه وتحليل الخطاب
3 - نظرية اجتماعية للخطاب
4 - التناص
5 - تحليل النصوص: بناء العلاقات الاجتماعية و«النفس»
6 - تحليل النصوص: بناء الواقع الاجتماعي
7 - الخطاب والتغير الاجتماعي في المجتمع المعاصر
8 - تحليل الخطاب عمليا
المراجع
الإهداء
تصدير
شكر وتقدير
مقدمة
1 - مداخل تحليل الخطاب
2 - ميشيل فوكوه وتحليل الخطاب
3 - نظرية اجتماعية للخطاب
4 - التناص
5 - تحليل النصوص: بناء العلاقات الاجتماعية و«النفس»
6 - تحليل النصوص: بناء الواقع الاجتماعي
7 - الخطاب والتغير الاجتماعي في المجتمع المعاصر
8 - تحليل الخطاب عمليا
المراجع
الخطاب والتغير الاجتماعي
الخطاب والتغير الاجتماعي
تأليف
نورمان فيركلف
ترجمة
محمد عناني
الإهداء
إلى أمي وذكرى أبي.
تصدير
نشأت فكرة كتابة هذا الكتاب من مناقشات مع عدد من الزملاء في جامعة لانكاستر حول تحليل الخطاب باعتباره من مناهج البحث الاجتماعي، وخصوصا علماء الاجتماع بول باجولي، وسكوط لاش، وسيليا لوري، وميك ديلون من قسم العلوم السياسية، وسوزان كوندور من قسم علم النفس، كما استفدت من التشجيع والحماس اللذين أبداهما الزملاء والطلاب من دارسي علم اللغة، وخصوصا رومي كلارك، وروز إيفانيتش، وهيلاري جانكس، وستيف سليمبروك، وماري طولبوت، كما قدمت ماري طولبوت أيضا عينة المحادثة القصصية في الفصل الخامس، وأود الإعراب عن امتناني للتعليقات البالغة الفائدة التي أبداها جونتر كريس، وجون طومسون على مسودة أولى من هذا الكتاب، وأخيرا وليس آخرا على الإطلاق فقد تلقيت مؤازرة وتسامحا ذواتي قيمة من المحال تقديرها أثناء عملية الكتابة من فوني، وسايمون، وماثيو.
شكر وتقدير
المقال الصحفي في [الفصل الرابع: التناص - العينة الأولى: تقرير إخباري] تكرمت صحيفة ذا صن فسمحت بتصويره وإدراجه في الكتاب، وأود التعبير عن امتناني لدار نشر جامعة كمبريدج، وللدكتور س. لفنسون؛ لسماحهما باستخدام الشكل الوارد في [الفصل السابع: الخطاب والتغير الاجتماعي في المجتمع المعاصر - (2) التسليع] ولجامعة لانكاستر؛ لسماحها باستخدام النص الوارد في [الفصل السابع: الخطاب والتغير الاجتماعي في المجتمع المعاصر - (2) التسليع] ولدار نشر
MGN
المحدودة؛ لسماحها بإعادة نشر المقال الوارد في صفحة [الفصل الرابع: التناص - العينة الأولى: تقرير إخباري].
مقدمة
بدأ الباحثون في شتى المجالات العلمية اليوم يدركون طرائق ارتباط جوانب التغير في استعمال اللغة بجوانب تغيير اجتماعية وثقافية أوسع نطاقا، وبدءوا من ثم يقدرون أهمية استخدام التحليل اللغوي باعتباره منهجا لدراسة التغير الاجتماعي، ولكننا نفتقر حتى الآن إلى منهج للتحليل اللغوي يجمع بين الكفاءة النظرية، وإمكان تطبيقه عمليا. وهكذا فإن هدفي الرئيسي في هذا الكتاب أن أبني مدخلا للتحليل اللغوي يمكنه الإسهام في سد هذه الفجوة، أي أن أبني مدخلا ذا فائدة خاصة للبحث في التغير اللغوي، ويمكن استعماله في دراسات التغير الاجتماعي والثقافي.
وإنجاز ذلك يتطلب الجمع بين مناهج التحليل اللغوي التي وضعت في إطار علم اللغة والدراسات اللغوية، وبين الفكر الاجتماعي والسياسي المرتبط ببناء نظرية اجتماعية للغة تتميز بكفاءتها. والمناهج المذكورة أولا تضم في نظري العمل داخل شتى فروع علم اللغة (المفردات، علم الدلالة، النحو) والتداولية، وقبل كل شيء «تحليل الخطاب» الذي وضعه علماء اللغة، خصوصا في الآونة الأخيرة (وسوف أناقش شتى معاني «الخطاب» و«تحليل الخطاب» بعد قليل). وأما الفكر المشار إليه ثانيا، فيضم عندي العمل الذي قام به أنطونيو جرامشي، ولويس ألتوسير، وميشيل فوكوه، ويورجن هابرماس، وأنطوني جيدينز (انظر المراجع)، ومثل هذا «الجمع» كان ينبغي أن يتحقق من زمن طويل، ولكن العديد من العوامل المختلفة حالت دون تحقيقه بصورة مرضية حتى اليوم، وكان من بينها عزل الدراسات اللغوية عن العلوم الاجتماعية الأخرى، وهيمنة النماذج الشكلية والمعرفية على علم اللغة، ومن بينها أيضا نقص الاهتمام باللغة من جانب العلوم الاجتماعية الأخرى، وهو الذي كان ظاهرة تقليدية، إلى جانب الاتجاه إلى اعتبار اللغة كيانا شفافا، فإذا كان من الشائع استخدام بيانات لغوية معينة مثل المقابلات الشخصية، فقد ساد الاتجاه إلى تصور إمكان استخلاص المضمون الاجتماعي من دون الاهتمام باللغة نفسها، ولكن هذه المواقف بدأت تتغير؛ فالحدود القائمة بين العلوم الاجتماعية آخذة في الضعف، ويزداد تنوع النظريات والتطبيقات الناشئة داخل المباحث العلمية، ويصاحب وجوه التغير المذكورة «الاتجاه إلى اللغة» في النظرية الاجتماعية، وهو ما أدى إلى منح اللغة مكانة رئيسية أكبر داخل الظواهر الاجتماعية.
وهكذا، فإن المحاولات السابقة للجمع بين الدراسات اللغوية والنظرية الاجتماعية لم تحقق إلا نجاحا محدودا، فعلى سبيل المثال، قامت مجموعة من علماء اللغة في بريطانيا في السبعينيات ببناء مبحث يسمى «علم اللغة النقدي» من خلال الجمع بين نظريات ومناهج التحليل النصي الخاص ب «علم اللغة المنهجي» (هاليداي، 1978م) وبين نظريات الأيديولوجيا، وقبل ذلك بقليل كان ميشيل بيشوه وزملاؤه في فرنسا قد بدءوا يضعون مدخلا لتحليل الخطاب يستند خصوصا إلى العمل الذي أنجزه عالم اللغة زيليج هاريس، ونظرية الأيديولوجيا الماركسية في الصورة التي أعاد صوغها بها ألتوسير، ويعيب كلا من هاتين المحاولتين عدم التوازن بين العناصر اللغوية والعناصر الاجتماعية في «التركيب» الذي يجمع بينهما، على الرغم من وجود نقاط قوة ونقاط ضعف متكاملة، ففي الأولى نجد أن التحليل اللغوي والتعامل مع النصوص اللغوية يتميزان بالنضج، ولكنهما يكادان يفتقران إلى نظرية اجتماعية، كما أنهما يستخدمان مفهومي «الأيديولوجيا» و«السلطة» دون ما يلزم من المناقشة أو الشرح؛ وأما في عمل بيشوه فإن النظرية الاجتماعية ناضجة مفصلة، والتحليل اللغوي يقتصر على معالجة دلالية بالغة الضيق. أضف إلى هذا أن المحاولتين تقومان على نظرة استاتيكية (ساكنة، ثابتة) لعلاقات السلطة، تتميز بالتأكيد المبالغ فيه للطريقة التي يسهم بها التشكيل الأيديولوجي للنصوص اللغوية في إعادة إنتاج علاقات السلطة القائمة، ولا يكاد يلتفت إلى الصراع والتحول في علاقات السلطة ودور اللغة في ذلك، ونجد تأكيدا مماثلا لوصف النصوص باعتبارها نواتج مكتملة، من دون التفات يذكر إلى عمليات إنتاج النصوص وتفسيرها، ولا إلى جوانب التوتر التي تميز هذا وذاك، ومن ثم فإن محاولات التركيب المذكورة لا تناسب البحث الدينامي في اللغة أثناء عمليات التحول الاجتماعي والثقافي (ارجع إلى الفصل الأول الذي يناقش هذه المداخل بقدر أكبر من التفصيل، ويشير إلى المحاولات التي بذلت في الآونة الأخيرة؛ لتحسينها وتطويرها).
وأما التركيب الذي سوف أحاوله في هذا الكتاب فسوف يرتكز (مثل تركيب بيشوه) على «تحليل الخطاب» ومفهوم «الخطاب». والخطاب مفهوم يصعب تحديده، وذلك - إلى حد كبير - بسبب وجود تعريفات كثيرة متضاربة ومتداخلة، وضعت من شتى الزوايا النظرية والمباحث العلمية (انظر فان دييك، 1985م، وماكدونيل، 1986م، اللذين يوردان بعض التعريفات). ويستخدم مصطلح «الخطاب» في علم اللغة أحيانا للإشارة إلى عينات مديدة من الحوار المنطوق، وهو ما يختلف عن «النصوص» المكتوبة، وبهذا المعنى فإن «تحليل النصوص» و«تحليل الخطاب» لا يشتركان في اقتصار التحليل اللغوي التقليدي على الجمل أو الوحدات النحوية الأصغر، ولكنهما يركزان على الخصائص التنظيمية للحوار على مستوى أعلى (مثل تبادل الأدوار، أي التناوب، أو مثل بناء أنواع افتتاح المحادثة واختتامها)، أو على النصوص المكتوبة (مثل بناء خبر منشور في الصحيفة عن إحدى الجرائم)، ولكن الأكثر شيوعا هو استعمال «الخطاب» في علم اللغة، للإشارة إلى عينات من اللغة المنطوقة أو المكتوبة. وبالإضافة إلى الحفاظ على تأكيد المعالم التنظيمية على المستوى الأعلى، يؤكد معنى «الخطاب» المذكور التفاعل بين المتكلم والسامع، أو بين الكاتب والقارئ، ومن ثم عمليات إنتاج وتفسير الكلام والكتابة إلى جانب سياق الحال الخاص باستعمال اللغة، ويعتبر «النص» هنا بعدا واحدا من أبعاد الخطاب، بمعنى أنه «الناتج» المكتوب أو المنطوق لعملية إنتاج النصوص (فيما يتعلق باعتبار الخطاب «النص والتفاعل» معا، انظر ويدوسون، 1979م). ونقول أخيرا: إن «الخطاب» يستخدم للإشارة إلى شتى الأنماط اللغوية المستخدمة في مختلف المواقف الاجتماعية (مثل «الخطاب الصحفي»، و«الخطاب الإعلاني»، و«خطاب قاعة الدرس»، و«خطاب الاستشارات الطبية»).
ومن ناحية أخرى، يستخدم مصطلح «الخطاب» على نطاق واسع في النظرية والتحليل الاجتماعي، كما هو الحال مثلا في عمل ميشيل فوكوه، للإشارة إلى شتى طرائق بناء مجالات المعرفة والممارسة الاجتماعية، وهكذا فإن خطاب «علم الطب» هو الخطاب السائد اليوم في ممارسة الرعاية الصحية، على الرغم من تعارضه مع شتى أنماط الخطاب الكلية «البديلة» (مثل نمط العلاج الكلي والإبر الصينية)، وكذلك ضروب الخطاب «الشعبية» المنتشرة. وتتجلى أنواع الخطاب بهذا المعنى في طرائق معينة لاستخدام اللغة وغيرها من النظم الرمزية، مثل الصور البصرية (انظر طومسون، 1990م). والخطاب لا يقتصر على تصوير أو تمثيل كيان أو علاقات اجتماعية، بل إنه ينتج أو يشكل هذه الكيانات والعلاقات، وأنواع الخطاب المختلفة تمثل كيانات أساسية (سواء كانت «المرض النفسي» أو «المواطنة» أو «ثقافة القراءة والكتابة») بطرائق مختلفة، وتحدد مواقع الأشخاص بطرائق مختلفة، باعتبارهم ذواتا اجتماعية (كأن يعتبروا أطباء أو مرضى)، وهذه الآثار الاجتماعية للخطاب هي التي تحظى بالتركيز عليها في تحليل الخطاب، كما يحظى بالتركيز عليه أمر مهم آخر، وهو التغير التاريخي: أي كيف تتضافر أنواع مختلفة من الخطاب في ظل ظروف اجتماعية معينة لإنتاج خطاب جديد مركب. ومن الأمثلة المعاصرة مثال البناء الاجتماعي لمرض الإيدز، أي مرض نقص المناعة المكتسب، إذ تجتمع فيه عدة أنواع من الخطاب (مثل ما يتعلق بالأمراض التناسلية، والحديث عن التعرض ل «الغزو» من جانب «الأجانب»، والتلوث)، بحيث تشكل خطابا جديدا خاصا بالإيدز. وسوف يناقش في الفصل الثاني هذا المعنى الاجتماعي النظري للخطاب.
وترتكز محاولتي للجمع بين التحليل اللغوي والنظرية الاجتماعية على الجمع بين هذا المعنى الاجتماعي النظري للخطاب وبين معنى «النص والتفاعل» في تحليل الخطاب ذي التوجه اللغوي، وهذا المفهوم للخطاب وتحليل الخطاب له أبعاد ثلاثة، فأية «حادثة» خطابية (أي حالة من حالات الخطاب) ينظر إليها باعتبارها - في الوقت نفسه - قطعة نصية، وحالة ممارسة خطابية، وحالة ممارسة اجتماعية، فأما البعد النصي فيتبدى في التحليل اللغوي للنص، وأما بعد «الممارسة الخطابية»، مثل «التفاعل» في صورة الخطاب باعتباره نصا وتفاعلا، فيحدد طبيعة عمليتي إنتاج النص وتفسيره، مثل تحديد أنواع الخطاب (بما في ذلك أنواع الخطاب بالمعنى الاجتماعي النظري) التي يستمد منها، وكيف تجتمع معا فيه، وأما بعد «الممارسة الاجتماعية» فيعالج القضايا المهمة في التحليل الاجتماعي مثل الظروف المؤسسية والتنظيمية للحادثة الخطابية، وكيف يشكل ذلك طبيعة الممارسة الخطابية والآثار التشكيلية/البنائية للخطاب المشار إليه عاليه.
وينبغي أن أضيف أن مصطلح «النص» يستخدم في هذا الكتاب بالمعنى المألوف في علم اللغة لا في سواه؛ أي للإشارة إلى منتج مكتوب أو منطوق، بحيث تطلق صفة «النص» على تسجيل مقابلة شخصية أو محادثة، على سبيل المثال. والتأكيد في هذا الكتاب منصب على اللغة، ومن ثم على النصوص اللغوية، ولكنه من الصحيح توسيع فكرة الخطاب لتشمل الأشكال الرمزية الأخرى، مثل الصور البصرية والنصوص التي تجمع بين الكلمة والصورة، كما هو الحال في الإعلانات (انظر هودج وكريس، 1988م). وسوف أستخدم تعبير «خطاب» من دون أداة تعريف أو تنكير (بالإنجليزية)، في الإشارة إلى اللغة التي ننظر إليها من الزاوية الثلاثية الأبعاد المبينة عاليه (مثل قولي: «تحديد الذوات الاجتماعية يتحقق خطابيا»). وسوف أشير إلى «أنماط الخطاب» التي ينهل منها الناس عندما يمارسون الخطاب بمعنى الأعراف، مثل الأنواع والأساليب. وسوف أبدأ في الفصل الرابع باستخدام مصطلح الخطاب مصحوبا بأداة تعريف أو تنكير (فأقول «خطاب ما»، أو «أنواع الخطاب»، أو «خطاب البيولوجيا») فيما يشبه المعنى الاجتماعي النظري لطبقة معينة من أنماط الخطاب أو أعرافه، وسوف أشير أيضا إلى «ممارسات الخطاب» الخاصة بمؤسسات أو منظمات أو مجتمعات معينة (على العكس من «الممارسة الخطابية» باعتبارها بعدا يقبل التمييز تحليليا من أبعاد الخطاب).
وتتضمن الفصول 1-3 مبررات إقامة المفهوم المتعدد الأبعاد للخطاب، وتحليل الخطاب الذي رسمته أعلاه بالخطوط العريضة. فالفصل الأول يمثل استقصاء لمداخل تحليل الخطاب ذات التوجه اللغوي، أي إنها تركز على النصوص وتحليل النصوص، وسوف أسوق الحجة على أن هذه المداخل لا تهتم الاهتمام الكافي بجوانب الخطاب المهمة اجتماعيا، والتي تتطلب الاستعانة بالنظرية الاجتماعية، ويستعرض الفصل الثاني المنظورات الاجتماعية للخطاب في أعمال ميشيل فوكوه، ذلك المنظر الاجتماعي الذي كان له تأثير رئيسي في تطوير تحليل الخطاب، باعتباره شكلا من أشكال التحليل الاجتماعي، ويقول الفصل بعد ذلك: إن من شأن ازدياد الاهتمام بتحليل النصوص والتحليل اللغوي أن يزيد من قيمة تحليل الخطاب باعتباره من مناهج البحث الاجتماعي. ويقدم الفصل الثالث بعد ذلك مدخلي المتعدد الأبعاد، باعتباره تركيبا يجمع بين رؤى الخطاب ذات التوجه الاجتماعي واللغوي معا، سائرا متجها إلى ما سوف أطلق عليه مصطلح «النظرية الاجتماعية للخطاب». وتتضمن الفصول التالية في الكتاب تفصيلات هذا المدخل وتطبيقاته على شتى أنواع الخطاب.
ذكرت في بداية هذه المقدمة أن أشكال التغيير في استعمال اللغة تمثل جانبا مهما من أشكال التغير الاجتماعي والثقافي على نطاق أوسع، وهي مقولة يزداد إثبات صدقها كل يوم، لكنها تحتاج إلى المزيد من الشروح والمبررات، فمقولات الأهمية الاجتماعية للغة ليست جديدة؛ إذ إن النظرية الاجتماعية في العقود الأخيرة قد وطدت ما تتمتع به اللغة من مكانة رئيسية في الحياة الاجتماعية (انظر طومسون، 1984م). وأقول أولا: إننا رأينا، في إطار النظرية الماركسية، أن جرامشي (1971م) وألتوسير (1971م) يؤكدان أهمية الأيديولوجيا لإعادة الإنتاج الاجتماعي الحديث، كما أن غيرهما، مثل بيشوه (1982م) يعرف الخطاب بأنه الشكل المادي اللغوي البارز للأيديولوجيا (ومصطلح «إعادة الإنتاج» الذي استعملته، يعني الآليات التي تستعين بها المجتمعات للحفاظ على أبنيتها الاجتماعية وعلاقاتها الاجتماعية على مر الزمن). وأقول ثانيا: إن فوكوه (1979م) قد أكد أهمية التكنولوجيات في الأشكال الحديثة للسلطة، ومن الواضح أن هذه الآليات تعتمد اعتمادا أساسيا على اللغة. وأقول ثالثا: إن هابرماس (1984م) يركز على «استعمار» «عالم الحياة» من جانب «نظم» الاقتصاد والدولة، وهي التي يرى أنها تمثل «إزاحة» للاستعمالات «التواصلية» للغة الموجهة إلى إنتاج الفهم من جانب الاستعمالات «الاستراتيجية»، للغة الموجهة إلى تحقيق النجاح، أي إلى جعل الناس يفعلون أفعالا معينة، ويتجلى الارتقاء بمكانة اللغة والخطاب في المجال الاجتماعي بأشكال شتى، مثل البحث في العلاقة بين الجنسين (سبندر، 1980م)، أو أجهزة الإعلام (فان دييك، 1985م، ب) الذي يركز على اللغة، والبحث في علم الاجتماع الذي يستمد بياناته من المحادثات (أتكنسون وهريتدج، 1984م).
أما الذي يمكننا التساؤل عن صحته فهو: إن كانت مثل هذه النظرية ومثل هذه البحوث تعترف بالأهمية التي دائما ما تمتعت بها اللغة في الحياة الاجتماعية، وإن لم تكن قد حظيت بالتقدير الكافي من قبل، أو إن كان يتجلى فيها فعلا زيادة الأهمية الاجتماعية للغة. وعلى الرغم من احتمال صحة هذا وذاك، فأعتقد أننا شهدنا تحولا كبيرا في العمل الاجتماعي للغة، وهو التحول الذي يتجلى في بروز دور اللغة في جوانب التغير الكبرى التي حدثت على امتداد العقود القليلة الماضية، ولا يقتصر عدد كبير من هذه التحولات الاجتماعية على استعمال اللغة، بل إن وجوه التغير في الممارسات اللغوية قد ساهمت إلى حد كبير في إحداث هذه التحولات الاجتماعية، وربما وجدنا أحد المؤشرات على الأهمية المتزايدة للغة في التغير الاجتماعي والثقافي في طبيعة المحاولات المبذولة للتحكم في مسار التغيير، إذ أصبحت تضم محاولات متزايدة لتغيير الممارسات اللغوية؛ ولأضرب الآن بعض الأمثلة:
انظر أولا إلى ما شهدته بلدان كثيرة في الآونة الأخيرة من بروز التوسع في فكرة التسويق، بحيث امتد مفهوم السوق ليشمل مجالات جديدة في الحياة الاجتماعية؛ إذ أصبحت بعض القطاعات مثل التعليم والرعاية الصحية والفنون مطالبة بإعادة هيكلتها، وإعادة تحديد مفاهيمها حتى تتسق أنشطتها مع مبدأ إنتاج السلع وتسويقها بين المستهلكين لها (أوري، 1987م)، وقد كانت لهذه التغييرات آثارها العميقة في أنشطة العاملين في هذه القطاعات، وعلاقاتهم الاجتماعية وهوياتهم الاجتماعية والمهنية. ويضم جانب كبير من تأثيرها جوانب تغيير في الممارسات الخطابية، أي جوانب تغيير في اللغة؛ ففي مجال التعليم، على سبيل المثال، يجد الناس أنهم يتعرضون للضغوط الرامية إلى الانخراط في أنشطة جديدة تحددها الممارسات الخطابية إلى حد كبير (مثل التسويق) وإلى اللجوء إلى ممارسات خطابية جديدة داخل الأنشطة القائمة (مثل التدريس)، ويتضمن هذا «إعادة صياغة» للأنشطة والعلاقات، مثل إعادة تسمية الطلاب بوصفهم بأنهم «مستهلكون» أو «عملاء»، ووصف المناهج العلمية بأنها «بضائع» أو «منتجات»، كما يتضمن إعادة هيكلة خفية للممارسات الخطابية للتعليم - فيما يتعلق بأنماط الخطاب المستخدمة فيها (من حيث الأنواع والأساليب وهلم جرا) - و«استعمار» التعليم من جانب أنماط خطابية من خارجه، بما في ذلك الإعلان، والإدارة، وجلسات إسداء المشورة.
ونقول أيضا إن الصناعة تتجه الآن إلى ما يسمى مرحلة الإنتاج «فيما بعد فورد» (باجولي ولاش، 1988م؛ باجولي، 1990م)، التي تعني أن العمال لم يعودوا يمارسون عملهم بصفتهم أفرادا يؤدون مهام متكررة في إطار عملية إنتاج لا تتغير، بل باعتبارهم أعضاء في فرق تجمع بينهم وتربطهم علاقة تتسم بالمرونة في عملية سريعة التغيير. أضف إلى ذلك أن الإدارة أصبحت تنظر إلى العلاقات التقليدية بين العامل/الموظف والشركة، باعتبارها فاشلة في هذا السياق، ومن ثم حاولت تغيير ثقافة مكان العمل، وقد يكون ذلك مثلا بإنشاء مؤسسات تضفي المزيد من طابع المشاركة على علاقة العاملين بالإدارة مثل ما يسمى «حلقات الجودة». ووصف هذه التغيرات بأنها ثقافية ليس مجرد ألفاظ تقال؛ إذ إن التغيرات تهدف إلى إرساء قيم ثقافية جديدة، وإذكاء روح الجد عند العمال، بحيث يتمتعون بدوافع ذاتية، وكما يقول روز (في بحث غير منشور) بالقدرة على «الإدارة الذاتية». وتعتبر هذه التغييرات في التنظيم وفي الثقافة، إلى حد كبير، تغييرات في الممارسات الخطابية؛ إذ إن استعمال اللغة يكتسب أهمية أكبر باعتباره من وسائل الإنتاج والرقابة الاجتماعية في مكان العمل، وإذا شئنا المزيد من التحديد قلنا: إن المتوقع اليوم أن يشتبك العمال في تفاعل مباشر فردي وجماعي باعتبارهم متحدثين وسامعين، وتؤكد جميع توصيفات الوظائف المكتبية تقريبا، حتى على أدنى المستويات، مهارات التواصل. ومن نتائج هذا أن الهويات الاجتماعية للعاملين، التي كان ينظر إليها بالصورة التقليدية باعتبارها «وظيفية» وحسب، قد أصبحت تنتمي إلى مجال الحياة الشخصية، ومن المعالم البارزة لهذه التغييرات أنها تتجاوز الحدود القومية، فأساليب الإدارة الجديدة والأشكال الجديدة مثل «حلقات الجودة»، مستوردة من البلدان الناجحة اقتصاديا مثل اليابان، بحيث نجد أن جوانب التغيير في الممارسات الخطابية في مكان العمل قد بدأت تكتسب طابعا دوليا إلى حد ما. والنظام العالمي الجديد للخطاب يتميز إذن بانتشار التوتر ما بين الممارسات المستوردة التي يزداد طابعها الدولي وبين التقاليد المحلية.
وتوجد أمثلة أخرى كثيرة على التغيير، مثل أنواع التغيير في العلاقات بين الأطباء والمرضى، وبين السياسيين والجمهور، وبين الرجال والنساء في أماكن العمل وفي الأسرة، وهي التي تعتمد في بنائها إلى حد ما على الممارسات الخطابية الجديدة. أضف إلى ذلك أن ازدياد ظهور الخطاب في التحولات الاجتماعية يوازيه - كما ذكرت عاليه - اهتمام بالتحكم في الخطاب؛ أي بإحداث تغييرات في الممارسات الخطابية في إطار استحداث التغير الاجتماعي والثقافي. إننا نشهد ما أسميته «إخضاع الخطاب للتكنولوجيا» (فيركلف، 1990م، ب)؛ إذ نشهد التكنولوجيات الخطابية التي تعتبر نمطا من أنماط «تكنولوجيات الحكومة» (روز وميلر، 1989م) التي يجري تطبيقها الآن بصورة منتظمة في شتى المنظمات، ويتولى ذلك تكنولوجيون محترفون يجرون البحوث في الممارسات الخطابية، ويعيدون تصميمها، ويقومون بالتدريب على استخدامها، وكان من بين الأمثلة المبكرة لهذا التطور نشأة من يوصفون بأنهم متخصصون في علم النفس الاجتماعي ويتولون التدريب على اكتساب مهارات معينة (انظر أرجايل، 1978م). وقد بدأ النظر إلى التكنولوجيات الخطابية، مثل إجراء المقابلات الشخصية أو جلسات إسداء المشورة باعتبارها تقنيات لا ترتبط بسياق معين، أو من المهارات التي يمكن تطبيقها في شتى المجالات المختلفة. كما يجري على نطاق واسع إخضاع الممارسات الخطابية المؤسسية للمحاكاة؛ إذ إن الممارسات الخطابية للمحادثات، وهي التي تنتمي بصورة تقليدية إلى مجال الحياة الخاصة، أصبحت تخضع بانتظام للمحاكاة داخل بعض المنظمات (وسوف نعود لمناقشة تكنولوجيات الخطاب في الفصل السابع).
هدفي إذن وضع مدخل لتحليل الخطاب يمكن استخدامه باعتباره منهجا من بين مناهج أخرى للبحث في جوانب التغير الاجتماعي، مثل التي أشرت إليها عاليه. وتتوقف فائدة أي منهج من مناهج تحليل الخطاب في مثل هذه السياقات على تلبيته عددا من الشروط كحد أدنى، وسوف أعلق على أربعة منها، وفي غضون ذلك أورد بعض التفاصيل الخاصة بمدخلي الذي ذكرته آنفا. لا بد أن يكون أولا منهجا صالحا للتحليل المتعدد الأبعاد؛ إذ إن مدخلي الثلاثي الأبعاد يتيح تقييم العلاقات بين التغير الخطابي والتغير الاجتماعي، ويتيح إقامة العلاقة بين الخصائص التفصيلية للنصوص بصورة منتظمة وبين الخصائص الاجتماعية ل «الأحداث الخطابية» باعتبارها من أمثلة الممارسة الاجتماعية.
ولا بد أن يكون ثانيا منهجا صالحا للتحليل المتعدد الوظائف، فالممارسات الخطابية المتغيرة تسهم في التغير في المعرفة، (بما في ذلك المعتقدات والمنطق السليم) والعلاقات الاجتماعية، والهويات الاجتماعية، والمرء يحتاج إلى مفهوم للخطاب ومنهج للتحليل يعمل حسابا للتفاعل بين هذه جميعا. ولدينا نقطة انطلاق صالحة تتمثل في النظرية المنهجية للغة (هاليداي، 1978م) التي ترى أن اللغة متعددة الوظائف، وترى أن النصوص تقوم في آن واحد بتمثيل الواقع، وتحديد العلاقات الاجتماعية، وإنشاء الهويات. وسوف تزداد فائدة نظرية اللغة المذكورة إذ اقترنت بتأكيد الخصائص الاجتماعية البناءة للخطاب في المداخل الاجتماعية النظرية إلى الخطاب، مثل مداخل فوكوه.
ولا بد أن يكون ثالثا منهجا للتحليل التاريخي، أي إن على تحليل الخطاب أن يركز على عمليات الهيكلة أو عمليات «الإفصاح والربط» في بناء النصوص، وأن يركز في الأجل الطويل على «نظم الخطاب» (أي الصور الكلية للممارسات الخطابية في مؤسسات معينة، أو حتى في مجتمع برمته). وأما على مستوى النصوص، فأنا أنظر إلى هذه العمليات من زاوية «التناص» (انظر الفصل الرابع)، فالنصوص تبنى من خلال نصوص أخرى يجري الإفصاح عنها وترابطها بطرائق معينة، وهي طرائق تعتمد على الظروف الاجتماعية وتتغير بتغيرها. وأما على مستوى نظم الخطاب، فالعلاقات بين الممارسات الخطابية والحدود بينها في مؤسسة ما، أو في المجتمع كله، تتغير بالتدريج بطرائق تتفق مع اتجاهات التغير الاجتماعي.
ولا بد أن يكون رابعا منهجا نقديا؛ إذ إن العلاقات بين التغير الخطابي والاجتماعي والثقافي ليست في العادة شفافة عند الأشخاص الذين يرتبطون بها، وقس على ذلك إخضاع الخطاب للتكنولوجيا، والوصف بأنه «نقدي» يعني ضمنا أنه يبين الروابط والأسباب الخفية، كما يعني التدخل كذلك، بمعنى توفير الموارد للذين يضارون بسبب التغيير. ومن المهم في هذا الصدد أن نتجنب صورة التغيير الخطابي باعتبارها عملية ذات اتجاه واحد يمتد من القمة إلى القاعدة؛ إذ إننا نجد صراعا حول هيكلة النصوص ونظم الخطاب، وقد يقاوم الناس أو يتبنون جوانب التغيير القادمة من المستوى الفوقي، أو يجارونها وحسب. (انظر مناقشة ذلك في الفصل الثالث، والفصل السابع أدناه.)
وختاما لهذه المقدمة أقدم عرضا موجزا مسبقا لدراسة التغير الخطابي في الفصول 3-7. أما الفصل الثالث فيقدم التركيب الذي أنجزته، والذي يجمع بين مفاهيم الخطاب ذات التوجه الاجتماعي والتوجه اللغوي. ويرتكز وصفي للتحليل على مستوى البعد الخاص بالممارسة الخطابية على مفهوم التناص. وأما وصفي للتحليل على مستوى البعد الخاص بالممارسة الاجتماعية فيرتكز على مفهوم الأيديولوجيا، وخصوصا الهيمنة؛ بمعنى أنها أسلوب للسيطرة يقوم على التحالفات، وضم الجماعات الثانوية، وتوليد الرضا. والواقع أن ضروب الهيمنة داخل منظمات ومؤسسات معينة وعلى المستوى المجتمعي يجري إنتاجها، وإعادة إنتاجها، ومعارضتها وتحويلها داخل الخطاب. أضف إلى ذلك أنه يمكن النظر إلى هيكلة الممارسات الخطابية بطرائق معينة داخل نظم الخطاب بحيث تصبح «مطبعة» وتحظى بالقبول على نطاق واسع، باعتبارها في ذاتها شكلا من أشكال الهيمنة (الثقافية بصفة خاصة). وهكذا فإن الجمع بين مفهومي التناص والهيمنة هو الذي يجعل إطار الفصل الثالث مفيدا للبحث في التغير الخطابي في علاقته بالتغير الاجتماعي والثقافي، وأما تحديد النصوص وأنماط النصوص السابقة التي تعتبر مصدرا ينهل منه (أي «حادثة خطابية» خاصة)، وكيف تفصح عن نفسها، فيعتمد على موقف الحادثة الخطابية إزاء أنواع الهيمنة وضروب الصراع حول الهيمنة، أي إذا ما كانت الحادثة الخطابية تعارض، مثلا، ممارسات وعلاقات الهيمنة القائمة أو تسلم بوجودها وتقبلها كما هي. والمدخل للتغير الخطابي المبين في الفصل الثالث يجمع بين صورة النص والممارسة الخطابية المأخوذة من باختين من طريق مفهوم التناص عند كريستيفا (باختين، 1981م و1986م، وكريستيفا، 1986م، أ)، وبين صورة السلطة المأخوذة من نظرية الهيمنة عند جرامشي (جرامشي، 1971م؛ بوسي - جلوكمان، 1980م).
وأتناول بالتفصيل الإطار المبين في الفصل الثالث في الفصول التي تليه؛ فالفصل الرابع يتناول مفهوم التناص من حيث التمييز بين التناص «الواضح» (أي الوجود الصريح لنصوص أخرى داخل نص ما) وبين «التفاعل الخطابي» (أي تكوين نص من مجموعة من أنماط النصوص أو الأعراف الخطابية)، وأقدم فيه طريقة للتمييز بين الأنواع المختلفة من أعراف الخطاب، وتحديد العلاقات بينها، مثل «الأنواع»، و«ضروب الخطاب» و«الأساليب»، و«أنماط النشاط». ويناقش الفصل التناص أيضا من زاوية علاقته بالإسهام الاجتماعي للنصوص والتحولات التي تتعرض لها، وعلاقته ببناء الهوية الاجتماعية في الخطاب. وأما في الفصلين الخامس والسادس، فأنا أركز على تحليل النصوص، ويتصدى هذان الفصلان لبعض جوانب النص، مثل المفردات والنحو، والتماسك، وبناء النص، وقوة النص وترابط معناه (وانظر مناقشة هذه المصطلحات في الفصل الثالث). والفصلان يتناولان أيضا فكرة تحليل الخطاب باعتبارها متعددة الوظائف، فالفصل الخامس يتناول أساسا وظيفة الخطاب في تشكيل الهويات الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية، ويركز الفصل السادس على تشكيل نظم المعرفة والعقيدة في الخطاب وإعادة إنتاجها وتغييرها. وأما الفصل السابع فيركز على بعد معين من أبعاد الخطاب، وهو بعد الممارسة الاجتماعية، ويؤكد خصوصا بعض اتجاهات التغيير العريضة ذات التأثير في نظم الخطاب المعاصرة (مثل إضفاء الديمقراطية أو الطابع السلعي أو التكنولوجي على الخطاب) وعلاقتها بضروب التغير الاجتماعي والثقافي.
وتشمل تحليلات التغيير في الفصول 4-7 شتى المجالات والمؤسسات، إلى جانب عينات تفصيلية من الخطاب. ومن القضايا المثارة في الفصل الرابع قضية الأسلوب الذي تتبعه أجهزة الإعلام في تغيير الحد الفاصل بين المجالين العام والخاص للحياة الاجتماعية، ولا يقتصر ذلك على مادة الخطاب الإعلامي، مثل تناول بعض جوانب الحياة الخاصة باعتبارها أخبارا (جماهيرية)، بل يتجلى أيضا على مستوى التناص من خلال مزج الممارسات الخطابية للمجال الخاص بالممارسات الخطابية في المجال العام، ومن نتائج هذا أن بعض الأجهزة الإعلامية تستخدم صورا نمطية من الكلام الشائع. ومن القضايا الأخرى قضية الضغط الذي تتعرض له المرافق الخدمية حتى تعامل خدماتها باعتبارها سلعا، والمستفيدين بها باعتبارهم مستهلكين، وهو ما يتضح في الممارسات الخطابية الخاصة بتقديم المعلومات والإعلانات. وأنا أناقش في الفصل الخامس بعض صور التغيير في الهويات الاجتماعية للعاملين المهنيين وعملائهم، وفي طبيعة التفاعل بينهم، مركزا على الأطباء والمرضى. وأنا أقول: إن ضروب التغير في الهوية والعلاقة بين الطبيب والمريض تتحقق على مستوى الخطاب في الابتعاد عن المقابلات الطبية الرسمية والاقتراب من جلسات إسداء المشورة القائمة على المحادثة، وهي التي قد تتضمن الممارسات الخطابية لتقديم المشورة وإدراجها في نظم الطب التقليدية. ويتضمن الفصل السادس عينات من كتيبين عن رعاية الحوامل، وهي تمثل صورا متضادة للتعامل مع الحوامل، وأناقش بعد ذلك «هندسة» التغير الدلالي في إطار محاولة إحداث تغير ثقافي، مشيرا بصفة خاصة إلى الخطب التي ألقاها أحد الوزراء في حكومة تاتشر حول التسليع ومزج تقديم المعلومات بالإعلان، وكان يتناول في هذه الحالة قضية التعليم، ضاربا المثل بإحدى اللوائح الجامعية.
ومن أهداف هذا الكتاب إقناع القراء أن تحليل الخطاب عمل ممتع لمن يقوم به، وتوفير الموارد التي يحتاجونها للقيام به. وهكذا فإن الفصل الأخير في الكتاب، الفصل الثامن، يجمع أطراف المادة التي سبق عرضها في الفصول 3-7 في شكل مجموعة من الخطوط الإرشادية اللازمة للقيام بتحليل الخطاب. وتتناول هذه الإرشادات جمع النصوص وكتابتها وتشفيرها، واستعمال النتائج والتحليل أيضا.
الفصل الأول
مداخل تحليل الخطاب
هدفي في هذا الفصل أن أصف بإيجاز عددا من المداخل المطبقة في الآونة الأخيرة وحاليا في تحليل الخطاب، باعتبار ذلك سياقا وأساسا لتفصيل القول في مدخلي في الفصول 3-8، لقد أصبح تحليل الخطاب اليوم مجالا دراسيا بالغ التنوع، حيث نجد مداخل منوعة في كل مبحث من عدد من المباحث (وبعض جوانب هذا التنوع مذكورة في فان دييك، 1985م، أ)، وهكذا فإن استقصاء المداخل في هذا الفصل يقوم بالضرورة على الاختيار؛ إذ اخترت عددا من المداخل التي تجمع، إلى حد ما، بين التحليل الدقيق للنصوص اللغوية وبين التوجه الاجتماعي للخطاب، ويتفق هذا مع هدفي في الفصول اللاحقة لتحقيق جمع فعال ويقبل التطبيق بين التحليل النصي وطرائق التحليل الاجتماعي الأخرى، كما أنني تعاملت مع المداخل بصورة انتقائية، مركزا على جوانبها التي تقترب أكثر من غيرها من أولوياتي في هذا الكتاب.
ومن الممكن تقسيم المداخل المستقصاة إلى مجموعتين وفقا لطبيعة توجهها الاجتماعي إلى الخطاب، مميزا بين «المداخل غير النقدية» والمداخل «النقدية»، ولكن مثل هذا التقسيم ليس مطلقا، فالمداخل النقدية تختلف عن المداخل غير النقدية في أنها لا تقتصر على وصف الممارسات الخطابية، بل تبين أيضا كيف يتشكل الخطاب بفعل علاقات السلطة والأيديولوجيات، والآثار البناءة للخطاب في الهويات الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية، ونظم المعرفة والعقيدة، وإن لم يكن أيهما واضحا في العادة للمشاركين في الخطاب. فأما المداخل التي وصفتها بأنها غير نقدية أساسا فتتضمن الإطار اللازم لوصف خطاب قاعة الدرس عند سنكلير وكولتارد (1975م)؛ والعمل «الإثنومنهجي» في مجال «تحليل المحادثة»؛ ونموذج الخطاب العلاجي عند لابوف وفانشيل (1977م)، إلى جانب مدخل حديث لتحليل الخطاب، وضعه باحثان في علم النفس الاجتماعي هما بوتر ووذريل (1987م)، وأما المداخل النقدية التي أدرجتها فهي: «اللغويات النقدية» عند فاولر وآخرين (1979م) والمدخل الفرنسي لتحليل الخطاب الذي بناه بيشوه على أساس نظرية الأيديولوجيا عند ألتوسير (بيشوه، 1982م). ويختتم الفصل بملخص للقضايا الرئيسية في تحليل الخطاب، وهي المستخلصة من هذا الاستقصاء، والتي سوف تمثل نقطة انطلاق إلى عرض مدخلي الخاص في الفصل الثالث. (1) سينكلير وكولتارد
عمل سنكلير وكولتارد (1975م) وكذلك كولتارد (1977م) على وضع نظام وصفي عام لتحليل الخطاب، ولكنهما قررا التركيز على قاعة الدرس؛ لأنها حالة ثابتة الشكل، ومن المحتمل أن تخضع ممارسة الخطاب فيها لقواعد واضحة، ويقوم نظامهما الوصفي على وحدات يفترض أن ترتبط فيما بينها بالعلاقة نفسها مثل الوحدات في الأشكال المبكرة للنحو المنهجي (هاليداي، 1961م): والوحدات مرتبة بمعيار طبقي، بمعنى أن الوحدات الأعلى طبقة تتكون من الوحدات في الطبقة الأدنى، وهكذا، ففي النحو، تتكون الجملة من عبارات، وهي تتكون من مجموعات، وهلم جرا. وعلى غرار ذلك نجد أن خطاب قاعة الدرس يتكون من خمس وحدات ذات طبقات تنازلية - الدرس، والتعامل، والتبادل، والخطوة، والفعل - بمعنى أن الدرس يتكون من تعاملات، تتكون كل منها من مبادلات، وهلم جرا.
ولا يكاد سنكلير وكولتارد يذكران شيئا عن «الدرس»، ولكنهما يقولان بأن «التعامل» ذو بناء واضح، فالتعاملات تتكون من مبادلات، وهي تفتح وتغلق بما يسميانه «مبادلات الحدود» التي تتكون على الأقل من «خطوات إطارية»، إلى جانب خطوات أخرى أو من دونها، فعلى سبيل المثال يقول المعلم: «والآن، قلت في نفسي فلنعمل اليوم على حل ألغاز ثلاثة»، وهذه الجملة تتضمن خطوة إطارية («والآن») وخطوة «تركيزية» تقول للتلاميذ موضوع التعامل المتوقع. وعادة ما تقع بين مبادلات الحدود سلسلة من المبادلات «الإخبارية» أو «التوجيهية» أو «الرامية إلى تلقي المعلومات»، وفي هذه السلسلة تقع مقولات وطلبات (أو أوامر) على الترتيب، وتطرح الأسئلة، عادة، من جانب المعلم.
فلننظر في بناء نمط من أنماط المبادلة، وهي المبادلة الرامية إلى تلقي المعلومات، وتتكون في العادة من ثلاث خطوات: «البداية» و«الرد» و«رد الفعل». مثلا:
المعلم :
هل تستطيع أن تقول لي سبب تناولك كل هذا الطعام؟
التلميذ :
للحفاظ على قوتي.
المعلم :
للحفاظ على قوتك، نعم. للحفاظ على قوتك.
ولماذا تريد الحفاظ على قوتك؟
أول ما يقوله المعلم هو خطوة البداية، وقول التلميذ رد عليها، وأول سطر من القول الثاني للمعلم رد الفعل، والسطر الثاني خطوة بداية جديدة، لاحظ أن مقولة («منطوقة») واحدة يمكن أن تتكون من أكثر من خطوة واحدة، ووجود رد الفعل بانتظام يفترض سلفا أن المعلمين يتمتعون بسلطة تقييم أقوال تلاميذهم (فمن النادر أن يخاطر أحد بأن يفعل هذا خارج إطار تعليمي) ويبين أن جانبا كبيرا من خطاب قاعة الدرس يدور حول اختبار ما يعرفه التلاميذ، وتدريبهم على أن يقولوا أشياء ذات صلة بالموضوع وفقا للمعايير التي وضعتها المدرسة.
والخطوة الواحدة تتكون من فعل واحد أو أكثر، ويميز سنكلير وكولتارد بين 22 فعلا في خطاب قاعة الدرس، وبعضها خاص بهذا النمط من الخطاب دون غيره، (مثل فعل «الطلب»؛ أي الذي يطلب الطفل فيه الحق في الإجابة، ربما بأن يرفع يده)، وبعضها الآخر أقل اختصاصا بهذا النمط، فخطوة البداية في المبادلة التي ترمي إلى تلقي المعلومات قد تتضمن «الاستخلاص» (أي استخلاص شيء من السامع) على سبيل المثال، وربما يكون ذلك عندما تتضمن خطوة البداية في مبادلة توجيهية ما «توجيها» معينا.
وتعتبر الأفعال فئات وظيفية لا فئات شكلية، ومن القضايا الرئيسية قضية العلاقة بينها وبين الفئات الشكلية للنحو، (وقد حظيت هذه القضية باهتمام كبير في إطار التداولية، انظر ليفنسون، 1983م؛ وليتش وتوماس، 1989م)، ومن المشهور عدم وجود حالات تقابل بسيطة. فعلى سبيل المثال قد تكون الجملة الاستفهامية («السؤال النحوي») توجيها واستخلاصا في الوقت نفسه (مثل: «هل تستطيع إغلاق الستائر؟») والجملة الخبرية («المقولة النحوية») يمكن أن تكون أيا من هذين أو فعلا «إخباريا» (مثل «الستائر ليست مغلقة»، فقد تمثل هذا طلبا للتأكيد، أو طلبا من أحدهم بإغلاقها، أو مجرد تقديم معلومات)، ويشير سنكلير وكولتارد إلى ما يسميانه «الحال» و«التكتيك»؛ للبت في الوظيفة التي تقوم بها الجملة في قطعة معينة من الخطاب. وذكر الحال يدعو إلى النظر في عوامل حالية ذات علاقة به، فعلى سبيل المثال: إذا كان الأطفال يعرفون أن الكلام في قاعة الدرس ممنوع، فإن الجملة الخبرية التي يقولها المعلم (مثل «أنت تتكلم») ربما فسرها التلميذ بأنها أمر له بالكف عن الكلام، وعلى ما يقوله لابوف وفانشيل (انظر أدناه) يقترح سنكلير وكولتارد قواعد تفسيرية تأخذ في اعتبارها الشكل النحوي للجملة والعوامل الحالية، وأما «التكتيك» فينظر في تأثير موقع الجملة من حيث ارتباطها بما سبق داخل الخطاب في تفسيرها، فعلى سبيل المثال قد ترد جملة خبرية مثل «ربما يختلف الأمر من وجهة نظر المرأة» بعد رد فعل في سلسلة المبادلات المستخلصة، (أي حيث يتوقع المرء خطوة البداية)، ومن المحتمل أن تفسر باعتبارها استخلاصا، على الرغم من أن معظم الجمل الخبرية ليست استخلاصية، وأن معظم الجمل الاستخلاصية جمل استفهامية.
وتكمن قوة الإطار الذي وضعه سنكلير وكولتارد في الطريق الرائد الذي يلفت النظر إلى خصائص التنظيم المنهجي للحوار، ويقدم طرائق وصفها، وأما أوجه قصورها فتتضمن غياب التوجه الاجتماعي الناضج للخطاب، وعدم كفاية الاهتمام بالتفسير، ومن الممكن إرجاع أوجه القصور المذكورة إلى المادة (البيانات) التي اختاراها، فهما يركزان على نموذج مركزية المعلم التقليدية في خطاب قاعة الدرس، ومادتهما لا يتجلى فيها تنوع ممارسات قاعة الدرس الراهنة. وهذا يجعل خطاب قاعة الدرس يبدو أشد تجانسا مما هو عليه في الواقع، ويطبع الممارسات السائدة بجعلها تبدو في صورة الممارسات الوحيدة، فهو يقدمها باعتبارها «موجودة» وحسب، ومتاحة للتوصيف، لا باعتبار أنها أنشئت من خلال التنازع مع ممارسة بديلة، وأنها قد زودت بأيديولوجيات معينة (مثل الآراء في التعليم والمتعلمين)، وأنها تساعد على الحفاظ على علاقات سلطة معينة داخل المجتمع. وبإيجاز، فإن مدخل سنكلير وكولتارد ينقصه التوجه الاجتماعي الناضج، ما دام يتجاهل النظر في طرائق تشكيل علاقات السلطة للممارسات الخطابية، ولا يضع خطاب قاعة الدرس في مكانه التاريخي وسط عمليات الصراع الاجتماعي والتغيير. فالخصيصة المرموقة لخطاب قاعة الدرس المعاصر تتمثل في تنوعه، والمرء يريد أن يعرف سبب الضغوط التي يتعرض لها خطاب قاعة الدرس التقليدي الذي يصفانه، وطبيعة القضية المطروحة.
وتجانس المادة المشار إليها تصرف النظر أيضا عن ازدواج الدلالة في خطاب قاعة الدرس وتنوع التفسيرات المحتملة. انظر في المثال التالي عند كولتارد (1977م، 108):
المعلم :
ما نوع هذا الشخص في رأيك؟
هل ترى؟ ما الذي تضحك منه؟
التلميذ :
لا شيء.
المعلم :
ماذا؟
التلميذ :
لا شيء.
المعلم :
تضحك من لا شيء؟ لا شيء على الإطلاق؟
التلميذ :
لا.
الأمر مضحك فعلا؛ لأنهم لا يخطر لهم ذلك كأنما لم يكونوا حاضرين، وربما لم يحبوا ذلك، والكلام يفصح عن موقف متحذلق.
ويرى سنكلير وكولتارد أن هذا يدل على سوء تفسير التلميذ للحال؛ إذ يتصور أن سؤال المعلم عن الضحك يقصد به التأديب لا الحوار، ولكن أمثال هذه النماذج تشير أيضا إلى إمكان تعدد الجوانب في خطاب قاعة الدرس، وإلى تعايش مجموعة من أنماط خطاب قاعة الدرس في المدارس، وهو ما ينبغي لمنتجي النص ومفسريه أن يأخذوه في حسبانهم، ويعني هذا، ضمنا، ضرورة الانتباه إلى العمليات الخطابية، وإلى التفسير والإنتاج، وأما التركيز عند سنكلير وكولتارد فينصب على النصوص باعتبارها من نواتج الخطاب (وإن كانت فئة التكتيك توحي بدرجة من الانتباه إلى التفسير)، ويؤدي هذا أيضا إلى جعل موقفها من التحليل إشكاليا ما دام المحللون يفسرون النصوص ولا يكتفون بوصفها. ولنسأل: أفلا يفسر سنكلير وكولتارد فعلا بياناتهما حتى حين يزعمان أنهما يصفانها فحسب؟ أفلا يفسرانها من وجهة نظر المعلم حين يريان مثلا أن التلميذ يسيء فهم المعلم بدلا من إبدائه عدم الالتزام (أو الحياد) في الرد على سؤال يحتمل إجابتين من المعلم؟ فتعبير «لا شيء» في الواقع يحتمل أكثر من دلالة، ومن الممكن أن يعني «لا أستطيع أن أخبرك بما يجعلني أضحك هنا»، ويثير هذا مشكلة أخرى في هذا الإطار؛ إذ إنه يفرض قرارات معينة بشأن وظائف الأقوال، في حين أن الأقوال في الواقع كثيرا ما تحمل وجهين للمعنى، لا أن تتصف بالغموض وحسب، على نحو ما تبينه الأبحاث الحديثة في التداولية (انظر لفنسون، 1983م)، أي إن معانيها تستعصي على البت الواضح فيها. (2) تحليل المحادثة
تحليل المحادثة مدخل من مداخل تحليل الخطاب، وضعته مجموعة من علماء الاجتماع الذين يصفون أنفسهم بأنهم «إثنومنهجيين»، ومدخل «الإثنومنهجية» من المداخل التفسيرية في علم الاجتماع، وهو يركز على الحياة اليومية باعتبارها إنجازا قائما على المهارة، وعلى المناهج التي يستخدمها الناس ل «إنتاجها» (جارفينكل، 1967م، وبنسون وهيوز، 1983م). ويميل الإثنومنهجيون إلى تجنب النظرية العامة ومناقشة أو استخدام بعض المفاهيم مثل الطبقية أو السلطة أو الأيديولوجيا وهي التي تمثل أهمية أساسية للتيار الرئيسي لعلم النفس، وبعض الإثنومنهجيين يبدون اهتماما خاصا بالمحادثة وبالمناهج التي يطبقها المتحادثون في إنتاجها وتفسيرها (شنكاين، 1978م؛ أتكنسون وهريتيدج، 1984م)، ويركز محللو المحادثة أساسا على المحادثة غير الرسمية بين الأنداد (مثل المحادثة التليفونية) وإن كانت بعض البحوث الحديثة قد تحولت إلى الأنماط المؤسسية للخطاب، حيث تبدو مظاهر عدم التكافؤ في السلطة بوضوح أكبر (باتون ولي 1987م). ويختلف تحليل المحادثة عن مدخل سنكلير وكولتارد في أنه يبرز العمليات الخطابية، ومن ثم يولي اهتماما أكبر بالتفسير والإنتاج، ولكن مفهوم هذا التحليل للتفسير والعمليات مفهوم ضيق، كما سوف أقيم عليه الحجة أدناه، ويشبه تحليل المحادثات مدخل سنكلير وكولتارد في التوجه نحو اكتشاف الأبنية في النصوص.
وقد وضع محللو المحادثات توصيفات لشتى جوانب المحادثة، مثل فواتح المحادثة وخواتيمها، وكيفية عرض الموضوع، وتطويره وتغييره، وكيف يحكي الناس حكايات في أثناء المحادثات، وكيف ولماذا يعيدون صوغ المحادثة (مثلا بتقديم فحواها أو باقتراح ما توحي به ضمنا). وأما البحوث الخاصة بالتناوب، أي كيف يتناوب المتحادثون أدوار الكلام، فقد كانت باهرة وذات نفوذ كبير، ويقترح ساكس وشيجلوف وجيفرسون (1974م) وجود مجموعة بسيطة من قواعد التناوب التي تمتاز بالصلابة، وتنطبق هذه القواعد عند اكتمال الوحدة المستخدمة في بناء دور المتحدث، إذ يبني المتحدثون أدوارهم بوحدات معينة، كأن تكون الوحدة جملة مركبة، أو جملة بسيطة، أو عبارة، أو حتى كلمة واحدة، ويستطيع المشاركون البت في ماهية هذه الوحدة والتنبؤ بلحظة اكتمالها بدقة كبيرة، والقواعد منظمة على النحو التالي: (1) للمتحدث الحالي أن يختار المتحدث التالي له؛ (2) وإذا لم يفعل ذلك فقد يختار المتحدث التالي نفسه بالبدء في دوره في الحديث؛ (3) فإن لم يحدث هذا فللمتحدث الحالي أن يواصل حديثه. ويقول ساكس وشيجلوف وجيفرسون: إن هذه القواعد تشرح عددا كبيرا من معالم المحادثات التي رصدت، ويضيفون أن حالات التداخل بين المتحادثين تتسم بالقصر بصفة عامة، وبأن عددا كبيرا من حالات الانتقال من متحدث إلى غيره تقع دون فجوات ودون تداخلات، وهلم جرا. وعلى الرغم من عمومية القواعد فإنها تسمح بالتنوع الكبير في بعض معالم المحادثة، مثل نظام أدوار الكلام وطول كل منه.
ويركز تحليل المحادثة تركيزا شديدا على الدلالات المضمرة للتتابع في المحادثة، أي الزعم بأن كل قول منطوق يفرض قيودا على ما يتبعه، و«الثنائيات المتجاورة» - مثل السؤال والإجابة، أو الشكوى والاعتذار - من الأمثلة ذات الوضوح الناصع على هذا، فالسؤال الذي يطرحه أحد المتحادثين يستتبع بالضرورة إجابة من متحدث آخر. ومن الأدلة على أن قولا من «س» يستتبع إشراك «ص» ما يلي: (1) إن أي شيء يقال بعد قول «س» سوف يعتبر خاصا ب «ص» إن كان ذلك ممكنا (والمثال عليه: «هل هذه زوجتك؟» قد تتبعه إجابة تقول «يعنى! إنها ليست والدتي»، ومن المحتمل أن تعتبر هذه العبارة ردا بالإيجاب على السؤال). (2) إنه إذا لم يصدر قول من «ص»، فإن غياب القول سوف يلاحظ، ومن الشائع أن يعتبر أساسا لمعنى مستنبط (فعلى سبيل المثال إذا امتنع المعلمون عن إبداء ردود أفعالهم على إجابات التلاميذ فقد يعني ذلك ضمنا رفض هذه الإجابات)، ويقول أتكنسون وهريتيدج (1984م، 6) «إن كل قول منطوق يقع في موقع يحدده البناء في الحديث»، ومما يترتب على هذا أن تناوب الأدوار يتجلى فيه تحليل الأدوار السابقة، وهو ما يوفر الأدلة الدائمة في النص على كيفية تفسير الأقوال الملفوظة.
ومما يترتب على هذا أيضا أن موقع القول وحده وسط الأقوال المتتابعة يكفي للبت في معناه، ولكن هذا مشكوك فيه إلى حد كبير، لسببين: الأول (1) أن تأثير التتابع في المعنى يتغير طبقا لنمط الخطاب، والثاني (2) أن المشاركين في المحادثة قد يرجعون، كما سبق أن ذكرت في مناقشتي لسنكلير وكولتارد، إلى أنماط خطاب منوعة في أثناء «تفاعلهم»، بحيث يضطر المشاركون، باعتبارهم منتجين ومفسرين، إلى تعديل مواقعهم باستمرار إزاء هذه الأنماط. انظر بناء المقتطف التالي من مقابلة شخصية طبية أقدم في الفصل الخامس تحليلا لها:
سوف أقول في تحليلي لهذه الشذرة المقتطعة من مقابلة شخصية: إنها مزيج من المقابلة الطبية وجلسة إسداء المشورة. وفي إطار هذا المزيج ماذا يقول التتابع للمفسر عن سؤال الطبيب في دوره الأول؟ نعرف في المقابلات الطبية التقليدية أن السؤال الذي يسأله الطبيب فور إشارة المريض إلى حالة مرضية قد تكون خطرة (وهي إدمان شرب الخمر هنا)، من الأرجح أن يفسر على أنه استقصاء طبي يتطلب الانتباه الكامل من كلا المشاركين، وأما في جلسة إسداء المشورة، فإن مثل هذا السؤال يمكن تفسيره بروح المحادثة، أي باعتباره سؤالا عارضا يدل على أن المستشار ملم بمشاكل المريض. وفي الشذرة المقتطفة يبدو أن المريضة تعتبره سؤالا عارضا، فهي تجيب إجابات آلية تتكون من كلمات مفردة عن السؤال الرئيسي وإقرار الطبيب للإجابة (وربما محاولة التحقق من صدقها)، ثم تغير القصة مرة أخرى؛ لتحكي بعض الأحداث الأخيرة. واتخاذ مثل هذا القرار التفسيري يقتضي أن تحيط المريضة بمعلومات أكثر عن التتابع، أي إنها تحتاج إلى إصدار حكم على حادث اجتماعي، والعلاقة الاجتماعية بينها وبين الطبيب، ونمط الخطاب أيضا. وهذا يعني أن لدينا صورة لعمليات الخطاب وتفسيره تتسم بتعقيد يزيد على ما هو مفترض عموما في تحليل المحادثات، أي صورة يمكن أن تتسع مثلا لمحاولات منتجي النص ومفسريه شق طريقهم داخل مخزونات أنماط الخطاب. ويوحي هذا المثال أيضا بأن التحليل نفسه عملية تفسير، ومن ثم فهي ممارسة خلافية وإشكالية، ولكننا لا نكاد نجد شيئا من هذا في تحليل المحادثات. ومع ذلك، فإن المحللين يميلون، مثل سنكلير وكولتارد، إلى تفسير البيانات استنادا إلى وجود توجه مشترك بين المتحادثين نحو نمط خطابي واحد (ولكن انظر جيفرسون ولي، 1981م)، ومن الآثار الناجمة عن ذلك رسم صورة للمحادثة تتميز بالتناغم المبالغ فيه والتعاون الوثيق.
أضف إلى هذا تجاهل السلطة باعتبارها عاملا في المحادثات، ففي عمليات التفاوض التي أشرت إليها يتمتع بعض المشاركين، عادة، بقوة أكبر من غيرهم. وفي الكثير من أنماط الخطاب (مثل خطاب قاعة الدرس) لا نجد قواعد مشتركة لتناوب الكلام، حيث يتمتع المشاركون بالمساواة في الحقوق والالتزامات، بل نجد توزيعا متفاوتا للحقوق (مثل الحق في أن يختار المتحدث نفسه، أو أن يقاطع المتحدث، أو أن يواصل الحديث عبر أدوار عديدة) والالتزامات (مثل القيام بدوره في الحديث إذا رشح لذلك)، وفي أمثال هذه الحالات يتضح لنا أن إنتاج الخطاب جزء من عمليات أوسع نطاقا، أي عمليات إنتاج الحياة الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية، والهويات الاجتماعية، ولكن جانبا كبيرا من تحليل المحادثات الذي يقدم تفسيرات متناغمة للتفاعل بين الأنداد يعطينا الانطباع بأن إنتاج الخطاب غاية في ذاته.
وعلى الرغم من اختلافهما في نقاط الانطلاق البحثية والتوجهات النظرية، فإن مدخل سنكلير وكولتارد يشارك مدخل تحليل المحادثات نقاط القوة وأوجه القصور؛ إذ إن كليهما قد أسهم إسهاما كبيرا في إيجاد تقدير جديد لطبيعة المباني في الحوار، وإن كان كل منهما يتسم بغياب التوجه الاجتماعي الناضج للخطاب (وفي هذا الصدد يعاني تحليل المحادثات من أوجه النقص نفسها عند سنكلير وكولتارد)، ولا يقدم أيهما وصفا مقنعا لعمليات الخطاب والتفسير، وإن كان تحليل المحادثة يقدم نظرات ثاقبة في جوانب معينة من التفسير. (3) لابوف وفانشيل
يعتبر كتاب لابوف وفانشيل (1977م) دراسة اشترك في إعدادها عالم من علماء اللغة وعالم من علماء النفس لخطاب المقابلة الشخصية الخاصة بالعلاج النفسي، وخلافا لموقف سنكلير وكولتارد، وموقف تحليل المحادثات، يفترض لابوف وفانشيل أن الخطاب غير متجانس، وهما يريان ذلك دليلا على «التناقضات والضغوط» (ص35) الناشئة عن ظروف المقابلة الشخصية، وهما يتفقان مع جوفمان (1974م) على أن التنقل بين «الأطر» من المعالم العادية في المحادثة، ويحددان في المادة التي يدرسانها تركيبا من أساليب مختلفة ترتبط بأطر مختلفة، مثل: «أسلوب المقابلة الشخصية»، و«أسلوب الحياة اليومية»، اللذين يستخدمان في قصص المرضى عما جرى «في الدنيا منذ الزيارة الأخيرة» (والحرف «ق» يرمز في المثال للقصة) وأسلوب الأسرة (التي يرمز له بحرف أ) هو الأسلوب الذي عادة ما يستخدم في الحالات «الأسرية» للتعبير عن المشاعر الجارفة.
وهما يقسمان المقابلات الشخصية إلى «قطاعات» تتفق في مداها تقريبا مع «المبادلات» عند سنكلير وكولتارد، وإن كانت هذه القطاعات يمكن أن تكون أيضا أجزاء من المونولوجات. وتحليل القطاعات يؤكد وجود «تيارات اتصال» لغوية وشبه لغوية، والصفة الأخيرة تشمل بعض ملامح الكلام مثل طبقة الصوت، ودرجة ارتفاعه، وبعض مميزاته مثل «التهدج»، وحمله معاني مضمرة «ينكرها» المتكلم. ومن المتغيرات بين أنماط الخطاب الأهمية النسبية للقناة شبه اللغوية، ففي الخطاب العلاجي يعتبر التناقض بين المعاني الصريحة للقناة اللغوية، والمعاني المضمرة للقناة شبه اللغوية من المعالم الأساسية.
والتحليل يقدم «توسيعا» لكل قطاع، أي إعادة صوغ للنص قادرة على التصريح بما هو مضمر، بالإشارة إلى الأسماء التي تحيلنا إليها الضمائر، والإفصاح عن المعاني المضمرة التي تدلنا عليها المفاتيح شبه اللغوية، وإدراج المادة الحقيقية ذات الصلة بالموضوع من أجزاء أخرى من البيانات، والتصريح ببعض المعرفة التي يشترك فيها المتحدثون. وحالات التوسع المذكورة غير محدودة، ويمكن زيادة تفاصيلها إلى ما لا نهاية. وفيما يلي نموذج نصي، يتضمن التحليل من حيث أساليبه، وصورته الموسعة (ق: قصة، أ: أسرة). < ق وهكذا - عندما اتصلت بها اليوم قلت < أ «والآن، متى تعتزمين أن تأتي إلى البيت؟» > أ > ق. < ق عندما اتصلت بوالدتي اليوم (الخميس) قلت لها في الواقع < أ «والآن، فيما يتعلق بالموضوع الذي يعرف كلانا أنه مهم ومصدر قلق لي، متى تتركين منزل أختي حيث (2) اكتمل الوفاء بالتزاماتك و(4) تعودين إذ إنني أطلب مجيئك إلى بيت، حيث (3) تتعرض التزاماتك الأولية للتجاهل، ما دام ينبغي لك أن تفعلي ذلك باعتبارك (الأم الرئيسة) وترؤسين أسرتنا؟» > أ > ق.
الرموز في الأقواس المجعدة تسبق المقولات التي تقبل كما هي، وبعض هذه خاصة بتفاعل محدد، وبعضها الآخر مثل «الأم الرئيسة»، أي «الأم هي رأس الأسرة»، تترتب عليها دلالات عامة في الثقافة بالنسبة لالتزامات الدور؛ إلى جانب رموز أخرى تنتمي إلى الافتراضات الدائمة للعلاج (مثل مقولة: «المعالج لا يأمر المريض بما ينبغي أن يفعله») أو للثقافة (مثل: «على المرء أن يعتني بنفسه») ونادرا ما تصاغ المقولات صياغة صريحة، ومع ذلك فإن القضية الرئيسية في أي تفاعل قد تتمثل في البت فيما إذا كان الحادث يمثل إحدى المقولات أو لا يمثلها، أضف إلى ذلك أن المقولات تشكل روابط مضمرة بين أجزاء التفاعل، ولها أهميتها في تحقيق ترابط معناه.
إذن فإن تحليل القطاع يقول إنه تفاعل (ومعناه «الفعل الذي يؤثر في العلاقات بين النفس والآخرين») ومن المفترض أن أي كلام منطوق يؤدي في الوقت نفسه عدة أفعال ذات ترتيب هرمي بحيث تقوم الأفعال في المستويات الدنيا بتنفيذ الأفعال في المستويات العليا (وهذه العلاقة يبينها استخدام تعبير «ومن ثم» في المقتطف الوارد أدناه)، وهكذا يقول المقتطف الوارد أعلاه (وبعد تبسيط ما وضعه لابوف وفانشيل):
تواصل رودا (المريضة) القصة، وتقدم معلومات لدعم زعمها أنها نفذت الاقتراح «ح». وتطلب رودا معلومات بشأن الوقت الذي تعتزم والدتها فيه العودة إلى المنزل، ومن ثم تطلب من والدتها بصورة غير مباشرة أن تعود للبيت، ومن ثم تنفذ الاقتراح «ح»، ومن ثم تتحدى والدتها بصورة غير مباشرة بسبب تقاعسها عن القيام بدورها كما ينبغي باعتبارها رئيسة الأسرة، معترفة في الوقت نفسه بأوجه قصورها، وزاعمة في الوقت نفسه مرة أخرى أنها نفذت الاقتراح.
وأما المقولة «ح» فهي اقتراح (المعالج) بأنه ينبغي لكل فرد أن يعبر عن حاجاته للآخرين، وأمثال هذا التصوير تستند إلى قواعد الخطاب التي اقترحها لابوف وفانشيل لتفسير الأشكال السطحية للأقوال المنطوقة، باعتبارها أنواعا معينة من الأفعال، فهما يتحدثان مثلا عن قاعدة «الطلب غير المباشر»، وهي التي تحدد الشروط التي تجعل الأسئلة («طلب المعلومات») تعتبر طلبات للقيام بفعل معين، ويختتم التحليل ب «قواعد التتابع» اللازمة للربط بين القطاعات.
ويشير لابوف وفانشيل إلى مدخلهما باعتباره تحليلا «شاملا» للخطاب، ولا شك أن طابعه الشامل باهر، وإن كان أيضا يستغرق وقتا بالغ الطول، على نحو ما يقران به. وهما يحددان في الواقع عددا من المشكلات التي تكتنفه، فالمفاتيح شبه اللغوية عسيرة التفسير، وهو ما ذاع فعلا عنها، والتوسع قد يستمر بلا نهاية، حيث لا توجد نقاط توقف واضحة الدافع، ومن شأن التوسع طمس الاختلافات المهمة بين العناصر المقدمة والمؤخرة في الخطاب، لكنني أريد التركيز في مناقشتي على فكرتين مهمتين في مدخلهما ولا بد من زيادة النظر فيهما.
تقول الأولى إن الخطاب قد يكون متغاير الأساليب؛ أي غير متجانس بسبب التناقضات والضغوط الناشئة في الحالة التي يجري الكلام فيها. ففي حالة الخطاب العلاجي مثلا، يقال إن استخدام أسلوب «الحياة اليومية» و«الحياة العائلية» يمثل جانبا من استراتيجية المريض؛ لجعل بعض أجزاء الكلام محصنة أمام الخبرة النفاذة للمعالج. وسبق لي أن ذكرت أن هذا شبيه بمفهوم جوفمان عن الأطر. ومبدأ عدم تجانس الخطاب عنصر رئيسي في مناقشتي للتناص. وسوف أقتصر هنا على الإشارة إلى اختلافين اثنين وحسب بين موقفي وموقف لابوف وفانشيل. الأول: هو طي أسلوب داخل أسلوب، كما هو الحال في النموذج الوارد أعلاه، وهو شكل واحد وحسب من أشكال عدم التجانس، وكثيرا ما يتخذ أشكالا أكثر تركيبا وتعقيدا، حيث يصعب الفصل بين الأساليب، وأقول ثانيا: إن نظرتهما إلى التغاير أو عدم التجانس تقوم على أكثر مما ينبغي من الثبات، فهما يريان أن الخطاب العلاجي يمثل تركيبا ثابتا من الأساليب، ولكنهما لا يحللان التغاير بأسلوب دينامي باعتباره يمثل تحولات تاريخية في المركبات الأسلوبية. فالواقع أن القيمة الأولى لمبدأ التغاير تكمن، فيما يبدو، في البحث في التغير الخطابي داخل إطار التغير الاجتماعي والثقافي الواسع النطاق (انظر أواخر الفصل الثالث، حيث ترد تفاصيل هذا المنظور).
وأما الفكرة الثانية فتقول: إن الخطاب يبنى على مقولات مضمرة يسلم المشاركون بصحتها دون مناقشة، وتعتبر الأساس اللازم لترابط معناه، وهذا مبدأ مهم آخر لا ينظر لابوف وفانشيل في إمكانياته الكامنة وما يترتب عليه من آثار، وأقول إنهما، بوجه خاص، لا يلتفتان إلى الطابع الأيديولوجي لبعض هذه المقولات، مثل دور الالتزامات المرتبطة بالأم، أو الأيديولوجيا «الفردية» للذات في مقولة «على المرء أن يعتني بنفسه»، أو إلى الوظيفة الأيديولوجية التي يقوم بها العلاج في إعادة إنتاج هذه المقولات دون طعن فيها، وهو ما يذكرنا بالبحوث النقدية في العلاج باعتباره آلية لإعادة تكييف الأشخاص ؛ للقيام بأدوارهم الاجتماعية التقليدية. وأقول بعبارة أخرى إن لابوف وفانشيل يحجمان عن إجراء تحليل نقدي للخطاب العلاجي، بالرغم من تقديمهما موارد تحليلية قيمة لإجراء مثل هذا التحليل. (4) بوتر ووذريل
والنموذج الأخير للمدخل غير النقدي لتحليل الخطاب الذي أناقشه هنا استخدام بوتر ووذريل (1987م) تحليل الخطاب منهجا في علم النفس الاجتماعي، وهذا مهم في السياق الحالي، أولا: لأنه يبين كيف يمكن استخدام تحليل الخطاب في دراسة قضايا ربطتها التقاليد بمناهج أخرى، وثانيا: لأنه يثير السؤال القائل: هل يرتبط تحليل الخطاب في المقام الأول ب «الشكل» أم ب «المضمون» في الخطاب؟ (انظر نقد طومسون (1984م، 106، 8) لسنكلير وكولتارد لأنهما «شكليان» ويتجاهلان مضمون خطاب قاعة الدرس.)
ويستند دفاع بوتر ووذريل عن تحليل الخطاب باعتباره منهجا لعلماء النفس الاجتماعي إلى حجة واحدة يطبقها المرة تلو المرة على العديد من المجالات الرئيسية للبحث في علم النفس الاجتماعي. وتقول الحجة: إن علم النفس الاجتماعي التقليدي قد أساء تصور خصائص أساسية للمادة اللغوية التي يستخدمها بل و«تكتم عليها»؛ وإن الخطاب بناء ومن ثم فهو يشكل الأشياء والفئات؛ وإن ما يقوله المرء لا يظل متسقا في جميع المناسبات بل يتغير وفقا لوظائف الحديث. وتطبق هذه الحجة أولا على البحث في المواقف، إذ إن البحوث التقليدية كانت تفترض أن لدى الناس مواقف متسقة تجاه الأشياء، مثل «المهاجرين الملونين»، ولكن تحليل الخطاب يبين أن الناس يصدرون تقييمات مختلفة، بل ومتناقضة لشيء ما، وفقا للسياق، ليس هذا وحسب، بل يبين أيضا أن مفهوم الشيء نفسه يتغير وفق تقييمه (ولذلك فإن «المهاجرين الملونين» تركيب يرفضه الكثير من الناس). وتطبق الحجة بعد ذلك على دراسة أساليب استخدام الناس للقواعد، وكيف يقدم الناس «روايات» توضيحية (ذرائع، مبررات ... إلخ) لسلوكهم وما إلى هذا بسبيل، مؤكدة في كل حالة تفوق تحليل الخطاب على المناهج الأخرى، مثل المناهج التجريبية.
ويبين بوتر ووذريل أن إيلاءهما الأولوية للمضمون في مدخلهما مضاد لإيلاء الأولوية للشكل في «نظرية تطويع الكلام» النفسية الاجتماعية، وهي نظرية تتعلق بطرائق تعديل الأشخاص لكلامهم حتى يلائم من يكلمونهم ، ومن ثم فهي تثبت تغيير الشكل اللغوي وفقا للسياق والوظيفة، وأما في مدخلهما فهما يركزان على تغير المضمون اللغوي. وفي بعض الحالات يقع التركيز على مضمون مقولات الكلام المنطوق - في مجال البحث في المواقف مثل ما يقوله من أجابوا على الأسئلة من أبناء نيوزيلاندا بصدد وجوب إعادة المهاجرين البولينيسيين (أي أبناء جزر المحيط الهادي الشرقية) إلى بلادهم - وعلى أنواع الحجج التي «تعمل» فيها هذه المقولات، وفي حالات أخرى يقع التركيز على المفردات والاستعارة، كأن يتعلق مثلا بموقع الخبر في الجملة (من أفعال وصفات) والاستعارات المقترنة بالمجتمع المحلي فيما نشرته أجهزة الإعلام عن الاضطرابات التي وقعت داخل المدن الكبرى في بريطانيا عام 1980م.
والواقع أن التمييز بين الشكل والمضمون ليس واضحا بالصورة التي قد يبدو بها، فللمضمون جوانب تدخل بوضوح في قضايا الشكل، فقد تكون الاستعارة مسألة صهر مجالات معان مختلفة، ولكنها أيضا تتعلق بنوع الألفاظ المستخدمة في النص، وهو جانب من جوانب الشكل الخاص بها، والعكس بالعكس؛ فبعض جوانب الشكل تدخل في قضية المضمون، ومزج الأساليب في الخطاب العلاجي عند لابوف وفانشيل يعتبر - على أحد المستويات - مزجا للأشكال (فهما يشيران مثلا إلى ملامح النبرات التي تميز الأسلوب «العائلي») ولكن له دلالته من حيث المضمون، وليكن مثلا من حيث بناء صورة المريض باعتباره نوعا خاصا من أنواع «النفس» أو الذات.
ويعتبر الإطار التحليلي عند بوتر ووذريل فقيرا إن قورن بالمداخل الأخرى، فالمضمون عندما يقتصر على جوانب محدودة من المعنى «الفكري» أو التصوري للخطاب، وهو ما يتجاهل أبعاد المعنى الأخرى (الخاصة بالعلاقة بين الأشخاص بصفة عامة) وما يرتبط بها من جوانب الشكل (والشرح الوافي للمعنى الفكري والخاص بالعلاقة بين الأشخاص وارد في بدايات الفصل الثالث). وتبدو أوجه القصور التحليلي في أنصع صورها في معالجة بوتر ووذريل لقضية «النفس»، فعلى عكس المعالجات التقليدية للنفس في علم النفس الاجتماعي، يتبنى هذان موقعا تركيبيا يؤكد التغير في بناء النفس في الخطاب، ومع ذلك فإنهما يعجزان عن تطبيق هذه النظرية في تحليل الخطاب، وذلك (كما أقول في الفصل الخامس) لأننا نرى ملامح نفوس مختلفة موحى بها من خلال الصور المجتمعة لمعالم لغوية (وجسدية) وسلوكية شتى، ونحتاج في وصفها إلى جهاز تحليلي أشد ثراء مما يقدمه إلينا بوتر ووذريل.
ويتسم مدخل بوتر ووذريل، مثل المداخل الأخرى المشار إليها، بأنه غير ناضج بالدرجة الكافية في توجهه الاجتماعي للخطاب، فهما يركزان في تحليلهما للخطاب تركيزا فرديا منحازا على الاستراتيجيات البلاغية للمتكلمين، وتعتبر مناقشتهما للنفس استثناء واضحا من ذلك، لأن النظرية التركيبية للنفس تؤكد الأيديولوجيا والتشكيل الاجتماعي للنفس في الخطاب، ولكن هذه النظرية لا تتفق مع التوجه العام للكتاب، كما أنها غير مطبقة في تحليل الخطاب. كما نجد أخيرا اتجاها نحو وصف النشاط الاستراتيجي أو البلاغي للنفس باستخدام الفئات والقواعد وما إليها بسبيل، باعتبارها بديلا عن إخضاع النفس، لا رؤية هذا وذاك معا في تركيب جدلي (انظر الفصل الثالث حيث يرد هذا الرأي مفصلا). (5) علم اللغة النقدي
علم اللغة النقدي مدخل وضعه فريق من الباحثين في جامعة إيست أنجليا في السبعينيات (فاولر وآخرون، 1979م؛ كريس وهودج، 1979م)، إذ حاولوا الجمع بين منهج للتحليل اللغوي للنص وبين نظرية اجتماعية عن وظيفة اللغة في العمليات السياسية والأيديولوجية، استنادا إلى نظرية اللغة الوظيفية المرتبطة باسم مايكل هاليداي (1978م، 1985م) والمعروفة باسم علم اللغة المنهجي (أو اللغويات المنهجية).
ولم يكن من المستغرب، نظرا للأصول البحثية لعلم اللغة المنهجي، أن يحرص على تمييز نفسه عن التيار الرئيسي لعلم اللغة (وهو الذي كان يخضع لسيطرة نموذج تشومسكي آنذاك أكثر مما يخضع حاليا) وعلم اللغة الاجتماعي (انظر فاولر وآخرون 1979م: 185-95) وهو يرفض «ثنائيتين سائدتين مترابطتين» في النظرية اللغوية: أولهما معاملة النظم اللغوية باعتبارها مستقلة ومنفصلة عن «استعمال» اللغة، والثانية هي الفصل بين «المعنى» وبين «الأسلوب» أو «التعبير» (أي فصل «المضمون» عن «الشكل»). واللغويات النقدية تنقض الثنائية الأولى بتأكيدها، مع هاليداي، إن «اللغة أصبحت ما هي عليه بسبب وظيفتها في البناء الاجتماعي» (هاليداي، 1973م، 65) والقول بأن اللغة التي يستعملها الناس تتوقف على موقعهم في النظام الاجتماعي، واللغويات النقدية تعارض الثنائية الثانية بمساندة رأي هاليداي في نحو أية لغة، وهو الذي يقول إنه نظم «خيارات» ينتقي المتكلمون منها ما ينتقون طبقا للظروف الاجتماعية، مفترضا أن الخيارات الشكلية ذات معان متضادة، وأن خيارات الأشكال لها دلالاتها في كل حالة، كما ينتقد علم اللغة الاجتماعي لأنه يكتفي بإقامة تعادلات بين اللغة والمجتمع، بدلا من البحث عن علاقات سببية أعمق، بما في ذلك تأثير اللغة في المجتمع: أي «إن اللغة تعمل على تأكيد وتدعيم المنظمات التي تشكلها» (فاولر وآخرون، 1979م، 190).
والعبارة المقتطفة من هاليداي في الفقرة السابقة مجتزأة من جملة كاملة تقول: «أصبحت اللغة على ما هي عليه بسبب وظيفتها في البناء الاجتماعي، ولا بد أن ينجح تنظيم المعاني السلوكية في تبصيرنا إلى حد ما بأسسها الاجتماعية» (هاليداي 1973م، 65). ويقول كريس (1989م، 445): إن اللغويات النقدية طورت المقولة الواردة في النصف الثاني من المقتطف، لا في الجزء الأول منه في الواقع، إذ إنها حاولت «استنباط» أبنية «الأسس الاجتماعية» من «تنظيم المعاني السلوكية» في النصوص، كما إن اللغويات النقدية تتخذ موقفا يتفق مع هاليداي في اعتبارها أن مادة التحليل تتكون من نصوص كاملة (منطوقة أو مكتوبة) على عكس مسلك التيار الرئيسي لعلم اللغة وعلم اللغة الاجتماعي. وما يسمى ب «افتراض سابير-وورف» الذي يقول: إن اللغات تجسد رؤى معينة للعالم يتسع ليشمل التنوع داخل إحدى اللغات، بمعنى أن نصوصا معينة تجسد أيديولوجيات أو نظريات معينة، والهدف هو «التفسير النقدي» للنصوص: أي «استعادة المعاني الاجتماعية التي يعبر عنها الخطاب بتحليل الأبنية اللغوية على ضوء سياقاتها التفاعلية وسياقاتها الاجتماعية الأكبر» (فاولر وآخرون 1979م، 195-6)، والمرمى وضع منهج تحليلي يمكن أن يستخدمه أشخاص قد يكونون مثلا مؤرخين لا متخصصين في علم اللغة.
ويعتمد علم اللغة النقدي في التحليل النصي اعتمادا كبيرا على عمل هاليداي في مجال «النحو المنهجي» (انظر هاليداي، 1985م) إلى جانب استخدام بعض المفاهيم من نظريات أخرى مثل «أفعال الكلام» و«التحويل». وتختلف اللغويات النقدية عن المداخل الأخرى فيما تبديه من اهتمام بالنحو والمفردات في النصوص، وهي تشير بكثرة إلى «التعدي»، وهو جانب من النحو في عبارة أو جملة يتعلق بمعناها الفكري، أي بالصورة التي تمثل الواقع بها (انظر الفصل السادس حيث المناقشة التفصيلية للتعدي)؛ فالنحو يقدم لنا «أنماط صوغ» مختلفة وما يرتبط بها من «مشاركين» حتى نختار ما نريد منها، وقد يكون الاختيار المنتظم لنمط صيغة معينة ذا دلالة أيديولوجية. فعلى سبيل المثال، نشرت الصحيفة الشيوعية «ذا مورننج ستار» (21 أبريل 1980م) خبرا عن نقابة العاملين بهيئة التأمين الصحي، وكيف نظمت يوما للتظاهر، فصاغت الخبر صياغة توحي بفعل متعد وفاعل هو العمال الذين ينتمون لشمال إنجلترا (وتسميهم الصحيفة «الشماليين») يقول الخبر: «هاجم مئات من الشماليين البرلمان»، وكان من الممكن صياغة هذا الخبر صوغا «علائقيا» لا يبرز فيه قيام العمال بفعل متعد هذا البروز (على سبيل المثال: «اجتمع مئات الشماليين لتقديم مظلمة إلى البرلمان»).
كما يركز المدخل أيضا على أمر متصل بهذا، وهو عمليات «التحويل» النحوية، سواء نظرنا إليها باعتبارها تتفق مع ما يحدث في «الزمن الحقيقي» (مثل التحولات المرتبطة بتطور خبر عن حدث في إحدى الصحف على امتداد أيام متتالية، ومناقشته واردة في ترو 1979م) أو بصورة مجردة، أي إن المعنى الذي كان يمكن التعبير عنه بفعل وفاعل (وجه س انتقادا شديدا إلى ص) تعاد صياغته بأسلوب تحويلي فيما يسمى «الصوغ الاسمي» كقولك: (انتقاد «س» ل «ص» شديد) (أو «كان شديدا»). والصوغ الاسمي يعني تحويل جملة من فعل وفاعل إلى جملة اسمية أو إلى أسماء، والتحويل هنا يستبدل الاسم (انتقاد) بالتركيب الفعلي الأصلي «وجه انتقادا» (أو «انتقد» في الواقع). ومن أشكال التحويل الأخرى البناء للمجهول، أي تحويل المبني للمعلوم إلى مبني للمجهول حتى ولو ذكرت الفاعل في آخر العبارة (انظر مثلا العنوان التالي «المتظاهرون تطلق عليهم النار (من جانب الشرطة)» بدلا من «الشرطة تطلق النار على المتظاهرين»). وقد ترتبط أمثال هذه التحويلات بمعالم ذات دلالة أيديولوجية في النصوص، مثل التعمية المنتظمة للفاعل، فهذا وذاك يسمحان بحذف فاعل الجملة.
ويركز المدخل كذلك على جوانب معينة من نحو الجملة تتصل بالمعاني الخاصة بالعلاقات ما بين الأشخاص، أي التركيز على طرائق الإشارة إلى العلاقات الاجتماعية والهويات الاجتماعية في الجملة، وهذا يسمى نحو النوعية (الخاص بالأسلوب الإنشائي في اللغة العربية والأفعال «الناقصة») (انظر الفصل الخامس حيث الأمثلة والمناقشة). ويقوم المدخل إلى المفردات على افتراض أن الطرائق المختلفة لاستخدام ألفاظ معينة لمجالات المعنى قد تتضمن نظما للتصنيف، تتسم بالاختلاف الأيديولوجي، ومن ثم مصدر اهتمامنا بالنظر في كيفية إعادة تناول مجالات الخبرة بألفاظ مختلفة تستند إلى مبادئ مختلفة للتصنيف، على نحو ما يحدث مثلا في غمار الكفاح السياسي (انظر الفصل السادس للمزيد من التفاصيل).
وتركز اللغويات النقدية عادة تركيزا أكبر مما ينبغي على النص باعتباره منتجا، وتركيزا أقل مما ينبغي على عمليتي إنتاج النص وتفسيره، فعلى سبيل المثال، وعلى الرغم من أن هدف اللغويات النقدية يتمثل - فيما يقال - في
التفسير
النقدي للنصوص، فإن هذا المدخل لا يكاد يهتم بعمليات التفسير ومشكلاته، سواء تلك الخاصة بالمحلل/المفسر، أو تلك الخاصة بالمشارك/المفسر، وهكذا نلاحظ في التفسير أن العلاقة بين المعالم النصية والمعاني الاجتماعية عادة ما تصور في صورة العلاقات المباشرة والشفافة، وعلى الرغم من تأكيد «عدم وجود ارتباط يمكن التنبؤ به بين أي شكل لغوي وأي معنى اجتماعي محدد على أساس مقابلات فردية» (فاولر وآخرون 1979م، 198)، فإن القيم تنسب، في الواقع، إلى أبنية معينة (مثل الجمل المبنية للمجهول التي لا فاعل فيها) بطريقة آلية إلى حد ما، ولكن النصوص قد تكون متاحة لتفسيرات مختلفة، استنادا إلى السياق وإلى المفسر، وهو ما يعني أن المعاني الاجتماعية (بما في ذلك الأيديولوجيات) داخل الخطاب من الممكن استنباطها ببساطة من النص من دون النظر في الأنساق وضروب التنوع في توزيع النص واستهلاكه وتفسيره اجتماعيا. وربما تكون «الأيديولوجيا قائمة في اللغة ومعتادة فيها في عيني القارئ الراضي بها وغير المنتقد لها» (فاولر وآخرون 1979م، 190)، ولكن القراء كثيرا ما يكونون نقادا، وما إن تثبت اللغويات النقدية وجود معان أيديولوجية للنص حتى تميل إلى التسليم بآثارها الأيديولوجية.
ومن أوجه القصور الأخرى في اللغويات النقدية أنها تؤكد من جانب واحد آثار الخطاب في إعادة الإنتاج الاجتماعي للعلاقات والمباني الاجتماعية القائمة، وتتجاهل في مقابل ذلك كون الخطاب ساحة تجري فيها ضروب الصراع الاجتماعي، والتغير في الخطاب باعتباره بعدا من أبعاد التغير الاجتماعي والثقافي الواسع النطاق، وليس هذا منفصلا عن تعليقاتي في الفقرة الأخيرة: أي إن التفسير عملية إيجابية فعالة والمعاني التي تصل إليها تعتمد على الموارد المستخدمة والموقع الاجتماعي للمفسر، ولن يستطيع المرء أن يقول إن النصوص تحدث آثارا أيديولوجية في متلق سلبي إلا إذا تجاهل هذه العملية الدينامية. والقضية بصفة أعم هي النظرة إلى السلطة والأيديولوجيا في اللغويات النقدية باعتبارهما لا يتجهان إلا من القمة إلى القاعدة، وهو ما يتفق مع التأكيد الذي نجده أيضا في المدخل الألتوسيري الذي تتبناه جماعة بيشوه (الذي أناقشه أدناه) بشأن السكون أو الخمود الاجتماعي لا التغير، والمباني الاجتماعية لا الفعل الاجتماعي، وإعادة الإنتاج الاجتماعي لا التحول الاجتماعي، والحاجة قائمة إلى نظرية اجتماعية للخطاب تقوم على إعادة تقييم هذه الثنائيات باعتبارها أقطابا في علاقات توتر، لا أن نختار واحدا من كل ثنائية ونرفض الآخر كأنهما هما متنافيان، أي لا يجتمعان.
وتعليقي الختامي أن اللغويات النقدية تنظر نظرة بالغة الضيق إلى التشابك بين اللغة والأيديولوجيا. ونقول أولا: إن في النصوص جوانب تختلف عن النحو والمفردات وقد تكون لها أهمية أيديولوجية، مثل البناء العام للنص باعتباره حجة أو قصة شاملة. وأقول ثانيا: إن اللغويات النقدية قد عالجت النص الفردي (المونولوج) المكتوب بصفة أساسية، ولم تقل إلا كلمات قليلة نسبيا عن الجوانب المهمة أيديولوجيا والخاصة بتنظيم الحوار المنطوق (مثل التناوب في الحديث) وإن كانت تتضمن بعض المناقشة للأبعاد التداولية للكلام الملفوظ، مثل معالم التأدب (انظر الفصل الخامس أدناه). وأقول ثالثا: إن الإهمال النسبي لعمليات التفسير أدى إلى التركيز الشديد على تحقيق الأيديولوجيات في النصوص، وأما ما تضعه اللغويات النقدية في الخلفية، فهو أن عمليات التفسير تدفع المفسرين إلى وضع افتراضات ليست في النص، وربما تكون لها طبيعة أيديولوجية (انظر الفصل الثاني حيث أضرب لها مثالا) (فيركلف، 1989م، ب، يتضمن مناقشة أوفى).
وقد دأب بعض ممارسي اللغويات النقدية في الآونة الأخيرة على الإعراب عن انتقادهم للعمل السابق (كريس، 1989م، فاولر، 1988م، أ) بما في ذلك بعض الانتقادات التي ذكرتها آنفا، كما اتجه بعض أعضاء المجموعة إلى العمل الوثيق بوضع مدخل مختلف بعض الشيء (هودج وكريس، 1988م؛ كريس وثريد جولد، 1988م) وأطلقوا عليه «السيميوطيقا الاجتماعية». وتختلف هذه عن اللغويات النقدية في أنها تهتم بشتى أنواع النظم السيميوطيقية، ومن بينها اللغة، وكذلك بالتفاعل ما بين اللغة والسيميوطيقا البصرية. وهكذا غدا من شواغلها الرئيسية العمليات الخطابية الخاصة بإنتاج النص وتفسيره، كما اهتمت اهتماما سافرا بوضع نظرية اجتماعية للخطاب، تتسم بالتوجه إلى الكفاح والتغير التاريخي في الخطاب، ويتركز هذا في محاولة لوضع نظرية للنوع. (6) بيشوه
وضع ميشيل بيشوه وزملاؤه (بيشوه وآخرون، 1979م؛ بيشوه، 1982م) مدخلا نقديا لتحليل الخطاب، وهو يشبه اللغويات النقدية في محاولة الجمع بين نظرية اجتماعية للخطاب ومنهج للتحليل النصي، معتمدين أساسا على الخطاب السياسي المكتوب، وكانوا يربطون واعين بين بحوثهم وبين التطورات السياسية في فرنسا، وخصوصا العلاقة بين الحزبين الشيوعي والاشتراكي في السبعينيات والمقارنة بين خطابيهما السياسيين.
وكان المصدر الرئيسي لمدخل بيشوه في النظرة الاجتماعية نظرية الأيديولوجيا الماركسية عند ألتوسير (1971م)، وكان ألتوسير يؤكد الاستقلال النسبي للأيديولوجيا عن القاعدة الاقتصادية، وإسهام الأيديولوجيا الكبير في إعادة إنتاج العلاقات الاقتصادية أو تغييرها، كما كان يقول: إن الأيديولوجيا أبعد ما تكون عن «الأفكار» المجردة، بل إن لها أشكالا مادية. وإلى جانب هذا فإن الأيديولوجيا تعمل من طريق تشكيل الأشخاص باعتبارهم ذواتا اجتماعية، وتثبيتهم في «مواقع» ذوات معينة، وإيهامهم في الوقت نفسه بأنهم أحرار، وتقع هذه العمليات داخل شتى المؤسسات والمنظمات، مثل التعليم أو الأسرة أو القانون، وهي في نظر ألتوسير تعمل باعتبارها أبعادا أيديولوجية للدولة، أو ما أطلق عليه «أجهزة الدولة الأيديولوجية».
ويتمثل إسهام بيشوه في هذه النظرية في إرساء فكرة اعتبار اللغة شكلا ماديا بالغ الأهمية من أشكال الأيديولوجيا، وهو يستخدم مصطلح «الخطاب» ليؤكد الطبيعة الأيديولوجية لاستعمال اللغة، قائلا: إن الخطاب «يبين آثار الصراع الأيديولوجي داخل عمل اللغة، وعلى الجانب المقابل وجود الطابع المادي للغة داخل الأيديولوجيا » (بيشوه، مقتطف في كورتين، 1981م)، ويمكن تصور أحد أجهزة الدولة الأيديولوجية باعتباره مركبا من «تشكيلات أيديولوجية» متداخلة العلاقات، وكل منها يتفق عموما مع موقع طبقي داخل هذا الجهاز. ويقول بيشوه: إن كل موقع من هذه المواقع يتضمن «تشكيلا خطابيا»، وهو المصطلح الذي استعاره من فوكوه. والتشكيل الخطابي هو «الذي يستطيع في إطار أي تشكيل أيديولوجي ... أن يحدد «ما يمكن وما ينبغي أن يقال» » (بيشوه 1982م، 111، والتأكيد في الأصل). وفهم هذا الكلام يتعلق بالدلالات المحددة للألفاظ: فالكلمات يتغير معناها وفقا لمواقع الذين «يستخدمونها»، (بيشوه وآخرون 1979، 33) أضف إلى هذا أنه على الرغم من أن تشكيلين خطابيين مختلفين قد يشتركان في كلمات أو تعبيرات معينة فيهما، فإن العلاقات بين هذه وبين الكلمات أو التعبيرات الأخرى سوف تختلف ما بين الحالتين، وينطبق ذلك على معاني هذه الكلمات والتعبيرات المشتركة؛ لأن علاقتها بغيرها هي التي تحدد معناها. فعلى سبيل المثال نجد أن كلمة «مناضل» تعني أشياء متعددة كثيرة في خطاب النقابات (حيث قد تكون مرادفا للناشط، وعكس معنى «الخامل») وفي خطاب اليمين المحافظ (حيث يمكن أن تكون مرادفا ل «المخرب» وعكس معنى «المعتدل»). يضاف إلى هذا أن الذوات الاجتماعية تتشكل في علاقتها بتشكيلات خطابية معينة ومعانيها الخاصة؛ وهذه التشكيلات الخطابية، حسبما يقول بيشوه واجهات لغوية «ل «مجالات فكرية» ... تكونت على أسس اجتماعية تاريخية في صورة نقاط تحقيق الاستقرار، إذ تنتج الذات وفي الوقت نفسه
تنتج في صحبته
ما سوف يرى ويفهم ويفعل ويخاف ويتمنى» (بيشوه 1982م، 112-13، التأكيد في الأصل).
وتقع التشكيلات الخطابية داخل مركبات من عدد من التشكيلات الخطابية المترابطة، تسمى المركب الخطابي، وتتحدد المعاني الخاصة بكل تشكيل خطابي «من الخارج»، أي من خلال علاقته بغيره داخل المركب الخطابي. و«الحالة» الخاصة للمركب الخطابي في أي وقت معين (أي ما التشكيلات الخطابية التي يحتويها وما العلاقات بينهما)، تعتمد على حالة الصراع الأيديولوجي داخل أجهزة الدولة الأيديولوجية، ولكن هذا التحديد الخارجي للتشكيلات الخطابية أمر لا تتمتع الذوات في العادة بالوعي به، فالذوات يميلون إلى أن يتصوروا خطأ أنهم هم أنفسهم مصدر معاني التشكيل الخطابي، وإن كانوا في الحقيقة من نواتجه. ويشير بيشوه إلى عناصر جاهزة سابقة البناء تتردد وتدور بين التشكيلات الخطابية، ويظن الناس أنها تعبر عن «الواقع»، أو عما هو معروف، أو ما سبق أن قاله المشاركون، في حين أن هذه عناصر نشأت في الواقع خارج الذوات، أي داخل المركب الخطابي. ومن الأمثلة تعبيرات مثل «ارتفاع مستويات المعيشة بعد الحرب»، أو «التهديد السوفييتي»، وهي تنتقل من تشكيل خطابي إلى آخر، باعتبارها تعبيرات جاهزة، مع افتراضاتها السابقة (أي إن ارتفاع مستويات المعيشة قد حدث، وأنه يوجد تهديد).
ولكننا نواجه تمييزا مهما يقول: إن الذوات لا يقبلون التشكيل الخطابي قبولا تاما في كل حالة، فقد يقيم بعضهم مسافة تفصله عنهم باستعمال ما يسمى «التمييز الميتاخطابي» (انظر الفصل الرابع) مثل الإشارة إليه مسبوقا بصفة «المزعوم» أو بعبارة «ما يسمى كذا»، أو بتجهيله. وهذا التمييز الذي يحول دون القبول الكامل أي «التماهي»، يطلق عليه بيشوه تعبير «التماهي المضاد»، ويعني به الابتعاد عن الممارسات القائمة من دون إحلال ممارسات جديدة في محلها. وأما إذا حدث هذا الإحلال فسوف ينشأ لدينا ما يسمى «نقض التماهي» وهو موقف اختلاف جذري تجري فيه «الإطاحة بمركب التشكيلات الأيديولوجية وإعادة ترتيبها (مع التشكيلات الخطابية المتداخلة معها)» (بيشوه 1982م، 189)، ولكن بيشوه يرى إمكان الارتباط الخاص بين نقض التماهي وبين النظرية والممارسة الثورية للماركسية اللينينية في الشكل التنظيمي للحزب الشيوعي.
ويسمى منهج التحليل «التحليل التلقائي للخطاب» لأن للإجراءات جانبا يتولاه الحاسوب لتحديد التشكيلات الخطابية في مجموعة مختزنة من النصوص. ويقول بيشوه وآخرون (1979م، 33): إن تكوين «الكوربوس» (النصوص المختزنة) في ذاته يجسد «الافتراض القائل بوجود تشكيل خطابي واحد أو أكثر» مهيمن على النصوص التي يتكون منها، ويضيف بيشوه وزملاؤه: إن مثل هذا الافتراض ينبغي أن يصدر من المباحث العلمية المتخصصة، مثل التاريخ أو علم الاجتماع، لا من محللي الخطاب أنفسهم، لتجنب الدوران في حلقات، إذ إن تجميع الكوربوس على أساس افتراض ما، يعني فرض التجانس على هذه النصوص، كما يزداد تجانس الكوربوس باستبعاد بعض الأجزاء النصية التي تختلف «ظروف إنتاجها» (وتختلف من ثم التشكيلات الخطابية المهيمنة فيها) عن النصوص الرئيسية.
وأول إجراء من هذه الإجراءات هو التحليل اللغوي للنص بتقسيمه إلى جمل بسيطة، باستخدام الإجراءات «التحويلية» التي وضعها عالم اللغة زليج هاريس (1963م). على سبيل المثال: «إنني آسف لرحيلها» يمكن تحليلها بتقسيمها إلى جملتين بسيطتين هما: «إنني آسف» «(لأنها) رحلت». وبعد ذلك توضع رسوم بيانية تبين أنواع العلاقات بين هذه الجمل البسيطة (التنسيق، التبعية، الاستكمال ... إلخ). ويجري بعد ذلك تطبيق إجراءات حاسوبية أخرى لتحديد الكلمات والعبارات التي ترتبط بعلاقة «استبدالية»، بمعنى أنها يمكن أن تأتي في المواقع نفسها في الجمل البسيطة ذات البناء النحوي المماثل، والتي تتشابه في علاقتها بالجمل البسيطة الأخرى. فعلى سبيل المثال ترتبط الكلمتان «المناضلون» و«المخربون» بعلاقة استبدالية في الجملتين التاليتين: «علينا أن ننتبه للمناضلين الذين يعطلون الصناعة»، و«يجب أن تحذر الأمة من المخربين الذين يقوضون مؤسساتنا». وعندما تنشأ علاقة استبدالية في أحد النصوص بين كلمات أو تعبيرات معينة، تنشأ علاقات دلالية بينها، مثل علاقة الترادف («أ» يفيد «ب»، و«ب» يفيد «أ») أو علاقة الإيحاء المضمر («أ» توحي ب «ب»)، ولكن «ب» لا توحي ب «أ»، ومن المحتمل أن يكون ذلك سمة مميزة للتشكيل الخطابي الذي يرتبط به النص. وتركز الإجراءات على «كلمات أساسية» معينة، كلمات ذات قيمة اجتماعية استثنائية أو دلالة سياسية (مثل كلمة «الكفاح» في الخطاب السياسي) (ولمن يريد المزيد من الوصف التفصيلي لمنهج التحليل أن يرجع إلى مينجينو 1976م، وطومسون 1984م، 238-47)، وأخيرا لا بد من تفسير نتائج الإجراءات التحليلية، وإن كانت المشاكل المرتبطة بالتحليل لا تكاد تحظى بأي اهتمام، ويبدو أن المنهج كله مخصص لحالة واحدة.
وترجع قوة مدخل بيشوه، وسبب اعتباره مدخلا نقديا، إلى أنه يقرن نظرية ماركسية للخطاب بالمناهج اللغوية للتحليل النصي. ومع ذلك فإن معالجته للنصوص غير مرضية. فكما ذكرت آنفا، يؤدي بناء الكوربوس إلى فرض التجانس على النصوص قبل تحليلها، (كورتين وماراندين، 1981م، 22-23) وتطبيق الإجراءات التحويلية في تحليل النصوص وتقسيمها إلى جمل بسيطة يؤدي إلى طمس المعالم المميزة للتنظيم النصي. أضف إلى ذلك أن هذه الإجراءات تسمح بالتركيز على أجزاء مختارة من النصوص، وهو ما يعني أن التحليل سوف ينصب على الجمل في الواقع لا على النصوص. كما أن النصوص تعامل معاملة النواتج، على نحو ما يعاملها ممارسو اللغويات النقدية، وأما العمليات الخطابية الخاصة بإنتاج النصوص وتفسيرها فلا تكاد تحظى بأي اهتمام. كما يجري تحليلها من زاوية دلالية ضيقة (وهو الانتقاد الذي وجهته أيضا إلى بوتر ووذريل) مع التركيز المحدد سلفا على «الكلمات الأساسية»، وهذا يعني الاهتمام بالأبعاد الفكرية للمعنى فقط، وإهمال أبعاد العلاقات بين الأشخاص وهي التي تتعلق بالعلاقات الاجتماعية والهويات الاجتماعية، وتجاهل خصائص معنى المقولات المنطوقة في سياقها، في سبيل تحديد المعنى التجريدي للعلاقات. وهكذا فإن هذا المدخل يتجاهل جوانب كثيرة من شكل النصوص وتنظيمها وهي التي تهتم بها المداخل الأخرى، والخلاصة أن المحلل لا يحاول معالجة العناصر المميزة للنص ول «الحادث الخطابي»، بل يتناول النصوص بصفتها أدلة على صحة افتراضات مسبقة عن التشكيلات الخطابية، ونلاحظ وجود اتجاه مماثل في النظرية الألتوسيرية للمبالغة في تأكيد إعادة الإنتاج - بمعنى وصف مواقع الذوات داخل تشكيلات معينة وكيفية ضمان السيطرة الأيديولوجية - على حساب التغيير، أي كيف يمكن للذوات الطعن في السيطرة والتشكيل القائم وإعادة هيكلته تدريجيا من خلال ممارستهم. وسبق لي أن قلت بوجود تأكيد مماثل في اللغويات النقدية، وهكذا فإن مدخل بيشوه يقوم على نظرة من جانب واحد للذات في موقعها، وباعتبارها ناتجا، وتجاهل قدرة الذوات على العمل باعتبارهم قوى فاعلة. وأما نظرية «نقض التماهي» باعتبارها تمثل التغيير الذي يتولد خارج الذات من خلال ممارسة سياسية معينة، فإنها بديل غير محتمل الوقوع لبناء إمكانية تغيير نظرة المرء إلى الخطاب وإلى الذات.
وأما تحليل الخطاب على أيدي «الجيل الثاني» في إطار تقاليد بيشوه، فقد أدى إلى تغيير المنهج بطرائق جوهرية، وكان ذلك راجعا في جانب منه إلى الانتقادات الموجهة إليه، وراجعا في جانب آخر إلى تأثير التغيرات السياسية في فرنسا (مالديديه، 1984م، 11-14)، وأكدت بعض دراسات الخطاب السياسي (مثل كورتين، 1981م) استراتيجيات التحالف الخطابية، ووجود مجموعات من تشكيلات خطابية مختلفة تؤدي إلى جعل الخطاب حافلا بالعناصر المتباينة وغامضا، ولكن هذه الخصائص يصعب استيعابها في الرؤية السابقة التي تقول بأن التشكيلات الخطابية متجانسة صلبة وترتبط بعلاقات تعارض ثابتة ساكنة. وقد وصف الخطاب بعد ذلك بأنه يتميز في تكوينه بالتباين الداخلي (أوتييه، ريفي 1982م)، وأن من مقوماته عناصر «حوارية» و«تناصية» من نوع ينتمي إلى تقاليد نظرية مختلفة (انظر باختين، 1981م، وكريستيفا، 1986م، أ؛ والفصل الثالث في هذا الكتاب)، كما بدأ النظر إلى البحوث السابقة من الزاوية التي انتقدته منها عاليه، أي باعتباره إجراءات ترمي إلى فرض التجانس، وأصبح ينظر إلى المركب الخطابي باعتباره «عملية إعادة هيكلة مستمرة»، حيث يتسم تحديد أي تشكيل خطابي بأنه «غير ثابت أساسا، فليس بالحدود الدائمة التي تفصل ما بين الداخل والخارج، ولكنه جبهة تتلاقى فيها تشكيلات خطابية مختلفة، وهي جبهة حدودية تتغير وفقا لما يدور حوله الصراع الأيديولوجي» (كورتين، 1981م، 24). ونظرا لتعدد العناصر التي يتكون منها الخطاب، فلا بد أن تظل أقسام معينة من النص تحمل أكثر من وجه للمعنى، وهو ما يواجه المفسر بأسئلة حول التشكيلات الخطابية التي يراها أقرب في نظره إلى تفسيرها، وهكذا، كما قال بيشوه في أحد أبحاثه الأخيرة (1988م)، يكتسب تحليل الخطاب طابع البحث التفسيري لا البحث الوصفي المباشر. ونلاحظ في الوقت نفسه التخلي عن «وهم المؤمن بالنظريات» الذي يقول: إن التحولات الجذرية للمركب الخطابي «يبررها وجود الماركسية/اللينينية» (بيشوه، 1983م، 32). وإزاء التركيز الجديد على «الحادث» الخطابي المعين، نشأت نظرة جدلية إلى الخطاب، وأصبحت إمكانية التحولات راسخة في طبيعة الخطاب المتباينة المتناقضة، ويقول بيشوه: «إن أي خطاب يمكن أن يعتبر علامة على الحركة داخل الانتماءات الاجتماعية التاريخية التي تستند إلى الهوية، وذلك في حدود اعتبار الخطاب، في الوقت نفسه، من ثمار هذه الانتماءات والعمل ... الخاص بالإزاحة داخل ساحتها» (بيشوه 1988م، 648) (والمقصود بالإزاحة أن الخطاب أزاح أحد الانتماءات وحل محلها).
الخاتمة
أود أن أختتم هذا الاستقصاء بالربط بين القضايا الرئيسية التي عرضت لها حتى الآن، في صورة عدد من المقولات التي يمكن اعتبارها «المطلوب» للمدخل النقدي السليم لتحليل الخطاب، وسوف يقدم ذلك صورة أولية للمدخل الذي أشرع في بنائه في الفصل الثالث، ويبين علاقته بما سبقت لي مناقشته، وسوف يساعد في الوقت نفسه على تحديد المجالات التي يظهر فيه ضعف وفجاجة تقاليد تحليل الخطاب ذات التوجه اللغوي التي استعرضتها في هذا الفصل، وهي التي تحتاج إلى التدعيم بالاستفادة من معالجة اللغة والخطاب في النظرية الاجتماعية. (1)
موضوع تحليل النصوص اللغوية، وهي تحلل من زاوية طبيعتها الخاصة (انظر بيشوه). يجب أن تضمن النصوص المختارة لتمثيل مجال معين من مجالات الممارسة تمثيل التنوع في شتى الممارسات (انظر سنكلير وكولتارد) وتجنب فرض التجانس عليها (انظر بيشوه). (2)
بالإضافة إلى كون النصوص «نواتج» لعمليتي إنتاج النصوص وتفسيرها، فإن هذه العمليات نفسها تخضع للتحليل (انظر سنكلير وكولتارد، واللغويات النقدية، وانظر المدخل إلى التحليل النقدي للخطاب في فان دييك (1988م) الذي يبدي اهتماما مفصلا بعمليات الخطاب). ينظر إلى التحليل نفسه باعتباره تفسيرا، ويسعى المحللون إلى إبداء الحساسية لميولهم التفسيرية والأسباب الاجتماعية لها (انظر سنكلير وكولتارد، وتحليل المحادثات، واللغويات النقدية). (3)
قد تتميز النصوص بتعدد عناصرها المتباينة وبالغموض، وقد يتطلب إنتاجها وتفسيرها الاستعانة بمجموعات من أنماط مختلفة من الخطاب (لابوف وفانشيل؛ انظر تحليل المحادثات، ومجموعة بيشوه من «الجيل الأول»). (4)
يدرس الخطاب تاريخيا وديناميا، من حيث تغير المجموعات من أنماط الخطاب في إنتاج الخطاب، ومن حيث ما يتجلى في هذا التغيير من تمثيل وتشكيل لعمليات تغيير اجتماعي أوسع نطاقا («الجيل الثاني» من مجموعة بيشوه، والسيميوطيقا الاجتماعية؛ وانظر لابوف وفانشيل، و«الجيل الأول» من مجموعة بيشوه، واللغويات النقدية). (5)
الخطاب بناء اجتماعيا (اللغويات النقدية، بيشوه، بوتر ووذريل)، إذ إنه يشكل الذوات الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية، ونظم المعرفة والعقيدة، كما أن دراسة الخطاب تركز على آثاره الأيديولوجية البناءة (بيشوه، اللغويات النقدية، انظر لابوف وفانشيل). (6)
لا يقتصر اهتمام تحليل النصوص على علاقات السلطة في الخطاب (انظر تحليل المحادثة)، بل يبين أيضا كيف تقوم علاقات السلطة والصراع على السلطة بتشكيل الممارسات الخطابية في مجتمع ما أو مؤسسة ما وتغييرها (الجيل الثاني من مجموعة بيشوه؛ انظر المداخل غير النقدية، واللغويات النقدية). (7)
يهتم تحليل الخطاب بعمله في التحويل الإبداعي للأيديولوجيات والممارسات، وكذلك عمله في ضمان إعادة إنتاجها (انظر بيشوه، واللغويات النقدية). (8)
تحلل النصوص من حيث التنوع الشديد في معالمها شكلا ومعنى (مثل خصائص الحوار، وبناء النص والمفردات والنحو أيضا) فيما يتعلق بالوظيفة الفكرية للغة ووظيفتها في العلاقات ما بين الأشخاص (انظر بوتر ووذريل، وبيشوه).
والذي أتصوره أن تحليل الخطاب يركز على التنوع والتغيير والصراع؛ فالتنوع في الممارسات وتنوع العناصر داخلها يعني أنها انعكاس معاصر لعمليات التغير التاريخي التي شكلها الصراع بين القوى الاجتماعية. وعلى الرغم من أن البنود 4 و5 و6 حظيت ببعض الدعم، خصوصا في إطار المداخل النقدية لتحليل الخطاب التي ناقشتها عاليه، فإن علينا أن نستعين بالنظرية الاجتماعية حتى نجد صورها الكاملة الناضجة الصريحة. ويقدم فوكوه نظرات ثاقبة قيمة فيها جميعا، كما سوف أقيم الحجة على ذلك في الفصل الثاني. ومع ذلك، فلا التقاليد النقدية في تحليل الخطاب ذي التوجه اللغوي، ولا فوكوه، يعالج البند السابع معالجة مرضية، ألا وهو الأسلوب الذي يسهم به الخطاب في إعادة إنتاج المجتمعات وفي تغييرها. وثنائية الخطاب المشار إليها تتمتع بأهمية أساسية في الإطار الذي أقدمه في الفصل الثالث، وتجاهلها في كتابات فوكوه ترتبط بضعف نظري ومنهجي كبير في عمله.
الفصل الثاني
ميشيل فوكوه وتحليل الخطاب
ألم تنجح ممارسة الخطاب الثوري والخطاب العلمي على امتداد المائتي عام الأخيرة في تحريرك من الفكرة التي تقول إن الألفاظ ريح، همس خارجي، رفرفة أجنحة يصعب على المرء سماعها في قضية التاريخ الخطيرة؟
ميشيل فوكوه، علم آثار المعرفة
كان لفوكوه تأثير هائل في العلوم الاجتماعية والإنسانيات، ومن الممكن أن يعزى شيوع مفهوم «الخطاب» وتحليل الخطاب باعتباره منهجا، في جانب منه، إلى هذا التأثير، ومن المهم أن نفحص عمله ببعض التفصيل لسببين؛ الأول أن علماء الاجتماع يشيرون على نطاق واسع إلى مدخل فوكوه إلى تحليل الخطاب باعتباره نموذجا، ولما كنت أدعو إلى مدخل مختلف لتحليل الخطاب في دراسات التغير الاجتماعي والثقافي، فلا بد من إيضاح العلاقة بين المدخلين. فالتضاد كبير هنا بين تحليل الخطاب ذي التوجه النصي (ومن ثم التوجه اللغوي) (وقد أشير إليه فيما يلي باسم «التحليل النصي» فقط) وهو مدخلي الخاص، وبين مدخل فوكوه التجريدي. كما إنني أحتاج إلى تقديم الأسباب التي تبرر ضرورة نظر علماء الاجتماع في استخدام «التحليل النصي»، وسوف أسوق الحجة في آخر الفصل على أنه يمكن أن يؤدي إلى تحليلات اجتماعية أفضل.
وأما السبب الثاني لتخصيص فصل عن فوكوه، فقد سبقت لي الإشارة إليه، ألا وهو أن بناء مدخل للتحليل الخطابي، سليم من الناحية النظرية ويمكن تطبيقه عمليا، يتطلب تركيبا يجمع بين تحليل الخطاب ذي التوجه اللغوي وبين النظرات الثاقبة التي أتت بها النظرية الاجتماعية الحديثة في اللغة والخطاب. وعمل فوكوه يسهم إسهاما مهما في بناء نظرية اجتماعية للخطاب في مجالات معينة مثل العلاقة بين الخطاب والسلطة، والبناء الخطابي للذوات الاجتماعية والمعرفة، والعمل الذي يؤديه الخطاب في التغيير الاجتماعي، وعلى نحو ما بينت في آخر الفصل الأول، نرى أن المداخل ذات التوجه اللغوي ضعيفة وغير ناضجة في هذه المجالات.
ومع ذلك، فلما كان مدخل فوكوه إلى الخطاب، والسياق الفكري الذي نشأ وتطور فيه، يختلفان اختلافا شاسعا عما يقابلهما في حالتي، فلا يستطيع المرء أن «يطبق» عمل فوكوه في تحليل الخطاب، فهذا يعنى، كما يقول كورتين، دعوة «منظور فوكوه إلى العمل» (1981م، 40) في إطار «التحليل النصي» ومحاولة تطبيق نظراته الثاقبة في مناهج التحليل الفعلية. كانت المكانة البارزة التي حظي بها الخطاب في أعمال فوكوه المبكرة نتيجة للمواقع التي اتخذها إزاء إجراء البحوث في العلوم الإنسانية، إذ اختار التركيز على ممارسات خطابية في محاولة لتجاوز الطريقين البديلين الكبيرين للبحث، واللذين كانا متاحين آنذاك للباحثين الاجتماعيين، وهما البنيوية والتفسيرية (الهرمانيوطيقا) (دريفوس ورابينوف 1982م، 13-23). أي إن فوكوه مهتم بالممارسات الخطابية باعتبارها تشكل المعرفة، وبشروط تحويل المعرفة المرتبطة بتشكيل خطابي معين إلى علم.
وهذا السياق الفكري يساعد على إيضاح الفوارق الكبيرة بين تحليل الخطاب عند فوكوه وتحليل الخطاب ذي التوجه النصي. نقول أولا: إن فوكوه كان مهتما في بعض مراحل عمله بنوع بالغ الخصوصية من أنواع الخطاب، أي خطاب العلوم الإنسانية، مثل الطب، والطب النفسي، والاقتصاد والنحو، وأما تحليل الخطاب ذو التوجه النصي فإنه، على خلاف ذلك، يهتم بأي نوع من أنواع الخطاب، كالمحادثة، وخطاب قاعة الدرس، وخطاب أجهزة الإعلام وهلم جرا. وأقول ثانيا، كما سبق لي أن بينت: إن تحليل النصوص اللغوية المنطوقة والمكتوبة جانب أساسي من جوانب تحليل الخطاب ذي التوجه النصي، ولكنه ليس جزءا من تحليل الخطاب عند فوكوه، إذ إنه يركز على ما يسمى «شروط إمكانية» الخطاب (روبين، 1973م، 83) وعلى «قواعد التكوين» التي تحدد ما يمكن أن يكون «موضوعا»، و«النوعيات التعبيرية»، و«الذوات» و«المفاهيم»، و«الاستراتيجيات» الخاصة بنمط معين من أنماط الخطاب (ويرد شرح هذه المصطلحات أدناه). ويركز فوكوه على مجالات المعرفة التي تشكلها هذه القواعد.
اقتطفت آنفا رأي كورتين الذي يقول: إن علينا دعوة «منظور فوكوه إلى العمل» في إطار تحليل الخطاب ذي التوجه النصي، ولكن الإشارة إلى «منظور فوكوه» يمكن أن تكون مضللة، بسبب التحولات في عمل فوكوه من تأكيد شيء إلى تأكيد سواه (وهي موصوفة بوضوح في ديفيدسون، 1986م). ففي عمله المبكر الخاص ب «علم آثار المعرفة» نجده يركز على أنماط الخطاب (التشكيلات الخطابية، انظر أدناه) باعتبارها قواعد لتكوين مجالات المعرفة، وأما في دراساته الأخيرة عن «الأنساب»، فالتأكيد يتحول إلى العلاقات بين المعرفة والسلطة. وأما في أعمال فوكوه في سنواته الأخيرة، فإن اهتمامه يتحول إلى «الأخلاق» أي «كيف يفترض أن يشكل الفرد نفسه باعتباره ذاتا أخلاقية بأفعاله نفسها» رابينوف، 1984م، 352. وعلى الرغم من أن الخطاب يظل في دائرة اهتمامه دائما، فإن مكانة الخطاب تتغير، ويتغير ما يترتب على ذلك من موقعه بالنسبة للتحليل النصي.
وسوف أقدم في هذا الفصل أولا وصفا وتقييما لمفاهيم الخطاب في دراسات فوكوه «الأثرية» (خصوصا فوكوه، 1972م)، ثم أناقش كيف تغيرت مكانة الخطاب في عمل فوكوه الخاص بالأنساب (مركزا على فوكوه، 1979م، و1981م). والهدف الرئيسي في هذين القسمين تحديد عدد من المنظورات القيمة والنظرات الثاقبة في الخطاب واللغة في عمل فوكوه، وهي التي ينبغي أن تدرج في نظرية تحليل الخطاب ذي التوجه النصي، وأن تطبق في منهجيته حيثما كان ذلك ملائما، ولكنني أختتم كلامي بمناقشة بعض نقاط الضعف في عمل فوكوه، وهي التي تحد من قيمته للتحليل النصي، وكيف يمكن للتحليل النصي أن يدعم التحليل الاجتماعي، بما في ذلك التحليل الاجتماعي في إطار التقاليد الفوكولتية. وإذن، فإن ما أقدمه يعتبر قراءة لفوكوه من وجهة نظر خاصة؛ وأما العروض والبحوث النقدية الأشمل والأكثر اتزانا، فإنها متاحة في كتب أخرى (مثل دريفوس ورابينوف، 1982م؛ وهوي، 1986م؛ وديوز، 1987م؛ وفريزر، 1989م). (1) أعمال فوكوه «الأثرية»
تتضمن الدراسات «الأثرية» المبكرة لفوكوه (وسوف أشير بصفة خاصة إلى فوكوه، 1982م) فكرتين نظريتين رئيسيتين عن الخطاب، وينبغي إدراجهما في تحليل الخطاب ذي التوجه النصي. أما الأولى فهي نظرية بنائية للخطاب، وتعني النظر إلى الخطاب باعتباره مكونا فعالا أو بانيا للمجتمع من شتى الأبعاد؛ فالخطاب يشكل موضوعات المعرفة، والذوات الاجتماعية، وأشكال «النفس»، والعلاقات الاجتماعية، والأطر النظرية. وأما الثانية فهي تأكيد الاعتماد المتبادل فيما بين ممارسات الخطاب لمجتمع من المجتمعات، أو مؤسسة من المؤسسات؛ فالنصوص دائما ما تنهل من غيرها من النصوص المعاصرة والسابقة تاريخيا، وتغيرها (وهي خصيصة يشار إليها بتعبير شائع هو «تناص» النصوص ، انظر الفصل الثالث)، كما أن أي نمط من أنماط الممارسة الخطابية يتولد من امتزاج نصوص أخرى معا، ويعتمد تحديده على علاقته بالنصوص الأخرى (وهو المنظور الذي أدركه بيشوه، وعبر عنه بما نسبه من أولوية ل «التركيب الخطابي» انظر الفصل الأول). وعلى الرغم من أن تركيز فوكوه (1972م) منصب على التشكيلات الخطابية للعلوم الإنسانية، فإن نظراته الثاقبة تنسحب على جميع أنماط الخطاب.
ما الذي يعنيه فوكوه ب «الخطاب» و«تحليل الخطاب» في أعماله «الأثرية»؟ إنه يرى أن تحليل الخطاب مختص بتحليل «الأقوال» (وهذه هي الترجمة المعتادة للكلمة الفرنسية
énoncés ؛ وهي ترجمة قد تكون مضللة إلى حد ما؛ إذ توحي بأن المقصود هو العبارات الخبرية، خلافا للأسئلة والأوامر والتهديدات وهلم جرا). وطبقا لإحدى الصياغات (فوكوه ، 1972م، 107-108) فإن تحليل الأقوال يمثل طريقة واحدة من عدد من الطرائق المستخدمة لتحليل «أشكال الأداء اللغوي». وأما الأخريات فهي: «التحليل المنطقي للمقولات، والتحليل النحوي للجمل، والتحليل السياقي أو النفساني للصيغ» والتحليل الخطابي للأقوال ليس بديلا عن هذه الأنماط الأخرى للتحليل، لكنه لا يمكن اختزاله فيها أيضا. ومن النتائج المترتبة على ذلك أن فوكوه يرى أن تحليل الخطاب لا تنبغي معادلته بالتحليل اللغوي، ولا معادلة الخطاب باللغة. فتحليل الخطاب لا يتعلق بتحديد أي الجمل «ممكنة» أو نحوية، بل بتحديد «التشكيلات الخطابية» المتغيرة من الزاوية الاجتماعية التاريخية (ويشار إليها أحيانا بصفة «الخطاب» وحسب)، ونظم القواعد التي تجعل من الممكن تكوين أقوال (عبارات/جمل) معينة دون غيرها في أماكن وأوقات ومواقع مؤسسية معينة. والواقع أن تصور التحليل اللغوي الذي يتوسل به فوكوه مرتبط بلحظة زمنية معينة (فوكوه، 1972م، وكان قد كتب في 1969م) وأنواع القواعد التي يستند إليها تماثل، فيما يبدو، ما كان الباحثون في علم اللغة الاجتماعي في السبعينيات قد انتهوا إلى تسميته «قواعد اللغويات الاجتماعية»، أي القواعد الاجتماعية لاستعمال اللغة. ومع ذلك، فإن منظور فوكوه يختلف اختلافا شاسعا عن أي منظور نجده في علم اللغة الاجتماعي؛ ويرجع جانب من هذا الاختلاف إلى عدم الاهتمام بالنصوص اللغوية المشار إليه آنفا .
ويتكون التشكيل الخطابي من «قواعد التشكيل» الخاصة بمجموعة الأقوال المعينة التي تنتمي إليه، وبصفة أخص قواعد تشكيل «الموضوعات»، وقواعد تشكيل «النوعيات التعبيرية»، و«مواقع الذات»، والقواعد الخاصة بتشكيل «المفاهيم»، والقواعد الخاصة بتشكيل «الاستراتيجيات» (فوكوه، 1972م، 31-39). وقواعد التشكيل المذكورة تكونها مركبات من عناصر سابقة، خطابية وغير خطابية (الأمثلة عليها أدناه) وعملية التعبير عن هذه العناصر وربطها معا تجعل الخطاب ممارسة اجتماعية (وفوكوه نفسه يستخدم تعبير «ممارسة خطابية»). وسوف أناقش كل نمط من أنماط هذه القواعد بالترتيب، مقدما ملخصا لموقف فوكوه، ومشيرا بإيجاز إلى إمكان أهميتها وما يترتب عليها لتحليل الخطاب. (2) تشكيل الموضوعات
تقول النظرة الأساسية فيما يتعلق بتكوين الموضوعات: إن «موضوعات» الخطاب تتكون وتتحول في الخطاب وفقا لقواعد تشكيل خطابي معين، لا أنها توجد بصورة مستقلة، ويشار إليها وحسب، أو يدور الحديث عنها في خطاب معين. وكلمة «موضوعات» يعني بها فوكوه موضوعات المعرفة، أي الكيانات التي تعترف بها مباحث أو علوم معينة داخل مجالات اهتمامها، وتتصدى لها باعتبارها أهدافا للبحوث (ويمكن التوسع في هذا المعنى من معاني الموضوعات، بحيث يتجاوز المباحث أو العلوم المنظمة شكليا ويشمل الكيانات المعترف بها في الحياة العادية). ويضرب فوكوه مثالا لتكوين «الجنون» باعتباره موضوعا من موضوعات خطاب الأمراض النفسية منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن؛ وقد نجد أمثلة أخرى مثل تكوين «الأمة» و«العرق» أو «الحرية» و«الإنجاز» (انظر كيت وأبركرومبي، 1990م) في الخطاب الإعلامي والسياسي المعاصر، أو مثل «معرفة القراءة والكتابة» في الخطاب التعليمي. ويقول فوكوه: «إن المرض النفسي كونه كل ما ذكر في جميع الأقوال التي وضعت له اسما، وقسمته، ووصفته، وشرحته ...» (1972م، 32)، أضف إلى ذلك أن الجنون ليس شيئا ثابتا، بل يخضع لتحولات مستمرة فيما بين التشكيلات الخطابية، وأيضا داخل أي تشكيل خطابي. ومعنى هذا أنه لا بد من تعريف التشكيل الخطابي بحيث يسمح بالتحول في موضوعاته. ويقول فوكوه: إن «وحدة الخطاب لا تستند إلى دوام أحد الموضوعات وتفرده، بل على المساحة التي تنشأ فيها شتى الموضوعات وتتحول باستمرار» (1972م، 32).
وأما ما يتسم بأهمية كبرى هنا بالنسبة لتحليل الخطاب فهو رؤية الخطاب باعتباره قوة بناءة، إذ يسهم في إنتاج وتحويل وإعادة إنتاج موضوعات الحياة الاجتماعية (والذوات أيضا، كما سوف نرى بعد هنيهة) في الحياة الاجتماعية. ويعني هذا أن الخطاب ذو علاقة فعالة بالواقع، وأن اللغة تدل على الواقع بمعنى أنها تبني المعاني له، وهو ما ينفي القول بأن الخطاب له علاقة سلبية بالواقع، وبأن اللغة تشير وحسب إلى الأشياء التي تعتبر قائمة في الواقع (من قبل الإحالة اللغوية إليها). وأما رؤية العلاقة بين اللغة والواقع باعتبارها إحالية وحسب، فهي الرؤية المفترضة سلفا، بصفة عامة، في علم اللغة وفي المداخل المبنية داخل علم اللغة إلى تحليل الخطاب.
ويعرف فوكوه «المساحة» التي يشير إليها هنا (في آخر الفقرة قبل الأخيرة) فيما يتعلق بأي تشكيل خطابي بأنها
علاقة ؛ علاقة بين كيانات محددة من «المؤسسات، والعمليات الاقتصادية والاجتماعية، والأنساق السلوكية، ونظم المعايير، والتقنيات، وأنماط التصنيف، وأنواع التوصيف» (1972م، 45)؛ وهي علاقة تشكل قواعد تكوين الموضوعات. وفي صدد الحديث عن المثال الذي ضربه فوكوه من المرض النفسي، يقول:
إذا كنا قد شهدنا في فترة معينة من تاريخ مجتمعنا معاملة علماء النفس والطب النفسي للمنحرف، وإذا كان السلوك الإجرامي قادرا على إيجاد سلسلة كاملة من موضوعات المعرفة (مثل القتل، والانتحار، والجرائم العاطفية، والجرائم الجنسية، وأشكال معينة من السرقة والتشرد)، فإنما كان ذلك راجعا إلى استعمال مجموعة من العلاقات الخاصة في خطاب الطب النفسي، مثل العلاقة بين مستويات التحديد للفئات العقابية ودرجات تخفيف المسئولية، ومستويات التشخيص السيكولوجي (أنواع الإمكانيات، والاستعداد النفسي، ودرجات التطور أو الانطواء، والطرائق المختلفة للتجاوب مع البيئة، وأنماط الشخصية، مكتسبة كانت أو وراثية)، والعلاقة بين سلطة القرار الطبي وسلطة القرار القضائي، والعلاقة بين «المصفاة» التي يشكلها التحقيق القضائي، والمعلومات الشرطية، والتحريات، والآلة الكاملة للمعلومات القضائية، و«المصفاة» التي يشكلها الاستجواب الطبي، والفحوص الإكلينيكية، والبحث في السوابق، والتوصيف البيولوجي. والعلاقة بين الأسرة والمعايير الجنسية والعقابية لسلوك الأفراد، وجدول الأعراض المرضية، والأمراض التي تدل عليها، والعلاقة بين الاحتجاز العلاجي في المستشفى ... والحبس العقابي في السجن. (1972م، 43-44)
يقول فوكوه هنا: إن أي تشكيل خطابي يكون موضوعات معينة بطرائق تمثل تقييدا صارما لها، وإن القيود المفروضة على ما يحدث «داخل» ذلك التشكيل الخطابي ناجمة عن العلاقات الخاصة بالمركب الخطابي فيما بين التشكيلات الخطابية، والعلاقات بين الممارسات الخطابية وغير الخطابية التي يتكون منها التشكيل الخطابي. وتأكيد فوكوه للعلاقات الخاصة بالمركب الخطابي تترتب عليه نتائج مهمة لتحليل الخطاب، ما دام يضع في مركز برنامج العمل البحث في بناء التشكيلات الخطابية أو ترابطها من حيث علاقة بعضها بالبعض داخل ما سوف أطلق عليه اسما يمثل مصطلحا عند فوكوه، وهو «نظم الخطاب» المؤسسي والمجتمعي، وأعني به مجموع الممارسات الخطابية داخل مؤسسة أو مجتمع، والعلاقات بينها (انظر فيركلف، 1989م، أ ص29). والرأي القائل بأن ترابط نظم الخطاب عامل حاسم في تكوين أي تشكيل خطابي، وينبغي من ثم أن يكون من نقاط التركيز الرئيسية في تحليل الخطاب رأي يعبر عنه بيشوه بطرائق مختلفة في أعماله (في مفهومه ل «المركب الخطابي»، انظر الفصل الثاني أعلاه) وبرنشتاين (1982م) ولاكلاو وموف (1985م). (3) تكوين نوعيات تعبيرية
تقول القضية الرئيسية التي يطرحها فوكوه فيما يتعلق بتكوين «النوعيات التعبيرية» إن الذات الاجتماعية أو الشخص الذي يقول قولا ليس كيانا له وجود خارج الخطاب وليس مستقلا عنه، باعتباره مصدر ذلك القول (أي مؤلفه)، ولكنه على العكس من ذلك دالة من دوال القول نفسه. ومعنى هذا أن الأقوال تضع الذوات أو الأشخاص - من تصدر منهم ومن توجه إليهم أيضا - في مواقع محددة، حتى «إن وصف القول من حيث إنه قول لا يتمثل في تحليل العلاقة بين المؤلف وبين ما يقوله (أو بين ما كان يريد قوله، أو ما قاله دون أن يريد ذلك)؛ ولكن في تحديد الموقع الذي يمكن، بل لا بد أن يشغله أي فرد إن كان له أن يصبح الذات التي تقول هذا القول» (1972م، 95-96).
ويشرح فوكوه هذه النظرة إلى العلاقة بين الذات والقول من خلال تحديد طابع التشكيلات الخطابية قائلا: إنها تتكون من تكوينات معينة من النوعيات التعبيرية. أما هذه النوعيات التعبيرية فهي أنماط من النشاط الخطابي، مثل الوصف، وتشكيل الفروض، وصياغة اللوائح القانونية، والتعليم وهلم جرا، ويرتبط بكل منها موقع خاص من مواقع الذات. وهكذا، فإن التعليم، على سبيل المثال، باعتباره نشاطا خطابيا، يضع المشاركين فيه في موقعي المعلم والمتعلم. وكما هو الحال بالنسبة ل «الموضوعات» نجد أن قواعد تكوين النوعيات التعبيرية تضعها مجموعة معقدة من العلاقات من أجل تشكيل خطابي محدد، ويلخصها فوكوه بالنسبة للخطاب الإكلينيكي قائلا:
إذا كان الطبيب يقوم في الخطاب الإكلينيكي بعدة أدوار متوالية، كدور السيد الذي يطرح الأسئلة المباشرة، ودور العين الملاحظة، والإصبع الذي يلمس، والجهاز الذي يفسر العلامات، والمركز الذي تندمج فيه الأوصاف التي سبقت صياغتها، والعامل التقني في المختبر، فذلك لأن الحالة تتضمن مجموعة كاملة من العلاقات، بين عدد من العناصر المتميزة، بعضها كان يتعلق بمكانة الأطباء، وبعضها يتعلق بالموقع المؤسسي والتقني، (مستشفى، مختبر، عيادة خاصة ... إلخ) ومنها كانوا يتكلمون، ويشغل آخرون مواقعهم باعتبارهم ذوات تدرك وتلاحظ وتصف وتعلم ... إلخ. (1972م، 53)
ويتميز هذا الإفصاح عن النوعيات التعبيرية بأنه محدد تاريخيا، وخاضع للتغير التاريخي، والانتباه إلى الظروف التاريخية التي تتحول هذه فيها، وإلى الآليات التي تحولها، يمثل جانبا مهما من جوانب البحث في التغير الخطابي في علاقته بالتغير الاجتماعي (انظر الفصل الثالث والفصل السابع أدناه). وفوكوه لا يفترض وجود «ذات طبية» تحقق الترابط بين هذه النوعيات التعبيرية ومواقع الذوات المختلفة، وتعتبر عامل توحيد بينها، ولكنه يقول: إن هذه النوعيات والمواقع المتباينة تمثل بعثرة للذات وتشظيها. أو بعبارة أخرى، يقول: إن الطبيب يتكون من تركيب من النوعيات التعبيرية ومواقع الذوات التي تظل قائمة بفضل القواعد الحالية للخطاب الطبي. ويعتبر عمل فوكوه إسهاما رئيسيا في نقض مركزية الذات الاجتماعية في النظريات الاجتماعية الحديثة (انظر هنريك، وآخرون، 1984م). وفي إثبات الرأي الذي يقول: إن الذات تتكون ويعاد إنتاجها، وتتحول من خلال الممارسة الاجتماعية وفي داخلها. وكذلك الرأي الذي يقول: إن الذات مفتتة.
وأما ما له دلالة خاصة في السياق الحالي فهو أن فوكوه ينسب دورا رئيسيا إلى الخطاب في تكوين الذات الاجتماعية، ويترتب على هذا أن قضايا الذاتية، والهوية الاجتماعية، ومسألة «النفس» ينبغي أن تشغل موقعا رئيسيا في نظريات الخطاب واللغة، وفي التحليل الخطابي واللغوي، ولكنها في الحقيقة لم تلق إلا اهتماما بالغ الضآلة في التيار الرئيسي لعلم اللغة، أو تحليل الخطاب ذي التوجه اللغوي والنصي، أو علم اللغة الاجتماعي أو التداولية اللغوية. فإن هذه المباحث الأكاديمية قد اعتنقت، على الدوام تقريبا، النظرة إلى الذات الاجتماعية باعتبارها سابقة على المجتمع، وهي النظرة التي رفضت على نطاق واسع في المناظرات الحديثة حول الذاتية. وطبقا لهذه النظرة، يشترك الناس في الممارسة الاجتماعية والتفاعل الاجتماعي بهويات اجتماعية سبق تشكيلها وتؤثر في ممارستهم، ولكنها لا تتأثر بها. وأما من حيث اللغة فالباحثون يسلمون على نطاق واسع في هذه المجالات البحثية بأن الهوية الاجتماعية للشخص تؤثر في طريقة استخدامه للغة، من دون الإشارة تقريبا إلى أن استخدام اللغة - أي الممارسات الخطابية - يؤثر في الهوية الاجتماعية أو يشكلها. وهكذا، فإن الذاتية والهوية الاجتماعية تعتبران قضايا هامشية في الدراسات اللغوية، ولا تتجاوز عموما نظريات «التعبير» و«المعنى المعبر»: أي إن الهوية (الأصل الاجتماعي، كون المتحدث رجلا أو امرأة، والطبقة الاجتماعية، والمواقف الاجتماعية والعقائد وغيرها مما ينتمي إلى المتحدث) تجد «التعبير» عنها في الأشكال اللغوية والمعاني التي يختارها.
وأنا أعارض هذا - في اتخاذي موقف فوكوه - بإحلال مسألة آثار الممارسة الخطابية في الهوية الاجتماعية في صلب تحليل الخطاب ذي التوجه اللغوي نظريا ومنهجيا، وتترتب على هذه النظرة عواقب مهمة للقول بأن تحليل الخطاب منهج رئيسي من مناهج البحث الاجتماعي؛ إذ إن النظرية التعبيرية التي تقول بالذاتية في الخطاب تسمح بالنظر إلى الخطاب بصفته بعدا هامشيا للممارسة الاجتماعية، على عكس النظرية التكوينية (أي القائلة بأن الخطاب يشارك في تكوين الهوية الاجتماعية). ومع ذلك تبرز هنا تحفظات مهمة، فإن إصرار فوكوه على أن الذات نتاج للتشكيلات الخطابية تتسم بنكهة بنيوية قوية تستبعد الدور الاجتماعي الفعال بأي معنى ذي دلالة. وهذا غير مرض للأسباب التي سوف أعرضها في القسم الأخير، وأما الموقف من الخطاب والذاتية الذي أدعو إليه في الفصل الثالث فهو موقف جدلي، أي إنه يرى أن الذوات الاجتماعية تشكلها الممارسة الخطابية، ولكنها قادرة أيضا على إعادة تشكيل هذه الممارسات وإعادة بنائها. (4) تشكيل المفاهيم
يعني فوكوه بالمفاهيم: مجموعة الفئات والعناصر والأنماط التي يستخدمها مبحث من المباحث العلمية باعتبارها الجهاز الكفيل بالتعامل مع مجال اهتمامه؛ وهو يضرب مثالا من أن المبتدأ أو الفاعل والخبر والاسم والفعل والكلمة يمكن اعتبارها مفاهيم نحوية، ولكن التشكيل الخطابي هنا، شأنه شأن موقفه إزاء الموضوعات والنوعيات التعبيرية، لا يضع تعريفا لمجموعات «توحيدية» من المفاهيم الثابتة التي يرتبط بعضها بالبعض بعلاقات محددة بوضوح. فالصورة صورة تشكيلات متحركة من المفاهيم المتغيرة، ويقترح فوكوه أن يصبح المدخل إلى تشكيل المفاهيم في أحد التشكيلات الخطابية وصفا لكيفية تنظيم «مجال الأقوال» المرتبطة به، والذي «ظهرت» فيه المفاهيم و«شاعت». وتؤدي هذه الاستراتيجية إلى وصف حافل (1972م) لأنواع العلاقات الكثيرة المختلفة التي قد توجد داخل النصوص وفيما بينها. وهذا مفيد في وضع منظورات تقوم على التناص والمركبات الخطابية في تحليل الخطاب ذي التوجه النصي، خصوصا لأن هذه المنظورات لم تلق إلا اهتماما ضئيلا في علم اللغة أو في تحليل الخطاب ذي التوجه اللغوي.
وسوف نجد داخل «مجال الأقوال» الخاص بأي تشكيل خطابي علاقات ذات أبعاد شتى، ومن بينها العلاقة القائمة بين الأقوال الواردة في نص مفرد، مثل علاقات التتابع والتبعية. ويشير فوكوه إلى «شتى النظم البلاغية التي تربط ما بين مجموعات الأقوال (أي كيف ترتبط الأوصاف والاستنتاجات والتعريفات التي يحدد تتابعها بناء نص من النصوص)» بطرائق تعتمد على التشكيل الخطابي (1972م، 57). وقد بحثت أمثال هذه العلاقات الداخلية في النصوص في الآونة الأخيرة في إطار اللغويات النصية. ومن بين العلاقات الأخرى العلاقات ما بين خطاب وخطاب؛ إذ قد تتناول العلاقات القائمة بين التشكيلات الخطابية المختلفة أو بين النصوص المختلفة، ويمكن التمييز بينها استنادا إلى انتمائها، إما إلى «الحضور»، أو «الاقتران» أو «الذاكرة». ويعرف فوكوه مجال الحضور قائلا: إنه «جميع الأقوال التي صيغت في غير هذا المكان، وأدخلت في الخطاب، واعترف بأنها صادقة، أو تتسم بدقة الوصف، أو الاستدلال العقلاني السليم، أو القيام على الافتراضات السابقة اللازمة»، وكذلك الأقوال «التي انتقدت، أو نوقشت، أو بت في أمرها ... أو رفضت أو استبعدت» (ص57-58). سواء كان ذلك صراحة أو ضمنا. وأما مجال الاقتران فيتكون بصفة خاصة من أقوال من تشكيلات خطابية مختلفة، وترتبط بقضية العلاقات بين التشكيلات الخطابية. وأخيرا يتكون مجال الذاكرة من أقوال «لم تعد مقبولة أو تناقش»، ويمكن أن تقام بينها «علاقات النسب والنشأة، والتحويل، والاستمرار، والانقطاع التاريخي» (ص98-99). ويضيف فوكوه إلى هذه العلاقات ما يسميه «علاقة القول» إلى «كل التشكيلات التي يحدد القول إمكان وجودها في المستقبل»، ويشارك القول مكانتها (كأن تكون أدبا على سبيل المثال).
ويلخص فوكوه هذا المنظور في الزعم القائل بأنه «من المحال أن يوجد قول لا يعيد بصورة ما تمثيل ما جاء في أقوال أخرى» (1972م، 98). ويذكرنا ما يقوله عن العلاقات بين الأقوال بكتابات باختين عن النوع الأدبي والحوارية (1981م، 1986م) وهو ما قدمته كريستيفا إلى الجماهير الغربية بمفهوم التناص (1986م، أ، 37)، وكما ذكرت عاليه، يتخذ بيشوه منظورا مماثلا بأن يمنح الأولوية للمركب الخطابي في نظريته عن الخطاب. وعلى الرغم من أن تمييز فوكوه بين شتى أنماط العلاقة ليس واضحا على الدوام، فإن ما يقدمه هنا أساس للبحث المنتظم في العلاقات داخل النصوص وأنماط الخطاب وفيما بينها. وسوف أميز أنا بين «التناص» الذي يعني العلاقات بين النصوص، وبين «التداخل الخطابي» الذي يعني العلاقات بين التشكيلات الخطابية أو بتعبير أقل دقة بين الأنماط المختلفة للخطاب (انظر الفصل الرابع أدناه). ويتناول التداخل الخطابي للعلاقات فيما بين تشكيلات خطابية أخرى تمثل، طبقا لما يقوله فوكوه، قواعد التشكيل لأي تشكيل خطابي (انظر القسمين عاليه عن تشكيل الموضوعات والنوعيات التعبيرية).
ويقدم فوكوه، في مناقشاته للعلاقات القائمة داخل مجالات الأقوال (1972م، 97-98) بعض التعليقات القيمة عن فكرة «السياق»، وخصوصا كيف أن «سياق الحال» لقول ما (أي الحال الاجتماعي الذي يقع فيها) و«سياقه اللفظي» (أي موقعه بالنسبة للأقوال الأخرى التي تسبقه وتتلوه) يحدد الشكل الذي يتخذه، والطريقة التي يفسر بها. ومن المبادئ الشائعة في علم اللغة الاجتماعي أن الأقوال (أو «الملفوظات») تخضع لهذا المعيار، ولكن الملاحظة الإضافية المهمة التي يقدمها فوكوه هي أن العلاقة بين قول منطوق وسياقه اللفظي والحالي ليست علاقة شفافة؛ إذ تختلف كيفية تأثير السياق فيما يقال أو ما يكتب، وكيفية تفسير ذلك، من تشكيل خطابي إلى سواه. فعلى سبيل المثال نجد أن بعض جوانب الهوية الاجتماعية للمتحدث ككونه رجلا أو امرأة، وانتمائه العرقي، أو سنه، وهي التي من المحتمل أن تؤثر تأثيرا كبيرا في الأشكال والمعاني أثناء المحادثة، قد لا يكون لها تأثير يذكر في مؤتمر لعلماء البيولوجيا. وكذلك إذا جاء قول لأحد المشاركين مباشرة بعد سؤال طرحه آخر، فإن هذا التعاقب اللصيق قد يمثل دافعا إلى اعتبار هذا القول إجابة على السؤال في أثناء استجواب ما بأكثر مما يعتبر كذلك في محادثة عارضة. وإذن فالمرء لا يستطيع الاعتماد على «السياق» وحسب لشرح ما يقال أو يكتب أو أسلوب تفسيره، على نحو ما يفعله الكثير من اللغويين في علم اللغة الاجتماعي والتداولية، بل يجب على المرء أن يبتعد خطوة واحدة ليصل إلى التشكيل الخطابي، وترابط التشكيلات الخطابية في نظم الخطاب حتى يتمكن من شرح العلاقة بين السياق والنص والمعنى. (5) تشكيل الاستراتيجيات
تمثل قواعد التشكيل التي نوقشت إلى الآن مجال الفرص المتاحة لوضع النظريات والأفكار أو ما يسميه فوكوه «الاستراتيجيات»، وهي التي لا تتحقق كلها. وقواعد تشكيل الاستراتيجيات تحدد الفرص التي تتحقق، وهي تتكون من مزيج من قيود المركبات الخطابية، وغيرها من القيود غير الخطابية المفروضة على الاستراتيجيات الممكنة (1972م، 66-70). ويقول فوكوه مثلا: إن «الخطاب الاقتصادي في الفترة الكلاسيكية كان تعريفه يعتمد على طريقة دائمة معينة لإقامة علائق تربط إمكانات الانتظام داخليا في خطاب ما بغيره من ضروب الخطاب خارجه، وبمجال كامل غير خطابي من الممارسات، وصور الاستيلاء والمصالح والرغبات» (1972م، 69). لاحظ هنا تكرار الإشارة إلى علاقات المركبات الخطابية باعتبارها قيودا على أحد التشكيلات الخطابية، ويشير فوكوه إلى أن العلاقات التي يمكن أن تقوم بين ضروب الخطاب تتضمن القياس، والمعارضة، والتكامل، و«علاقات التحديد المتبادل» (ص67).
وتعتبر مناقشة القيود غير الخطابية هنا الإشارة التي اقترب فيها فوكوه في أعماله المبكرة أشد الاقتراب من الإقرار بإمكان خضوع الخطاب للتحكم فيه «من الخارج»، والموقف السائد تجاه العلاقة بين الممارسة الخطابية وغير الخطابية يبين في الواقع أن الأولى تتمتع بالتفوق على الأخيرة. ويشير فوكوه أولا إلى وظيفة الخطاب في الممارسات غير الخطابية، مثل «الوظيفة التي يقوم بها الخطاب الاقتصادي في ممارسة الرأسمالية الناشئة» (1972م، 69)، ثم يشير ثانيا إلى «قواعد وعمليات الاستيلاء» على الخطاب، بمعنى أن «الحق في الكلام» و«القدرة على الفهم»، وكذلك الحق في الاستفادة من «مخزون الأقوال التي سبقت صياغتها» أمور لا تتسم بالتوزيع العادل بين الفئات الاجتماعية (ص68)، ويشير ثالثا إلى «
مواقع الرغبة الممكنة فيما يتعلق بالخطاب ؛ فقد يكون الخطاب في الحقيقة مكانا للتمثيل الخيالي، وعنصرا للرمز، وشكلا من أشكال المحرمات، وأداة لاستقاء الإشباع» (ص68، التأكيد عند فوكوه).
ويربط فوكوه بين قواعد تشكيل الاستراتيجيات وبين الصبغة «المادية» للأقوال، والقيود غير الخطابية المشار إليها للتو تقيم علاقات بين الأقوال والمؤسسات. وقول فوكوه: إن الأقوال لها صبغة «مادية» لا يعني أنها تتمتع بخصيصة النطق بها في وقت محدد ومكان محدد، ولكنه يعني بها أنها تتمتع بمكانة محددة داخل ممارسات مؤسسية محددة. (6) من علم الآثار إلى الأنساب
سبق أن أشرت إلى تغير نقاط التركيز على امتداد عمل فوكوه، ويشغلني الآن انتقاله من الآثار إلى الأنساب، وما يترتب على ذلك بالنسبة لتصوير الخطاب عند فوكوه.
يقدم فوكوه الشرح المقتضب التالي للعلاقة بين علم الآثار وعلم الأنساب:
يجب أن تفهم «الحقيقة» على أنها نظام من الإجراءات المنظمة لإنتاج الأقوال وتنظيمها وتوزيعها ودورانها وتشغيلها.
ترتبط «الحقيقة» بعلاقة دائرية بنظم السلطة التي تنتجها وتحافظ على بقائها، وبآثار السلطة التي تدفع إلى إنشائها وتوسع نطاقها. إنه «نظام حكم» الحقيقة (رابينوف، 1984م ، 74).
أرجو أن يرى القارئ في المقولة الأولى ملخصا لعلم الآثار الذي رسمت خطوطه العريضة عاليه، وأما المقولة الثانية فتبين بإيجاز تأثير علم الأنساب في علم الآثار، فهي تضيف السلطة، أو إذا استعرنا ألفاظ ديفيدسون قلنا: إن التركيز فيها ينصب على «العلاقات المتبادلة بين نظم الحقيقة وأشكال السلطة» (1986م، 224). والانتقال إلى علم الأنساب يمثل نقضا لمركزية الخطاب. فإذا كنا رأينا في فوكوه أولا (1972م) أنه ينسب إمكان فهم نظم المعرفة والحقيقة إلى قواعد الخطاب التي كان يراها مستقلة - بل إن العلاقة بين الممارسة غير الخطابية والممارسة الخطابية كانت تخضع في تنظيمها عنده، فيما يبدو، لهذه القواعد؛ فإن دراسة فوكوه الكبرى عن علم الأنساب، وعنوانها
التأديب والعقاب (1989م)، تضع الخطاب في موقع ثانوي بعد نظم السلطة.
ولكننا نرى، في الوقت نفسه، أن صورة طبيعة السلطة في المجتمعات الحديثة التي يرسمها فوكوه في دراساته للأنساب (انظر فريزر 1989م) تضع الخطاب واللغة في قلب الممارسات والعمليات الاجتماعية، ويرتبط طابع السلطة في المجتمعات الحديثة بمشاكل إدارة السكان، والسلطة مضمرة في الممارسات الاجتماعية اليومية الموزعة والمتغلغلة على جميع المستويات في جميع مجالات الحياة الاجتماعية، ويشارك فيها الناس باستمرار؛ أضف إلى ذلك أنها «لا تصبح محتملة إلا إذا أخفت جانبا كبيرا منها، ويتناسب نجاحها تناسبا طرديا مع قدرتها على إخفاء آلياتها الخاصة» (1981م، 86) ولا تعمل السلطة بأسلوب سلبي من خلال السيطرة بالقوة على الخاضعين لها، بل إنها تشركهم معها وتعتبر «منتجة»، بمعنى أنها تشكلهم و«تعيد تجهيزهم» حتى يصبحوا صالحين لتلبية حاجاتها. والسلطة الحديثة لم تفرضها من عل قوى جماعية معينة (مثل الطبقات) على مجموعات أو أفراد؛ ولكنها تطورت ونمت «من أسفل»، من خلال تقنيات معينة «متناهية الصغر» (مثل «الاختبارات» بمعناها الطبي والتعليمي، انظر أدناه) وهي التي ظهرت في بعض المؤسسات مثل المستشفيات والسجون والمدارس في بداية الفترة الحديثة. وفي هذه التقنيات نرى علاقة مضمرة بين السلطة والمعرفة في المجتمع الحديث، فمن ناحية تنمو تقنيات السلطة وتتطور استنادا إلى المعرفة التي تولدها، كما هو الحال مثلا في العلوم الاجتماعية، ومن ناحية أخرى تهتم هذه التقنيات اهتماما بالغا بممارسة السلطة في غمار جمع المعلومات. وقد سك فوكوه مصطلحا هو «السلطة الحيوية» للإشارة إلى هذا الشكل الحديث من أشكال السلطة، وهو الذي بدأ الظهور منذ القرن السابع عشر، قائلا: «إن السلطة الحيوية جاءت بالحياة وآلياتها إلى عالم الحسابات الصريحة، وجعلت المعرفة/السلطة عاملا من عوامل تغيير الحياة البشرية» (1981م، 143).
وهذا التصور للسلطة يوحي بأن الخطاب واللغة ذواتا أهمية أساسية في العمليات الاجتماعية للمجتمع الحديث، فالممارسات والتقنيات التي يركز فوكوه عليها تركيزا شديدا - المقابلة الشخصية، جلسات إسداء المشورة وما إلى ذلك - ممارسات خطابية إلى حد بعيد. وهكذا فإن تحليل المؤسسات والمنظمات من حيث السلطة يقتضي فهم وتحليل ممارساتها الخطابية، ولكن نظرة فوكوه للسلطة لا تعني فحسب زيادة الانتباه إلى الخطاب في التحليل الاجتماعي، بل تعني كذلك زيادة الانتباه للسلطة في تحليل الخطاب، ولكن هذه الأسئلة الخاصة بالخطاب والسلطة لا تظهر في دراسات فوكوه الأثرية، ولا في مداخل تحليل الخطاب ذات التوجه اللغوي. وعلى نحو ما يشير شابيرو، نجد أن فوكوه «يرفع الرابطة بين اللغة والسياسة إلى مستوى رفيع من التجريد، وهو مستوى يسمح لنا بأن نتجاوز مبادلات السلطة المنعكسة في اللغة بين الأشخاص والجماعات حتى نقوم بتحليل المباني التي تكمن فيها» (1981م، 162).
وبعض هذه القضايا يثيرها فوكوه نفسه في دراسة (1984م) تستكشف شتى الإجراءات التي يسيطر بها المجتمع على الممارسات الخطابية ويفرض القيود عليها قائلا: «يخضع إنتاج الخطاب في كل مجتمع للسيطرة والاختيار والتنظيم وإعادة التوزيع في وقت واحد من خلال عدد معين من الإجراءات التي يتمثل دورها في تحاشي سلطاته وأخطاره، والتحكم في أحداثه العارضة، وتجنب طبيعته المادية الثقيلة الجبارة» (ص109). ومن بين «الإجراءات» التي يفحصها فوكوه فرض القيود على ما يمكن أن يقال، وعلى من يقوله، وعلى المناسبات التي يمكن أن يقال فيها. وضروب التعارض بين خطاب العقل وخطاب الجنون، وبين الخطاب الصادق والخطاب الكاذب، وآثار نسبة الكلام إلى مؤلف، والحدود المرسومة فيما بين المباحث العلمية، وإضفاء صفة القداسة على نصوص معينة، والقيود الاجتماعية المفروضة على التمتع بممارسات خطابية معينة، ويشير فوكوه في هذا الصدد إلى أن «أي نظام تعليمي وسيلة سياسية للحفاظ على - أو تعديل - امتلاك ضروب الخطاب مع ما تحمله من المعارف والسلطات» (ص123). ويوجد تأكيد مهم عند فوكوه (1984م) لصراع السلطة حول البت في الممارسات الخطابية؛ إذ يقول: «لا تنحصر ماهية الخطاب في كونه الوسيلة التي تترجم أنواع الصراع أو نظم الهيمنة، بل إنه الشيء الذي يقوم الصراع من أجله ويتوسل به، فالخطاب هو السلطة التي يظفر بها من يسعى إليها» (ص110).
وهكذا فإن الانتقال من علم الآثار إلى علم الأنساب يتضمن تغييرا للتأكيد الذي يؤدي إلى إبراز أبعاد الخطاب، فإذا كانت التشكيلات الخطابية عند فوكوه (1972م) تتسم بانتمائها إلى مباحث علمية معينة (1972) (مثل خطاب الأمراض النفسية، والاقتصاد السياسي، والتاريخ الطبيعي، على الرغم من مقاومة فوكوه للتوافق البسيط بين ضروب الخطاب وهذه المباحث)، فإن فئات الخطاب البارزة عند فوكوه (1979م، 1981م) تتسم بطابع أقرب إلى «النوعية» (مثل المقابلة الشخصية، وجلسات إسداء المشورة، باعتبارهما من الممارسات الخطابية التي ترتبط على الترتيب بما يسميه فوكوه «الفحص»، و«الاعتراف»؛ انظر أدناه). والمقصود بهذا أنها تشير إلى شتى أشكال التفاعل المبنية بطرائق معينة وتتضمن مجموعات معينة من المشاركين (مثل من يلقي الأسئلة في المقابلة الشخصية ومن يجيب عليها)، بحيث يمكن استخدامها في شتى المباحث العلمية أو المؤسسات، ومن ثم فإنها تتفق مع شتى التشكيلات الخطابية (بحيث يكون لدينا مقابلات شخصية في مجال الطب، وعلم الاجتماع، والحصول على الوظائف، وأجهزة الإعلام). وأما التضاد عند بعض الكتاب فهو بين ضروب الخطاب، و«الأنواع» (انظر كريس، 1988م، والفصل الرابع أدناه).
ويحلل فوكوه تكنولوجيتين رئيسيتين من تكنولوجيات السلطة، وهما «التأديب» (ويتضمن الفحص في تقنيته الجوهرية، فوكوه 1979م) و«الاعتراف» (فوكوه 1981م). ومن القضايا الأولية للتحليل الخاص بالأنساب قضية تدهشنا وهي أسلوب تأثير التقنيات في «الأجسام»، أي كيف تؤثر في الأشكال التفصيلية «المطبعة» للسيطرة على الميول والعادات والحركات الجسدية التي نلاحظها في المجتمعات الحديثة ، وهي أوضح ما تكون في التمارين البدنية في التدريب العسكري والعمليات المشابهة لها في الصناعة والتعليم والطب وما إلى ذلك بسبيل. وتكنولوجيا التأديب الحديثة ترمي إلى إنتاج «أجسام مطيعة» بتعبير فوكوه، وأجسام تكيفت لتلبية مطالب الأشكال الحديثة للإنتاج الاقتصادي. ويتجلى التأديب في أشكال منوعة مثل الأساليب المعمارية للسجون والمدارس والمصانع التي ترمي إلى تخصيص مساحة محددة لكل نزيل (زنزانة، مكتب، مقعد ... إلخ) بحيث يمكن إخضاعه للمراقبة الدائمة، ومثل تقسيم اليوم التعليمي أو يوم العمل إلى أجزاء يتميز بعضها عن بعض بحدود صارمة، ومثل تنظيم النشاط الجسدي فيما يتعلق مثلا بتعليم الكتابة بالقلم بالأسلوب التقليدي، وهو ما «يفترض مسبقا القيام برياضة جسدية، بمعنى مجموعة حركات تتبع منهجا يشمل الجسد كله» (1979م، 152)، أو مثل «تطبيع الحكم»، وهو الذي تقيس نظم العقاب فيه الأفراد طبقا لمعايير محددة. وعلى الرغم من أن التأديب تكنولوجيا يختص بالتعامل مع الجماهير، فإنه يفعل ذلك بأسلوب يركز على الفرد تركيزا شديدا، بمعنى أنه يعزل كل فرد ويركز على الأفراد واحدا بعد الآخر، ويخضعهم إلى إجراءات «التطبيع» نفسها. وطبقا لتأكيد فوكوه على إنتاجية السلطة، فإن السلطة التأديبية تنتج الفرد الحديث (1979م، 194).
وأما «الفحص»، فأسلوب تحقيق «علاقات السلطة التي تتيح استخلاص المعرفة وتكوينها» (1979م، 185). ويعزل فوكوه ثلاث خصائص مميزة للفحص (1979م، 187-192)؛ أولها: إن «الفحص حول اقتصاد الرؤية إلى ممارسة السلطة»، ويعني فوكوه بهذا أن يقيم التضاد بين السلطة الإقطاعية التي كانت تجعل الملك صاحب السلطة بارزا للعيان، والخاضعين للسلطة «مقيمين في الظل»، وبين سلطة التأديب الحديثة التي تجعل السلطة غير مرئية، والخاضعين لها تحت الأضواء. فالرؤية الدائمة تجعل الفرد خاضعا للسلطة من ناحية، وتتيح معاملة الأفراد و«ترتيبهم» كأنهم أشياء من ناحية أخرى. والفحص إذن «هو الإجراء الرسمي لهذا التشيؤ، إن صح هذا التعبير». ونرى ثانيا أن «الفحص يدفع بالفردية إلى مجال التوثيق»، بمعنى أن الفحص يرتبط بإنتاج سجلات عن الأشخاص. ولهذا نتيجتان؛ الأولى: «اعتبار الفرد شيئا يمكن وصفه وتحليله». والثانية: استغلال السجلات للتوصل إلى تعميمات عن السكان، وما يتصفون به في المتوسط، وأعرافهم وما إلى ذلك بسبيل. ويقول فوكوه: إن هذا الجانب الأخير هو الأصل المتواضع للعلوم الإنسانية. ونرى ثالثا أن «الفحص المحاط بشتى تقنياته التوثيقية يجعل كل فرد «حالة» معينة؛ وهي حالة تشكل في الوقت نفسه موضوعا لفرع من فروع المعرفة، وأداة لفرع من فروع السلطة». ويقيم فوكوه التضاد بين الممارسة التاريخية التقليدية التي تكتب فيها سير العظماء التي تصبح آثارا تاريخية، وبين الكتابة التأديبية/البحثية الحديثة التي تتضمن تاريخ الحالات المفردة لإخضاعها وتشييئها.
وإذا كان الفحص تقنية تشييء الأشخاص، فإن الاعتراف تقنية إخضاعهم. ويقول فوكوه «أصبح الإنسان الغربي حيوانا معترفا» (1981م، 174)، والدافع الذي يجعل المرء يغوص في ذاته ويتحدث عن نفسه، وخصوصا عن حياته الجنسية، في إطار ما، يفتأ يتسع من المواقع الاجتماعية (تتعلق أصلا بالدين، ثم بعلاقات الحب، والعلاقات الأسرية، والطب والتعليم ... إلخ) يبدو في ظاهره في صورة مقاومة تحرره من السلطة الحيوية التي تشيئه، ولكن هذا وهم في رأي فوكوه، إذ يعتقد أن الاعتراف يدفع بالمزيد من جوانب الشخص إلى مجال السلطة.
ويعرف فوكوه الاعتراف بألفاظ تربطه ربطا سافرا بالخطاب، إذ يصفه بأنه من «الطقوس الخطابية»، وهو ما يمكن أن نطلق عليه صفة «النوع» في مجال تحليل الخطاب ذي التوجه النصي. ويعرف فوكوه الاعتراف أولا طبقا للموضوع قائلا: «إن موضوع الكلام هو الذات التي تتكلم»، ثم من زاوية علاقة السلطة بين المشاركين «فالمرء لا يقدم اعترافا إلا في حضور (أو افتراض حضور) شريك، والشريك ليس مجرد شريك في التخاطب، بل السلطة التي تطلب الاعتراف وتأمر به وتقدره، وتتدخل حتى تحكم وتصفح وتعزي وتصالح» (1981م، 61). ويتميز الاعتراف بسمة خاصة به وحده، وهي أن الإدلاء بالاعتراف يؤدي إلى تغيير الذي يدلي به، فهو «يبرئه ويغفر له ويطهره، وهو يخلصه من أثقال سيئاته، ويحرره، ويعده بالخلاص» (ص62). أضف إلى ذلك أن قيمة الاعتراف تزداد بسبب العقبات وضروب المقاومة التي لا بد أن يقهرها المرء حتى يدلي باعترافه.
وعلى الرغم من أن حديث فوكوه عن الاعتراف يرتبط بالخطاب أكثر من ارتباط الفحص به (فهو يشير إلى الأول باعتباره «شكلا خطابيا» إلى جانب كونه «طقسا خطابيا») فإنني أرى أن كلا منهما يرتبط بوضوح بأنواع خطابية معينة. وتتضمن هذه، في حالة الفحص، الفحوص الطبية، والامتحانات التعليمية والكثير من أشكال المقابلات الشخصية. وأما بالنسبة للاعتراف، فإنه لا يقتصر على الاعتراف الديني، بل يشمل أيضا ضروب الخطاب العلاجي وجلسات المشورة من شتى الأنواع. ومن الموضوعات التي يناقشها فوكوه موضوع اكتساب الاعتراف طابعا علميا في القرن التاسع عشر، ويقول في هذا الصدد: إن الفحص والاعتراف قد امتزجا في «التحقيق» (الذي تجريه النيابة مع المتهمين) وفي «الاستجواب الدقيق»، وفي التنويم المغناطيسي.
وتقنيات السلطة التي يلفت فوكوه النظر إليها ترتبط بأنماط الخطاب التي أصبحت بارزة في المجتمع الحديث، والتي ترتبط ارتباطا وثيقا فيما يبدو بطرائق تنظيمه الاجتماعي وقيمه الثقافية، ويبدو أن هذه الأنواع البارزة ثقافيا، وخصوصا المقابلات الشخصية وجلسات المشورة، وكذلك الأنواع المرتبطة بالإدارة والإعلانات، «تستعمر» نظم الخطاب الخاصة بشتى المؤسسات والمنظمات المعاصرة، وأصبحت تتسم في أثناء ذلك بالتوسع الهائل في وظائفها وهي تنتقل عبر الحدود ما بين المؤسسات، فأدت إلى توليد أنواع فرعية وأشكال أخرى كثيرة (من بينها جلسات تقديم المشورة العلاجية والتعليمية، والتوظيفية، والخاصة بالمستهلكين على سبيل المثال) (معنى جلسة تقديم المشورة مساعدة الفرد الذي يعاني من مشكلة شخصية، ذات آثار نفسية، على التغلب عليها من خلال الحديث الصريح مع اختصاصي اجتماعي نفسي يقدم له المشورة). وتمثل المقابلات الشخصية وجلسات المشورة على الترتيب نوعي خطاب التشييء وخطاب الإخضاع المقابلين لتقنية الفحص القائمة على التشييء، وتقنية الاعتراف القائمة على الإخضاع، وأما الطرائق الخطابية التي «تتعامل» بيروقراطيا مع الأشخاص باعتبارهم أشياء، من ناحية، والطرائق الخطابية التي تستكشف النفس وتتيح لها إسماع صوتها، من ناحية أخرى، فهما فيما يبدو بؤرتا تركيز لنظام الخطاب الحديث.
وفي هذا الصدد يشير منظور فوكوه الخاص بالأنساب إلى اتجاهات للبحث في الخطاب ذوات أهمية لقضايا هذا الكتاب، وهي البحث في أشكال التحول التاريخي للممارسات الخطابية الخاصة بنظم الخطاب، وعلاقتها بعمليات التغير الاجتماعي والثقافي الأوسع نطاقا (انظر الفصلين الثالث والسابع أدناه). وتوجد هنا قضايا علية مهمة، مثل: إلى أي حد تمثل هذه التغييرات الخطابية تلك التغييرات الاجتماعية والثقافية الأوسع نطاقا، ولا تقتصر على مجرد «إظهارها»؟ وإذن فإلى أي مدى يمكننا البحث في هذه العمليات الواسعة النطاق من خلال تحليل الممارسات الخطابية المتغيرة؟ أضف إلى هذا وجود سؤال عن مدى انتشار ومدى فاعلية الجهود المتعمدة التي يقوم بها رجال المؤسسات لإجراء تغييرات في الممارسات الخطابية للمحادثات غير الرسمية في المجال الخاص عند إجرائها في المجال العام استنادا إلى الحسابات الخاصة بفاعليتها (مثل توفير هدوء الأعصاب للذين تجري معهم المقابلات الشخصية) ويدربون العاملين في المؤسسات على استخدام تقنيات خطابية جديدة. وأنا أشير إلى عملية التدخل المذكورة باسم «استخدام التكنولوجيا في الخطاب»، بمعنى أن الخطاب اليوم أصبح يستخدم تكنولوجيات وتقنيات يصفها فوكوه بأنها تمثل الأساليب الحديثة لعمل السلطة (انظر أيضا الفصل السابع أدناه). (7) فوكوه وتحليل الخطاب ذو التوجه النصي
يمكن تلخيص النظرات الرئيسية في الخطاب التي وجدتها عند فوكوه على النحو التالي: كان عمله المبكر في علم الآثار يتضمن فكرتين ذواتي أهمية خاصة، وهما: (1)
الطبيعة التكوينية للخطاب، أي إن الخطاب يكون الجوانب الاجتماعية، بما في ذلك «الموضوعات» الاجتماعية والذوات الاجتماعية. (2)
أولوية المركبات الخطابية والتناص، بمعنى أن أي تعريف للممارسة الخطابية يعتمد على علاقتها بغيرها، فهي تستفيد من غيرها بطرائق مركبة.
وتظهر ثلاث أفكار مهمة أخرى في عمل فوكوه الخاص بعلم الأنساب، وهي: (3)
الطبيعة الخطابية للسلطة، إذ إن ممارسات وتقنيات «السلطة الحيوية» الحديثة (مثل الفحص والاعتراف) خطابية إلى درجة بعيدة. (4)
الطبيعة السياسية للخطاب، إذ إن الصراع على السلطة يحدث في الخطاب وحوله. (5)
الطبيعة الخطابية للتغير الاجتماعي، فالممارسات الخطابية المتغيرة عنصر مهم من عناصر التغير الاجتماعي.
وتعد هذه مجموعة حافلة من المقولات النظرية والافتراضات عند محاولة إدراجها وتفعيلها في تحليل الخطاب ذي التوجه النصي.
ومع ذلك فإن التحليل المذكور يواجه بعض الصعوبات في عمل فوكوه، من بينها تجاهله للتحليل النصي، ورؤيته للخطاب باعتباره «تكوينيا». والغرض من تقديم هذا القسم الأخير مناقشة هذه الصعوبات، والإشارة إلى الجوانب التي لا ينبغي أن نتبع فوكوه فيها عند إجراء تحليل الخطاب ذي التوجه النصي.
سبق أن ذكرت أن أحد أوجه الخلاف الرئيسية بين فوكوه وتحليل الخطاب ذي التوجه النصي أن تحليل فوكوه للخطاب لا يتضمن تحليل نصوص حقيقية من الناحيتين الخطابية واللغوية. ومع ذلك، فإن إدراج مثل هذا التحليل قد يكون وسيلة للتغلب على بعض نقاط الضعف التي اكتشفها المعلقون في عمل فوكوه. لست أقترح اختزال تحليل الخطاب في التحليل النصي أو اللغوي، بل أقول: إن القضية تتعلق بضرورة إدراج نماذج فعلية من الخطاب في التحليل. وعندما تدرج، كما هو الحال في تحليل الخطاب ذي التوجه النصي، فيجب ألا تخضع وحسب للأشكال اللغوية للتحليل النصي، بل للتحليل بأبعادها الثلاثة: وهي تحليل النص، وتحليل العمليات الخطابية الخاصة بإنتاج النص وتفسيره (بما في ذلك السؤال عن أنماط الخطاب وأنواعه التي ينهل منها، وأساليب الإفصاح عنها وترابطها) والتحليل الاجتماعي ل «الحادثة» الخطابية من حيث أحوالها الاجتماعية وآثارها، على شتى المستويات (من زاوية الحال، ومن الزاوية المؤسسية والمجتمعية) (انظر الفصل الثالث أدناه). إذن، فإن ما أدعو إليه هو التحليل النصي المقترن بأنماط أخرى من التحليل، والقضية الرئيسية هي إن كان ينبغي تحليل نماذج محددة (ونصوص معينة).
وأما نقاط الضعف التي تهمنا في عمل فوكوه فتتعلق بمفهومي السلطة والمقاومة، ومسألتي الصراع والتغير؛ إذ إن فوكوه متهم بالمغالاة في تصوير مدى تلاعب السلطة بغالبية الناس؛ وهو متهم بأنه لا يولي الوزن الكافي لطعن الناس في الممارسات والصراعات بين القوى الاجتماعية حولها، والإمكانات المتاحة للجماعات المقهورة بمعارضة النظم الخطابية وغير الخطابية المهيمنة، وإمكانات التغيير في علاقات السلطة الذي يأتي به الكفاح، وهلم جرا (لوكور، 1972م؛ ماكدونيل، 1986م). والواقع أن فوكوه لا يتجاهل أمثال هذه المسائل، فهو يبدي اهتمامه بالتغيير، على سبيل المثال ما دام يخصص له فصلا كاملا في كتابه (1972م) بعنوان «التغيير والتحولات»، حيث يؤكد باستمرار أن قواعد تشكيل التشكيلات الخطابية لا تتناول موضوعات ومفاهيم ثابتة، بل مجالات تحولاتها الممكنة. ونجد في هذا الكتاب، مثلما نجد في فوكوه (1982م) مناقشة كاملة لأشكال الصراع، ولكن الانطباع المهيمن الذي نجده في مجمل أعماله وتحليلاته الرئيسية يصور الناس الخاضعين، بلا حول ولا طول، لنظم سلطة راسخة. ولا شك أن فوكوه يصر على أن السلطة تستتبع المقاومة بالضرورة، ولكنه يقدم انطباعا يقول: إن السلطة تحتوي المقاومة عموما (أي لا تسمح بانتشارها) ولا تجعلها مصدر تهديد. ويبدو أن هذا هو الحال فيما يتعلق بما يسميه فوكوه «الخطاب العكسي» للميول الجنسية المثلية. أي إن الانشغال بهذه الميول في خطابي الطب النفسي وفقه القانون في القرن التاسع عشر أدى إلى أن بدأت هذه الميول «تتكلم باسمها ... وكثيرا ما كانت تستخدم المفردات نفسها، والمعايير نفسها التي أدت إلى نبذها طبيا» (1981م، 101)، ومن ثم فإنه خطاب مقاومة لا يتجاوز حدود تشكيله الخطابي.
ويبدو أن هذه المشاكل ترتبط بغياب مفهوم الممارسة في تحليلات فوكوه، ومن بينها غياب النص والتحليل النصي. وأنا أعني ب «الممارسة» النماذج الحقيقية للناس الذي يفعلون أو يقولون أو يكتبون أي شيء. والواقع أن فوكوه (1972م) يشير فعلا إلى الممارسة في معرض تقديمه لمفهوم «الممارسة الخطابية»، ولكنه يعرفها بأسلوب مشوش ، أي باعتبارها «قواعد» تقوم عليها الممارسة الفعلية، قائلا: إن الممارسة الخطابية «نظام من القواعد التاريخية مجهولة المؤلف» (ص117). وبعبارة أخرى نقول: إنه يختزل الممارسة في عكسها، أي في المباني، مستخدما ذلك المصطلح بالمعنى العام للموارد التي تقوم عليها الممارسة، واللازمة لها (إلى جانب كونها نتاجا لها)، ويبدو أن المباني هي التي يقع عليها التركيز دائما، سواء كانت قواعد التشكيل عند فوكوه (1972م) أو التقنيات، مثل تقنية الفحص عند فوكوه (1979م)، ومع ذلك فإن فوكوه يزعم بطبيعة الحال أنه يتحدث عن الممارسة؛ إذ إن تركيزه على المباني يرمي إلى تفسير ما يمكن أن يحدث وما يحدث فعلا.
والافتراض المشكوك في صحته هو إمكان استنباط حقائق الممارسة من فحص المباني، أي إمكان التوصل إلى نتائج خاصة بالممارسة من دون التحليل المباشر لنماذج حقيقية منها، بما في ذلك النصوص. وقد يوحي ذلك ضمنا، على سبيل المثال، بأن الممارسة تتمتع بقدر من الاتساق يفوق كثيرا ما نعرفه عنها؛ وأن المباني تتحكم في الممارسة إلى مدى لا يتغير، وبطرائق لا تتغير، وهو ما لا يبدو لنا صحيحا؛ وأن البت في القواعد - أو مجموعات القواعد - التي تستند إليها الممارسة أمر يسير مباشر، وهو ما ينفيه الواقع. ونقول بإيجاز: إن ما نفتقده هو القول بأن الممارسة تتسم بخصائص ذاتية، وإن هذه الخصائص (1) من المحال اختزالها في إعداد المباني، وإن هذه الخصائص تعني (2) استحالة افتراض ظهورها في الممارسة بل لا بد من البت في هذه المسألة، وأنها (3) تساعد آخر الأمر على تشكيل المباني.
ويرتبط بتركيز فوكوه على المباني غياب أمر آخر، ألا وهو غياب آليات التغيير التفصيلية. إذ كيف اتخذت المباني شكلها الحالي؟ كيف تتغير المباني؟ وفي معرض حديث تيلور (1986م، 90) عن فوكوه، يقول ما يلي: «فيما يتعلق بالشرح القائم على التتابع الزمني، لنا أن نتشكك في وجوب الإشارة إلى أولوية اللغة على الفعل؛ فالعلاقة بينهما دائرية، فمباني الفعل أو اللغات لا تستمر قائمة إلا بفضل تجديدها المتواصل في الفعل/الكلام، وإذا عجزت عن أن تظل قائمة فإنما يكون ذلك في الفعل /الكلام، وهكذا تتغير». وبعبارة أخرى يقول: إن المباني يعاد إنتاجها وتتحول أشكالها أيضا في الممارسة.
ولكن إذا كان من الممكن إعادة إنتاج المباني أو تحويلها في الممارسة، فما العامل الذي يحدد النواتج الفعلية في الحالات المختلفة؟ أو بصورة أعم وأشمل: ما العامل الذي يحدد النواتج التراكمية للممارسة في مجالات اجتماعية أو مؤسسات معينة، ويحدد أوجه اختلاف صورتها في اتجاهات إعادة الإنتاج عن صورتها في الاتجاهات التحويلية في الخطاب؟ أريد أن أقول: إن المباني يعاد إنتاجها أو تتحول وفق حالة العلاقات القائمة، أو «ميزان السلطة»، بين القوى المتصارعة في مجال ممارسة معين وثابت، مثل المدرسة أو مكان العمل، أي إن التركيز البالغ الشدة على المباني يعتبر بمثابة اتخاذ منظور من زاوية واحدة تجاه هذه الصراعات، وهو منظور أصحاب السلطة، من تتمثل مشكلتهم في الحفاظ على النظام الاجتماعي والإبقاء على الهيمنة. وتصوير جرامشي للسلطة باعتبارها هيمنة أفضل من تصوير فوكوه؛ لأن الأول يتجنب أمثال هذه الاختلالات (جرامشي، 1971م؛ هول، 1988م). فصورة الهيمنة في مدخله صورة توازن قلق مبني على التحالفات وعلى توليد الرضى من الطبقات والجماعات الثانوية، وضروب زعزعة موقفها تمثل بؤرة التركيز الدائمة للصراعات (انظر الفصل الثالث حيث المزيد من المناقشة). والواقع أن تجاهل فوكوه للممارسة ولآليات التغيير التفصيلية يصحبه تجاهل للصراع، وطرائق أخرى ل «المقاومة» التي يفترض أنها تفتقر إلى القدرة على تغيير الأبنية تغييرا أساسيا.
وغياب التركيز على الممارسة والصراع يمكن أن يساعد على إيضاح السبب الذي يدفع النقاد إلى اعتبار تحليلات فوكوه «تتسم بانحياز شديد» من زاوية أخرى (تيلور، 1986م، 81)؛ إذ إن فوكوه يفسر تقنيات السلطة التي يناقشها في دراساته للأنساب قائلا: إنها أدوات صريحة للهيمنة والتلاعب، ولكن انظر في تقنية «جلسات المشورة» باعتبارها شكلا من أشكال الاعتراف في المجتمع المعاصر: إن «جلسات المشورة» تستخدم فعلا لإخراج ما يدور في رءوس الأشخاص وإدراجه في مجال السلطة/المعرفة، ولكنها أيضا تقنية لتأكيد قيمة الشخص وطابعه الفردي في مجتمع يزيد من تعامله معهم باعتبارهم أصفارا (كما بين لنا فوكوه). والواقع أن جلسات المشورة تتسم بدلالتين متفاوتتين إلى حد بعيد، والتعقيد الواضح في علاقتها بالسلطة لا بد أن ينفي أي زعم بأن أبعادها التحررية أبعاد وهمية. وإذا أردنا طريقا أكبر فائدة للتقدم في هذا الصدد فعلينا البحث في أسلوب عمل جلسات التشاور باعتبارها من تقنيات الخطاب العملية، بما في ذلك دراسات الصراعات في الخطاب حول توجهاته المتناقضة إلى السيطرة والتحرر (انظر الفصل السابع أدناه).
ومع ذلك فنحن نجد بعض التعليقات في فوكوه على «ظواهر التعددية التكتيكية في الخطاب»، وهي التي تشير إلى هذا الاتجاه نفسه، يقول فوكوه:
لا يوجد، في جانب معين، خطاب سلطة يقابله خطاب آخر مضاد له. فضروب الخطاب عناصر تكتيكية أو كتل تعمل في مجال علاقات القوة؛ فمن الممكن أن توجد ضروب خطاب مختلفة، بل ومتناقضة داخل الاستراتيجية نفسها ؛ وعلى العكس من ذلك يمكنها الانتقال من دون تغيير شكلها من استراتيجية إلى استراتيجية أخرى معارضة، ويجب ألا نتوقع ضروب الخطاب الخاصة بالجنس أن تقول لنا، قبل كل شيء، ما الاستراتيجية التي استمدت منها، أو ما الأقسام الأخلاقية التي تتضمنها، أو ما الأيديولوجية التي تمثلها، سواء كانت مهيمنة أو خاضعة للهيمنة! بل إن علينا أن نفحصها على المستويين المتعلقين بإنتاجيتهما التكتيكية (أي بخصوص الآثار المتبادلة للسلطة والمعرفة التي تكفلها) وتكاملها الاستراتيجي (أي ما الترابط وما علاقة القوة التي تجعل الانتفاع بها ضروريا في أية حالة من حالات شتى المواجهات التي تقع). (1981م، 101-102)
وسوف أناقش مثل هذا المنظور أدناه (في الفصل الثالث) من حيث إمكان «اصطباغ» ضروب الخطاب ونظم الخطاب بصبغة سياسية وأيديولوجية، من غير أن تكون مصطبغة بالضرورة على هذا النحو فعلا، أو تكون مصطبغة في اتجاه معين.
وفكرة تعدد التكافؤ التكتيكي في ضروب الخطاب نظرة ثاقبة قيمة في عمليات الصراع الأيديولوجي في الخطاب على نحو ما يمكن تصوره في نموذج يقوم على الهيمنة، ولكن فوكوه نفسه يقاوم مفهوم الأيديولوجيا، ويقاوم أيضا فكرة التحليل باعتبارها شكلا من أشكال البحث النقدي الأيديولوجي. وينبع هذان الموقفان من إيمان فوكوه بالنسبية؛ فالحقيقة عنده نسبية إزاء تشكيلات خطابية معينة، ونظم معينة للسلطة/المعرفة، ومن ثم فليست تقبل البحث النقدي من مواقع خارجها أو فوقها. ومع ذلك فلقد قيل: إن موقف فوكوه متناقض، ذلك أنه يبدو ملتزما بأشكال معينة من البحث النقدي لا تتفق مع أخذه بالنسبية، وهكذا ينتهي به الأمر إلى اتخاذ موقف غير حاسم إزاء البحث النقدي (ديوز، 1987م؛ فريزر 1989م). وفي وصفي لتحليل الخطاب ذي التوجه النصي في الفصل الثالث أدناه، سوف أختلف عن فوكوه في استعمال مفهوم الأيديولوجيا، وافتراض أن التحليل النصي شكل من أشكال البحث النقدي الأيديولوجي. ومع ذلك، فإن انتقادات فوكوه والآخرين تعني ضرورة الحرص على تجنب بعض التصورات الساذجة للأيديولوجيا (انظر طومسون، 1990م).
وتحفظي الأخير على فوكوه يتعلق بنظراته القيمة في خصائص الخطاب «المكونة» (أي التي تكون أو تشكل أشياء معينة). وإذا كنت أقبل أن «الموضوعات» والذوات الاجتماعية تشكلها الممارسات الخطابية، فإنني أود الإلحاح على تبيان أن هذه الممارسات تخضع لقيود معينة، وهي أنها تقع حتما في إطار واقع مادي سبق تشكيله، وبه موضوعات وذوات اجتماعية سبق تكوينها، ومن ثم ينبغي النظر إلى عمليات التكوين التي يقوم بها الخطاب من حيث كونها عملية جدلية، يعتمد فيها تأثير الممارسة الخطابية على طريقة تفاعلها مع الواقع الذي سبق تكوينه. وأما فيما يتعلق ب «الموضوعات»، فربما يكون من المفيد أن نستخدم المصطلحين «الإحالة» و«الدلالة»؛ فالخطاب يتضمن الإحالة إلى موضوعات سبق تكوينها، وكذلك الدلالة الإبداعية والتكوينية للموضوعات، وهنا نرى من جديد أن تحليلات الممارسة الواقعية والنص الواقعي تمثل تصحيحا مهما لمبالغات فوكوه في الآثار «التكوينية» للخطاب. ونحن نرى، على سبيل المثال، أن دراسات الخطاب الإعلامي التي انصب تركيزها على كيفية تفسير نصوص معينة وكيفية تنظيمها أيضا قد أخرجت لنا صورة شديدة التركيب، بحيث يمكن تفسير النصوص فيها من شتى الزوايا المتفقة إلى حد ما أو المتعارضة بصورة ما، وهو ما يجعل من قبيل الإشكالية العويصة أية نظرة منهجية لتأثير الخطاب في الذوات الاجتماعية على سبيل المثال. ويدل هذا المثال أيضا على أن عملية تكوين الذوات دائما ما تقع في إطار أشكال معينة من التفاعل بين ذوات سبق تكوينها، حيث تؤثر أشكال التفاعل في عملية «التكوين» (انظر ديوز، 1987م، 198). ويقول المثال أيضا: إن الذوات الاجتماعية التي سبق تكوينها لا تشغل مواقع سلبية وحسب، بل إن لديها القدرة على الفعل، أي أن تصبح «فواعل»، وأن تقوم، من بين ما تقوم به، بتحديد علاقتها بشتى أنماط الخطاب المنوعة التي تنغمس فيها.
وتلخيصا لما سبق أقول: إن تحليل الخطاب ذا التوجه النصي من المحتمل أن يدعم التحليل الاجتماعي أساسا بضمان الاهتمام بالحالات العملية للممارسة والأشكال النصية وعمليات التفسير المرتبطة بها. ومن شأن مثل هذا الاهتمام بتفاصيل حالات معينة أن يساعد المحللين على تجنب المناهج الجاهزة والانحياز الذي يحد من نطاق عمل فوكوه، سواء في علاقة ذلك بآثار السلطة وإمكانات المقاومة، أو «تكوين» الذوات الاجتماعية، أو القيم الاجتماعية والثقافية المرتبطة بأنواع خاصة (من الخطاب) مثل جلسات المشاورة، ويستطيع أيضا أن يربط ما بين الأقوال العامة عن التغير الاجتماعي والثقافي وبين الآليات والطرائق المحددة لآثار التغيير في الواقع العملي.
الفصل الثالث
نظرية اجتماعية للخطاب
أقدم في هذا الفصل رأيا في الخطاب، وإطارا لتحليل الخطاب، وهو الإطار الذي سوف أعرضه بالتفصيل وأوضحه بالأمثلة في بقية الكتاب، وقد أملى علي هذا المدخل ما حددته في المقدمة من أهداف، أي أن أجمع بين تحليل الخطاب ذي التوجه اللغوي وبين الفكر الاجتماعي والسياسي المرتبط بالخطاب واللغة، في شكل إطار يصلح للاستخدام في البحث العلمي الاجتماعي، وخصوصا في دراسة التغير الاجتماعي؛ فالفصلان الأولان يحددان عددا من الإنجازات وأوجه القصور في الدراسات السابقة، وأما الفصل الثالث فهو مكتوب على ضوء تلك المناقشة من دون أن يكون مبنيا عليها مباشرة. وسوف أبدأ بمناقشة مصطلح «الخطاب»، ثم أتبعه بتحليل الخطاب في الإطار الثلاثي الأبعاد، أي باعتباره نصا، وممارسة خطابية، وممارسة اجتماعية. وأنا أناقش أبعاد التحليل الثلاثة المذكورة بعدا بعدا، ثم أنتهي بعرض مدخلي الخاص بالبحث في التغير الخطابي في علاقته بالتغيير الاجتماعي والثقافي. (1) الخطاب
ينصب تركيزي على اللغة، ومن ثم فأنا أستخدم «الخطاب» بمعنى أضيق من المعنى الذي يستخدمه فيه علماء الاجتماع عموما؛ بحيث يشير إلى استعمال اللغة المنطوقة أو المكتوبة، أي إنني سوف أستخدم مصطلح «الخطاب» في الإشارة إلى ما درج علماء اللغة على تسميته «استعمال اللغة»، أو «الكلام» أو «الأداء اللفظي». ووفق التقاليد التي بدأها فيرديناند دي سوسير (1959م) لا يعتبر «الكلام» صالحا للدراسة المنهجية لأنه في جوهره نشاط فردي، فالأفراد ينهلون بأساليب يتعذر التنبؤ بها، وفقا لرغباتهم ومقاصدهم، من «اللغة»، واللغة بطبيعتها منهجية واجتماعية. واللغويون العاملون في إطار هذه التقاليد يعرفون الكلام حتى يستبعدوه، إذ يترتب على موقف سوسير أن أية دراسة منهجية للغة يجب أن تكون دراسة للنظام نفسه، أي للغة لا «لاستعمالها».
وقد تعرض موقف سوسير للهجوم المتواصل من جانب الباحثين في علم اللغة الاجتماعي، الذين يقولون: إن استعمال اللغة يتشكل اجتماعيا لا فرديا. ويقولون: إن التفاوت في استعمال اللغة تفاوت منهجي وصالح للدراسة العلمية، وإن ما يجعله منهجيا هو اتفاقه مع المتغيرات الاجتماعية، بمعنى أن اللغة تتغير وفق طبيعة العلاقة بين المشاركين في التفاعلات، ونمط الحادثة الاجتماعية، والأهداف الاجتماعية التي يرمي إليها الأشخاص في أي تفاعل وهلم جرا (داونز، 1984م). وإذا كان هذا يمثل بوضوح تقدما على التقاليد السوسيرية المهيمنة في التيار الرئيسي لعلم اللغة، فإنه قاصر من جانبين؛ الأول أن التأكيد يغلب عليه اتخاذ زاوية واحدة، ألا وهي النظر في كيفية تغير اللغة طبقا للعوامل الاجتماعية، وهو ما يوحي بأن أنماط الذوات الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية، والمواقف المختلفة ذات وجود مستقل عن استعمال اللغة، كما ينفي إمكان استعمال اللغة فعليا في تكوينها وإعادة إنتاجها وتغييرها. والجانب الثاني للقصور هو أن «المتغيرات الاجتماعية» التي تعتبر معادلة للمتغيرات اللغوية ما هي في الحقيقة إلا معالم سطحية، نسبيا، للمواقف الاجتماعية لاستعمال اللغة، ولا يوحي هذا على الإطلاق بأن خصائص استعمال اللغة ربما كانت تخضع بمعنى أشمل لسيطرة البناء الاجتماعي على مستوى أعمق، مثل العلاقات الاجتماعية بين الطبقات والطوائف الأخرى، ومثل أساليب تجلي المؤسسات الاجتماعية في التشكيلات الاجتماعية، وهلم جرا. وربما كانت تسهم في إعادة إنتاج هذا البناء وتغييره.
وأنا أقترح في استعمالي لمصطلح «الخطاب» اعتبار استخدام اللغة شكلا من أشكال الممارسة الاجتماعية، لا مجرد نشاط فردي محض أو رد فعل للمتغيرات الموقفية. وتترتب على هذا أمور شتى. فهو يوحي أولا بأن الخطاب نوع من الفعل، شكل من أشكال تفاعل الأشخاص مع الدنيا، وخصوصا بعضهم مع بعض، وكذلك يعد الخطاب نوعا من التمثيل. وقد أصبحت هذه النظرة إلى اللغة مألوفة، وإن كانت كثيرا ما تصطبغ بصبغة فردية، بفضل الفلسفة اللغوية والتداولية اللغوية (ليفنسون، 1983م)، وهو يوحي ثانيا بوجود علاقة جدلية بين الخطاب والبناء الاجتماعي، ما دامت مثل هذه العلاقة قائمة بصفة عامة بين الممارسة الاجتماعية والبناء الاجتماعي، فالعلاقة الأخيرة شرط لقيام الأولى ونتيجة من نتائجها، فنحن نرى من ناحية معينة أن الخطاب يشكله ويقيده البناء الاجتماعي بأوسع معانيه، وعلى جميع المستويات؛ أي من جانب الطبقات والعلاقات الاجتماعية على المستوى المجتمعي، والعلاقات الخاصة بمؤسسات محددة، مثل القضاء والتعليم، ونظم التصنيف، وشتى المعايير والأعراف من ذوات الطبيعة الخطابية وغير الخطابية. وتتفاوت الأحداث الخطابية فيما يحدد بناءها وفقا للمجال الاجتماعي أو الإطار المؤسسي الذي تتولد فيه. ونرى من ناحية أخرى أن الخطاب ذو قدرة على التكوين الاجتماعي، وهذا مفاد مناقشة فوكوه للتشكيل الخطابي للموضوعات وللذوات وللمفاهيم. فالخطاب يسهم في تكوين جميع هذه الأبعاد الخاصة بالبناء الاجتماعي وهي التي تشكله وتقيده بصورة مباشرة وغير مباشرة؛ أي بمعاييره وأعرافه الخاصة، وكذلك العلاقات والهويات والمؤسسات التي تكمن وراءه، فالخطاب ممارسة لا تقتصر على تمثيل العالم بل تتجاوز ذلك إلى الدلالة عليه، أي إنه يكون العالم ويبنيه من زاوية المعنى.
ونستطيع التمييز بين ثلاثة جوانب للآثار البناءة للخطاب، فالخطاب يسهم «أولا»
وقبل كل شيء، في بناء ما أشرنا إليه بعدة صور مثل «الهويات الاجتماعية» و«مواقع الذوات» وهي التي نعني بها «الذوات» الاجتماعية وأنماط «النفس» (انظر هنريك، وآخرين، 1984م؛ وويدون، 1987م). لكننا يجب أن نتذكر مناقشة فوكوه لهذه القضية في الفصل الثاني وملاحظاتي فيه حول المغالاة في تصوير دوره في البناء. والخطاب يساعد «ثانيا»
في بناء علاقات اجتماعية بين الناس. كما يسهم «ثالثا»
في بناء نظم المعرفة والعقيدة. وهذه الآثار الثلاثة تتفق مع وظائف اللغة وأبعاد المعنى الثلاثة على الترتيب، وهي التي تتعايش وتتفاعل في كل خطاب، وهي ما سوف أسميه وظيفة «الهوية»، ووظيفة «العلاقة»، ووظيفة «الفكر»، باعتبارها وظائف اللغة. فأما وظيفة الهوية فتتعلق بالأساليب التي تنشأ بها الهويات الاجتماعية في الخطاب، وأما الوظيفة العلائقية فتختص بأسلوب بناء العلاقات الاجتماعية بين المشاركين في الخطاب، أي بتجسيدها وتنقيحها، وأما الوظيفة الفكرية فتتعلق بالأسلوب الذي تدل النصوص به على العالم وما يجري فيه، وما يشمل من كيانات وعلاقات. ويطلق هاليداي (1978م) صفة الوظيفة الرابطة ما بين الأشخاص على مجموع الوظيفتين الأوليين، أي الخاصتين بالهوية والعلاقات. كما يحدد هاليداي أيضا وظيفة «نصية»، ومن المفيد أن تضاف إلى قائمتي، إذ تتعلق بأسلوب تصدير أو تأخير أجزاء المعلومات، التصدير يعني جعلها في موقع الصدر أو الصدارة، والتأخير يعني جعلها في المؤخرة أو «العجز» (في البلاغة العربية أو الخلفية)، وهل تقدم هذه المعلومات في صورة «المسلم بها» أم في صورة المعلومات الجديدة، وهل تقدم باعتبارها الموضوع أو الثيمة، وكيف يرتبط أحد أجزاء النص بأجزائه الأخرى السابقة أو اللاحقة، وبالحالة الاجتماعية «خارج» النص.
والممارسة الخطابية ذات قدرة تكوينية بالأساليب التقليدية والخلاقة، فهي تسهم في إعادة إنتاج المجتمع (الهويات الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية، والنظم المعرفية والعقائدية) على نحو ما هو عليه، وهي تسهم أيضا في تغيير المجتمع. فعلى سبيل المثال تعتمد هويات المعلمين والتلاميذ والعلاقات فيما بينهم، وهي التي تعتبر في صلب أي نظام تعليمي، على اتساق أنساق الكلام واستمرارها داخل هذه العلاقات وحولها حتى يعاد إنتاجها، ومع ذلك فمن الممكن أن تتعرض لتحولات قد تنشأ في جانب منها داخل الخطاب، أي في الكلام في قاعة الدرس، وفي الفناء، وفي غرفة الأساتذة، والمناظرات التعليمية وهلم جرا.
ومن المهم أن ننظر نظرة جدلية إلى العلاقة بين الخطاب والبناء الاجتماعي حتى نتجنب مزالق المغالاة في تصور تحكم المجتمع في الخطاب من ناحية، وتصور بناء المجتمع في الخطاب، من ناحية أخرى. فالتصور الأول يجعل الخطاب مجرد انعكاس لحقيقة اجتماعية عميقة، والتصور الأخير يرسم للخطاب صورة مثالية باعتباره مصدرا للمجتمع. وربما يكون التصور الأخير هو المزلق الأخطر بصورة مباشرة، نظرا للتأكيد في المناظرات المعاصرة على الخصائص التكوينية للخطاب. فلننظر في مثال ما لنرى كيف يمكن تجنب هذا المزلق دون مساس بمبدأ الطاقة التكوينية. إن علاقات الآباء بالأطفال في الأسرة، وتحديد المواقع التي تشغلها «الأم» و«الأب» و«الطفل» أمور متاحة اجتماعيا، إلى جانب وضع أفراد حقيقيين في هذه المواقع، وطبيعة الأسرة، والبيت، فهذه جميعا تتكون في جانب منها داخل الخطاب، باعتبارها نتائج تراكمية (ومتناقضة في الواقع) لعمليات الحديث والكتابة المركبة والمنوعة. وقد يؤدي هذا إلى استنتاج مثالي يقول: إن حقائق العالم الاجتماعي، مثل الأسرة، لا تنبع إلا من رءوس الناس، ولكن لدينا شروطا ثلاثة تساعد مجتمعة على عدم إقرار ذلك. الأول: أن الناس دائما ما تواجه الأسرة باعتبارها مؤسسة حقيقية (ولها عدد محدود من الأشكال المغايرة) ولها ممارسات عملية، وعلاقات وهويات قائمة كانت قد تكونت من قبل في الخطاب ثم تشيأت فتحولت إلى مؤسسات وممارسات. والثاني: أن الآثار «التكوينية» للخطاب تعمل بالتضافر مع قريناتها في الممارسات الأخرى، مثل توزيع المهام المنزلية، والملابس، والجوانب العاطفية للسلوك (مثل: من الذي ينفعل). والثالث: أن العمل التكويني للخطاب يحدث بالضرورة داخل قيود التحديد الجدلي للخطاب وهي التي تفرضها المباني الاجتماعية (وهي تتضمن في هذه الحال حقيقة المباني الأسرية ولكنها تتجاوزها) وكذلك، على نحو ما سوف أقيم عليه الحجة أدناه، داخل إطار معين لعلاقات السلطة وصراعاتها، وهكذا فإن التكوين الخطابي للمجتمع لا ينبثق من النشاط الطليق للأفكار داخل رءوس الناس بل من ممارسة اجتماعية ذات جذور راسخة، وتوجه نحو المباني الاجتماعية المادية الحقيقية.
ويعتبر المنظور الجدلي تصحيحا لازما للمغالاة في تأكيد خضوع الخطاب لسيطرة المباني، سواء كانت مباني خطابية، (شفرات وأعراف ومعايير)، أو مباني غير خطابية. ومن هذه الزاوية نجد أن قدرة مصطلح «الخطاب» على الإشارة إلى أبنية الأعراف التي تستند إليها الأحداث الخطابية الفعلية، وكذلك إلى هذه الأحداث نفسها، تعتبر غموضا موفقا، حتى ولو كان يمكن اعتباره، من زوايا أخرى، سببا في التشويش. فالبنيوية (التي يمثلها مدخل بيشوه الموصوف في الفصل الأول أعلاه مثلا) تتناول الممارسة الخطابية والحادثة الخطابية باعتبارهما مجرد نماذج للمباني الخطابية، وهي التي تصور في صور ثابتة ذات طابع موحد. والبنيوية تنظر إلى الممارسة الخطابية من حيث كونها نموذجا للعلية الآلية (ومن ثم التشاؤمية). وأما المنظور الجدلي فيرى الممارسة والحادثة باعتبارهما متناقضتين ومشتبكتين في صراع، ويرى أن لهما علاقة مركبة متغيرة بالمباني التي لا تكشف في نفسها إلا عن ثبات مؤقت وجزئي ومتناقض.
والممارسة الاجتماعية ذات توجهات شتى - اقتصادية وسياسية وثقافية وأيديولوجية - وقد يشارك الخطاب في هذه جميعا، من دون اختزال أي منها، واعتبارها خطابا وحسب. فعلى سبيل المثال يمكن أن يقال: إن الخطاب شكل من أشكال الممارسة الاقتصادية بعدد من الطرق؛ إذ يظهر الخطاب بنسب متفاوتة باعتباره من مقومات ممارسة اقتصادية ذات طبيعة غير خطابية أساسا، مثل بناء الجسور أو إنتاج الغسالات؛ كما توجد أشكال من الممارسة الاقتصادية ذات طبيعة خطابية أساسية، مثل سوق الأوراق المالية، أو الصحافة، أو كتابة مسلسلات تليفزيونية، أضف إلى ذلك أن النظام الاجتماعي اللغوي لمجتمع من المجتمعات قد يتخذ بناؤه صورة السوق، جزئيا على الأقل؛ حيث يجري إنتاج النصوص وتوزيعها واستهلاكها مثل السلع (في «صناعات الثقافة»، بورديو، 1982م).
ولكن الخطاب باعتباره شكلا من أشكال الممارسة السياسية والأيديولوجية هو الذي يتصل اتصالا وثيقا باهتمامات هذا الكتاب؛ فالخطاب باعتباره ممارسة سياسية ينشئ علاقات السلطة ويحافظ عليها ويغيرها، وكذلك الكيانات الجماعية (الطبقات، التكتلات، المجتمعات المحلية، والمجموعات) التي تنشأ فيما بينها علاقات السلطة. والخطاب باعتباره ممارسة أيديولوجية يكون دلالات العالم، ويطبعها، ويحافظ عليها ويغيرها من مواقع منوعة في علاقات السلطة. وعلى نحو ما توحي به هذه الصياغة، لا تتسم الممارسة السياسية بالاستقلال عن الممارسة الأيديولوجية، فالأيديولوجيا دلالات تتولد داخل علاقات السلطة باعتبارها بعدا من أبعاد ممارسة السلطة والصراع على السلطة. وهكذا فإن الممارسة السياسية تعتبر الفئة الأعلى مكانة. أضف إلى ذلك أن الخطاب باعتباره ممارسة سياسية ليس موقعا للصراع على السلطة وحسب، بل شريك أيضا في ذلك الصراع، بمعنى أن الممارسة الخطابية تنهل من الأعراف التي تطبع علاقات سلطة وأيديولوجيات معينة، كما أن هذه الأعراف نفسها، وطرائق التعبير والإفصاح عنها، تمثل بؤرة تركيز للصراع. وسوف أسوق الحجة أدناه على أن مفهوم جرامشي للهيمنة يقدم لنا إطارا مثمرا لوضع تصور نظري للأبعاد السياسية والأيديولوجية للممارسة الخطابية والبحث فيها.
لن أقول إن أنماطا معينة من الخطاب تتسم بقيم سياسية أو أيديولوجية راسخة، بل أقول: إن مختلف أنماط الخطاب في مجالات اجتماعية مختلفة أو في أطر مؤسسية معينة قد تصبح «مشحونة» سياسيا أو أيديولوجيا (فراو ، 1985م) بطرائق محددة. ويعني هذا ضمنا أن أنماط الخطاب قد تصبح أيضا مشحونة بطرائق مختلفة، وقد «يعاد شحنها» في بعض الحالات (وسوف أضرب مثالا في آخر مناقشة التغير الخطابي أدناه).
ومن الأهمية بمكان قضية تصورنا للأعراف والمعايير الخطابية التي تستند إليها الأحداث الخطابية. ولقد سبق لي أن أشرت إلى الرأي البنيوي الذي يقول بوجود مجموعة كاملة التعريف من الأعراف أو الشفرات التي لا نشهد منها إلا نماذج مفردة في الأحداث الخطابية. وقد اتسع نطاق هذا الرأي فأصبح يقول: إن مجالات علم اللغة الاجتماعي تتكون من مجموعة من أمثال هذه الشفرات ذات التوزيع المتكامل، بمعنى أن كلا منها لديه وظائفه الخاصة وأحواله الخاصة وشروط ملاءمته، وأن هذه تنفصل عن غيرها بحدود حاسمة (وأنا أنتقد الآراء الخاصة بالتفاوت في علم اللغة الاجتماعي والمبنية على مفهوم «المواءمة» في كتابي المقبل، فيركلف، تحت الطبع ب). والمداخل التي تنتمي إلى هذا النوع ترصد تغير النظم داخل الجماعات اللغوية وفقا لمجموعة من المتغيرات الاجتماعية، ومنها الظروف القائمة (مثل قاعة الدرس، وملعب المدرسة، وغرفة الأساتذة، وقاعة الاجتماعات، فهي تمثل أماكن مدرسية مختلفة) وأنماط النشاط والغرض الاجتماعي (مثل التعليم، وإعداد المشروعات أو الاختبارات في قاعة الدرس) والمتكلم (مثل المعلم في مقابل التلميذ). وطبقا لهذا الرأي، تصبح الشفرة ذات أولوية، ومجموعة الشفرات مجرد حاصل جمع أجزائها.
وأما المدخل الذي يحمل المزيد من الثمر للتوجه التاريخي للتغير الخطابي في هذا الكتاب فهو مدخل محللي الخطاب الفرنسيين الذين يقولون إن المركب الخطابي، أي المجموعة المركبة المتكاملة من التشكيلات الخطابية، تتمتع بالأولوية على أجزائها ولها خصائص لا يمكن التنبؤ بها من استقراء أجزائها (انظر مناقشة بيشوه في الفصل الأول عاليه). والمركب الخطابي أيضا هو الكيان البنائي الذي تقوم عليه الأحداث الخطابية، وليس تشكيلا مفردا أو شفرة مفردة: إذ يتجلى في أحداث خطابية بالغة الكثرة التوجه إلى بناء تكوينات من عناصر الشفرة، وإلى رسم حدود للحادثة الخطابية القائمة (وإن كانت حالة خاصة) وبنائها من النموذج المعياري لشفرة مفردة؛ بحيث تعتبر بمثابة القاعدة. ومن الأمثلة على ذلك «الأنواع المختلطة» التي تجمع بين عناصر نوعين أو أكثر، مثل «الدردشة» في برامج الدردشة التليفزيونية، التي تتكون في جانب منها من المحادثة، وفي جانب آخر من التسلية والأداء التمثيلي (انظر تولسون، 1990م، حيث تحليل الدردشة أو «الشات»)، ولكنني سوف أستخدم مصطلح فوكوه وهو «نظام الخطاب» لا المركب الخطابي، لأنه يدل بوضوح أكبر على أنواع التكوينات المتصورة.
فلتستخدم المصطلح الأقل دقة، وهو «العنصر»، بدلا من الشفرة أو التشكيل، في الإشارة إلى الأجزاء التي يتكون منها نظام من نظم الخطاب (وسوف أعرض لطبيعة هذه العناصر أدناه). فعلى عكس الأوصاف المبنية على نظريات «المواءمة»، حيث يفترض وجود علاقة واحدة ثابتة تكاملية بين الأجزاء، أفترض أنا أن العلاقة يمكن أن تكون أو تصبح متناقضة. وقد تكون الحدود بين العناصر خطوط توتر. انظر مثلا في مواقع الذوات المنوعة الخاصة بفرد واحد أثناء وجوده في أماكن وأنشطة مختلفة داخل إحدى المؤسسات، من زاوية «بعثرة» الذات وانتشارها في تشكيل «النوعيات التعبيرية» بمصطلح فوكوه (انظر هذا المصطلح في الفصل السابق). ومن الممكن أن تصطبغ الحدود الفاصلة بين المواقف والممارسات بالصبغة الطبيعية إلى الحد الذي يجعل مواقع الذوات المذكورة تبدو متكاملة، في حين أنه إذا اختلفت الظروف الاجتماعية، فإن هذه الحدود نفسها قد تصبح مركزا للنزاع والصراع، بحيث تبدو مواقف الذوات والممارسات الخطابية المرتبطة بها متناقضة. فعلى سبيل المثال قد يقبل التلاميذ أن يحكوا قصص ما مروا به من خبرات بلهجاتهم الاجتماعية الخاصة، باعتبار ذلك أمرا لا غبار عليه في الأوقات المخصصة لمناقشته أثناء الدروس، لا في الأوقات المخصصة للدرس أو الكتابة، أو ربما يصبح التناقض بين ما هو مسموح به في مكان معين وغير مسموح به في مكان آخر أساسا للصراع حول تغيير الحدود التي تفصل بين المناقشة والتدريس والكتابة، وربما يكون قبول قصص الخبرات الشخصية، ولو في جزء محدد تحديدا صارما من أجزاء نشاط قاعة الدرس، حلا وسطا من ثمار منازعات سابقة، والكفاح في سبيل قبولها أصلا في قاعة الدرس.
وما يصدق على الحدود بين مواقع الذوات وأعراف الممارسات الخطابية المرتبطة بها يصدق بصفة عامة على عناصر نظم الخطاب، ويصدق كذلك على الحدود بين نظم الخطاب المتميزة؛ فقد ينظر إلى المدرسة ونظام الخطاب فيها باعتبارها تتمتع بعلاقة تكاملية وغير تداخلية مع المجالات المجاورة لها، مثل البيت أو الحي، ولكن، من ناحية أخرى، قد يصبح ما يظن أنه تناقضات بين هذه المجالات أساسا لصراعات ترمي إلى إعادة رسم الحدود وتحديد العلاقات، كالصراعات الرامية إلى توسيع اختصاصات الوالدين، وعلاقة الطفل وأعرافها الخطابية بالمعلم، والعلاقة فيما بين التلاميذ، أو العكس، على سبيل المثال، أو محاولة التوسع في علاقات الأقران وممارساتهم في الحي والشارع، بحيث تمتد إلى داخل المدرسة.
وتعتبر نواتج أمثال هذه الصراعات صورا لإعادة الربط بين نظم الخطاب، وذلك فيما يتعلق بالعلاقات بين العناصر في نظم الخطاب «المحلية»، مثل نظمها في المدرسة، وكذلك العلاقات بين نظم الخطاب المحلية في نظام الخطاب المجتمعي، ومن ثم فإن الحدود الفاصلة بين العناصر (وكذلك نظم الخطاب المحلية) قد تتفاوت وتتغير ما بين القوة النسبية والضعف النسبي (انظر برنشتاين، 1981م) استنادا إلى درجة ارتباطها الحالي؛ فقد تكون العناصر منفصلة ومحددة بدقة، وقد تكون مشوشة ملتبسة الصورة.
بل ينبغي ألا نفترض أن هذه «العناصر» تتسم بالتجانس الداخلي. فمن عواقب الصراع حول الارتباط الذي أتصوره أن بعض العناصر الجديدة قد تتكون نتيجة إعادة رسم الحدود بين العناصر القديمة. وهكذا فقد يكون أحد العناصر غير متجانس في منشئه، ولكن عدم التجانس التاريخي قد لا يبدو للعيان إذا كانت الأعراف قد اصطبغت بالصبغة الطبيعية الكاملة، وأما إذا اختلفت الظروف فقد يبدو عدم التجانس في صورة تناقض داخل ذلك العنصر. ومن الأمثلة على ذلك أسلوب تعليم مألوف يتكون من ممارسة المعلم لدورة من الأسئلة والأجوبة بنيت لاستخلاص معلومات محددة سلفا من التلاميذ، ولا ينظر إلى هذا الأسلوب بالضرورة باعتباره قائما على التناقض، ما دام المعلم يتظاهر بأنه يسأل التلاميذ وهو في الحقيقة يمدهم بالمعلومات، ولكن هذا الأسلوب يمكن تفسيره على هذا النحو. فإذا طبقنا مفهوم الاصطباغ هنا كان لنا أن نقول: إن العناصر والنظم المحلية للخطاب، والنظم المجتمعية للخطاب، يمكن أن نشعر بأنها ذات بناء متناقض، ومن ثم فإنها تسمح بأن يصبح إضفاء الصبغتين السياسية والأيديولوجية مركزا للخلاف في إطار الصراعات الدائرة ما بين محاولة إيقاف الاصطباغ وإعادة إضفائه.
وقد تختلف العناصر التي أشرت إليها اختلافا شديدا من حيث «نطاقها»، إذ تبدو في بعض الحالات متفقة مع الفهم التقليدي للشفرة الكاملة أو النطاق الدلالي (هاليداي، 1978م)، أي باعتبارها كتلة من المتغيرات ذات مستويات مختلفة ولها ما يميزها من الأنساق الصوتية، والمفردات، والأنساق النحوية، وقواعد تناوب الحديث وهلم جرا. والأمثلة على هذه الحالات جلسات البينجو (لعبة مراهنات باستخدام ورق اللعب) ومزادات بيع الأبقار، ولكن المتغيرات في حالات أخرى ذات نطاق أضيق، مثل نظم المناوبة في الحديث، والمفردات التي تتضمن نظما خاصة للتصنيف، والسيناريوهات التي توضع لأنواع (كتابية) خاصة مثل تقارير الجرائم أو القصص الشفاهية، أو أعراف التأدب وما إلى ذلك بسبيل. ومن وجوه التضاد بين نظم الخطاب مدى ما تصل إليه هذه العناصر من ثبات يجعلها وحدات دائمة الوجود. وسوف أشير في الفصل التالي إلى عدد صغير من أنماط العناصر المختلفة، مثل الأنواع، والأساليب، والأنماط وضروب الخطاب.
وقد يكون من المفيد هنا أن نتذكر مقتطفا من كلام فوكوه ورد في الفصل السابق يشير فيه إلى قواعد تشكيل الموضوعات في علاج الأمراض النفسية؛ إذ إن «العلاقات» التي يقول فوكوه إنها أصبحت تستخدم في خطاب الطب النفسي للسماح بتشكيل «الموضوعات» التي يشير إليها، يمكن تفسيرها بأنها علاقات بين عناصر خطابية متفاوتة النطاق، مثل «مستويات التخصيص»، و«مستويات التشخيص السيكولوجي»، فهذان المثالان يتكونان في جانب منهما على الأقل من المفردات، وأما «التحقيق القضائي» و«الاستجواب الطبي» فهما عناصر خطابية من نمط نوعي (انظر مناقشة النوع في الفصل التالي). ومع ذلك فنحن نلاحظ أنها ليست عناصر خطابية وحسب، فتحقيقات الشرطة والفحص الإكلينيكي، والحبس العلاجي والعقابي قد تتضمن مكونات خطابية، ولكنها ليست في ذاتها كيانات خطابية. وتؤكد أوصاف فوكوه التداخل المتبادل لما هو خطابي بغير ما هو خطابي في الأبنية الخاصة بالممارسة الاجتماعية. وفي ضوء هذا يمكن النظر إلى نظم الخطاب بأنها الواجهات الخطابية للنظم الاجتماعية، وهي التي يتسم ترابطها الداخلي، وإعادة ترابطها، بالخصيصة نفسها.
كان التركيز ينصب أساسا، حتى الآن، على ما يجعل الخطاب شبيها بالأشكال الأخرى للممارسة الاجتماعية، وأراني الآن في حاجة إلى إعادة الاتزان إلى القضية بالسؤال عما يجعل الممارسة الخطابية خطابية بصفة خاصة. والواضح أن الإجابة، في جانب منها، هي اللغة؛ إذ إن الممارسة الخطابية تتجلى في شكل لغوي، أي في الشكل الذي أشير إليه بمصطلح «النصوص»، وأنا أستخدم «النص» بالمعنى الواسع عند فوكوه، وهو الذي يضم اللغة المنطوقة والمكتوبة (هاليداي، 1978م)، فإذا كان الحادث الخطابي بعدا واحدا من الممارسة الاجتماعية (السياسة أو الأيديولوجية ... إلخ) فإن كونه نصا يعتبر بعدا آخر.
ولكن هذا لا يكفي؛ فإن البعدين يتوسلان ببعد ثالث يركز على الخطاب باعتباره ممارسة خطابية بصفة خاصة، ولا تعتبر «الممارسة الخطابية» هنا تضادا مع «الممارسة الاجتماعية» فالأولى صورة خاصة من الأخيرة. وقد تتكون الممارسة الاجتماعية في بعض الحالات في مجملها من الممارسة الخطابية، وقد تتضمن في حالات أخرى مزيجا من الممارسة الخطابية وغير الخطابية؛ إذ إن تحليل خطاب معين باعتباره قطعة من الممارسة الخطابية يركز على عمليات إنتاج النص وتوزيعه واستهلاكه، وكلها عمليات اجتماعية تتطلب الإحالة إلى أوضاع اقتصادية وسياسية ومؤسسية معينة، وهي التي يتولد فيها الخطاب. فأما الإنتاج والاستهلاك فإنهما يتميزان من زاوية معينة بطابعهما الاجتماعي المعرفي، وذلك لأنهما يتضمنان عمليات معرفية خاصة بإنتاج النص وتفسيره، وهي التي تقوم على المباني والأعراف الاجتماعية المستوعبة (ومن هنا وصف الطابع بأنه اجتماعي). ويتمثل أحد مشاغلنا عند الحديث عن هذه العمليات الاجتماعية المعرفية بتحديد العناصر القائمة في نظم الخطاب، وكذلك في الموارد الاجتماعية الأخرى التي أسميها «موارد الأعضاء» (أي جماع الخبرات الذاتية) التي استعين بها، وكيف استعين بها في إنتاج المعاني وتفسيرها. وأما المهمة الأولى فهي العثور على الروابط الشارحة بين الطرائق (المعيارية أو التجديدية ... إلخ) التي تبنى بها النصوص وتفسر، وكيف تنتج النصوص وتوزع وتستهلك بمعنى أوسع، وطبيعة الممارسة الاجتماعية من حيث علاقتها بالأبنية والصراعات الاجتماعية. والمرء لا يستطيع أن يعيد بناء عملية الإنتاج ولا إيضاح أسباب عملية التفسير استنادا إلى النصوص وحدها، فإنما هي، على الترتيب، آثار ومفاتيح لهذه العمليات، ومن المحال إنتاجها أو تفسيرها إلا على ضوء «موارد الأعضاء». ومن طرائق الربط بين هذا التأكيد على الممارسة الخطابية وعمليات إنتاج النص وتوزيعه واستهلاكه وبين النص نفسه، التركيز على طابع التناص للأخير. انظر قسم «الممارسة الخطابية» أدناه.
شكل 3-1: تصور الخطاب الثلاثي الأبعاد.
والتصور ذو الأبعاد الثلاثة للخطاب يمثله الشكل البياني رقم
3-1 ، فهو يحاول الجمع بين ثلاثة من التقاليد التحليلية، ولا غنى عن أي منها في تحليل الخطاب. وهذه هي تقاليد التحليل النصي واللغوي الدقيق داخل علم اللغة، وتقاليد علم الاجتماع الواسع النطاق والخاص بتحليل الممارسة الاجتماعية في علاقتها بالأبنية الاجتماعية، والتقاليد التفسيرية أو الخاصة بعلم الاجتماع الضيق النطاق، بمعنى اعتبار الممارسة الاجتماعية شيئا ينشط الناس في إنتاجه ويفهمونه استنادا إلى عمليات تقوم على المنطق السليم المشترك. وأنا أقبل الزعم التفسيري بأن علينا أن نفهم كيف ينجح أفراد الطوائف الاجتماعية في إنتاج عوالمهم «المنظمة» أو «المنطقية». وأتصور أن تحليل العمليات الاجتماعية المعرفية في إطار الممارسة الخطابية مكرس في أحد جوانبه لتحقيق هذا الهدف (وإن كنت أقول أدناه إن له أبعادا «واسعة النطاق» وأخرى «ضيقة النطاق»)، ولكنني أقول: إن ممارسات الأعضاء في أثناء إنتاج عالمهم تتشكل بطرائق لا يدركونها في العادة، وإن عوامل تشكيلها هي الأبنية الاجتماعية، وعلاقات السلطة، وطبيعة الممارسة الاجتماعية التي يشتركون فيها والتي تتجاوز غاياتها دائما مسألة إنتاج المعاني. وهكذا فقد تصطبغ عملياتهم وممارساتهم بصبغة سياسية وأيديولوجية، ويمكن أن تضعهم في مواقع «الذوات» (و«الأعضاء»). وأقول أيضا: إن ممارسة الأعضاء تأتي بنواتج وآثار في المباني الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية والصراعات الاجتماعية من حولهم، وهي التي لا يدرون بها في العادة، كما سبق أن قلت. وأقول أخيرا: إن الإجراءات التي يستعملها الأعضاء غير متجانسة بل ومتناقضة، وهي مثار الخلاف في صراعات تتسم في جانب منها بطابع خطابي. فأما الجانب الإجرائي الخاص بتحليل النصوص فيمكن أن يسمى «الوصف»، والأجزاء التي تتناول تحليل ممارسة الخطاب وتحليل الممارسة الاجتماعية التي يعتبر الخطاب جزءا منها يمكن أن تسمى «التفسير» (انظر آخر الفصل السادس؛ حيث يرد هذا التمييز بينهما). (2) الخطاب باعتباره نصا
لا يتكلم المرء حقا عن معالم أحد النصوص من دون إشارة إلى إنتاج النص و/أو تفسيره، وذلك لأسباب أوضحها فيما بعد. وبسبب هذا التداخل، فإن تقسيم موضوعات التحليل ما بين تحليل النص وتحليل الممارسة الخطابية (وهكذا بين الأنشطة التحليلية للوصف والتفسير) ليس تقسيما قاطعا. فحيثما تكن المعالم الشكلية للنص أشد بروزا من غيرها يتضمن التحليل الموضوعات، وحيثما تكن العمليات الإنتاجية والتفسيرية أشد بروزا، تناقش الموضوعات في إطار تحليل الممارسة الخطابية، حتى ولو كانت تتضمن بعض المعالم الشكلية للنصوص. والذي أعرضه تحت هذين العنوانين إطار أو نموذج تحليلي واسع، وسوف يجد القارئ معالجات مختارة أشد تفصيلا للموضوعات التحليلية في الفصلين الرابع والخامس.
من الافتراضات المعقولة التي يمكن تطبيقها افتراض أن أي معلم من معالم النص يمكن أن تكون له دلالة في تحليل الخطاب، ويثير هذا صعوبة كبرى. فتحليل اللغة مجال مركب وذو تقنية خاصة به، وهو يتضمن الكثير من أنماط التحليل وتقنياته، وعلى الرغم من أن التمتع بخلفية في علم اللغة قد يكون، من ناحية المبدأ، شرطا مسبقا لإجراء تحليل الخطاب، فإن تحليل الخطاب نشاط متعدد الجوانب، ولا يمكن للمرء أن يفترض في ممارسة خلفية تفصيلية في علم اللغة أكثر مما تفترض فيه خلفيات تفصيلية في علم الاجتماع أو علم النفس أو السياسة. وفي هذه الظروف فإن ما قررت أن أفعله هو (1) أن أقدم في هذا الفصل إطارا تحليليا بالغ العمومية بغرض تقديم خريطة واسعة النطاق للميدان إلى القراء؛ و(2) أن أحدد مناطق تحليلية مختارة تصلح للمعالجة بمزيد من التفصيل والمزيد من الأمثلة التوضيحية في الفصول 4-6، وهي التي بدت لي شديدة الخصب في تحليل الخطاب، و(3) أن أتجنب قدر الطاقة النبرة المنفرة للطابع التقني والمصطلحات المتخصصة؛ و(4) أن أقدم المراجع اللازمة لمن يرغبون في متابعة مناهج تحليلية بعينها.
وتبدو بعض الفئات الواردة في إطار التحليل النصي أدناه موجهة إلى الأشكال اللغوية، ويبدو غيرها موجها إلى المعاني، ولكن هذا التمييز مضلل؛ لأن المرء دائما ما يواجه في تحليل النصوص مسائل الشكل ومسائل المعنى في الوقت نفسه. ووفقا لمصطلح جانب كبير من علم اللغة والسيمياء (السيميوطيقا) في القرن العشرين، نجد أن المرء يحلل «علامات»، أي كلمات أو قطاعات أكبر من النص تتكون من معنى مرتبط بشكل من الأشكال، أي ب «مدلول» مرتبط ب «الدال» (انظر دي سوسير، 1959م)، إذ إن سوسير وغيره من أصحاب التقاليد اللغوية يؤكدون الطابع «التوقيفي» (أي «التعسفي» أو الذي لا يعلل) للعلامة، ويؤكدون الرأي القائل بعدم وجود دافع أو أساس عقلاني لربط «دال» معين ب «مدلول» معين. وعلى عكس ذلك، تفترض المداخل النقدية لتحليل الخطاب أن العلامات لها دوافع اجتماعية، أي إنها تقول بوجود أسباب اجتماعية للربط بين دوال معينة بمدلولات معينة (وأنا ممتن للباحث جونتر كريس على مناقشاته لهذه القضية). وقد يتعلق الأمر بالمفردات، بمعنى أن صيغتين مثل «الإرهابيين» و«المكافحين في سبيل الحرية» نموذجان متضادان للربط بين الدال والمدلول، والتضاد بينهما ذو دافع اجتماعي، وقد تكون له علاقة بالنحو (انظر الأمثلة أدناه) أو بأبعاد أخرى للتنظيم اللغوي .
ويتعلق تمييز مهم آخر في إطار المعنى بالفرق بين ما يمكن أن يعنيه النص وبين تفسيره، إذ تتكون النصوص من أشكال أدت الممارسات الخطابية في الماضي - بعد تكثيفها في صورة أعراف - إلى إكسابها معاني ممكنة. والمعاني الممكنة لأي شكل غير متجانسة بصفة عامة، فهي مركبات من معان منوعة متداخلة بل ومتناقضة أحيانا (انظر فيركلف، 1990م، أ) بحيث تزخر النصوص في العادة بمعان بالغة التضاد، وتسمح بتعدد التفسيرات. وعادة ما يلجأ المفسرون إلى تقليل إمكانية التضاد المذكور باختيار معنى محدد أو مجموعة صغيرة من المعاني البديلة، وما دمنا غير غافلين عن اعتماد المعنى المذكور على التفسير، فلنا أن نستعمل مصطلح «المعنى » في الإشارة إلى المعاني الممكنة لكل شكل، وأيضا للمعاني التي يأتي بها التفسير.
ويمكن تنظيم تحليل النص في أربعة أبواب رئيسية، وهي: «المفردات»، و«النحو»، و«التماسك»، و«بناء النص». ويمكن اعتبار هذه ذوات نطاقات صاعدة، فالمفردات تتناول الألفاظ المفردة أساسا، والنحو يتناول الجمع بين الألفاظ في عبارات وجمل، والتماسك يتناول كيفية الترابط فيما بين العبارات والجمل، وبناء النص يتناول الخصائص التنظيمية الواسعة النطاق للنصوص. وإلى جانب ذلك فأنا أميز بين هذه وبين ثلاثة أبواب رئيسية أخرى سوف تستخدم في تحليل الممارسة الخطابية لا التحليل النصي، وإن كانت تشمل بالقطع بعض المعالم الشكلية للنصوص، ألا وهي «قوة» الكلام المنطوق، أي ما تشكله من أفعال الكلام (الوعود، الطلبات، التهديدات ... إلخ)؛ و«ترابط المعنى» في النص؛ و«التناص» فيما بين النصوص. وهذه الأبواب السبعة مجتمعة تمثل إطارا لتحليل النصوص بحيث يشمل جوانب إنتاج النص وتفسيره، وكذلك الخصائص الشكلية للنص.
الوحدة الأساسية في النحو هي الجملة البسيطة، مثل العنوان الصحفي «جورباتشيف يقلل حجم الجيش الأحمر». والعناصر الرئيسية في الجمل البسيطة عادة ما تسمى «مجموعات» أو «عبارات» مثل «الجيش الأحمر»، و«يقلل حجم». وتترابط الجمل البسيطة لتكوين جمل مركبة. وسوف تقتصر تعليقاتي هنا على جوانب معينة من الجملة البسيطة.
وكل جملة بسيطة لها وظائف متعددة، ومن ثم فكل جملة بسيطة تجمع بين المعاني النصية الفكرية وما بين الأشخاص (أي الخاصة بالهوية والعلاقة) (انظر الفصل الثاني). والأشخاص يمارسون خياراتهم فيما يتعلق بتركيب الجملة البسيطة وبنائها، وهو ما يوازي اختيار سبيل تحديد (وبناء) للهويات الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية، والمعارف والمعتقدات. ولأوضح ذلك بالمثال الخاص بالعنوان الصحفي المذكور أعلاه. فمن ناحية المعنى الفكري تعتبر هذه الجملة «متعدية»؛ فهي تشير إلى عمل يقوم به فرد معين، وهو عمل مادي، يقع على كيان معين. ولنا أن نتخيل هنا صورا فكرية مختلفة عن الطرائق الأخرى للإشارة إلى الحادثة نفسها، كأن يقال «الاتحاد السوفييتي يخفض قواته المسلحة» أو «الجيش السوفييتي يتخلص من خمس فرق». وأما من ناحية الدلالة «ما بين الأشخاص»، فالجملة خبرية (أي ليست استفهاما أو أمرا) وتتضمن فعلا في الزمن المضارع له سلطة قاطعة. والعلاقة بين الكاتب والقارئ هنا علاقة بين شخص يبين واقع حالة معينة بألفاظ لا خلاف عليها، وبين شخص يتلقى ما يقال، وإذن، فهذان هما موقعا الذات اللذان تحددها الجملة. ونأتي ثالثا إلى الجانب النصي؛ إذ إن جورباتشيف هو «موضوع» أو ثيمة الجملة أو المبتدأ، إذ إن الجزء الأول من كل جملة بسيطة عادة ما يكون كذلك، فالمقال الصحفي يتحدث عنه وعن أفعاله. ومن ناحية أخرى، إذا بنيت الجملة للمجهول، أصبح الجيش الأحمر هو «المبتدأ»، مثلا: «الجيش الأحمر يخفض (من جانب جورباتشيف)» (وهو تركيب غير مقبول بالعربية كما هو واضح ولكنه يمثل محاكاة للبناء الإنجليزي). ومن الإمكانيات الأخرى التي يقدمها البناء للمجهول حذف الفاعل، الوارد بين قوسين، إما لأن الفاعل مجهول، أو معروف سلفا، أو لا أهمية له في نظر الكاتب، أو ربما يكون الدافع الحفاظ على غموض الفاعل والمسئولية عن الفعل تبعا لذلك. ومدخل اللغويات النقدية مفيد بصفة خاصة فيما يتعلق بالنحو (فاولر، وآخرون، 1979م؛ كريس وهودج، 1979م). وكتاب ليتش ودويتشار وهوجينارد (1982م) مقدمة في متناول الأفهام للنحو، وهاليداي (1985م) دراسة أكثر عمقا لشكل من أشكال النحو ذي فائدة كبرى في تحليل الخطاب.
للبحث في المفردات طرائق بالغة الكثرة، والتعليقات هنا وفي الفصل السادس انتقائية إلى حد بعيد، ومن القضايا التي لا بد من إثارتها أن التصور القائل بأن اللغة تتكون من مفردات موثقة في المعجم تصور محدود الفائدة، بسبب وجود عدد كبير من المفردات المتداخلة والمتنافسة وفقا لما تنتمي إليه من مجالات ومؤسسات وممارسات وقيم ومنظورات، ولدينا مصطلحات أخرى مثل «الصياغة»، و«التجسيد اللفظي»، و«تقديم الدلالة» (وانظر هذه المصطلحات والجوانب الأخرى للمفردات عند كريس وهودج، 1979م؛ وعند ماي، 1985م)، إذ تستطيع إيضاح المقصود خيرا من «المفردات»؛ لأنها تتضمن عمليات صياغة (وتجسيد لفظي، وتقديم دلالات) للعالم، فهي عمليات تختلف صور حدوثها وأوقاتها وأماكنها، في أعين جماعات مختلفة من الناس.
وللتحليل أن يركز على الصياغات البديلة ودلالاتها السياسية والأيديولوجية، وعلى قضايا معينة، مثل: كيف يمكن إعادة صياغة مجالات خبرة معينة في إطار الصراعات الاجتماعية والسياسية (ومثال إعادة صياغة «الإرهابيين» بحيث يصبح «المقاتلين في سبيل الحرية»، أو العكس بالعكس مثال مشهور)، أو كيف يمكن أن تزداد كثافة الصياغة الخاصة بمجالات معينة عن غيرها. وللتحليل أن يركز أيضا على معاني الألفاظ، وخصوصا كيف تتنازع معاني الألفاظ في أطر صراعات أوسع نطاقا؛ وسوف أقول: إن أنواعا معينة من إعادة الصياغة للعلاقات بين الألفاظ وبين معاني كلمة من الكلمات تعتبر من أشكال الهيمنة. وللتحليل أن يركز ثالثا على الاستعارة، أي على الدلالة الأيديولوجية والسياسية لاستعارات معينة، وعلى الصراع بين الاستعارات البديلة.
وعندما ينظر المرء في «التماسك» النصي (انظر هاليداي، وحسن، 1976م؛ هاليداي، 1985م)، فإنما ينظر في أسلوب ربط العبارات معا لتكوين جمل، وكيف ترتبط الجمل ببعضها البعض لتكوين وحدات أكبر داخل النصوص. ويتحقق الربط بطرائق منوعة: مثل استخدام مفردات تنتمي لمجال دلالي مشترك، وتكرار بعض الألفاظ، واستخدام أشباه مترادفات، وهلم جرا: كما يتحقق أيضا من خلال طرائق منوعة للإحالة والإبدال (مثل الضمائر، وأداة التعريف، وأسماء الإشارة، وحذف الكلمات المكررة، وما إلى هذا بسبيل)؛ وقد يتحقق باستخدام حروف العطف وأدواته مثل حرف «الواو» (والفاء بالعربية) وحروف مثل «لكن»، و«إذن» و«من ثم». والتركيز على التماسك يؤدي بنا إلى ما يشير إليه فوكوه قائلا: إنه «مجموعة منوعة من النظم البلاغية التي يمكن بها ربط مجموعات من الأقوال معا، أي كيف تترابط الأوصاف والاستنباطات والتعريفات التي يحدد تعاقبها بناء النص» (انظر الفصل السابق). وهذه النظم، وخصوصا بعض جوانبها، مثل بناء النصوص القائم على عرض حجة معينة، تختلف فيما بين أنماط النصوص، ومن الطريف استكشاف هذه الاختلافات؛ للتدليل على الطرائق العقلانية المتفاوتة، وجوانب التغير في الأساليب العقلانية بتغير الممارسات الخطابية.
و«بناء النص» (انظر دي بوجراند ودريسلر، 1981م، وكولتارد، 1977م، وبراون ويول، 1983م، وستابز، 1983م) يتعلق أيضا ب «عمارة» النصوص، وخصوصا معالم التصميم على المستوى الأرفع للأنماط النصية المختلفة: فما العناصر أو «القطع المتصلة» التي يرتبط بعضها بالبعض، وما أساليب ارتباطها ونظامه الداخلي، بحيث تشكل على سبيل المثال خبرا صحفيا عن جريمة، أو مقابلة شخصية للحصول على وظيفة؟ وأمثال هذه الأعراف البنائية يمكنها أن تمنحنا نظرات ثاقبة كثيرة في نظم المعارف والمعتقدات، والافتراضات الخاصة بالعلاقات الاجتماعية والهويات الاجتماعية المترسبة في أعراف أنماط النصوص. وكما تبين هذه الأمثلة، فإننا مهتمون ببناء المونولوج والحوار. والحوار يتضمن نظم التناوب في الحديث، وأعرافا خاصة بتنظيم تبادل النوبات، إلى جانب افتتاح واختتام المقابلات الشخصية والمحادثات. (3) الممارسة الخطابية
تتضمن الممارسة الخطابية، كما ذكرت آنفا، عمليات إنتاج النص وتوزيعه واستهلاكه، وتختلف طبيعة هذه العمليات بين الأنماط المختلفة للخطاب وفق عوامل اجتماعية معينة، فعلى سبيل المثال، نجد أن النصوص تنتج بطرائق محددة في سياقات اجتماعية محددة، فإنتاج المقال يمر بمراحل مركبة ذات طابع جماعي، ويتولى إنتاجه فريق يشارك أفراده بجهود متفاوتة في شتى مراحل الإنتاج، فالبعض يستقي المادة من تقارير وكالات الأنباء، والبعض يحول هذه المصادر (التي كثيرا ما تكون في ذاتها نصوصا) إلى مسودة تقرير، والبعض يقرر مكان إدراج التقرير في الصحيفة، وبعد ذلك يأتي تحرير التقرير (يوجد وصف تفصيلي، ووصف أعم للعمليات الخطابية في فان دييك 1988م).
وتوجد زوايا أخرى للنظر إلى مفهوم «منتج النص» تجده يبدو أشد تعقيدا مما نفترضه. فمن المفيد تفكيك المنتج بحيث يصبح مجموعة من المواقع، وقد يشغلها الشخص نفسه أو يشغلها أشخاص مختلفون، ويقترح جوفمان (1981م، 144) التمييز بين «المحرك » أي الشخص الذي يصدر أصوات الألفاظ فعلا، أو يخط الخطوط على الورق، وبين «المؤلف» أي الشخص الذي يجمع ما بين الألفاظ ويعتبر مسئولا عن الصياغة، وبين «الرئيس» وهو الشخص الذي تمثل الألفاظ موقعه. وأما في المقالات الصحفية فإن بعض الغموض يخشى العلاقة بين هذه المواقع: «فالرئيس» كثيرا ما يكون «مصدر» (الخبر) خارج الصحيفة، ولكن بعض التقارير لا توضح ذلك، وتوحي إلينا بأن «الرئيس» هو الصحيفة (رئيس التحرير، أو أحد الصحفيين بها)؛ والنصوص التي تكتب بصورة جماعية كثيرا ما تصاغ كأنما كتبها صحفي واحد (وربما لم يكن في أفضل الحالات غير «المحرك») (انظر فيركلف، 1988م، ب، حيث يرد مثال على ذلك).
ويختلف استهلاك النصوص أيضا باختلاف السياقات الاجتماعية، ويرجع هذا في جانب منه إلى نوع الجهد التفسيري المبذول (مثل الفحص الدقيق للنص، أو عدم التركيز الكامل في القراءة أثناء أداء أعمال أخرى) ويرجع في جانب آخر إلى طرائق التفسير المتاحة، فالوصفات (الخاصة بالعلاج أو بالطهو) على سبيل المثال، لا تقرأ في العادة باعتبارها نصوصا جمالية؛ والأبحاث الأكاديمية لا تقرأ عادة باعتبارها نصوصا بلاغية، وإن كان النوعان من القراءة ممكنين. وقد يكون الاستهلاك، مثل الإنتاج، فرديا أو جماعيا؛ قارن الخطابات الغرامية بالسجلات الإدارية. وبعض النصوص (مثل المقابلات الشخصية الرسمية، والقصائد العصماء) تسجل، وتكتب وتنسخ وتحفظ وتعاد قراءتها؛ وغيرها (مثل الدعاية غير المطلوبة، والمحادثات العارضة) عابرة لا تسجل بل تنبذ وتنسى، وبعض النصوص (مثل الخطب السياسية، والكتب التعليمية) تحول إلى نصوص أخرى، فالمؤسسات لديها نظم ثابتة ل «الاستفادة» من النصوص: فقد تتحول استشارة طبية إلى سجل طبي قد يستخدم في إعداد إحصائية طبية (انظر الفصل الخامس حيث ترد مناقشة أمثال هذه «السلاسل التناصية»). أضف إلى ذلك أن للنصوص نواتج منوعة من اللون غير الخطابي واللون الخطابي أيضا. وبعض النصوص تؤدي إلى الحروب أو إلى تدمير الأسلحة النووية؛ وبعضها يؤدي إلى فقدان البعض وظائفهم أو حصول غيرهم على وظائف؛ وبعضها الآخر يغير من مواقف الناس أو معتقداتهم أو ممارساتهم.
وتتسم بعض النصوص بما يسمى التوزيع البسيط، فالمحادثة العارضة لا تنتمي إلا إلى سياق الحال المباشرة التي تقع فيها، وتتميز نصوص أخرى بتوزيع مركب، فالنصوص التي ينتجها الزعماء السياسيون، أو النصوص المنتجة في إطار التفاوض الدولي حول الأسلحة، يجري توزيعها عبر نطاق واسع من المجالات المؤسسية المختلفة، وكل منها له أنساق الاستهلاك الخاصة به، ونظمه الخاصة لإعادة إنتاج النصوص وتحويل صورتها، إذ يتلقى مشاهدو التليفزيون مثلا صورة محورة لخطاب ألقته السيدة ثاتشر، أو ألقاه جورباتشيف، وهي تستهلك وفقا لعادات ونظم معينة للمشاهدة. والمنتجون في منظمات معقدة مثل الوزارات والمصالح الحكومية ينتجون نصوصا تعمل حسابا لتوزيعها وتغير صورتها واستهلاكها، بحيث تكون جاهزة لأنواع متعددة من الجماهير، وهي تستبق استماع «المخاطبين» لها (أي الذين تخاطبهم مباشرة)، وكذلك «السامعين» (أي غير المخاطبين مباشرة، وإن يكن المفترض أن يكونوا من الجماهير)، بل ومن «يسترقون السمع» لها (أي الذين لا يشكلون جانبا من الجمهور «الرسمي») وإن يكن من المعروف أنهم مستهلكون فعليون (فالمسئولون السوفييت مثلا يسترقون السمع إلى الاتصالات بين حكومات حلف شمال الأطلسي). وقد يشغل كل موقع من هذه المواقع أعداد متكاثرة.
والواقع أن لدينا، كما ذكرت آنفا، أبعادا معرفية اجتماعية خاصة لإنتاج النصوص وتفسيرها، وهي تركز على التفاعل بين «موارد الأعضاء» (أي جماع الخبرات) التي استوعبها المشاركون في الخطاب ويستعينون بها في تفسير النص، وبين النص نفسه، باعتباره مجموعة من «الآثار» التي خلفتها عملية الإنتاج، أو مجموعة من «المفاتيح» اللازمة لعملية التفسير. وتجري هذه العمليات عموما بأسلوب لا واع وتلقائي، وهو ما يعتبر عاملا مهما من عوامل تحديد فاعليتها الأيديولوجية (انظر ما يلي) على الرغم من أن بعض جوانبها أسهل في الوعي بها من غيرها.
وعمليات الإنتاج والتفسير تخضع لقيدين اجتماعيين؛ القيد الأول: «موارد الأعضاء» وهي ما استوعبه المرء فعليا من أبنية ومعايير وأعراف اجتماعية، ومن بينها نظم الخطاب، وأعراف إنتاج وتوزيع واستهلاك النصوص من النوع الذي أشرت إليه عاليه، وهي التي تكونت من خلال الممارسة الاجتماعية والصراع الاجتماعي في الماضي. والقيد الثاني: الطبيعة الخاصة للممارسة الاجتماعية التي يشكلون جانبا منها، فهي التي تحدد العناصر التي يستندون إليها من موارد الأعضاء لديهم، وكيف يكون هذا الاستناد (أي إذا ما كان معياريا أو خلاقا، أو قابلا أو معارضا لها). ومن المعالم الرئيسية للإطار الثلاثي الأبعاد لتحليل الخطاب أنه يحاول استكشاف أحوال هذين القيدين، وخصوصا ثانيهما، أي أن يقيم الروابط الشارحة بين طبيعة عمليات الخطاب في حالات معينة، وطبيعة الممارسات الاجتماعية التي تشكل إطار هذه العمليات. ولما كان هذا الكتاب يركز على التغيير الخطابي والاجتماعي، فإن هذا الجانب يهمنا أكثر من سواه، ونعني به تحديد الجوانب المستند إليها من «موارد الأعضاء» وأسلوب ذلك الاستناد، وسوف أعود إلى ذلك أدناه عند مناقشة التناص.
لكنني أريد أن أتحدث قليلا بصفة عامة عن الجوانب المعرفية الاجتماعية للإنتاج والتفسير، وأن أقدم بعدين آخرين من أبعاد التحليل السبعة، وهما «القوة» و«ترابط المعنى». وعادة ما يشار إلى إنتاج النص أو تفسيره (سأقتصر على التفسير في جانب من جوانب المناقشة التالية) باعتباره عملية متعددة المستويات، وعملية تنتقل من القاعدة إلى القمة ومن القمة إلى القاعدة. فأما المستويات السفلى فتختص بتحليل تتابع الأصوات أو تتابع العلامات التي تكون الجمل، وأما المستويات العليا فتختص بالمعنى، ونسبة المعاني إلى الجمل، وبالنصوص الكاملة، وإلى أجزاء أو «قطع متصلة» من النص، وهي التي تتكون من جمل يمكن تفسيرها باعتبارها ذوات معان مترابطة. ومعاني الوحدات «العليا» تبنى في جانب منها على معاني الوحدات «السفلى». وهذا التفسير يسمى من «القاعدة إلى القمة». ومع ذلك فإن التفسير يتميز أيضا بتوقعات حول معاني الوحدات العليا في وقت مبكر في عملية تفسيرها، استنادا إلى دلائل محدودة، وهذه المعاني المتوقعة تشكل أسلوب تفسير وحدات المستوى الأسفل. وهذا يعني الاتجاه من القمة إلى القاعدة. والواقع أن الإنتاج والتفسير يعتمدان على الاتجاه من القمة إلى القاعدة، والاتجاه من القاعدة إلى القمة في الوقت نفسه. أضف إلى هذا أن التفسير يحدث فيما يسمى الزمن الحقيقي، وهو ما يعني أن التفسير الذي يصل إليه المرء للكلمة «س» أو الجملة «س» أو «القطعة المتصلة» «س» سوف يستبعد تفسيرات أخرى معينة كان يمكن قبولها للكلمة س + 1 أو الجملة س + 1، أو «القطعة المتصلة» س + 1 (انظر فيركلف، 1989م، أ).
والجوانب المذكورة من التعامل مع النص تساعد على إيضاح كيفية اختزال المفسرين لما يمكن أن يدل عليه النص من معان متضادة أو ملتبسة وحسب، وتبين جانبا من دور السياق في تقليل هذا الجانب، وذلك بالمعنى الضيق للسياق الذي يحصره فيما يسبق (أو يتبع) جزءا معينا من النص، ومع ذلك «فالسياق» يتضمن أيضا ما يسمى أحيانا سياق الحال، إذ يصل المفسرون إلى تفسيرات للممارسة الاجتماعية كلها التي يشكل الخطاب جانبا منها، وهذه التفسيرات تؤدي إلى تنبؤات حول معاني النصوص، وهي التي تقلل أيضا من إمكان التباس المعنى باستبعاد المعاني التي كان يمكن أن ترى داخل النص. ويعتبر هذا من زاوية معينة تطويرا لخصائص التفسير من القمة إلى القاعدة.
ومن أوجه القصور الرئيسية في نوع الشرح المعرفي الاجتماعي الذي سقناه آنفا لهذه العمليات أنه يعتبر عاما شاملا، أي إنه يوحي مثلا بأن تأثير السياق في المعنى وتقليل التباسه لا يختلفان أبدا، ولكن هذا غير صحيح، إذ إن أسلوب تأثير السياق في تفسير النص يختلف من نمط خطابي إلى نمط آخر، على نحو ما يبين فوكوه (انظر الفصل السابق). والفوارق بين أنماط الخطاب في هذا الصدد لها أهمية اجتماعية؛ لأنها تشير إلى افتراضات مضمرة وقواعد أساسية كثيرا ما تكون ذات طابع أيديولوجي، وسوف ألقي الضوء على هذه القضايا من خلال مناقشة «القوة» (انظر ليتش، 1983م؛ لفينسون، 1983م؛ ليتش وتوماس، 1989م).
وقوة جزء من أجزاء النص (وكثيرا ما يكون جملة واحدة، وإن لم يكن ذلك في جميع الحالات) هو العنصر الخاص بالفعل فيه، ويمثل جانبا من جوانب معناه «ما بين الأشخاص»، أي ما يستخدم لفعل شيء على المستوى الاجتماعي، أو أية «أفعال كلام» يستخدم ل «أدائها» (مثل إصدار أمر، أو طرح سؤال، أو التهديد، أو الوعد ... إلخ). والقوة هي عكس «الإخبار»: فإن العنصر الإخباري، الذي هو جزء من المعنى الفكري، يمثل العملية أو العلاقة الناتجة عن وجود كيانات معينة. وهكذا ففي حالة جملة تقول «أتعهد أن أدفع لحامله عند الطلب مبلغ خمسة جنيهات» نجد أن القوة قوة وعد، وأما الجملة الإخبارية فيمكن تمثيلها هيكليا بصيغة «س يدفع ص إلى ع». وقد تكون بعض أجزاء الجملة ملتبسة من حيث القوة، وقد تكون لها «إمكانية قوة» مديدة. فمثلا «هل تستطيع حمل الحقيبة؟» قد تكون سؤالا، وقد تكون طلبا أو أمرا، أو اقتراحا، أو شكوى، وهلم جرا. وبعض تحليلات أفعال الكلام تميز بين القوة المباشرة والقوة غير المباشرة ، ولنا أن نقول هذا في هذه الحالة، فلدينا صيغة لها القوة المباشرة للسؤال ولكنها قد تتميز بأية قوة من القوى الأخرى التي وردت باعتبارها قوتها غير المباشرة. أضف إلى هذا أنه لا يندر أن تظل التفسيرات ملتبسة الدلالة، فأحيانا ما لا يتضح إن كان السؤال البسيط سؤالا بسيطا فعلا أم طلبا مستترا (وتتعذر تلبيته إذا طعن السامع فيه).
والسياق بالمعنيين المذكورين أعلاه عامل مهم من عوامل تقليل التباس القوة، والمواقع المتتابعة في أحد النصوص تنبئ عن وجود القوة. ففي الاستجواب نجد أن أي شيء يقوله المحامي للشاهد مباشرة بعد إجابة قدمها الشاهد من المحتمل تفسيره على أنه سؤال (وذلك لا يستبعد تفسيره في الوقت نفسه باعتباره غير ذلك، كأن يكون اتهاما). ويساعد هذا على إيضاح كيف يمكن لأشكال الكلمات أن تتمتع بقوى تبدو بعيدة الاحتمال إن نظر إليها المرء خارج السياق، أضف إلى هذا، طبعا، أن سياق الحال، أي الطبيعة العامة للسياق الاجتماعي، تقلل من الالتباس كذلك.
ومع ذلك فلا بد أن المفسر يتوصل إلى تفسير معين لسياق الحال من قبل أن يرجع إليه، بل وقبل أن يرجع لسياق التتابع النصي ابتغاء تفسير قول منطوق، وهذا مماثل لتفسير النص، إذ إنه يستند إلى التفاعل ما بين المفاتيح النصية و«موارد الأعضاء» (جماع خبرته) وإن تكن «موارد الأعضاء» في هذه الحالة، في الواقع، خريطة ذهنية للنظام الاجتماعي. ومثل هذه الخريطة الذهنية بالضرورة ليست سوى تفسير واحد للحقائق الاجتماعية التي تقبل تفسيرات كثيرة، ذوات أصباغ سياسية وأيديولوجية محددة. وتحديد سياق الحال من خلال هذه الخريطة الذهنية يقدم إلينا مجموعتين من المعلومات المتعلقة بتحديد كيفية تأثير السياق في تفسير النص في أية حالة من الحالات: فهو أولا: يقدم إلينا قراءة للحال تشغل فيها بعض العناصر مكان الصدارة، وتنسحب عناصر أخرى إلى الخلفية، وتقيم علاقات محددة بين العناصر، وهو ثانيا يحدد الأنماط الخطابية التي من المحتمل أن تكون لها صلة بالموضوع.
وهكذا فإن من بين آثار قراءة (سياق) الحال في التفسير منح الصدارة لبعض جوانب الهوية الاجتماعية للمشاركين، وإبقاء بعضها الآخر في الخلفية. وهكذا فإن احتمال تأثير انتماء منتج النص إلى أحد الجنسين، أو تأثير انتمائه العرقي أو عمره، في تفسير النص في كتاب في علم النبات مثلا أقل من احتمال تأثير أي من هذه العوامل في محادثة عابرة أو في مقابلة شخصية للحصول على وظيفة. وهكذا فإن تأثير سياق الحال في تفسير النص (وإنتاج النص) يعتمد على قراءة الحال، وأما تأثير سياق التتابع النصي فيعتمد على نمط الخطاب، فعلى سبيل المثال لا نستطيع أن نفترض أن أي سؤال سوف يجعل السامع يفسر العبارة التي تتلوه بأنها إجابة عنه بنفس الدرجة في جميع الأحوال، إذ يعتمد ذلك على نمط الخطاب. ففي خطاب قاعة الدرس تنبئ الأسئلة بأن ما يتلوها إجابة عنها، وأما في نطاق الأسرة فإن الأسئلة كثيرا ما تطرح من دون إجابة عنها، ومن دون أن يشعر أحد فعلا بالتعدي عليه أو ضرورة الاعتذار له. وهكذا فإن التركيز الأحادي على سياق التتابع النصي باعتباره العامل المتحكم في التفسير، من دون الإقرار بالمتغيرات المذكورة، يعتبر جانبا معيبا من جوانب تحليل المحادثات، على نحو ما بينت في الفصل الثاني آنفا. أضف إلى ذلك أن الفوارق بين أنماط الخطاب من هذه المرتبة ذات أهمية اجتماعية، وحيثما تتعين إجابة الأسئلة، فمن المحتمل أن تبرز الاختلافات في المكانة بين الأدوار الذاتية التي تفصلها فوارق حاسمة، ومن ثم فإن البحث في المبادئ التفسيرية المستخدمة في تحديد المعنى يتيح لنا أن نكتشف الصبغة السياسية والأيديولوجية لنمط الخطاب.
فلننتقل الآن من القوة إلى «ترابط المعنى» (انظر دي بوجراند ودريسلر، 1981م، الفصل الخامس؛ وانظر براون ويول، 1983م، الفصل السابع). وعادة ما يعامل المعنى باعتباره من خصائص النصوص، ولكن من الأفضل أن نعتبره من خصائص التفسيرات. فالنص المترابط المعنى نص ترتبط الأجزاء التي يتكون منها (الجمل، الوحدات) ارتباطا معقولا بحيث يبدو أن النص كله نص «له معنى»، حتى ولو كان يخلو نسبيا من «العلامات» الشكلية التي تشير إلى العلاقات التي يقوم عليها ارتباط المعنى، أي إذا كان خاليا نسبيا من أدوات «التماسك» الصريحة (انظر القسم الأخير)، ولكن المسألة في الواقع أن أي نص لن يكون له معنى إلا عند من يستطيع إدراك معناه، أي من يستطيع أن يستنبط علاقات المعنى المذكورة في غياب العلامات الصريحة المشار إليها، ولكن الطريقة الخاصة التي تتولد بها قراءة المعنى المترابط في النص تعتمد هنا أيضا على طبيعة المبادئ التفسيرية التي تستند إليها. وترتبط مبادئ التفسير الخاصة ارتباطا مطبعا بأنماط معينة من الخطاب، وهذا الارتباط جدير بالنظر فيه بسبب الضوء الذي يلقيه على الوظائف الأيديولوجية المهمة لترابط المعنى في «مساءلة» الذوات. ومعنى هذا أن النصوص تنشئ مواقع للمفسرين «القادرين» على إدراك معانيها، بحيث يستطيعون إقامة الروابط واستنباط العلاقات، وفقا لمبادئ التفسير الخاصة بالنص، والتي لا بد منها للقراءات القائمة على المعاني المترابطة. وقد تستند هذه الروابط والعلاقات المستنبطة إلى افتراضات من نوع أيديولوجي. فعلى سبيل المثال نرى أن ما ينشئ ترابطا في المعنى بين الجملتين التاليتين: «سوف تستقيل من عملها يوم الأربعاء المقبل. إنها حامل» هو افتراض أن النساء يتوقفن عن العمل عند إنجاب الأطفال. وما دام المفسرون يشغلون هذه المواقع ويقيمون هذه الروابط بصورة آلية، فإنهم يخضعون للنص، أو قل: إن النص يخضعهم له، وهو ما يمثل جانبا مهما من «العمل» الأيديولوجي الذي يقوم به النص والخطاب في «مساءلة» الذوات (انظر القسم التالي)، ولكننا نشهد إمكانية الصراع حول القراءات المختلفة للنص، بل والمقاومة كذلك للمواقع التي تنشئها النصوص.
فلننتقل الآن إلى البعد الأخير من أبعاد التحليل السبعة، وهو البعد الذي يتميز بأكبر قدر من البروز في اهتمامات هذا الكتاب، ألا وهو «التناص» (انظر باختين، 1981م، 1986م؛ وكريستيفا، 1986م، أ)، وسوف أكرس الفصل الرابع كله للتناص، ومن ثم فإن مناقشته هنا سوف تكون بالغة الإيجاز. ويعني التناص أساسا الخصيصة التي يتميز بها أحد النصوص، وهي حفوله بشذرات من نصوص أخرى، وقد تكون ذات حدود صريحة أو مندمجة فيه، وقد يكون النص مستوعبا لها، أو مناقضا لها، أو قد يمثل أصداء ساخرة لها، وهلم جرا. فمن زاوية الإنتاج، نرى أن منظور التناص يؤكد الطابع التاريخي للنصوص، أي كيف أنها دائما ما تمثل إضافات إلى «سلاسل الاتصال الكلامي» القائمة (باختين، 1986م: 94)، إذ تتكون من نصوص سابقة تتجاوب معها. وأما من زاوية التوزيع، فيساعدنا منظور التناص على استكشاف الشبكات الثابتة نسبيا، والتي تسيرها النصوص، وتخضع لتحولات يسهل التنبؤ بها أثناء تحولها من نمط نصي إلى نمط آخر (فالخطب السياسية، مثلا، كثيرا ما تتحول إلى تقارير إخبارية). وأما من ناحية الاستهلاك، فيساعدنا منظور التناص على التأكد من أن التفسير لا يعتمد في بنائه على «النص» فقط، بل ولا على النصوص التي تشكله من خلال التناص وحسب، بل يعتمد أيضا على نصوص أخرى يشركها المفسرون بطرائق مختلفة في عملية التفسير.
وسوف أميز بين «التناص السافر» حيث لا تخفى الاستعانة بنصوص أخرى داخل النص، وبين «التداخل الخطابي» أو «التناص التكويني»، فالتداخل الخطابي يوسع نطاق التناص في اتجاه مبدأ أولوية نظام الخطاب الذي سبقت لي مناقشته؛ فنجد من ناحية معينة تشكيلا أو تكوينا غير متجانس لنصوص غير متجانسة من نصوص أخرى محددة (التناص السافر)؛ ونجد من ناحية أخرى تكوينا غير متجانس لنصوص من عناصر معينة (أي أنماط الأعراف الخاصة) بنظم الخطاب (أي التداخل الخطابي).
ومفهوم التناص يرى أن النصوص، تاريخيا، تحول الماضي - أي التقاليد القائمة والنصوص السابقة - إلى الحاضر. وقد يحدث هذا بطرائق تقليدية ومعيارية نسبية؛ أي إن أنماط الخطاب تميل إلى تحويل الطرائق الخاصة للانتفاع بالتقاليد والنصوص إلى طرائق معتادة ، وإلى تطبيعها، ولكن هذا قد يحدث بأسلوب خلاق، أي بإنشاء تشكيلات جديدة من نظم الخطاب، وأشكال جديدة من التناص السافر. والصبغة التاريخية الأصيلة في النظرة التناصية إلى النصوص، والصيغة التي تتيح لها أن تقبل بيسر أي ممارسة خلاقة، هما اللتان تجعلانها مناسبة إلى أقصى حد لمشاغلي الراهنة بالتغير الخطابي، وإن كنت سوف أسوق الحجة أدناه إلى ضرورة ربطها بنظرية للتغير الاجتماعي والسياسي من أجل البحث في التغير الخطابي داخل عمليات أوسع نطاقا للتغير الثقافي والاجتماعي.
وأعتقد أن تحليل الممارسة الخطابية ينبغي أن يجمع بين ما يمكن أن نسميه «التحليل الضيق النطاق» (أو «الضيق» وحسب)، وبين ما يمكن أن نسميه «التحليل الواسع النطاق» (أو «الواسع» وحسب). فالأول هو نوع التحليل الذي يتفوق فيه محللو المحادثة؛ أي أن يشرح المحلل، على وجه الدقة، كيف ينتج المشاركون النصوص ويفسرونها استنادا إلى ما لديهم من «موارد الأعضاء» (جماع الخبرات)، ولكن لا بد من استكمال هذا بالتحليل الواسع من أجل معرفة طبيعة «موارد الأعضاء» (بما في ذلك نظم الخطاب) التي يستندون إليها في إنتاج النصوص وتفسيرها، والبت فيما إذا كانوا يستندون إليها بطرائق معيارية أو خلاقة. والحق أن المرء لا يستطيع أداء التحليل الضيق من دون معرفة ذلك. والتحليل الضيق، بطبيعة الحال، هو الأسلوب الأمثل لإماطة اللثام عن هذه المعلومات، ما دام يقدم الأدلة اللازمة للتحليل الواسع. ومن ثم فإن التحليلين الضيق والواسع لازمان لبعضهما البعض. ووجود هذه العلاقة هو الذي يتيح لبعد الممارسة الخطابية في الإطار ثلاثي الأبعاد الذي وضعته أن يحدد العلاقة بين أبعاد الممارسة الاجتماعية وبين النص، إذ إن طبيعة الممارسة الاجتماعية هي التي تحدد العمليات الواسعة النطاق للممارسة الخطابية، وكذلك العمليات الضيقة النطاق التي تشكل النص.
ومما يترتب على الموقف الذي أتخذه في هذا القسم أن كيفية تفسير الناس للنصوص في شتى الظروف الاجتماعية مسألة تتطلب بحثا منفصلا. وإذا كان الإطار الذي قدمته يشير إلى أهمية النظر في التفسير كموضوع مستقل، فلا بد لي أن أبين أن الدراسات التجريبية مستبعدة من هذا الكتاب (ولمن يريد الاطلاع على البحوث الخاصة بتفسير النصوص الإعلامية أن يرجع إلى مورلي، 1980م، وطومسون، 1990م، الفصل السادس). (4) الخطاب باعتباره ممارسة اجتماعية: الأيديولوجيا والهيمنة
أرمي في هذا القسم إلى أن أحدد بوضوح أكبر بعض جوانب البعد الثالث في إطاري الثلاثي الأبعاد، وهو الخطاب باعتباره ممارسة اجتماعية. وبصفة أخص، سوف أناقش الخطاب في علاقته بالأيديولوجيا والسلطة، والموقع الذي يشغله الخطاب في إطار صورة السلطة باعتبارها هيمنة، وصورة تطور علاقات السلطة باعتبارها صراعا حول الهيمنة. وأنا أعتمد في هذا على الإسهامات الكلاسيكية في ماركسية القرن العشرين، من جانب ألتوسير وجرامشي، إذ إنها (على الرغم من ازدياد النفور المعاصر من الماركسية) تقدم إطارا حافلا للبحث في الخطاب باعتباره شكلا وممارسة اجتماعية، وإن كان ذلك بتحفظات مهمة، خصوصا في حالة ألتوسير.
الأيديولوجيا
لم تحظ نظرية وضعت للأيديولوجيا بمثل النفوذ الذي حظيت به قطعا نظرية ألتوسير في المناظرة الحديثة العهد حول الخطاب والأيديولوجيا (ألتوسير، 1971م، لاران، 1979م) وكنت قد أشرت إليها إشارة موجزة في أثناء مناقشتي لموقف بيشوه في الفصل الأول. والواقع أننا نستطيع القول بأن ألتوسير قد قدم الأساس النظري للمناظرة المذكورة، وإن كان فولوسينوف (1973م) كان قد قدم مساهمة كبيرة قبله بمدة طويلة.
والأسس النظرية التي أعنيها تتكون من ثلاث مقولات مهمة حول الأيديولوجيا. أما المقولة الأولى فذات وجود مادي في ممارسات المؤسسات، وهو ما يفتح الباب للبحث في الممارسات الخطابية، باعتبارها أشكالا مادية للأيديولوجيا. والمقولة الثانية هي القول بأن الأيديولوجيا «تسائل الذوات» وهو ما يؤدي إلى القول بأن إحدى «النتائج المهمة» لها، وهي التي يتجاهلها علماء اللغة في الخطاب (طبقا لما يقوله ألتوسير، 1971م، 161 هامش 16) تتمثل في تكوين «الذات». والمقولة الثالثة هي القول بأن «أجهزة الدولة الأيديولوجية» (أي مؤسسات مثل التعليم وأجهزة الإعلام) تمثل مواقع للصراع الطبقي وغنائم يحاول المشاركون في الصراع الفوز بها، وهو ما يشير إلى أن الصراع حول الخطاب - وداخل الخطاب - قضية يركز عليها تحليل الخطاب ذو التوجه الأيديولوجي.
وإذا كانت المناظرة حول الأيديولوجيا والخطاب قد تأثرت تأثرا شديدا بهذه المواقف، فإنها قد عانت من أوجه القصور المعترف بها على نطاق واسع في نظرية ألتوسير. ونقول بصفة خاصة: إن عمل ألتوسير يتضمن تناقضا لم يحسم بين رؤية السيطرة باعتبارها فرض أيديولوجية مسيطرة أحادية الجانب وإعادة إنتاجها، وهي التي تبدو الأيديولوجيا في ضوئها بمثابة وسيلة تدعيم اجتماعية عامة، وبين إصراره على أن الأجهزة تعتبر مواقع صراع طبقي دائم وغنائم له، وقوله بأن نتيجة هذا الصراع غير محسومة في جميع الأحوال. والواقع أن النظرة الأولى هي السائدة، وأننا نشهد تهميشا للصراع وللتناقض والتحول.
وسوف أقول أنا بأن الأيديولوجيات تمثل معاني/تفسيرات للواقع (العالم المادي، والعلاقات الاجتماعية، والكيانات الاجتماعية) وأنها بهذا المفهوم راسخة في أبنية شتى الأشكال/المعاني الخاصة بالممارسات الخطابية، وأنها تسهم في إنتاج علاقات السيطرة أو إعادة إنتاجها أو تحويلها (ويشبه هذا موقف طومسون (1984م، 1990م) القائل بأن بعض استعمالات اللغة وغيرها من «الأشكال الرمزية» ذات طابع أيديولوجي، أي إنها تؤدي، في ظروف معينة، إلى إنشاء علاقات السيطرة أو الحفاظ عليها). وتحقق الأيديولوجيات القائمة داخل الممارسات الخطابية أقصى تأثير لها عندما «تطبع» (أي عندما تبدو طبيعية) وتصطبغ بصبغة «المنطق السليم»؛ ولكننا ينبغي ألا نبالغ في تقدير هذه الخصيصة الثابتة الراسخة للأيديولوجيات؛ لأن إشارتي إلى «التحول» تعني وجود الصراع باعتباره بعدا من أبعاد الممارسة الخطابية؛ فهو صراع يرمي إلى إعادة تشكيل الممارسات الخطابية والأيديولوجيات القائمة في داخلها، في سياق إعادة هيكلة علاقات السيطرة أو تحويلها. فإذا حدث ووجدنا استعمال ممارسات خطابية متضادة في مجال ما أو مؤسسة ما، فإنه من المحتمل أن يكون جانبا من جوانب هذا التضاد أيديولوجيا.
وأنا أقول: إن اللغة تصطبغ بالأيديولوجيا بطرائق منوعة وعلى مستويات متفاوتة، وإننا لسنا مضطرين إلى أن نختار «موقعا» من بين عدة «مواقع» للأيديولوجيا، فلكل موقع ما يبرره جزئيا فيما يبدو، وليس من بينها ما يبدو مرضيا تماما (انظر فيركلف، 1989م، ب، حيث أتحدث بتفصيل أوفى عن الموقف الذي أتخذه هنا). والقضية الرئيسية هي إن كانت الأيديولوجيا من خصائص الأبنية أم من خصائص الأحداث، والإجابة تقول: إنها من خصائص هذه وتلك. والمشكلة الرئيسية، كما سبق أن ذكرت في مناقشتي للخطاب، أن نعثر على شرح مرض لجدلية المباني والأحداث.
وتقول بعض الشروح: إن الأيديولوجيا من خصائص المباني، مبينة أنها تكمن في شكل من أشكال الأعراف التي تقوم عليها اللغة، سواء كان ذلك «شفرة»، أو «بناء»، أو «تشكيلا» معينا. ومن مزايا هذا الشرح إبرازه لقيود الأعراف الاجتماعية المفروضة على الأحداث، ولكن من عيوبه ما سبق لي أن أشرت إليه، أي الميل إلى عدم التركيز على الحادثة استنادا إلى افتراض أن الأحداث مجرد نماذج للمباني، وتحبيذ منظور إعادة إنتاج الأيديولوجيا لا تغييرها، والميل إلى تصوير الأعراف في صورة مبالغ فيها لخضوعها الواضح للقيود. ويمثل هذا موقف بيشوه في أعماله الأولى. ومن أوجه الضعف الأخرى في «الخيار البنائي» أنه لا يعترف بأولوية نظم الخطاب على أعراف خطابية محددة؛ أي إن علينا أن نعمل حسابا للصبغة الأيديولوجية المضفاة على (أجزاء من) نظم الخطاب، لا مجرد أعراف فردية، وإمكانية وجود صبغات أيديولوجية متنوعة ومتناقضة. ومن البدائل عن خيار البناء تصور وجود الأيديولوجيا في الحادثة الخطابية، وتأكيد الأيديولوجيا باعتبارها عملية، وتحولا ووسيلة، ولكن هذا يمكن أن يؤدي إلى توهم كون الخطاب عمليات تشكيل طليقة، إلا إذا صاحب ذلك تأكيد نظم الخطاب في الوقت نفسه.
ولدينا أيضا النظرة النصية إلى موقع الأيديولوجيا، وهي التي نجدها في علم اللغة النقدي، وتقول: إن الأيديولوجيات توجد في النصوص. وإذا كان صحيحا أن أشكال النصوص ومضمونها تحمل انطباع العمليات والأبنية الأيديولوجية (بمعنى أن النصوص تحمل آثارها)، فليس من الممكن استنباط الأيديولوجيات من النصوص. وذلك، كما سبق أن ذكرت في الفصل الثاني؛ لأن المعاني تستنبط من خلال تفسيرات النصوص، والنصوص تقبل تفسيرات منوعة قد تتفاوت في مفادها الأيديولوجي، ولأن العمليات الأيديولوجية تنتمي لضروب الخطاب باعتبارها أحداثا اجتماعية كاملة - فهي عمليات تدور بين الناس - وليست مجرد نصوص تمثل لحظات داخل هذه العمليات. وأما الزعم بالقدرة على اكتشاف العمليات الأيديولوجية استنادا إلى تحليل النص وحده فإنه يصطدم بالمشكلة التي أصبحت مألوفة الآن في علم الاجتماع الإعلامي، وهي أن «المستهلكين» (من قراء ومشاهدين) يتمتعون، فيما يبدو، بحصانة تامة إزاء آثار الأيديولوجيات التي يفترض وجودها «داخل» النصوص (مورلي، 1980م).
وأنا أفضل الرأي القائل بأن الأيديولوجيا قائمة داخل الأبنية (أي نظم الخطاب) التي تكون حصاد أحداث الماضي وظروف الأحداث الجارية، وداخل الأحداث أنفسها أثناء إعادة إنتاجها وتغييرها لصياغتها للأبنية. فهي توجه تراكمي مطبع راسخ في داخل المعايير والأعراف، وكذلك عمل لا يتوقف في تطبيع مثل هذه التوجهات في الأحداث الخطابية ونقض هذا التطبيع.
ومن الأسئلة المهمة الأخرى عن الأيديولوجيا سؤال يقول: ما معالم النص والخطاب أو مستوياتهما التي تصطبغ بصبغة أيديولوجية؟ من المزاعم الشائعة القول بأن «المعاني» وخصوصا معاني الألفاظ (وهو ما يقال أحيانا إنه «المضمون»؛ تمييزا له عن «الشكل») هي التي تحمل الأيديولوجيا (مثل طومسون، 1984م). ومعاني الألفاظ مهمة، بطبيعة الحال، ولكن الأهمية تنسب أيضا لجوانب أخرى من المعنى، مثل الافتراضات السابقة (انظر الفصل الخامس) والاستعارات (انظر الفصل السادس) ومثل ترابط المعنى. وقد سبق لي أن أشرت في القسم السابق إلى مدى أهمية ترابط المعنى للتكوين الأيديولوجي للذوات.
والواقع أن إقامة تضاد صارم بين «المضمون» أو «المعنى» وبين الشكل، أمر مضلل؛ لأن معاني النصوص ترتبط ارتباطا وثيقا بأشكال النصوص، وبعض المعالم الشكلية للنصوص، على مستويات منوعة، قد تكون ذات صبغة أيديولوجية. فعلى سبيل المثال نجد أن تصوير حالات التدهور الاقتصادي وشيوع البطالة باعتبارها تشبه الكوارث الطبيعية قد يتضمن تفضيلا لأبنية الجمل (ذوات الأفعال) اللازمة على الأبنية (ذوات الأفعال) المتعدية. قارن هذه العبارة «العملة فقدت
1
قيمتها والملايين عاطلون» بالعبارة التالية «المستثمرون يشترون الذهب، والشركات فصلت الملايين» (وانظر الفصل السادس؛ حيث أشرح هذين المصطلحين). ونجد على مستوى آخر أن نظام التناوب في الحديث داخل قاعة الدرس أو أعراف التأدب بين السكرتيرة والمدير، تدل على وجود افتراضات أيديولوجية معينة حول الهويات الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية بين المعلمين والتلاميذ، وبين المديرين وأفراد السكرتارية. وسوف أقدم نماذج أخرى ذات تفصيلات أكبر في عينات النصوص الواردة في الفصول 4-6، بل إن بعض جوانب الأسلوب قد تكون ذات صبغة أيديولوجية؛ راجع تحليلي (في الفصل الرابع) حيث أبين كيف أن أسلوب الكتيب الذي نشرته وزارة التجارة والصناعة يسهم في تكوين صورة «الذات المبادرة» (أو ذات «الهمة») باعتبارها نمطا من أنماط الهوية الاجتماعية.
وينبغي ألا نفترض أن الناس على وعي بالأبعاد الأيديولوجية لممارساتهم، فالأيديولوجيات التي تتحول إلى جزء لا يتجزأ من الأعراف قد تصبح إلى حد ما مطبعة وذات صبغة تلقائية، وقد يصعب على الناس أن يدركوا أن ممارساتهم المعتادة قد تتخذ لها صورا أيديولوجية محددة. وحتى حين تقبل ممارسة المرء تفسيرها بأنها تمثل مقاومة وتسهم في التغيير الأيديولوجي، فالمرء لا يعي بالضرورة وبالتفصيل مفادها الأيديولوجي، ونستطيع أن نقيم الحجة على إمكان الأخذ بأسلوب من أساليب تعليم اللغة يؤكد الوعي النقدي بالعمليات الأيديولوجية في الخطاب، بحيث يزداد وعي الناس بممارستهم، ويزداد انتقادهم لضروب الخطاب المثقلة بالأيديولوجيا التي تفرض عليهم (انظر كلارك، وآخرون، 1988م، وكتاب فيركلف تحت الطبع، أ).
ومن الممكن ربط هذه الملاحظات الخاصة بالوعي بالقضايا المتعلقة ب «مساءلة» الذوات. والحال المثالية فيما يعرضه ألتوسير هي حال الذات التي تكتنف الأيديولوجيا موقعه ولكنها تخفي أفعالها ونتائجها، وتمنح الذات استقلالا موهوما. ويوحي هذا بوجود أعراف خطابية تصطبغ بصبغة طبيعية إلى أقصى حد، ولكن الناس في الواقع يخضعون للأيديولوجيا بطرائق مختلفة ومتناقضة، وهو ما يبدأ في إثارة الشكوك في الحال المثالية. فإذا كان الخضوع متناقضا، بمعنى أن يكون الشخص العامل في إطار مؤسسي واحد ومجموعة واحدة من الممارسات خاضعا ل «المساءلة» من مواقع متنوعة وتتجاذبه قوى في اتجاهات مختلفة - إن صح هذا التعبير - فقد يتعذر الحفاظ على التطبيع. ومن المحتمل أن يتجلى تناقض «المساءلة» على مستوى الخبرة العملية فيما يصيب المرء من تشوش وقلق وما يراه في الأعراف من إشكاليات (انظر «التغير الخطابي» أدناه). وهذه هي الظروف التي من المرجح أن ينشأ فيها الوعي و«الممارسة التحويلية» كذلك.
وهكذا فإن تناول ألتوسير لمسألة الذات يبالغ في تصوير دور الأيديولوجيا في تكوين الذوات وبالتالي يقلل من قدرة الذوات على العمل الفردي والجماعي باعتبارهم قوى إيجابية، بما في ذلك المشاركة في البحوث النقدية للممارسات الأيديولوجية ومعارضتها (ارجع إلى تحفظاتي على فوكوه في هذا الصدد في الفصل السابق). ومن المهم هنا أيضا أن نتخذ الموقف الجدلي الذي سبق أن دعوت إليه، فالذوات في مواقع أيديولوجية، ولكنها أيضا تتمتع بالقدرة على العمل الخلاق لإقامة روابطها الخاصة بين الممارسات والأيديولوجيات المنوعة التي تتعرض لها، وعلى إعادة هيكلة الممارسات والأبنية التي تحدد المواقع. والتوازن بين الذات باعتبارها «ناتجا» أيديولوجيا وبين الذات باعتبارها عاملا فعالا، من المتغيرات التي تعتمد على الأحوال الاجتماعية، مثل الاستقرار النسبي لعلاقات السيطرة.
هل جميع ضروب الخطاب أيديولوجية؟ لقد ذكرت أن الممارسات الخطابية تكتسب صبغة أيديولوجية في حدود ما تتضمنه من معان تسهم في الحفاظ على علاقات السلطة أو إعادة بنائها. وقد تتأثر علاقات السلطة، من ناحية المبدأ، بالممارسات الخطابية من أي نمط، حتى العلمي والنظري منها. وهذا يمنع التعارض القاطع بين الأيديولوجيا وبين العلم أو النظرية، وهو ما قال به بعض من كتب عن اللغة/الأيديولوجيا (زيما، 1981م؛ بيشوه، 1982م)، ولكن ذلك لا يعني أن جميع ضروب الخطاب أيديولوجية، ولا يمكن تخليصها من الأيديولوجيا. فالأيديولوجيات تنشأ في مجتمعات تتسم بعلاقة الهيمنة استنادا إلى الطبقة، أو التمييز بين الجنسين أو بين الجماعات الثقافية وهلم جرا، وما دام البشر قادرين على تجاوز أمثال هذه المجتمعات، فإنهم قادرون على تجاوز الأيديولوجيا. ومن ثم فأنا لا أقبل رأي ألتوسير (1971م) عن «الأيديولوجيا عموما» باعتبارها الملاط الاجتماعي الذي لا ينفصل عن المجتمع نفسه. أضف إلى ذلك أنه إذا كانت جميع أنماط الخطاب في مجتمعنا، يمكنها أن تصطبغ بصبغة أيديولوجية من ناحية المبدأ، وفي الواقع أيضا إلى حد ما، ودون أي شك، فإن ذلك لا يعني أن جميع أنماط الخطاب ذات صبغة أيديولوجية واحدة، فليس من العسير إثبات أن الإعلانات بصفة عامة ذات صبغة أيديولوجية أكبر من العلوم الطبيعية.
الهيمنة
يمثل مفهوم الهيمنة عماد تحليل جرامشي للرأسمالية الغربية والاستراتيجية الثورية في أوروبا الغربية (جرامشي، 1971م؛ بوسي، جلوكمان، 1980م) وهو متناغم مع مفهوم الخطاب الذي أدعو إليه ، ويقدم صورة نظرية للتغيير فيما يتعلق بتطور علاقات السلطة بحيث يسمح بالتركيز بصفة خاصة على التغيير الخطابي، ولكنه يتيح لنا في الوقت نفسه أن نرى كيف يسهم في عمليات التغيير الأوسع نطاقا، وكيف تشكله هذه العمليات في الوقت نفسه.
والهيمنة تعني الزعامة أو القيادة، مثلما تعني السيطرة في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والأيديولوجية في مجتمع من المجتمعات. والهيمنة خضوع المجتمع كله لسلطة إحدى الطبقات الأساسية وفق التعريف الاقتصادي، بالتحالف مع القوى الاجتماعية الأخرى، غير أنها لا تتحقق أبدا إلا بصورة جزئية ومؤقتة، باعتبارها «توازنا غير مستقر». وقضية الهيمنة قضية بناء تحالفات، والتكامل مع الطبقات الثانوية لا السيطرة عليها وحسب، إما من خلال تقديم بعض التنازلات لها، وإما بوسائل أيديولوجية، من أجل الحصول على رضاها. والهيمنة بؤرة لصراع دائم حول المسائل المتسمة بأقصى درجة من عدم الاستقرار بين الطبقات والكتل، في سبيل بناء تحالفات وعلاقات سيطرة/تبعية أو الحفاظ عليها أو كسرها، متخذة أشكالا اقتصادية وسياسية وأيديولوجية. والصراع على الهيمنة يقع على جبهة عريضة، تتضمن مؤسسات المجتمع المدني (التعليم والنقابات والأسرة) مع التفاوت المحتمل بين المستويات والمجالات المختلفة.
ومفهوم الأيديولوجيا في هذا الإطار يستبق كل ما أتى به ألتوسير (بوسي، جلوكسمان، 1980م، 66)، إذ إنه يركز، مثلا، على التجسيد المضمر واللاواعي للأيديولوجيات في الممارسات (التي تتضمنها باعتبارها «مبادئ» نظرية مضمرة)، وحيث تعتبر الأيديولوجيا «تصورا للعالم لا يبدو إلا مضمرا في الفن وفي القانون وفي النشاط الاقتصادي وفي تجليات الحياة الفردية والجماعية» (جرامشي، 1971م، 328). وإذا كانت فكرة «مساءلة» الذوات تمثل جانبا من التفاصيل التي أتى بها ألتوسير، فإننا نجد في جرامشي تصورا للذوات باعتبارها أبنية أقامتها أيديولوجيات منوعة مضمرة في الممارسات، وهو ما يمنحها طابعا «تركيبيا غريبا» (1971م، 324)، وكذلك تصور «المنطق السليم» باعتباره مستودعا للنواتج المنوعة للصراعات الأيديولوجية في الماضي، وهدفا دائما لإعادة البناء في الصراعات الراهنة. وفي إطار «المنطق السليم» تكتسب الأيديولوجيات الصفة الطبيعية أو التلقائية. أضف إلى ذلك أن جرامشي كان يرى «مجال الأيديولوجيات في صورة تيارات تشكيلات متضاربة أو متداخلة أو متقاطعة » (هول، 1988م، 55-56) وهو ما كان يشير إليه بتعبير «المركب الأيديولوجي» (جرامشي، 1971م، 195). ويعني هذا أن ينصب التركيز على العمليات التي تبنى بها المركبات الأيديولوجية، ويعاد بناؤها، وتتعرض للربط بينها، وإعادة ربطها (توجد مناقشة مهمة للهيمنة والربط في لاكلاو وموف (1985م) وهي تمثل سابقة لتطبيقي هذه المفاهيم على الخطاب، وإن كانت تخلو من تحليل نصوص فعلية، وهو ما أراه جوهريا لتحليل الخطاب).
ومثل هذا التصور للصراع على الهيمنة القائم على ربط العناصر، والفصل بينها، وإعادة ربطها، يتفق مع ما سبق أن قلته عن الخطاب، مثل النظرة الجدلية للعلاقة بين الأبنية الخطابية والأحداث؛ ورؤية الأبنية الخطابية باعتبارها نظما للخطاب تتخذ صورة تجمعات للعناصر غير المستقرة إلى حد ما؛ واتخاذ رؤية للنصوص تركز على تناصها وكيف ترتبط بنصوص وأعراف سابقة وتفصح عنها. ويمكن النظر إلى أحد نظم الخطاب باعتباره الواجهة الخطابية للتوازن المتناقض وغير المستقر الذي يشكل الهيمنة، وإلى الربط وإعادة الربط عنها في نظم الخطاب باعتباره إحدى «الغنائم» في الصراع على الهيمنة. أضف إلى ذلك أن الممارسة الخطابية، وإنتاج النصوص وتوزيعها واستهلاكها (بما في ذلك تفسيرها) يعتبر واجهة للصراع على الهيمنة الذي يسهم بدرجات متفاوتة في إعادة إنتاج نظام الخطاب القائم أو تغييره (كأن يكون ذلك مثلا من خلال الربط ما بين النصوص والأعراف السابقة في إنتاج النصوص) وأيضا من خلال العلاقات الاجتماعية وعلاقات السلطة القائمة.
فلنضرب مثالا من الخطاب السياسي للسيدة ثاتشر (رئيسة وزراء بريطانيا السابقة)، نستطيع تفسيره باعتباره إعادة ربط داخل النظام القائم للخطاب السياسي، ما دام يربط أو يجمع بين ضروب الخطاب التقليدية المحافظة، والليبرالية الجديدة، والشعبية، في مزيج جديد، كما كان يشكل خطاب سلطة سياسية لم يسبق له مثيل من جانب امرأة في موقع الزعامة. وإعادة الربط الخطابية تجسد مشروع هيمنة يرمي إلى تكوين قاعدة وبرنامج عمل سياسيين جديدين، ويعتبر في ذاته واجهة للمشروع السياسي الأكبر الرامي إلى إعادة هيمنة الكتلة المرتكزة على البرجوازية في ظروف اقتصادية وسياسية جديدة. ويبين وصف خطاب ثاتشر على هذا النحو من جانب هول (1988م) وفيركلف (1989م، أ ) كيف يمكن إجراء تحليل استنادا إلى مفهوم للخطاب يشبه المفهوم الذي عرضته عاليه، وبمنهج يفسر المعالم الخاصة للغة النصوص السياسية عند ثاتشر (وهو ما لا يفعله هول). وينبغي أن أضيف أن نظام الخطاب الذي يتضمن إعادة الربط المذكور يتسم بالتناقض، إذ تتعايش فيه العناصر السلطوية مع العناصر الديمقراطية وعناصر المساواة (فعلى سبيل المثال نجد أن ضمير الجمع للمتكلم (نحن) الذي يوحي ضمنا بأن المتحدث يتكلم باسم الناس العاديين، يتعايش مع ضمير المخاطب النكرة (أي الذي يعني «المرء») في عبارة مثل «أفلا تشعر بالضيق من استمرار هطول المطر؟») وأن عناصر الموقف الأبوي تختلط بعناصر الموقف النسوي. أضف إلى ذلك أن إعادة الربط بين نظم الخطاب لا تتحقق في الممارسة الخطابية المنتجة فقط، ولكن أيضا في التفسير؛ إذ إن إدراك معنى نصوص ثاتشر يقتضي وجود مفسرين قادرين على إقامة الصلات الكفيلة بترابط المعنى بين هذه العناصر غير المتجانسة، ويتمثل جانب من جوانب مشروع الهيمنة في تكوين ذوات المفسرين الذين تبدو لهم أمثال هذه الصلات طبيعية وتلقائية.
وعلى أية حال فإن معظم ضروب الخطاب تتعلق بالصراع على الهيمنة في مؤسسات معينة (كالأسرة، والمدارس، والمحاكم ... إلخ) لا على مستوى السياسة القومية؛ فالأبطال (إن صح هذا التعبير) ليسوا طبقات أو قوى سياسية ترتبط بطرائق مباشرة نسبيا بالطبقات والكتل، بل معلمون وتلاميذ، أو رجال الشرطة والجمهور، أو النساء والرجال. والهيمنة تقدم أيضا نموذجا وإطارا في هذه الحالات. أما النموذج، في التعليم مثلا، فيبين كيف تمارس الجماعات المسيطرة فيما يبدو سلطتها من خلال تكوين أحلاف، وتحقيق التكامل مع المجموعات الثانوية، لا السيطرة عليها وحسب، والفوز برضاها، وتحقيق توازن قلق قد تقوضه مجموعات أخرى، وهي تحقق ذلك جزئيا من خلال الخطاب ومن خلال تكوين النظم المحلية للخطاب. وأما عن الإطار، فإن تحقيق الهيمنة على المستوى المجتمعي يتطلب درجة من التكامل بين المؤسسات المحلية شبه المستقلة وبين علاقات السلطة، حتى تتكون الأخيرة جزئيا من علاقات الهيمنة، وعندها يمكن تفسير الصراعات المحلية باعتبارها صراعات على السلطة. ويوجه هذا انتباهنا إلى الصلات فيما بين المؤسسات، وإلى الروابط والحركة بين نظم الخطاب المؤسسية (انظر الفصل السابع أدناه؛ حيث يوجد تحليل لضروب التغير التي تتجاوز نظم الخطاب المحددة).
وعلى الرغم من أن الهيمنة هي الشكل التنظيمي السائد فيما يبدو للسلطة في المجتمع المعاصر، فإنها ليست الشكل الوحيد؛ إذ نرى أيضا بقايا شكل كان أشد بروزا يوما ما، إذ تتحقق الهيمنة فيه بالفرض الصارم للقواعد والمعايير والأعراف. ويبدو أن ذلك يتفق مع النموذج الشفري للخطاب، أي الذي يرى الخطاب باعتباره تحقيقا لشفرات تتميز بأطر قوية وتصنيف محكم (بيرنشتاين 1981م) وممارسة معيارية صلبة التنظيم. وهذا يمثل عكس ما يمكن أن نسميه نموذج الخطاب «الترابطي» الموصوف آنفا والذي ينتمي إلى شكل تنظيمي للهيمنة. والنماذج الشفرية ذات توجه مؤسسي إلى حد بعيد، على عكس النماذج الترابطية ذات التوجه الأقوى إلى الجمهور أو العملاء، قارن الصورة التقليدية لخطاب قاعة الدرس أو خطاب الطبيب والمريض بالصورة الحديثة لهذا وذاك (وأنا أناقش نماذج محددة من النوع الأخير في الفصل الخامس أدناه). ومن ناحية أخرى نجد أن من يكتبون عن مذهب «ما بعد الحداثة» يشيرون إلى ظهور شكل تنظيمي للسلطة يصعب تحديده بعض الشيء، لكنه يمثل زيادة الابتعاد عن التوجه المؤسسي (المرتبط بافتراض هدم مركزية السلطة)، ويبدو أنه يقترب من نموذج «فسيفسائي» للخطاب يميز الممارسة الخطابية باعتبارها إعادة ترابط دائم لا يكاد يخضع لأية قيود بين العناصر. ويشار إلى الممارسة الخطابية التي تتفق فيما يبدو مع هذا النموذج بأنها «ما بعد حداثية» (جيمسون 1984م) وأوضح أمثلته الإعلانات (انظر فيركلف، 1989م، أ، 197-211). وسوف أعود إلى هذه النماذج الخاصة بالخطاب في الفصل السابع أدناه، في غمار مناقشة لاتجاهات عامة معينة تؤثر في نظم الخطاب المعاصرة.
وتلخيصا لما سبق أقول: إنني حددت، في إطار تحليل الخطاب ذي الأبعاد الثلاثة الذي عرضته آنفا، الاهتمام الرئيسي برصد الرابطة الشارحة في أمثلة معينة من الخطاب بين طبيعة الممارسات الاجتماعية التي تعتبر هذه الأمثلة جزءا منها، وبين طبيعة ممارستها الخطابية، بما في ذلك الجوانب المعرفية الاجتماعية لإنتاجها وتفسيرها. ومفهوم الهيمنة يعيننا على فعل هذا؛ إذ إنه يوفر للخطاب إطارا - أي أسلوبا - لتحليل الممارسة الاجتماعية التي ينتمي إليها الخطاب من زاوية علاقات السلطة، أو التساؤل عما إن كانت تعيد إنتاج الهيمنة القائمة أو تعيد بناءها أو تطعن فيها، ونموذجا، أي أسلوبا لتحليل الممارسة الخطابية نفسها باعتبارها شكلا من أشكال الصراع على الهيمنة، وهو الذي قد يعيد إنتاج نظم الخطاب القائمة أو يعيد بناءها أو يطعن فيها. ومن شأن هذا تأكيد صحة الصبغة السياسية للممارسات الخطابية، وما دامت صور الهيمنة تتسم بأبعاد أيديولوجية، فإن ذلك يفتح الباب أمام تقييم الصبغة الأيديولوجية للممارسات الخطابية. ومن المزايا الكبرى لمناقشة الهيمنة في السياق الحالي أنها تسهل التركيز على التغيير وهو الذي يمثل آخر اهتماماتي في هذا الفصل. (5) التغير الخطابي
يركز هذا الكتاب على التغير الخطابي في علاقته بالتغير الاجتماعي والثقافي؛ والمبرر المنطقي لكتابته مذكور في «المقدمة» ويقول إنه النظر في العمل الذي يؤديه الخطاب في الحياة الاجتماعية المعاصرة. والواقع أن لدينا بؤرتين تتفقان مع الجدلية الدائرة بين نظم الخطاب والممارسة الخطابية أو الحادثة الخطابية. فالمرء يحتاج، من ناحية معينة، إلى أن يفهم عمليات التغيير في الصورة التي تتخذها في الأحداث الخطابية، ويحتاج من ناحية أخرى إلى التوجيه حتى يعرف كيف تؤثر إعادة الترابط في نظم الخطاب. وأناقش الآن هاتين المسألتين بالترتيب.
للتغيير في الحادثة الخطابية أصول ودوافع مباشرة تكمن في الإشكالية التي تنشأ في أعراف منتجي النصوص ومفسريها بأساليب منوعة. فعلى سبيل المثال نرى أن الإشكالية التي نشأت في أعراف التفاعل بين المرأة والرجل قد انتشرت في شتى المؤسسات والمجالات. وأمثال هذه الإشكاليات تقوم على التناقضات، وهي التناقضات في هذه الحالة بين مواقع الذوات التقليدية للجنسين التي درج الكثير منا على اكتسابها في أثناء التكيف الاجتماعي، وبين العلاقات الجديدة بين الجنسين. وعلى مستوى مختلف إلى حد ما، يمكن أن نعتبر أن الخطاب السياسي للسيدة ثاتشر قد نشأ من الإشكالية التي تعرضت لها الممارسات الخطابية اليمينية التقليدية في الظروف التي اتضحت فيها التناقضات بين العلاقات الاجتماعية، ومواقع الذوات، والممارسات السياسية التي نشأت منها، والعالم المتغير. وعندما تنشأ الإشكاليات يواجه الناس ما يسميه بيليج وآخرون (1988م) «معضلات». وكثيرا ما يحاول الناس التغلب على هذه المعضلات بأساليب تجديدية خلاقة، أي بالتكيف مع الأعراف القائمة بطرائق جديدة، وبذلك يسهمون في التغيير الخطابي. ويؤدي التناص الراسخ - ومن ثم الطابع التاريخي لإنتاج النصوص وتفسيرها - إلى إقرار النزعة الخلاقة باعتبارها أحد الخيارات المتاحة. ويضم التغيير أشكالا من التعدي، وتجاوز الحدود، مثل إعداد تشكيلات جديدة من الأعراف القائمة، أو الانتفاع بالأعراف في حالات تحول عادة دون ذلك.
وأمثال هذه التناقضات والمعضلات والرؤى الذاتية للمشكلات في المواقف العملية تتجسد اجتماعيا في تناقضات بنائية وصراع على المستويين المؤسسي والمجتمعي. فإذا تابعنا المثال الخاص بالعلاقة بين الجنسين رأينا أن مواقع الأفراد المتناقضة في الأحداث الخطابية والمعضلات الناجمة عنها ذات أصول في التناقضات البنائية في علاقات الجنسين داخل المؤسسات والمجتمع كله. وأما العامل الحاسم الذي يحدد تجليات هذه التناقضات في أحداث معينة فهو علاقة هذه الأحداث بالصراعات الدائرة حول تلك التناقضات. واستقطاب إمكانيات أشد تركيبا وتعقيدا يعني أن الحادث الخطابي قد يمثل إما إسهاما في الحفاظ على العلاقات وضروب الهيمنة التقليدية بين الجنسين وإعادة إنتاجها، مستندا بذلك إلى الأعراف الإشكالية، وإما إسهاما في تحويل طابع هذه العلاقات من خلال الصراع على الهيمنة، محاولا بذلك حل المعضلات من خلال التجديد. وللأحداث الخطابية نفسها آثار تراكمية في التناقضات الاجتماعية والصراعات الدائرة حولها. وموجز القول إذن أن العمليات المعرفية الاجتماعية يمكن أن تكون تجديدية فتسهم في التغيير الخطابي، ويمكن ألا تكون كذلك، طبقا لطبيعة الممارسة الاجتماعية.
فلننتقل الآن إلى البعد النصي للخطاب. إن التغيير يخلف آثارا في النصوص تتخذ شكل تواجد عناصر متناقضة أو غير متسقة، كأن تكون ضروبا من المزج بين الأسلوبين الرسمي وغير الرسمي، والمفردات التقنية وغير التقنية، والعلامات الدالة على السلطة أو على الألفة، وأشكال من التراكيب المميزة للكتابة والتراكيب المميزة للغة المنطوقة وهلم جرا. فإذا كتب لاتجاه معين من اتجاهات التغيير أن يشيع ويصبح مقبولا، أي أن يكتسب صلابة العرف الجديد الناشئ، فإن النصوص التي كانت تبدو للمفسرين متناقضة الأسلوب في البداية سوف تفقد ما كانت توحي به من أنها «قص ولصق» وتبدو بلا ثغرات. ومثل هذا التطبيع لا غنى عنه في إنشاء ضروب جديدة من الهيمنة في مجال الخطاب.
ويؤدي بنا هذا إلى المسألة الثانية التي نركز عليها وهي نظم الخطاب. فلما كان منتجو النصوص ومفسروها يجمعون بين أعراف خطابية وشفرات وعناصر بطرائق جديدة في الأحداث الخطابية التجديدية، فإنهم ينتجون بصورة تراكمية تغييرات بنائية في نظم الخطاب: أي إنهم يفككون نظم خطاب قائمة، ويعيدون هيكلة نظم خطاب جديدة، أي ضروب هيمنة خطابية جديدة. وقد تؤثر أمثال هذه التغييرات البنائية في نظام الخطاب «المحلي» فقط لإحدى المؤسسات، وقد تتجاوز المؤسسات وتؤثر في النظام المجتمعي للخطاب. ومن ثم ينبغي أن يستمر انتقال التركيز، أثناء إجراء البحوث في التغيير الخطابي، بين الحادث الخطابي وأمثال هذه التغييرات البنائية، لأنه من المحال تقدير قيمة الأول وأهميته لعمليات التغير الاجتماعي الأوسع نطاقا، من دون الاهتمام بالأخير، تماما مثلما يستحيل تقدير مدى إسهام الخطاب في التغيير الاجتماعي دون اهتمام بالأول.
فلأضرب أمثلة توضح القضية التي يمكن للمرء أن يبحثها في إطار دراسات التغير في نظم الخطاب، مشيرا إلى نمطين متصلين من أنماط التغيير التي تؤثر حاليا في النظام المجتمعي للخطاب (وسوف أتوسع في مناقشة هذين في الفصل السابع أدناه). الأول إضفاء الديمقراطية ظاهريا على الخطاب بالتقليل من الدلائل السافرة على التفاوت في السلطة بين الأشخاص الذين تتفاوت سلطتهم المؤسسية، أي: مثلا بين المعلمين والتلاميذ، وبين المديرين والعمال، وبين الآباء والأطفال، وبين الأطباء والمرضى، وهو ما يتضح في الكثير من المجالات المؤسسية. والمثال الثاني هو ما سبق لي أن أسميته ب «الطابع الشخصي المصطنع» (فيركلف، 1989م، أ) أي اصطناع نبرة الحديث الشخصي بين اثنين فقط في الخطاب العام الموجه للجماهير (في الصحف والراديو والتليفزيون). ولنا أن نربط هذين الاتجاهين بانتشار خطاب المحادثة وانتقاله من المجال الخاص لعالم الحياة إلى المجالات المؤسسية. وقد رسخت جذور هذين الاتجاهين الاجتماعيين الخطابيين من خلال الكفاح، ولكن رسوخ جذورهما محدود، الأمر الذي ينذر بأن عناصرهما غير المتجانسة سوف يتضح تناقضها الذي يؤدي إلى المزيد من الصراع والتغيير.
ومن جوانب انفتاح نظم الخطاب على الصراع أن عناصر أي نظام من نظم الخطاب لا يتضمن قيما أو أشكالا لصبغة أيديولوجية ثابتة. ولننظر مثلا في جلسات المشورة؛ إنها، فيما يبدو، أسلوب بريء من إصدار التعليمات أو الأحكام، بل نهج للتعاطف مع الناس والتحادث معهم حول أنفسهم ومشاكلهم في جلسات تقتصر على فردين فقط. ورغم أن جلسات المشورة ذات أصول علاجية، فإنها تشيع الآن باعتبارها تقنية معينة في العديد من المجالات المؤسسية، نتيجة لإعادة بناء نظام الخطاب إعادة لها مغزاها، ولكن هذا التطور أصبح ذا معنى شديد الالتباس من الزاويتين الأيديولوجية والسياسية. فمعظم مقدمي المشورة يرون أنهم يقدمون مساحة فردية للأشخاص في عالم تزداد معاملته لهم بصفتهم أصفارا، وهو ما يجعل جلسات المشورة تبدو ممارسة مضادة للهيمنة، وتجعل استعمارها لمؤسسات جديدة تزداد أعدادها بانتظام يبدو تغييرا تحرريا. ومع ذلك فإن جلسات المشورة تستخدم اليوم بديلا مفضلا عن الإجراءات التأديبية السافرة في مؤسسات منوعة، وهو ما يجعلها تبدو في صورة تقنية من تقنيات الهيمنة ما دامت تدخل بعض جوانب الحياة الشخصية للأفراد، ببراعة خفية، إلى مجال السلطة. ويقع الصراع على الهيمنة، فيما يبدو، من خلال جلسات المشورة وانتشارها في جانب منه، ويقع حولها في جانب آخر منه. ويتفق هذا مع ما يقوله فوكوه: «ضروب الخطاب عناصر تكتيكية أو سدود تعمل في ميدان علاقات القوة؛ ومن الممكن أن توجد ضروب مختلفة بل ومتناقضة من الخطاب داخل الاستراتيجية نفسها؛ وعلى العكس من ذلك تستطيع أن تنتشر من دون تغيير شكلها من استراتيجية معينة إلى استراتيجية أخرى معارضة لها» (1981م، 101).
ومن الممكن أن يسهم استكشاف اتجاهات التغيير داخل نظم الخطاب إسهاما كبيرا في المناظرات الجارية حول التغير الاجتماعي. فمن الممكن البحث في إضفاء طابع السوق - أي التوسع في نشر النموذج السوقي في مجالات جديدة - من خلال النظر في الظاهرة الحديثة وهي الاستعمار الواسع النطاق لنظم الإعلانات وغيرها من أنماط الخطاب (انظر فيركلف، 1989م، أ، والفصل السابع أدناه). وإذا كان إضفاء الديمقراطية على الخطاب والطابع الشخصي المصطنع يمكن ربطهما بإضفاء قدر من الديمقراطية الحقة على المجتمع، فمن الممكن أيضا ربطهما بإضفاء طابع السوق عليه ، خصوصا إزاء التحول الظاهر في ميزان السلطة من المنتج إلى المستهلك، وهو ما يرتبط بالنزعة الاستهلاكية وأنواع الهيمنة الجديدة المترتبة عليها. وقد يكون من المفيد أيضا وجود بعد خطابي في المناظرات الدائرة حول الحداثة وما بعد الحداثة. فعلى سبيل المثال: هل يمكننا أن نرى أن إضفاء الديمقراطية والطابع الشخصي المصطنع وانتشار المحادثة ووصولها إلى المجالات المؤسسية يمثل إلغاء الفوارق بين المجالين العام والخاص (جيمسون 1984م) أم تفتيتا للممارسات المهنية التي كانت تتمتع بأبنية متماسكة من قبل؟ (في الفصل السابع مناقشة أوفى.)
الخاتمة
يحاول المدخل الذي عرضته في هذا الفصل للخطاب وتحليل الخطاب إقامة التكامل بين منظورات ومناهج نظرية منوعة بحيث يصبح - وفق ما أرجوه - أسلوبا فعالا لدراسة الأبعاد الخطابية للتغير الاجتماعي والثقافي. ولقد حاولت الجمع بين جوانب معينة من رأي فوكوه في الخطاب وتأكيد باختين للتناص؛ فالأول يتضمن تأكيدا بالغ الأهمية لخصائص الخطاب التي يبنيها المجتمع، والأخير يؤكد «النسيج» النصي (هاليداي وحسن، 1976م) أي تكوين النصوص من خيوط من نصوص أخرى، وكلاهما يشير إلى الطريقة التي تبني بها نظم الخطاب الممارسة الخطابية، وكيف تعيد هذه الممارسة بناء تلك النظم. كما حاولت أن أقيم النظرة الدينامية للممارسة الخطابية وعلاقتها بالممارسة الاجتماعية الناجمة من التلاقي المذكور في إطار الصورة النظرية التي رسمها جرامشي للسلطة والصراع على السلطة من زاوية الهيمنة. واستفدت في الوقت نفسه من بعض التقاليد الأخرى في علم اللغة، وتحليل الخطاب القائم على النص، واستعمال الإثنومنهجية الخاصة بتحليل المحادثة في التحليل النصي. وأعتقد أن الإطار الذي نشأ يسمح للمرء فعلا بالجمع بين العلاقة الاجتماعية والخصوصية النصية في إجراء تحليل الخطاب، والتناول المباشر للتغيير.
الفصل الرابع
التناص
قدمت مفهوم التناص في الفصل الثالث، مشيرا إلى اتفاقه مع الأولوية التي أوليها للتغير في الخطاب، ولبناء أنظمة الخطاب وإعادة بنائها، وكنت أشرت إلى مفهوم التناص أيضا في الفصل الثاني باعتباره عنصرا مهما في تحليل الخطاب عند فوكوه. ولنتذكر ما يقوله: «من المحال أن توجد عبارة لا تقوم، بصورة ما، بإعادة تمثيل عبارات أخرى » (1972م، 98) والهدف الذي أرمي إليه في هذا الفصل أولا أن أزيد من إيضاح الطابع العملي لمفهوم التناص باستعماله في تحليل النصوص، وثانيا أن أعرض بطريقة منهجية إمكانيات هذا المفهوم فيما يتعلق بتحليل الخطاب، باعتبار ذلك جزءا من الإطار التحليلي الذي أبنيه.
سكت كريستيفا مصطلح «التناص» في أواخر الستينيات في سياق دراساتها ذات النفوذ الواسع التي قدمت فيها لجماهير القراء في الغرب عمل باختين (انظر كريستيفا، 1986م، أ، المكتوب فعلا في 1966م). وعلى الرغم من أن مصطلح التناص ليس من وضع باختين، فإن وضع مدخل تناصي (أو إذا استعملنا اللفظة التي سكها مدخل «عبر لغوي») لتحليل النصوص كان يمثل محورا رئيسيا لعمله على مدار حياته الأكاديمية، وكان ذا ارتباط وثيق بقضايا مهمة أخرى، من بينها قضية النوع الأدبي (انظر باختين، 1986م، وهي دراسة كتبها في أوائل الخمسينيات).
ويشير باختين إلى التجاهل النسبي للوظائف التوصيلية للغة داخل التيار الرئيسي لعلم اللغة، وخصوصا إلى تجاهل طرائق تشكيل نصوص سابقة للنصوص المكتوبة والمنطوقة التي تمثل «استجابة» لسابقاتها، وكيف تؤثر هذه في نصوص لاحقة «تستبقها»، إذ كان باختين يرى أن جميع النصوص المنطوقة والمكتوبة - من أصغر مشاركة في محادثة إلى الدراسات العلمية أو الروايات - يحددها تغيير المتكلم (أو الكاتب) وتتوجه عكسيا إلى أقوال المتكلمين السابقين (سواء كانت عبارات في حوار أو دراسات علمية أو روايات) وطرديا إلى الأقوال المتوقعة من جانب المتكلمين اللاحقين. وهكذا فإن «كل قول منطوق حلقة في سلسلة الاتصال الكلامي». أي إن جميع الأقوال المنطوقة «تسكنها» بل و«تكونها» شذرات من أقوال الآخرين المنطوقة، وهي شذرات شبه صريحة أو كاملة، إذ يقول: «كلامنا ... زاخر بكلمات الآخرين، ويتسم بدرجات متفاوتة من الانتساب للغير أو الانتماء إلى ذواتنا، ودرجات متفاوتة من الوعي والانفصال. وهذه الكلمات الخاصة بالآخرين تحمل في طياتها تعبيرهم، ونغمة تقييمهم الخاصة، ونحن نستوعب هذا كله، ونعيد صوغه وتأكيده» (باختين، 1986م، 89)؛ أي إن الأقوال المنطوقة - التي أشير إليها بمصطلح «النصوص» - تتميز بطبيعة متناصة، وتتكون من عناصر من نصوص أخرى. وقد زاد فوكوه من تحديد معالم التناص بالتمييز بين «الحضور» و«الاقتران» و«الذاكرة» (انظر قسم «تشكيل المفاهيم» في الفصل الثاني عاليه).
وكنت قد ذكرت في الفصل الثالث أن بروز مفهوم التناص في الإطار الذي أبنيه يتفق مع تركيزي على الخطاب في التغيير الاجتماعي. وتقول كريستيفا: إن التناص يعني ضمنا «إدراج التاريخ (المجتمع) في النص، وإدراج هذا النص في التاريخ» (1986م، أ، 39). وهي تعني بتعبير «إدراج النص في التاريخ» أن النص يستجيب إلى نصوص سابقة ويعيد تمثيلها وصوغها، ويساعد بذلك على صناعة التاريخ، ويسهم في عمليات التغيير الواسعة النطاق، إلى جانب استباق نصوص لاحقة ومحاولة تشكيلها. وهذا الطابع التاريخي الراسخ في النصوص يمكنها من القيام بالأدوار الكبرى التي تقوم بها في المجتمع المعاصر باعتبارها السلاح الرئيسي في التغيير الاجتماعي والثقافي (انظر المناقشة في الفصلين: 3 و7). والواقع أن سرعة التحول وإعادة البناء للتقاليد النصية ونظم الخطاب ظاهرة معاصرة مرموقة، وهو ما يعني ضرورة التركيز الشديد على التناص في تحليل الخطاب.
والعلاقة بين التناص والهيمنة علاقة مهمة، إذ يشير مفهوم التناص إلى إنتاج النصوص، أي كيف تستطيع النصوص تحوير النصوص السابقة وإعادة بناء الأعراف القائمة (الأنواع، ضروب الخطاب) لتوليد الجديد منها، ولكن القدرة على الإنتاج ليست في الواقع العملي متاحة للناس باعتبارها ساحة لا حدود لها للتجديد النصي والتغيير، بل تحدها حدود المجتمع وقيوده، وتتوقف على علاقات السلطة. ولا تستطيع نظرية التناص في ذاتها تفسير أوجه القصور الاجتماعية المذكورة، ومن ثم فهي تحتاج إلى استكمالها بنظرية عن علاقات السلطة وكيف تشكل المباني والممارسات الاجتماعية (مثلما تتشكل بفعلها). ومن المفيد بصفة خاصة الجمع بين نظرية الهيمنة (الموصوفة في الفصل السابق) والتناص. فلسوف يسمح ذلك بتحديد الإمكانات وأوجه القصور الخاصة بالعمليات التناصية داخل ضروب معينة من الهيمنة وحالات الصراع على الهيمنة، كما يتيح لنا وضع تصور لعمليات التناص وعمليات الطعن في نظم الخطاب وإعادة بنائها باعتبارها عمليات صراع على الهيمنة في مجال الخطاب، وهي التي تؤثر في الصراع على الهيمنة بالمعنى الواسع وتتأثر به.
ويميز باختين بين ما تسميه كريستيفا البعد «الأفقي» والبعد «الرأسي» للتناص أو العلاقات في ساحة «التناص» (انظر كريستيفا، 1986م، أ، 36). فأمامنا، من ناحية علاقات تناصية «أفقية» من النوع «الحواري» (وإن كان ما نراه عادة في صورة مونولوجات يعتبر حواريا بهذا المعنى) بين النص وبين النصوص السابقة له واللاحقة عليه في سلسلة النصوص. وأوضح حالة لذلك أن الأقوال الواردة في إحدى المحادثات تضم وتتجاوب مع الأقوال السابقة، وتستبق الأقوال اللاحقة؛ ولكن أية رسالة مرسلة ترتبط تناصيا مع الرسائل السابقة لها واللاحقة أثناء تبادل الرسائل؛ ومن ناحية أخرى توجد علاقات تناص «رأسية» بين أحد النصوص والنصوص الأخرى التي تشكل سياقها المباشر أو البعيد إلى حد ما؛ أي مع النصوص التي ترتبط تاريخيا بها في أطر زمنية مختلفة وبمعايير متفاوتة، بما في ذلك النصوص التي تعتبر إلى حد ما معاصرة لها.
وإلى جانب ما يعنيه التناص من ضم النص لنصوص أخرى أو استجابته لها، فلنا أن نرى أنه يضم العلاقات التي يمكن أن تكون «مركبة» بينه وبين الأعراف (الخاصة بالأنواع، وضروب الخطاب، والأساليب، وأنماط النشاط - انظر أدناه) والتي تنتظم معا لتشكيل نظام من نظم الخطاب. وفي معرض مناقشة باختين للنوع (النصي) يقول: إن النصوص قد لا تكتفي بالاستفادة من هذه الأعراف بطريق مباشرة نسبيا، بل إنها «تعيد تفعيلها» وذلك مثلا باستخدامها استخداما تهكميا، أو بالمحاكاة الساخرة لها، أو بتبجيلها، وقد «تخلط» بينها بطرائق شتى (1986م، 79-80). ويرتبط التمييز بين علاقات التناص بين النصوص وغيرها من النصوص المحددة، وبين العلاقات التناصية بين النصوص وبين الأعراف، بتمييز آخر يستخدمه محللو النصوص الفرنسيين، ألا وهو التناص «السافر» والتناص «التكويني» أو «التشكيلي» (أو تييه، ريفي، 1982م؛ مانجانو، 1987م). فأما التناص السافر فيعني الوجود الصريح لنصوص أخرى داخل النص قيد التحليل، وهي سافرة لوجود علامات واضحة تدل عليها على «سطح» النص، مثل علامات التنصيص، ولكن أحد النصوص قد يضم نصا من دون وجود ما يدل عليه صراحة، ومن الممكن للكاتب أن يستجيب إلى نص آخر بالطريقة التي يصوغ بها نصه الخاص، على سبيل المثال. وأما التناص التكويني أو التشكيلي فهو تشكيل الأعراف الخطابية التي تستعمل في إنتاجه. والأولوية التي أوليتها لنظم الخطاب تؤكد التناص التكويني. ولسوف أستخدم تعبير التناص باعتباره مصطلحا عاما يشير إلى التناص السافر والتكويني عندما لا يكون التمييز بينهما قضيتي، ولكنني إذا أردت التمييز فسوف أستخدم مصطلح التركيب الخطابي بدلا من التناص التكويني، وذلك حتى أؤكد أن تركيزي منصب على أعراف الخطاب لا على النصوص الأخرى التي تكون النص أو تشكله.
ويترتب على التناص تأكيد عدم تجانس النصوص، وتطبيق أسلوب تحليل يؤكد العناصر والخيوط المنوعة التي ينسج منها النص والتي كثيرا ما تكون متناقضة. وإلى جانب ذلك، فالنصوص تتفاوت تفاوتا شديدا في درجة عدم تجانسها، وهو ما يتوقف على كون علاقات التناص فيها بسيطة أو مركبة. وتختلف النصوص أيضا من حيث التكامل بين عناصرها غير المتجانسة، أي في درجة وضوح عدم تجانسها على سطح النص. وعلى سبيل المثال قد يتميز بوضوح نص آخر مدرج في النص الرئيسي بوجود علامات تنصيص وفعل يدل على قائل هذا النص الآخر، ومن المحتمل ألا يتميز بعلامات بل يمتزج بنائيا وأسلوبيا بالنص الرئيسي، وربما يكون ذلك عن طريق إعادة صياغته (انظر مناقشة تمثيل الخطاب أدناه). ويجوز أيضا أن تكون النصوص المقتطفة قد «أعيد تفعيلها» أو لا تكون كذلك، والمقصود بالتفعيل تغيير نغمتها أو نبرتها حتى تتفق مع النغمة أو النبرة السائدة في النص المحيط بها (أي أن تتفق معه أو لا تتفق في النغمة الساخرة أو العاطفية المسرفة)، بل وقد تكون نصوص الآخرين أو لا تكون قد انصهرت في افتراضات مجهولة المؤلف في خلفية النص، ما دامت مفترضة سلفا (انظر مناقشة الافتراض السالف أدناه). وهكذا فقد يكون النص غير المتجانس ذا سطح نصي وعر يتسم ب «المطبات» وقد يكون ذا سطح أملس نسبيا.
ويعتبر التناص مصدرا لجانب كبير من التباس معاني النصوص. فإذا كان سطح النص تتحكم فيه عوامل كثيرة، أي النصوص الأخرى الكثيرة التي تشارك في تكوينه، فإن بعض عناصر هذا السطح قد لا يتضح موقعها في شبكة التناص الخاصة بالنص، وقد يلتبس معناها؛ وقد تتعايش معان كثيرة معا، وقد يكون من المحال تحديد «المعنى» . فقد يمثل النص كلام شخص آخر فيما تسميه التقاليد الرواية غير المباشرة (مثل «يقول الطلاب كم يحبون المرونة في اختيار المواد الدراسية ومدى هذا الاختيار») وفي هذه الحالة نصادف التباسا دائما في البت فيما إذا كانت الصيغة الواردة هنا تمثل ألفاظ الشخص الذي قالها، أو تمثل كلام مؤلف النص الرئيسي. فهل يزعم هذا المثال أن الطلاب يقولون فعلا «كم نحب المرونة في اختيار المواد الدراسية ومدى هذا الاختيار» أم كلاما هذا معناه؟ «صوت» من هذا؟ صوت الطلاب أم صوت إدارة الجامعة؟ وعلى نحو ما ذكرت آنفا، قد يكون القصد من بعض عناصر النص أن يفسرها مختلف القراء أو الجماهير تفسيرات مختلفة، وهذا يمثل مصدرا للتناص «الاستباقي» الملتبس المعنى.
في الجزء الباقي من هذا الفصل سوف أحلل عينتين نصيتين لإيضاح بعض إمكانيات التحليل وفق مفهوم التناص. واستنادا إلى هذين المثالين، سوف أناقش أبعاد التناص المهمة في بناء إطار لتحليل الخطاب، ألا وهي: التناص السافر، والمركب الخطابي، و«التحولات» النصية، وكيف تشكل النصوص الهويات الاجتماعية.
العينة الأولى: تقرير إخباري
العينة الأولى مقالة ظهرت في صحيفة بريطانية قومية هي «ذا صن» (أي الشمس) في 1985م، (انظر فيركلف 1988م، ب، لتحليل أكثر تفصيلا). وهي خبر عن وثيقة رسمية أصدرتها لجنة من لجان مجلس العموم بعنوان
سوء استخدام العقاقير الخطيرة: الوقاية والمكافحة .
وسوف أركز على «رواية» أو «تمثيل» الكلام في المقالة (انظر الوصف المعياري الجيد له عند ليتش وشورت، 1981م). وسوف أستعمل في الواقع مصطلحا آخر، لأسباب أذكرها فيما بعد، وهو «التمثيل الخطابي». والتمثيل الخطابي شكل من أشكال التناص الذي يتسم بوجود أجزاء من نصوص أخرى داخل النص، وعادة ما ينص على ذلك صراحة إما باستخدام علامات تنصيص وعبارات تشير إلى الراوي (مثل «قالت» أو «زعمت ماري أن ...») والتمثيل الخطابي يشكل بوضوح جانبا رئيسيا من جوانب الأخبار: إذ يعني تمثيل ما هو جدير بأن يكون خبرا من أقوال الناس، ولكن له أهمية بالغة أيضا في أنماط خطابية أخرى، مثل تقديم الأدلة في المحاكم، وفي السياقات السياسية، وفي المحادثات اليومية التي لا يكف الناس فيها عن رواية ما قاله الآخرون. والواقع أن أهمية التمثيل الخطابي لم تلق عموما حقها من التقدير، سواء باعتبارها عنصرا من عناصر النصوص اللغوية أو باعتبارها بعدا من أبعاد الممارسة الاجتماعية.
وقد اخترت هذه المقالة خصوصا لأن بين أيدينا معلومات غير متاحة في العادة لعامة القراء، ألا وهي الوثيقة التي يدور الحديث عنها في المقالة (دار المطبوعات الحكومية، 1985م) ومن ثم نستطيع أن نقارن بين التقرير الخبري والأصل المطبوع، ونركز حول أسلوب تمثيل الخطاب.
وعادة ما نميز في الأقوال المروية بين ما يسمى التمثيل الخطابي «المباشر» و«غير المباشر». انظر مثلا: حذرت السيدة ثاتشر زملاءها في مجلس الوزراء قائلة «لن أقبل الآن أي انحطاط»، فهذا مثال للخطاب المباشر، وانظر «حذرت السيدة ثاتشر زملاءها في مجلس الوزراء بأنها لن تقبل آنئذ أي انحطاط»، فهذا مثال للخطاب غير المباشر. وكل منها يتضمن عبارة تذكر الراوي («حذرت السيدة ثاتشر زملاءها في مجلس الوزراء») يتلوها تمثيل للخطاب. أما في حالة الخطاب المباشر فإن الكلمات «الممثلة» مكتوبة بين علامات تنصيص وأما الزمن و«العلامات الإشارية»، أي الكلمات التي تتعلق بزمن القول المنطوق ومكانه مثل كلمة «الآن» في هذا المثال، فتنتمي للكلام «الأصلي». ويوجد حد صريح بين «صوت» الشخص المروي عنه وصوت «الراوي»، وكثيرا ما يقال إن الخطاب المباشر يستخدم الألفاظ نفسها التي نطق بها المتكلم. وأما في الخطاب غير المباشر فتختفي علامات التنصيص، ويتخذ التمثيل الخطابي شكل جملة في موقع نحوي ثانوي بالنسبة للجملة الراوية، وهي علاقة يدل عليها الحرف «أن» (أو إن). ويتحول الزمن والعلامات الإشارية من أجل إدراج منظور الراوية، فكلمة «الآن» مثلا تتحول إلى «آنذاك». ويقل وضوح الفصل بين صوتي الراوية والشخص المروي عنه، وقد تكون الكلمات المستخدمة لتمثيل خطاب الأخير كلمات الراوي نفسه لا كلمات المروي عنه.
وأمثال هذه الأوصاف التي نجدها في «كتب النحو» عادة ما تغفل الطابع المركب لما يحدث فعلا في النصوص. فلنركز على العناوين. العنوان الرئيسي يقول («استدعوا القوات في معركة المخدرات!») وليس فيه علامات شكلية للتمثيل الخطابي - لا علامات تنصيص ولا عبارة تنسب الكلام إلى راوية - ومع ذلك فهي جملة تقوم على فعل أمر، من الزاوية النحوية، وعلامة التعجب تدل على أن لنا أن نفهمها باعتبارها طلبا معينا. لا يوجد هنا أي شيء صوري ينفي أن هذا صوت صحيفة «ذا صن»
نفسها، ولكن التقاليد تقضي بأن مقالات الصحف تنقل مطالب الآخرين، ولا تقدم طلباتها الخاصة (إلا في الافتتاحية) وهو ما يوحي بأن هذا العنوان شكل خاص للتمثيل الخطابي، على الرغم من كل شيء. ومن ناحية أخرى نرى أن التمييز بين «النقل» (أو الإبلاغ أو الإخبار أو الرواية عن مصدر) وبين «الرأي» في الصحافة الشعبية أقل وضوحا مما يبينه هذا العنوان، وهكذا فربما يكون هذا صوت الصحيفة فعلا. ومع ذلك ففي الفقرة الافتتاحية من الخبر ينسب الطلب الوارد في العنوان إلى أعضاء البرلمان. وهكذا نواجه التباسا في الصوت، ما دمنا نجد أن العنوان يتسم بغموض في شكله النحوي مما يجعله ذا «صوت مزدوج» (باختين، 1981م). ويبدو أن الصحيفة هنا تمزج بين صوت الوثيقة الصادرة عن دار المطبوعات الحكومية وبين صوتها الخاص. ويؤيد هذا الاستنتاج العنوان الفرعي السابق الذي يقول («أعضاء البرلمان يحذرون: بريطانيا تواجه حربا لمنع ترويج المخدرات») وفي هذا الحال يصبح لدينا «جملة رواية» أي جملة تنسب القول إلى قائله، ولكنها تقع في الخلفية ما دامت تعقب الجملة المروية، وهذه الأخيرة تفتقر أيضا إلى علامات تنصيص على الرغم من أنها خطاب مباشر. وهذه الخصائص الشكلية تسهم أيضا في التباس الصوت.
ولنقارن بعد ذلك بين هذه العناوين والفقرة الافتتاحية بالأصل الوارد في وثيقة دار المطبوعات الحكومية:
ينبغي أن تنظر الحكومة في استخدام سلاح البحرية وسلاح الطيران في القيام بواجبات الاستطلاع الجوي وبالرادار وفي عرض البحر. ومن ثم فنحن نوصي بتكثيف إنفاذ القوانين ضد تجار المخدرات، من جانب الجمارك والشرطة والأجهزة الأمنية، وربما القوات المسلحة.
وعندما مزجت الصحيفة بين صوت الوثيقة وبين صوتها، قامت بترجمة الصوت الأول إلى ألفاظ الصوت الأخير. وتتعلق المسألة في جانب منها بالمفردات، فالوثيقة لا تستخدم كلمات مثل «استدعوا»، أو «معركة» أو «قتال» أو «هائل»، أو «غزو»، أو «مهربي المخدرات» أو «مروجيها». والقضية قضية استعارة أيضا؛ إذ تلتقط الصحيفة الاستعارة التي تعتبر التعامل مع تجار المخدرات بمثابة خوض حرب ما - وهي التي تستخدم في الوثيقة مرة واحدة - وتنقل صوت الوثيقة إلى إطارها الخاص. والعنوان يتضمن تطويرا لهذه الاستعارة بصورة لا نجدها إطلاقا في الوثيقة، ألا وهو فكرة التعبئة («استدعوا») للقوات المسلحة، ويصدق الشيء نفسه على اعتبار تهريب المخدرات «غزوا». والمسألة تتعلق أخيرا، أيضا، بترجمة التوصيات الحذرة في التقرير إلى مجموعة «مطالب».
وإذن، فإن ما نجده في التمثيل الخطابي لصحيفة «ذا صن»
هو (1) غموض الشكل اللغوي، وهو ما يعني أننا كثيرا ما لا يتضح لنا إن كان شيء ما يعتبر خطابا تمثيليا أم لا (ومن الأمثلة الأخرى الفقرتان اللتان تسبق إحداهما العنوان الفرعي «أرباح» مباشرة، وتتلوه الأخرى مباشرة أيضا)، و(2) مزج صوت الصحيفة بصوت الوثيقة المشار إليها، وهو ما يعني أن الصحيفة تقدم التوصيات الواردة في الوثيقة كأنما كانت توصيات الصحيفة، ولكنها في الوقت نفسه تترجم الوثيقة إلى لغتها الخاصة.
ولكن هل هذه «لغتها الخاصة» حقا؟ إن عملية الترجمة اقتضت بعض التحولات من المصطلح المشروع للغة المكتوبة في اتجاه مفردات اللغة المنطوقة («فتجار المخدرات» أصبحوا «مروجين» لها، و«القوات» تستخدم من دون وصفها بالمسلحة) ومن المونولوج الكتابي (الكلام على لسان شخص واحد) إلى حوار المحادثات (فالمطلب الوارد في العنوان يوحي بالحوار ضمنا) واستثمار الاستعارة (التعبئة من أجل الحرب) ذات الأصداء في الخبرة الشعبية والأساطير؛ أي إن التحول، باختصار، تحول من الوثيقة الرسمية إلى الكلام الشائع، أو بالأحرى إلى «تصور الصحيفة الخاص للغة الجمهور الذي تخاطبه أساسا» (هول، وآخرون، 1978م، 61). ويرتبط هذا بميل موردي الأخبار إلى القيام بدور «الوسطاء»، أي الأشخاص الذين «ينمون» خصائص تعتبر مميزة للجمهور «المستهدف»، وعلاقة تضامن مع ذلك الجمهور المفترض، والذين يستطيعون أن ينقلوا أنباء أحداث جديرة بالمعرفة إلى الجمهور ب «المنطق السليم» لذلك الجمهور، أو بصورة نمطية منه (هارتلي، 1982م، 87).
وقد بدأت أجهزة الإعلام بصفة عامة، في الآونة الأخيرة، التحول إلى هذا الاتجاه، وعلينا أن ننظر في سبب ذلك. فعلى أحد المستويات نجد فيه انعكاسا لما يوصف بأنه بعد مهم من أبعاد النزعة الاستهلاكية، أي انتقال السلطة، أو انتقالها ظاهريا، من المنتج إلى المستهلك. فأجهزة الإعلام تعمل في سوق تنافسية تقتضي اجتذاب القراء والمشاهدين والمستمعين في سياق سوقي تعتبر مبيعاتها أو مراتبها فيها عوامل حاسمة من أجل البقاء. ويمكن تفسير الاتجاهات اللغوية التي أشرت إليها بأنها مظهر تحقيق واحد للاتجاه الأعم والأشمل عند المنتجين لتسويق سلعهم بطرائق تحقق لهم الحد الأقصى من التواؤم مع أساليب حياة المستهلكين وما يطمحون إليه من أساليب الحياة (وإن كنت أود أن أضيف أنهم يعملون على بناء الناس باعتبارهم مستهلكين وأساليب الحياة التي يطمحون إليها).
ومع ذلك فالعملية أشد تعقيدا من ذلك. فالأحداث الجديرة بمكانة الأخبار تنشأ عند مجموعة من الأشخاص المرتبطين بأجهزة الإعلام والمتمتعين بمزية القدرة على الاتصال بها، والذين يعاملهم الصحفيون باعتبارهم مصادر موثوقا بها، والذين يمثل الخطاب الإعلامي أصواتهم على أوسع نطاق ممكن، وهذه الأصوات الخارجية يغلب إيضاحها وتحديدها بصراحة في بعض أجهزة الإعلام، وهي مسألة أعود إليها أدناه، ولكن عندما تترجم أقوالهم إلى صورة الصحيفة للغة الشائعة، كما هو الحال في هذا المثال، فإن التعمية تنشأ حول حقيقة الذين تمثل الصحيفة أصواتهم ومواقعهم. فإذا حدث أن اتخذ تمثيل أصوات أصحاب السلطة من الأفراد والجماعات في السياسة والصناعة ... إلخ، بصورة اللغة اليومية (ولو بلغة محاكاة وغير حقيقية في جانب منها) فسوف تنهار الهويات والعلاقات والمسافات الاجتماعية؛ إذ إن تمثيل كلام أصحاب السلطة بلغة من الممكن أن يستعملها القراء أنفسهم يسهل عليهم قبول معانيهم؛ أي إن لنا أن نعتبر أن أجهزة الإعلام تقوم بعمل أيديولوجي، وهو نقل أصوات السلطة بصورة متنكرة خفية.
وترجمة لغة الوثائق الرسمية المكتوبة إلى صورة من صور الكلام الشائع مثال واحد وحسب للترجمة الأعم الأشمل للغة «الجماهيرية» - مكتوبة أو منطوقة - إلى اللغة «الشخصية»، وهذا تحول لغوي يعتبر في ذاته جزءا من إعادة صوغ العلاقة بين المجال الجماهيري للأحداث السياسية (والاقتصادية والدينية) والقوى الاجتماعية، وبين المجال الشخصي، مجال عالم الحياة، والخبرة المشتركة. فلقد ظهر الاتجاه أخيرا إلى تحويل الأحداث «الخاصة» والأفراد (مثل حزن الأقارب على فقدان ضحايا حادث ما) إلى مادة جديرة بأن تصبح أخبارا في بعض أجهزة الإعلام على الأقل، وقد بدأ هذا الاتجاه ينتقل من الصحافة الشعبية إلى أخبار التليفزيون على سبيل المثال. وعلى العكس من ذلك نرى أن أجهزة الإعلام بدأت تتناول الحياة الشخصية للأفراد والأحداث في الحياة العامة. وفيما يلي مثال من الصحافة البريطانية (صحيفة
صنداي ميرور
28 مارس 1980م):
الصورة التقليدية لرئيس الخدم في أحد القصور الملكية تجعله شخصية عامة، وإن تكن هامشية، من حيث دوره ووظيفته، لا باعتباره فردا، ولكن صوت رئيس الخدم في القصر الملكي في هذه الحالة صوت الكلام الشائع، سواء في الخطاب المباشر الذي يمثله في آخر المقالة أو في الإشارة إلى أنه يلبس حذاء رياضيا. وترجمة (هذه الشخصية العامة) إلى المجال الخاص للأفراد العاديين يؤكدها تعبير مثل «يترك عمله» بدلا من «يستقيل من منصبه». ويتضح في الوقت نفسه نقل أفراد الأسرة المالكة أنفسهم إلى المجال الخاص ذو المغزى الأكبر؛ إذ يشار إلى الأميرة ديانا في جميع الصحف الشعبية بالمقطع الأول من اسمها (وهو «داي») وإن كان ذلك لا يستخدم في الحياة اليومية إلا بين أفراد الأسرة والأصدقاء، وهو ما يوحي بأن الأسرة المالكة تشبهنا في استعمال أمثال هذه الأسماء المختصرة، وبأننا (الصحفيين والقراء) نستطيع أن نشير إلى ديانا بالصورة المختصرة، «داي»، كأنما تربطنا بها علاقة ود وثيقة. والمعاني المضمرة في هذا الاستخدام الشائع للاسم المختصر تجد التعبير الصريح عنها في بقية الخبر، في الألفاظ المنسوبة لرئيس الخدم إذ يقول: إنها «لطيفة»، و«عادية»، و«متواضعة» و«طبيعية».
ويشير كريس (1986م) إلى إعادة بناء مماثلة في الصحافة الأسترالية للحدود التي تفصل العام عن الخاص. وهو يبين التضاد بين صورتين من صور التغطية الصحفية للخبر الخاص بإلغاء تسجيل «اتحاد عمال البناء» أي سلبه حصاناته النقابية؛ إذ تعامل إحدى الصحف هذه الحادثة باعتبارها حدثا عاما (أي جماهيريا) وتعالجها الصحيفة الأخرى باعتبارها حدثا خاصا (أي شخصيا) مركزة على الشخص وعلى شخصية رئيس الاتحاد نورم جالاجر. ويتضح التضاد في الفقرتين الافتتاحيتين للمقالتين.
ونرى هنا، من جديد، أي إعادة رسم الحدود بين العام والخاص تتضمن الأسلوب مثلما تتضمن المادة، مثل استخدام الاسم الأول والزمن المضارع في العنوان، والتعليق الفظ في العبارة المنسوبة إلى جالاجر.
وتلعب أجهزة الإعلام دورا مهما في مجال الهيمنة؛ فهي لا تعيد إنتاج العلاقة بين المجالين العام والخاص فقط، بل تعيد بناءها أيضا، والاتجاه الذي حددته هنا يتضمن تفتيت التمييز بينهما؛ بحيث تختزل الحياة العامة والخاصة في نموذج للفعل الفردي والدافع الفردي، بل وفي نموذج للعلاقات القائمة على ما يفترض أنه الخبرة الشائعة في الحياة الخاصة. وأهم عامل في تحقيق ذلك هو إعادة البناء في داخل نظام الخطاب الخاص بالعلاقات بين «الكلام الشائع» وشتى أنماط الخطاب العام الأخرى.
كنت قد بدأت هذه المناقشة بالتركيز على التمثيل الخطابي باعتباره شكلا من أشكال التناص - أي كيف يتضمن أحد النصوص أجزاء من نصوص أخرى - ولكن المناقشة اتسع نطاقها فامتدت إلى النظر في كيفية تكوين الخطاب الإعلامي في صحيفة مثل
ذا صن ، من خلال الربط الخاص بين أنماط الخطاب، والعمليات الخاصة للترجمة فيما بينها، وهو ما يمكننا أن ندعوه «المركب الخطابي» أو «التناص المكون» للخطاب الإعلامي. ففي النص الخاص بسوء استخدام العقاقير نجد أن الترجمات إلى الكلام الشائع تتعايش مع المقتطفات المباشرة من الوثيقة الحكومية، وإن كان الأول قد منح مكان الصدارة في العناوين وفي الفقرة الافتتاحية. وعلى الرغم من التنوع في أجهزة الإعلام واشتمالها على ممارسة منوعة للتمثيل الخطابي وشتى أنساق المركبات الخطابية، فإن الاتجاه السائد هو الجمع بين أنماط الخطاب العامة والخاصة بهذه الطريقة.
العينة الثانية: «دليل حامل البطاقة الائتمانية إلى باركليكارد»
العينة الثانية، المستعارة من فيركلف (1988م، أ) هي المضمون اللغوي لنص بعنوان «دليل حامل البطاقة الائتمانية إلى باركليكارد» (أي بطاقة بنك باركليز). ويشغل النص الثلث الأعلى من صفحتين متقابلتين، وتشغل المساحة الباقية صورة فوتوغرافية لموظفة استقبال يابانية مبتسمة، وهي تقدم قلما إلى عميل (لا يظهر في الصورة) للتوقيع، فيما تتصور، على مستند القيد المشار إليه في النص (وأرقام الجمل من إضافتي).
استعمالها سهل: لا تحتاج حتى إلى معرفة اللغة
حيثما ترى علامة «فيزا» تستطيع تقديم بطاقة باركليكارد الخاصة بك عندما تريد أن تدفع (1).
وسوف يضع موظف المبيعات بطاقتك ومستند البيع في طابعة لتسجيل اسمك ورقم حسابك (2).
وسوف يستكمل بيانات المستند، وبعد التأكد من صحة التفاصيل ما عليك إلا توقيعه (3).
وسوف تتسلم نسخة من المستند، وينبغي لك الاحتفاظ بها لمقارنتها بحسابك في البنك، وتصبح البضاعة ملكا لك (4).
هذا كل ما في الأمر (5).
ولك أن تستخدم بطاقتك بالكثرة التي تريدها، بشرط ألا تتأخر مدفوعاتك، وألا تتجاوز حد الائتمان المتاح لك (وهذا مطبوع على الحافظة التي تحتوي بطاقتك) (6).
وأحيانا يضطر المحل إلى الاتصال تليفونيا بمقر باركليكارد للحصول على تصريح بالمعاملة المالية (7).
وهذا إجراء روتيني نشترطه، فنحن نتأكد وحسب من أن كل شيء على ما يرام قبل السماح بالبدء في التعامل (8).
وابتغاء التعامل السريع مع هذه المكالمات، تعمل باركليكارد حاليا على إنشاء نظام أوتوماتيكي جديد (9).
وسوف يؤدي هذا إلى توفير وقتك، ولكن أرجوك أن تلاحظ أن أية تعاملات يمكن أن تؤدي إلى تخطي السقف الائتماني لباركليكارد يحتمل أن ترفض فعلا (10).
ومن المهم التأكد من أن سقفك الائتماني كاف لتغطية مشترياتك ومسحوباتك النقدية (11).
وعندما تريد أن تنتفع بعرض بيع شيء والدفع بالبريد فإرسال رقم بطاقتك أسهل كثيرا من إرسال شيكات أو حوالات نقدية (12).
كل ما عليك أن تفعل هو أن تكتب رقم بطاقتك في الخانة المحددة في استمارة الطلب، ووقع باسمك وأرسلها (13).
أو إذا أردت حجز تذاكر للمسرح، فلك أن تحجز مقاعد المواصلات أو حتى تشتري التذاكر تليفونيا، ما عليك إلا أن تذكر رقم بطاقتك، ويمكن خصم التكاليف من حسابك عند باركليكارد (14).
سوف تكتشف أن باركليكارد يمكن أن تجعل الحياة أيسر كثيرا (15).
ينصب تركيزي بالنسبة لهذه العينة على المركب الخطابي (التناص المكون) في إطار صراع على الهيمنة والتغيير، وعلى الأحوال والآليات الاجتماعية الخاصة بظهور نمط خطابي جديد يتكون من خلال تشكيل مستحدث من الأنماط القائمة، وخصوصا ظهور خطاب هجين يجمع بين المعلومات والدعاية (الإعلام والبيع). والمزيج الخاص في هذه العينة مزيج من النظم المالية والإعلان؛ فالنص يعرض شروط الانتفاع بخدمة بطاقة ائتمان معينة، هي باركليكارد، ويحاول في الوقت نفسه أن «يبيعها». وهكذا فإن منتجي النص يعملون في حالتين ويشغلون موقعين من مواقع الذات في الوقت نفسه، كما يضعون القراء في مواقع متناقضة. والتناقض الرئيسي هو علاقة السلطة بين البنك والجمهور؛ فالبنك من زاوية معينة «صاحب السلطة» الذي يقوم بتوصيل النظم إلى «الخاضع للسلطة»، وهو من زاوية مقابلة منتج «خاضع للسلطة» يحاول بيع شيء إلى المستهلك («صاحب السلطة»). (المقصود أن المنتج يخضع لسلطة المستهلك في القبول أو الرفض) وفي الموقف معان تتعلق بالعلائق بين الأشخاص، بالمعنى الذي نجده عند هاليداي.
ويتجلى في النص نسق التناوب على مستوى الجمل بين نمطي الخطاب الخاص بالنظم المالية وبالإعلان، إلى الحد الذي نرى فيه أن بعض الجمل تنتمي بوضوح معقول إلى هذا النمط أو ذاك. فالعنوان مثلا يشبه الإعلان، والجملة رقم (6) تشبه بندا في اللائحة المالية. وفي النص جمل أخرى، مثل (12) و(14) يتراوح معناها بين هذا وذاك، ولكن بعض الجمل التي تنتمي بصفة عامة إلى أحد النمطين تتضمن بعض آثار النمط الآخر. ففي الجملة رقم (6) مثلا، وفي كل مكان في النص، يخاطب القارئ بضمير المخاطب المفرد. والمخاطبة المباشرة من الأعراف التي تدل على الألفة في فنون الإعلان الحديثة. وفي هذا الدليل صفحة مستقلة عنوانها «شروط الاستعمال»، ومقارنتها بهذا النص مفيدة، إذ ترصد ثلاثة عشر شرطا، ببنط طباعي بالغ الصغر، ولا نجد فيها خلطا بين الأنماط، ولا مخاطبة مباشرة للقارئ. وفيما يلي أحد الشروط الواردة فيها : (2) لا بد من توقيع حامل البطاقة عليها، ولا يجوز استعمالها إلا (1) من جانب حاملها؛ و(2) طبقا لشروط استعمال باركليكارد السارية في وقت استعمالها، و(3) في حدود السقف الائتماني الذي يخطر البنك به حامل البطاقة من حين لآخر؛ و(4) للانتفاع بالتسهيلات التي يتيحها البنك من وقت لآخر فيما يتعلق بالبطاقة.
وكلمة «وحسب» والتعبير المقابل لها «ما عليك إلا»، المستعملان في النص (في الجمل (3) و(8) و(13) و(14) تنتميان إلى الإعلان. فالصيغة تقلل إلى الحد الأدنى ما يجب على العميل أن يفعله، ومن ثم فهي تخفف من سلطة منتج النص، وتوحي بالتحول في اتجاه سلطة المستهلك. إنها تنقل معنى البساطة ذا المكانة الجوهرية في الإعلان: «إنه أمر سهل». ولدينا حالة مختلفة إلى حد ما تتعلق بتجنب معان من شأنها أن تكون إشكالية في إطار هذا المزج بين الإعلام والبيع. فعلى سبيل المثال، يتوقع المرء أن تفصح اللائحة المالية بصراحة عما هو مطلوب من العميل، كما هو الحال في المقتطف من «شروط الاستعمال» عاليه. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن النص يشير إلى عشرة إجراءات مطلوبة من العميل، فإن التعبير الصريح عن الإلزام لا يرد إلا في حالة واحدة («وعليك الاحتفاظ به لمقارنته») وحتى في هذه الحالة فإن صيغة الإلزام ضعيفة («ينبغي لك» لا «يجب عليك»). انظر مناقشة الأفعال «النوعية» أو المساعدة في الفصل التالي).
وأما كلمات النص المطبوعة بالبنط الأسود - الجملتان (10) و(11) - فهي أوضح الأجزاء انتماء للنظم التي تقتضي الالتزام بها، ومع ذلك فإن الصياغة تتضمن قدرا كبيرا من تخفيف هذا الإلزام، فالمعنى الذي تعبر عنه الجملة رقم (10) قد يغضب العميل، ولكن يخففه المعنى «الافتراضي» أي صيغة «يمكن أن» وصيغة «يحتمل أن»، كما إن عبارة «يحتمل أن ترفض» مذيلة بكلمة تستخدم في المراوغة وهي «فعلا» (كأنما يمكن أن يكون احتمال الرفض نظريا أو فعليا). أضف إلى هذا أن المبني للمجهول يعني عدم تحديد فاعل الرفض، وإذا كان من اليسير أن يستنبط من السياق أنه البنك، فإن النص لا يبرز ذلك. وفي الجملة رقم (11) نرى أن التزام حامل البطاقة معبر عنه تعبيرا غير شخصي، (فعبارة «من المهم التأكد» كان يمكن أن تكون «لا بد أن تتأكد») وهي تتحول بغرابة إلى ضرورة السيطرة على سقف الائتمان، وهي التي يسيطر عليها البنك، بدلا من أن توصي بعدم تجاوزه.
والمزج بين المعلومات الخاصة بالنظم المالية وبين الإعلان يمكن تفسيره باعتباره صورة من صور رد الفعل إزاء معضلة تواجهها بعض المؤسسات، مثل البنوك، في السوق الحديثة، إذ إن القطاعات الاقتصادية خارج الإنتاج السلعي يزداد أخذها بالنموذج السلعي وإطار النزعة الاستهلاكية، وتتعرض لضغوط معينة حتى تقدم أنشطتها «مجمعة» في صورة سلع، وأن «تبيعها» ل «المستهلكين». ويتسبب هذا في صعوبة خاصة للبنوك، فمحاولات أنشطتها التنافس مع السلع الاستهلاكية يقضي بأن تذعن لسلطة المستهلك، وتجعلها جذابة وبسيطة ومتحررة من القيود إلى أقصى حد، ولكن الطبيعة الخاصة ل «البضائع» التي تعرضها تحتم أن يخضع انتفاع المستهلكين بها لقواعد وضمانات. وليست هذه المعضلة مما ينفرد به العمل المصرفي، فهي تنشأ في صورة مختلفة إلى حد ما في التعليم؛ إذ إن الضغط الرامي إلى «بيع المنتج» يواجهه ضغط لحمايته من الآثار المفسدة للسوق. وتتجلى المعضلة في «نموذج» العلاقة التناصية بين المعلومات المالية والعناصر الإعلانية في النص، وبخاصة الحقيقة المذكورة عاليه، وهي أن النص يتراوح بين الجمل التي تنتمي في المقام الأول إلى أحد الطرفين لا للآخر. ومن شأن هذا أن يوحي بأن نمطي الخطاب يحاولان بصعوبة أن يتعايشا في النص، بدلا من أن يتكاملا تكاملا تاما (انظر بداية القسم الثاني حيث الحديث عن علاقات التناص).
والنصوص التي تجمع بين الإعلام والدعاية أو الإخبار والبيع شائعة في مختلف نظم الخطاب المؤسسية في المجتمع المعاصر. وهي تشهد بحركة استعمار إعلانية منطلقة من مجال تسويق السلع بمعناه الضيق إلى شتى المجالات الأخرى. وللمرء أن يرجع ذلك إلى الموجة العالية الراهنة (التي ترتبط في بريطانيا بثقافة «الأعمال الحرة») في عملية التسليع الطويلة الأجل، ودخول مجالات جديدة في السوق، وانتشار النزعة الاستهلاكية. والمعتقد أن النزعة الاستهلاكية تستتبع انتقالا في السلطة النسبية للمنتج والمستهلك في صالح الأخير، وإن يكن من غير المؤكد إن كان هذا الانتقال حقيقيا أم ظاهريا.
ولظاهرة التسليع وانتشار النزعة الاستهلاكية وخصائص السوق آثار واسعة النطاق في نظم الخطاب، وهي تتراوح ما بين تغلغل ظاهرة إعادة بناء نظم الخطاب المؤسسية تحت تأثير الحركة الاستعمارية لخطاب الإعلان والتسويق والإدارة، وبين «إعادة الوصف» التي نشهدها في كل مكان للجماهير والعملاء وطلاب العلم، وهلم جرا باعتبارهم «مستهلكين» أو «زبائن». وتؤدي هذه الاتجاهات المقاومة إلى الصراع على الهيمنة على بناء نظم الخطاب، وإلى معضلات يواجهها منتجو النصوص ومفسروها الذين يحاولون العثور على طرق للتكيف مع الاستعمار، أو احتوائه، أو القضاء عليه (انظر الفصل السابع أدناه).
التناص السافر
سوف أستعين في عملي في القسم التالي بالتمييز الذي سبق أن أشرت إليه عاليه بين «التناص السافر» و«المركب الخطابي» (التناص المكون). أما التناص السافر فيشير إلى الاستفادة من نصوص أخرى بوضوح وجلاء داخل أحد النصوص، وأما المركب الخطابي فيشير إلى تكوين نمط خطابي من مجموعة عناصر من نظم الخطاب. وكان قد سبق لي أن ناقشت مبدأ التركيب الخطابي فيما يتعلق بنظم الخطاب، وإن لم أناقش المصطلح نفسه، في الفصل الثالث عاليه. ومن المفيد أيضا ألا ننسى التمييز الرمزي بين «طرائق» مختلفة لعلاقات التناص التي ظهرت من قبل في خلال مناقشتي للعينات، فلنا أن نميز بين ما يلي:
التناص التتابعي:
ويعني تتابع ظهور مختلف النصوص أو أنماط الخطاب بالتناوب في أحد النصوص، كما هو الحال في جانب من العينة رقم 2.
التناص المطوي:
ويعني أن أحد النصوص أو الأنماط الخطابية مطوي بوضوح داخل نص أو نمط خطابي آخر. وهذه هي العلاقة بين «الأساليب» التي حددها لابوف وفانشيل في الخطاب العلاجي (انظر المناقشة في الفصل الثاني).
التناص المختلط:
حيث تمتزج النصوص أو أنماط الخطاب امتزاجا أشد تركيبا وبطريقة يصعب معها الفصل بينها.
وسوف أناقش التناص السافر من حيث علاقته بما يلي: التمثيل الخطابي، والافتراض المسبق، والنفي، والميتاخطاب، والسخرية. (وقد وجدت مينجينو، 1987م مصدرا بالغ الفائدة في هذه المناقشة.)
التمثيل الخطابي
أستخدم مصطلح «التمثيل الخطابي»، مفضلا إياه هنا على المصطلح التقليدي «رواية الكلام»؛ لأن هذا المصطلح (1) أدق في نقل المعنى المقصود، وهو أن من «يروي» الخطاب يختار منه بالضرورة ما يمثله بطريقة معينة، و(2) لأن التمثيل لا يقتصر على الكلام، بل يشمل الكتابة، ولا يقتصر على المعالم النحوية، بل يشمل التنظيم الخطابي وجوانب أخرى منوعة للحادث الخطابي، مثل ظروفه، والنغمة التي قيل بها ما قيل ... إلخ (انظر فيركلف، 1988م، ب، للمزيد من التفاصيل).
وتختلف الأنماط الخطابية لا في طرائق تمثيلها وحسب للخطاب، بل أيضا في أنماط الخطاب التي تمثلها ووظائف الخطاب في النص الممثل لهذه الأنماط. وهكذا تنشأ اختلافات فيما يقتطف، ومتى وكيف ولماذا اقتطف ما يقتطف ما بين المواعظ والبحوث العلمية والمحادثات. ومن المتغيرات الكبرى في كيفية تمثيل الخطاب قضية البت فيما إذا كان التمثيل يتجاوز المضمون الفكري أو «الرسالة»، ويشمل بعض جوانب الأسلوب الخاص بالألفاظ الممثلة وسياقها. ويقول فولوسينوف (1973م، 119-120): إن بعض الثقافات تزيد عن غيرها في الاتكاء على الرسالة وحدها، وهو ما يصدق على بعض الممارسات الخطابية داخل أية ثقافة من الثقافات وداخل ثقافتنا نفسها.
ويؤكد فولوسينوف (وربما يكون اسما مستعارا لباختين) وجود تفاعل دينامي بين الخطاب الممثل والخطاب الذي يمثله. ولقد أوضحت العينة الأولى مثلا كيف يمكن للأصوات أن تمتزج. ومن جديد نلحظ وجود تغاير كبير بين أنماط الخطاب، وهو ما يمكننا أن نفسره بوجود معيارين متداخلين: (1) ما مدى صراحة ووضوح الحدود الفاصلة بين الخطاب الممثل والخطاب الذي يمثله، و(2) إلى أي مدى يترجم الخطاب الممثل إلى صوت الخطاب الذي يمثله.
وإلى حد ما تعتمد درجة «الحفاظ على الحدود» على الخيار ما بين التمثيل المباشر والتمثيل غير المباشر؛ فالأول يحاول على الأقل أن يعيد إنتاج الكلمات نفسها المستخدمة في الخطاب الممثل، وإن لم يكن ذلك يتحقق في كل حالة، كما بينت العينة رقم 1. وأما الخطاب غير المباشر فإنه، على العكس من ذلك، يتضمن التباسا معينا؛ إذ لا نستطيع القطع فيما إذا كانت الألفاظ الأصلية قد أعيد إنتاجها أم لا. وبعض المعالجات لهذا الموضوع (انظر مثلا ليتش وشورت، 1981م) تشير إلى وجود فئة أخرى هي «الخطاب غير المباشر الحر» حيث لا توجد جملة تحدد الراوي، وحيث يتميز ب «الصوت المزدوج» بمعنى المزج بين الخطاب الممثل والخطاب الذي يمثله، كما نرى في العنوان الوارد في العينة رقم 1، مثلا، وهو «استدعوا القوات في معركة المخدرات!»
ويقول فولوسينوف أيضا: إنه من المحال البت في معنى الخطاب الممثل من دون الرجوع إلى وظيفته وسياقه في الخطاب الذي يمثله. ومن الأمثلة الجيدة استخدام «علامات التنصيص المفزعة» - أي وضع كلمات مفردة أو تعبيرات قصيرة بين علامات تنصيص - كما نجد في الأمثلة الصحفية التالية «التحقيق في مؤامرة تجسس «بناتية»»، «عرض «نهائي» بتعديل الأجور». والتعابير الموجودة في علامات تنصيص مفزعة تستخدم ويحال إليها في الوقت نفسه، إذ إن العلامات المذكورة تبين أنها تنتمي إلى صوت خارجي. وإلى جانب ذلك فمن الممكن أن تقوم بالمزيد من الوظائف المختلفة المحددة، مثل إقامة مسافة تفصل بين الكاتب وبين الصوت الخارجي، أو استعمال «سلطتها» في دعم موقفه، أو الإشارة إلى أن الاستعمال جديد أو مؤقت، أو تقديم كلمة جديدة. وعلى غرار ذلك للمرء أن يستخدم الخطاب المباشر في بناء الخطاب الممثل أو عرضه.
وأما وضع الخطاب الممثل في سياق معين فيتخذ أشكالا كثيرة، وانظر إلى هذا المثال من العينة رقم 1: «أصدرت لجنة مجلس العموم تقريرا يتضمن هجوما يزيد في شدته عما شهدناه منذ سنوات، ويرأس اللجنة السير إدوارد جاردنر المحامي وعضو البرلمان عن حزب المحافظين، ويحذر التقرير في نبرات توحي بالخطورة قائلا: «إن المجتمع الغربي يواجه ...»» أي إن تحديد سياق الخطاب الممثل، والمكانة الرفيعة لرئيس اللجنة، ونبرات الخطاب «الخطيرة»، كلها عوامل تؤكد ثقل وزنه وأهميته. لاحظ أيضا كلمة «يحذر» (التي اختارها الكاتب، مفضلا إياها على كلمات أخرى مثل «يقول» أو «يبين» أو «يشير إلى»). والواقع أن اختيار فعل التمثيل، أي الذي يمثل «فعل الكلام»، له مغزاه في جميع الحالات. وعلى نحو ما نرى هنا، نجده يمثل القوة الكامنة في ألفاظ الخطاب الممثل (أي طبيعة الفعل الذي يؤديه التلفظ بشكل معين للكلمات) وتلك مسألة تتعلق بفرض تفسير معين على الخطاب الممثل.
الافتراض المسبق
الافتراضات المسبقة مقولات يعتبر منتج النص أنها ذات صحة سبق إقرارها أو «التسليم» بها (على الرغم من وجود السؤال الخاص بالطرف الذي سوف تسلم له، على نحو ما أقيم عليه الحجة أدناه)، وتوجد شتى المفاتيح الشكلية على سطح تنظيم النص التي تبين ذلك. إذ نرى على سبيل المثال أن المقولة الواردة في جملة يسبقها الحرف «أن» مقولة مفترضة سابقا، وتتلوها أفعال مثل «ينسى» أو «يأسف» أو «يتبين» (مثلا «كنت نسيت أن والدتك قد تزوجت من جديد»)؛ وأدوات التعريف مفاتيح لمقولات ذات معان تدل على «وجودها» (مثلا: «التهديد السوفييتي» تعبير يفترض سلفا وجود تهديد سوفييتي، و«المطر» يعني أن المطر يهطل أو كان يهطل).
1
وبعض مناقشات الافتراضات المسبقة (انظر لفنسون، 1983م، الفصل الرابع، حيث يورد عرضا شاملا) تعاملها بصورة غير تناصية، أي باعتبارها مقولات مقدمة إلى منتجي النصوص الذين يسلمون بصحتها، ولكن هذه النظرة تكتنفها مشكلات: إذ إنها تستتبع القول مثلا بأن الجملة التالية «التهديد السوفييتي خرافة» ذات دلالة متناقضة، ما دام منتج النص يسلم (وفق هذه النظرة) بوجود تهديد سوفييتي ويزعم عدم وجود مثل هذا التهديد. أما إذا نظرنا إلى الافتراضات المسبقة نظرة تناصية، وتصورنا أن المقولات المفترضة سلفا تمثل أسلوبا لإدراج نصوص الآخرين في المقولات، فلن يكون لدينا أي تناقض: أي إن تعبير «التهديد السوفييتي» والافتراض المسبق الذي يشير إليه مصدر نص آخر (أو نص «أجنبي» بتعبير باختين) وأن الكاتب يطعن فيه. وعلينا أن نضيف أن ذلك «النص الآخر» ليس - في كثير من حالات الافتراضات المسبقة - نصا آخر مفردا أو يمكن تحديده والتعرف عليه، بل «نص» ضبابي يرادف الرأي الشائع (أي ما يميل الناس إلى قوله، أو الخبرة النصية المتراكمة). وهكذا فإن تعبير «التهديد السوفييتي» في هذه الحالة، على سبيل المثال، تعبير نستطيع جميعا أن نتعرف عليه باعتباره قالبا مستخدما على نطاق واسع ، أو بتعبير بيشوه، تعبير «سابق البناء»، يجري تداوله بصورته الجاهزة.
وفي إطار المدخل التناصي للافتراض المسبق، أي حين تشكل المقولة المفترضة سلفا أمرا يسلم به منتج النص سلفا، فإن لنا أن نفسر هذه المقولة من حيث علاقاتها التناصية مع النصوص السابقة لمنتج النص نفسه، وتوجد حالة خاصة لهذا المدخل ترد فيها المقولة مثبتة في جزء من أجزاء النص، ثم يشار إليها باعتبارها مفترضة سلفا في بقية النص.
وينبغي أن نشير إلى أن الافتراضات المسبقة، سواء كانت قائمة على النصوص السابقة لمنتج النص أو على نصوص الآخرين، قد تتسم بالتلاعب مثلما تتسم بالصدق. أي إن منتج النص قد يقدم مقولة باعتبارها مسلما بها من جانب شخص آخر، أو باعتبارها ثابتة من جانبه، كذبا أو زيفا وبقصد التلاعب. والافتراضات المسبقة أساليب فعالة في التلاعب بالناس، ذلك لأنه يصعب الطعن فيها في حالات كثيرة. فإذا وجدنا مشاركا في مقابلة شخصية إعلامية يطعن في أحد الافتراضات المسبقة الواردة في سؤال موجه إليه، فما أيسر أن يظن الناس أنه يتحاشى مناقشة القضية. والافتراضات المسبقة القائمة على التلاعب تفترض أيضا وجود ذوات مفسرة تتمتع بخبرات وافتراضات نصية معينة سابقة، وبذلك تسهم في التكوين الأيديولوجي للذوات.
النفي
كثيرا ما تستخدم الجمل المنفية لأغراض جدلية. انظر على سبيل المثال إلى العنوان التالي المنشور في صحيفة ذا صن: «لم أقتل المخبر! المتهم الذي يحاكم بتهمة السطو يلجأ إلى الهجوم» الجملة المنفية الأولى تقوم على افتراض مسبق، في نص آخر، يقول إن الشخص المتكلم هنا قتل أحد مخبري الشرطة. وهكذا فإن الجمل المنفية تحمل أنماطا خاصة من الافتراضات المسبقة التي تعمل من خلال التناص؛ إذ تضم نصوصا أخرى لا لسبب إلا للطعن فيها ورفضها (انظر الحديث عن الجمل المنفية في ليتش، 1983م) (لاحظ أن جملة «التهديد السوفييتي خرافة» تعمل بالطريقة نفسها، فعلى الرغم من أن الجملة ليست منفية من زاوية النحو، فإنها منفية من زاوية الدلالة، كما يبين الشرح الذي يقول «التهديد السوفييتي ليس حقيقيا»).
الميتاخطاب
الميتاخطاب شكل خاص من التناص السافر، حيث يميز منتج النص بين مستويات مختلفة في النص الخاص به، ويقيم مسافة بينه وبين مستوى معين من مستويات النص، فيعامل النص الذي أبعده عنه كأنما كان نصا خارجيا آخر (انظر مينجنو، 1987م، 66-69). ويمكن إنجاز ذلك بطرائق مختلفة، أحدهما استعمال المراوغة (براون ولفنسون، 1978م) باستعمال تعبيرات مثل «نوع من» أو «ما يعتبر»، للإشارة إلى أن بعض التعبيرات يمكن أن تكون قاصرة (مثل «كان في موقفه نوع من الأبوية»). أو قد يشار إلى أن التعبير ينتمي إلى نص آخر أو إلى أعراف مختلفة (مثل قولك: «كما كان يمكن «س» أن يصفه»، «من الزاوية العلمية») أو باعتباره استعاريا («إذا لجأنا إلى التعبير الاستعاري»). ومن الطرائق الأخرى الممكنة أن يشرح الكاتب التعبير أو يعيد صياغته (وسوف أعود لإعادة الصياغة في الفصل الخامس). فقد يلجأ أحد الوزراء إلى شروح لمصطلح أساسي (عسير) مثل «الهمة» في سياق خطاب يلقيه عن «ثقافة الإنجاز الفردي» قائلا «نتميز في مطلع حياتنا بوفرة الهمم، بالمبادرة، بالقدرة على تبين الفرصة السانحة واغتنامها بسرعة».
والميتاخطاب يعني ضمنا أن المتكلم يقف فوق خطابه أو خارجه، وأنه في موقف يتيح له أن يتحكم فيه أو يتلاعب به. وتترتب على هذا دلالات طريفة للعلاقة بين الخطاب وبين الهوية (الذاتية)؛ إذ يبدو أنه يعارض الرأي القائل بأن الهوية الاجتماعية للمرء تعتمد على الموقع الذي يشغله في أنماط خاصة من الخطاب. ولهذه القضية جانبان. فمن ناحية معينة نرى أن المسافة الميتاخطابية التي تفصل بين المرء وبين خطابه الخاص يمكن أن تؤيد الوهم الذي يقول: إن المرء دائما يسيطر سيطرة كاملة عليه، وإن خطاب المرء ثمرة من ثمار ذاتيته لا العكس. ومن الطريف في هذا الصدد أن الميتاخطاب يبدو شائعا في أنماط الخطاب التي يستفيد فيها المرء من إظهار سيطرته على خطابه، كما يحدث في النقد الأدبي أو في الأشكال الأخرى للتحليل الأكاديمي في العلوم الإنسانية. وفي مقابل ذلك أقول: إنني أؤكد النظرة الجدلية إلى العلاقة بين الخطاب والذاتية: فالذوات قائمون إلى حد ما داخل الخطاب ويكونهم الخطاب إلى حد ما أيضا، ولكنهم مع ذلك يشتبكون في ممارسات تطعن في الأبنية الخطابية (نظم الخطاب) التي تقيمهم في هذه المواقع وتعيد هيكلتها. ويتضمن ذلك حالات إعادة الهيكلة القائمة على دوافع من الاعتبارات الجدلية والأهداف التلاعبية؛ فما الشروح التي قدمها الوزير عاليه إلا «هندسة دلالية» (ليتش، 1981م، 48-52). فالذي قد يبدو باعتباره إيضاحا بريئا لمعنى «الهمة» يمكن تفسيره باعتباره تعريفا ذا دافع سياسي وأيديولوجي (للمزيد من المناقشة ارجع إلى فيركلف، 1990م، أ، والفصل السادس أدناه).
السخرية
تدور الأوصاف التقليدية للسخرية حول «قول شيء ليعني شيئا آخر»، ومثل هذا الشرح محدود النفع؛ لأن ما يفتقده هو الطبيعة التناصية للسخرية؛ أي إن القول الساخر «يرجع صدى» قول شخص آخر (سبيربر وويلسون، 1986م، 237-243). فلنفترض على سبيل المثال أنك قلت «الجو اليوم صحو يصلح للنزهة وتناول الطعام في الخلاء»، ومن ثم نخرج للنزهة وتسقط الأمطار فأقول: «الجو صحو يصلح للنزهة». وهنا يصبح قولي ساخرا لأنه يرجع صدى قولك، ولكن التفاوت قائم بين المعنى الذي أعبر عنه، إذا صح هذا التعبير، بترديد قولك، وبين الوظيفة الحقيقية لقولي وهو التعبير عن موقف سلبي من نوع ما إزاء قولك، أو حتى إزاءك أنت، سواء كان الغضب أو التهكم أو ما عداهما. ولنلاحظ أن السخرية تعتمد على قدرة المفسرين على إدراك أن معنى النص الذي يمثل الصدى ليس المعنى الذي قصده منتج النص. وقد يتوقف هذا الإدراك على عوامل مختلفة: مثل التفاوت الصارخ بين المعنى الظاهر وسياق الحال (وهو سقوط المطر في المثال السابق) أو على مفاتيح في نبرات صوت المتحدث أو في النص المكتوب (مثل وضع الألفاظ بين أقواس مربعة) أو على افتراضات المفسرين عن معتقدات أو قيم منتج النص (فعبارة «نحن واعون كل الوعي بالمنجزات الاقتصادية للشيوعية» سوف يدرك بسهولة أنها ساخرة من يقرءون بانتظام صحيفة الديلي تلغراف (اليمينية) في بريطانيا، أو إذا وردت في خطاب يلقيه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية).
التداخل الخطابي
سبق لي أن أكدت، بألفاظ مختلفة، في الفصل الثالث، مبدأ التداخل الخطابي (أو التناص التكويني) بأن قلت: إن نظم الخطاب تتمتع بالأولية على الأنماط المعينة للخطاب، وأن الأخيرة تتكون باعتبارها تجميعات لعناصر مختلفة من نظم الخطاب. كما قلت: إن مبدأ التداخل الخطابي يتحقق على مستويات مختلفة، منها: النظام المجتمعي للخطاب، والنظام المؤسسي للخطاب، ونمط الخطاب، بل وحتى العناصر التي تشكل أنماط الخطاب. كما إن استخدام نموذج الهيمنة يشير في الاتجاه نفسه، وهو ما يؤدي إلى صورة لنظم الخطاب باعتبارها توازنات مزعزعة، إذ تتكون من عناصر غير متجانسة داخليا، أو تناصية في تكوينها، وتتسم بحدود فاصلة يعاد ترسيمها باستمرار في غضون الفصل بين نظم الخطاب وإعادة ربطها في غمار الصراع على الهيمنة.
وأريد أن أتناول في هذا القسم قضية أنواع العناصر التي تجتمع لتكوين أنماط الخطاب. كنت قد أكدت تنوعها في المناقشة السابقة، والطابع المتغير لنطاقها: فهي تتراوح ما بين نظم تناوب الأدوار في الكلام إلى المفردات، والسيناريوهات الخاصة بالأنواع من أنباء الجرائم، ومجموعات أعراف التأدب، وهلم جرا. لكنه من الممكن تصنيف العناصر التي تشكل نظم الخطاب، وهي التي يمكن الربط بينها في أنماط الخطاب، بحيث ينشأ عدد صغير من الأنماط الرئيسية، وتتمثل خصائصها في مفردات خاصة ونظم لتناوب أدوار الكلام، وهلم جرا. المصطلحات المستخدمة على نطاق واسع لهذه الأنماط ما يلي: «النوع»، «الأسلوب»، و«النطاق الدلالي»، و«الخطاب». وهكذا يمكن للمرء أن يتحدث عن «نوع المقابلة الشخصية»، أو «أسلوب المحادثة»، أو «النطاق الدلالي لكتب الطهي» أو «الخطاب الطبي العلمي».
ومن مزايا استخدام أمثال هذه المصطلحات أنها تمكننا من أن نتبين في تحليلاتنا الفوارق الرئيسية في النمط بين عناصر نظم الخطاب التي لولا هذه المصطلحات لغفلنا عنها، وبهذا تتضح لنا الجوانب التي تمثل الأعراف فيها قيودا على الممارسة الخطابية. كما أنه من الأيسر استخدام إطار تحليلي يتضمن عددا صغيرا من الفئات المحددة وذات الفوارق الواضحة، كما إن بعض المصطلحات يستخدمها علماء الاجتماع على نطاق واسع في تحليل الثقافة الشعبية على سبيل المثال (بينيت، ووولاكوت ، 1987م)؛ وهكذا فإن استخدامها في تحليل الخطاب يساعد في إيضاح قيمتها المنهجية لعلماء الاجتماع. ويصدق هذا على مصطلح «النوع» و«الخطاب» المستعملين في الإشارة إلى نمط معين من أنماط الأعراف (أي الإشارة إلى «خطاب» و«ضروب الخطاب») بدلا من الإشارة بصفة عامة إلى استعمال اللغة باعتباره شكلا من أشكال الممارسة الاجتماعية (وهو المعنى الذي استعملت المصطلح أساسا فيه حتى الآن، ولنذكر مناقشة مصطلح «الخطاب» في المقدمة)، ولكن لذلك بعض المثالب؛ إذ إن عناصر نظم الخطاب بالغة التنوع، وليس من اليسير دائما البت في أن ما يتعامل المرء معه نوع أم أسلوب أم خطاب أم شيء آخر. أي إن وضع إطار تحليلي يتسم بالجمود الشديد قد يؤدي إلى عدم رؤية تعقيدات الخطاب. وهكذا فإن علينا أن نلتزم بالحذر في استخدام هذه المصطلحات، مدركين أن كلا منها يشير بالضرورة إلى مجال متنوع وغير متجانس، وأنه سيصعب علينا في بعض الأحيان استخدامها بدوافع صحيحة، وربما اضطررنا إلى اللجوء إلى استعمال مصطلحات أشد غموضا مثل «نمط الخطاب» (وهو الذي كنت أستخدمه حتى الآن في الإشارة إلى أي نمط من أنماط الأعراف). وعلينا أن ندرك أيضا استحالة وجود قائمة محددة من الأنواع أو الأساليب أو ضروب الخطاب، وأننا نواجه دائما ما يبدو لنا قرارات تعسفية إلى حد ما (وفق نقطة انطلاقنا في التحليل) حول كون النص مثالا منفصلا لأحد هذه الأنماط أم لا.
فلننتقل الآن إلى مناقشة الأنماط، واضعين هذه الشروط نصب أعيننا. فأما المصطلحات التي سوف أستخدمها فهي «النوع»، و«نمط النشاط»، و«الأسلوب»، و«الخطاب»، وعلى الرغم من أن أنماط هذه العناصر تتمتع باستقلال معين عن بعضها البعض، فإنها ليست متكافئة على وجه الدقة. «فالنوع»، خصوصا، يشمل الأنماط الأخرى، بمعنى أن الأنواع تتفق اتفاقا وثيقا مع أنماط الممارسة الاجتماعية الأخرى (انظر أدناه) ونظام الأنواع الذي ينشأ في مجتمع معين وفي وقت معين يحدد التكوينات والتشكيلات من الأنماط الأخرى التي تقع فيه. أضف إلى ذلك أن الأنماط الأخرى تختلف في درجة استقلالها إزاء النوع، أي في مدى قابليتها للاشتباك الحر مع مختلف الأنواع ومع أنماط العناصر الأخرى. وترتيبها من حيث الأقل استقلالا إلى الأكثر استقلالا هو: نمط النشاط، فالأسلوب فالخطاب. ويهمنا بصفة خاصة، من منظور هذا الكتاب، التغير في نظام الأنواع وتأثيره في تشكيلات العناصر الأخرى. ومع ذلك، فإن أحد نقاط مفهوم النوع الذي أتبناه هنا (وهو باختيني في جوهره) أنه يسمح لنا أن نحدد الأوزان الصحيحة للقيود التي تفرضها الأعراف على الممارسة الاجتماعية، وإمكانية التغيير والطاقة الخلاقة.
وسوف أستعمل مصطلح «النوع» في الإشارة إلى مجموعة أعراف تتمتع نسبيا بالاستقرار وترتبط بنمط من أنماط النشاط المعترف به اجتماعيا، وتجسده إلى حد ما، مثل «الدردشة» غير الرسمية، أو شراء بضائع من دكان ما، أو مقابلة شخصية للحصول على وظيفة، أو فيلم تليفزيوني وثائقي، أو قصيدة، أو مقال علمي. و«النوع» لا يشير ضمنا إلى نمط نصي معين وحسب، ولكنه يشير أيضا إلى عمليات معينة لإنتاج النصوص وتوزيعها واستهلاكها. فعلى سبيل المثال، لا يعتبر المقال الصحفي والقصيدة في العادة نصين يختلفان اختلافا شاسعا وحسب، بل إنهما يختلفان اختلافا بينا في طرائق إنتاجهما (فالأول مثلا منتج جماعي، والثاني منتج فردي) ويختلفان تماما في طرائق توزيعهما، وفي استهلاكهما؛ إذ يتضمن الأخير نظما مختلفة للقراءة والتفسير. وهكذا فإن النوع يتجاوز التمييز بين «الوصف» و«التفسير» الذي قدمته في الفصل الثالث.
وتعتبر الأنواع، طبقا لباختين (1986م، 65) «أدوات الانتقال من تاريخ المجتمع إلى تاريخ اللغة»؛ أي إن التغييرات في الممارسة الاجتماعية تتجلى على مستوى اللغة في جوانب التغيير في نظام الأنواع، وهي إلى حد ما من نتائجها. وأنا أطبق هنا، في إشارتي إلى نظام الأنواع، مبدأ أولوية نظم الخطاب الذي قدمته في الفصل الثالث؛ أي إن أي مجتمع، أو مؤسسة معينة أو مجال معين في هذا المجتمع، لديه تشكيل خاص للأنواع، وهو التشكيل الذي يظهر في العلاقات الخاصة بينها، ويشكل بذلك نظاما معينا. ويقبل التغيير، بطبيعة الحال، كل من النظام والتشكيل المذكورين.
فإذا ركزنا على النوع باعتباره نمطا نصيا، وجدنا أن كل نوع محدد يرتبط ب «بناء تكويني» محدد ، حسبما يدعوه باختين (1986م، 60) أو - بالمصطلح الذي سوف أستخدمه - ب «نمط نشاط معين» (وهي فئة أستعيرها من لفنسون 1979م). ويمكن تعريف نمط النشاط من حيث التتابع البنائي للأفعال التي يتكون منها، ومن حيث المشاركون في هذا النشاط، أي في مجموعة مواقع الذات التي يشكلها المجتمع ويعترف بها فيما يتعلق بهذا النمط من النشاط. فعلى سبيل المثال، نرى أن النشاط الخاص بشراء سلع من دكان الخضراواتي يشارك فيه «الزبون» و«عامل المبيعات» باعتبارهما من أنماط الذوات، وسلسلة من الأفعال، بعضها اختياري أو متكرر على النحو التالي: الزبون يدخل المحل وينتظر دوره، العامل يحيي الزبون (فيرد الزبون التحية ويتبادلان كلمات ودودة) ثم يسأل الزبون عما يريد؛ يحدد الزبون ما يريد شراءه (وربما يسبق هذا حديث عابر مثل «ما أحوال التفاح هذا الأسبوع؟» ويجيء الرد «النوع الأخضر ممتاز»)؛ يأتي العامل بالمطلوب (يزن التفاح ويضعه في الكيس ... إلخ) ويعطيه للزبون (وربما يتناقش الزبون مع العامل حول جودة التفاح أو حول زيادة وزن الكمية ... إلخ)؛ الزبون يشكر العامل، العامل يذكر السعر، الزبون يدفع، العامل يعطي الباقي للزبون ويشكره، الزبون يشكر العامل ويحييه مودعا؛ العامل يرد التحية. وكما يبين هذا المثال، نجد أن نمط النشاط كثيرا ما يضع حدودا لنطاق الخيارات الممكنة ولا يحدد نسقا معينا. انظر ما تقوله رقية حسن في هاليداي وحسن (1985م) حيث تقدم رأيا في النوع يؤكد البناء التكويني.
ويرتبط النوع عادة بأسلوب معين، وإن كان من الممكن في حالات كثيرة أن تتخذ أساليب بديلة، فمن الجائز أن تكون المقابلة الشخصية «رسمية» أو «غير رسمية». ومصطلح الأسلوب، مثل سائر المصطلحات التي أستخدمها، يصعب تحديده بدقة، كما إنه يستخدم بطرائق متفاوتة. ولنا أن نعتبر أن الأسلوب يتغير من زاوية معايير ثلاثة: أولها «المدلول»، والثاني «الصورة»، والثالث الشكل البلاغي للنص، إذا استخدمنا مصطلحات علم اللغة المنهجي (هاليداي، 1978م). فالأساليب تختلف، أولا، من حيث «المدلول» (أو الفحوى) والمقصود به نوع العلاقة القائمة بين المشاركين في أي تفاعل. ووفقا لذلك نستطيع تصنيف الأساليب من حيث كونها «رسمية» أو «غير رسمية» أو «حكومية» أو «حميمة» أو «عارضة» وهلم جرا. ونستطيع تصنيفها، ثانيا، من حيث «الصورة» أي إن كانت مكتوبة أو منطوقة أو تجمع بين هذا وذاك (كأن تكون مكتوبة بغرض الإلقاء، أو مكتوبة كأنما هي منطوقة، أو منطوقة كأنما هي مكتوبة). وهكذا نستطيع تصنيف الأساليب باعتبارها منطوقة أو مكتوبة أو منطوقة كأنما هي مكتوبة وهلم جرا. ولنا أن نستخدم أيضا مصطلحات تعبر من جانب معين عن «الصورة»، وأيضا عن المدلول أو النوع أو الخطاب، مثل «أسلوب المحادثة»، و«الأسلوب الرسمي المكتوب»، و«الأسلوب غير الرسمي المكتوب»، و«الأسلوب الأكاديمي»، أو «الأسلوب الصحفي» وهلم جرا. وتختلف الأساليب، ثالثا، من حيث الشكل البلاغي، ويمكن تصنيفها وفق مقصدها من «إقامة الحجة» (أسلوب التحاج) أو «الوصف» أو «العرض الشارح».
وأما أكثر أنماط العناصر استقلالا (بخلاف النوع) فهو «الخطاب» (انظر كريس، 1988م؛ وكريس وثريدجولد، 1988م، حيث تناقش العلاقة بين «النوع» و«الخطاب»)، وتتفق ضروب الخطاب بصفة عامة مع أبعاد النصوص التي تناقش تقليديا من حيث «المضمون»، و«المعاني الفكرية»، و«الموضوع»، و«المادة» وهلم جرا. ولدي سبب وجيه يبرر استخدامي «الخطاب» بدلا من هذه المصطلحات التقليدية؛ إذ إن الخطاب طريقة معينة من طرائق بناء المادة، ويختلف مفهومه عن مفاهيم المصطلحات السابقة في أنه يؤكد أن خيوط المضمون أو موضوع المادة - وهي مجالات معرفية - لا تدخل النصوص إلا في شكل وسيط يتجسد في أبنيتها الخاصة. ومن المفيد في هذا الصدد اختيار مصطلحات لضروب الخطاب المحددة بحيث تشير إلى المجال المعرفي الخاص بالخطاب، وأيضا إلى الطريقة الخاصة التي يبنى بها، كأن نقول مثلا «الخطاب الطبي العلمي - التقني» (أي الطب باعتباره مجالا معرفيا مبنيا من منظور علمي تكنولوجي، على عكس ضروب الخطاب المرتبطة بشتى ألوان الطب «البديلة»)، أو أن نقول «ضروب الخطاب النسوي الخاص بالحياة الجنسية» (أي الحياة الجنسية باعتبارها مجالا معرفيا مبنيا من وجهات النظر النسوية). وضروب الخطاب بهذا المعنى قضية رئيسية عند فوكوه (انظر الفصل الثاني عاليه). وكما ذكرت آنفا، تتمتع ضروب الخطاب باستقلال أكبر من أنماط العناصر الأخرى؛ أي إنه على الرغم من وجود قيود مهمة وقواعد توافق بين «أنواع» معينة وضروب خطاب محددة، فإن الخطاب - مثل الخطاب الطبي العلمي التقني - يرتبط معياريا ب «أنواع» مختلفة (المقالات العلمية، المحاضرات، الاستشارات وهلم جرا) ويمكن أن يظهر في شتى «الأنواع» الأخرى (المحادثات، وبرامج النقاش التليفزيونية، بل وفي الشعر أيضا).
وترتبط «أنواع» معينة بطرائق خاصة للتناص (السافر)؛ إذ تختلف اختلافا تاما، على سبيل المثال، طرائق التمثيل الخطابي ووظائفه ومرات وروده في التقرير الإخباري عنها في الحديث الودي أو في المقال العلمي. وهكذا تنشأ طرائق متضادة وممارسات مختلفة للتمثيل الخطابي في الأنواع المختلفة من الأنشطة الاجتماعية وفقا لما يكتسبه خطاب الآخرين من دلالات وقيم متفاوتة. فعلى سبيل المثال لا يتوقع أحد أن يكون المحضر الحرفي للأقوال في محادثة ما، أو حتى في قاعة محكمة، ملتزما بالألفاظ التزاما تاما، على عكس ما نراه عندما يرد مقتطف من بحث علمي في سياق بحث آخر. أضف إلى هذا أن بعض صور تمثيل كلام الآخرين في محادثة ما كثيرا ما تحاول تقديم بعض جوانب الأسلوب الذي قيل به ذلك الكلام، وإن كان ذلك نادرا في التقارير الإخبارية. ونقول بصفة أعم: إن درجة ظهور نصوص أخرى في نص ما تعتمد على النوع، مثلما تعتمد عليه أشكال التناص السافر المستعملة وأساليب عمل النصوص الأخرى داخل أحد النصوص.
فلأحاول الآن إيضاح مجموعة أنماط العناصر المذكورة فيما يتعلق بالعينة الأولى الواردة أعلاه. النوع تقرير إخباري، وربما يتضمن أيضا نوعا فرعيا هو التقرير الإخباري في الصحف الشعبية، وهو يتضمن تشكيلا من أساليب مختلفة تنتمي لأنواع فرعية أخرى (انظر أدناه). ونمط النشاط ينشئ موقعين من مواقع الذات: موقع مقدم الخبر (وهو المؤلف المفرد الخيالي للتقرير، ما دامت هذه التقارير تنتج إنتاجا جماعيا) وموقع متلقي الخبر (أي القارئ). وهو يتضمن البناء التتابعي التالي: العناوين (عنوانان في هذه الحالة) حيث فحوى الموضوع؛ والملخص (فقرتان استهلاليتان) تتضمنان صورة أكبر قليلا لفحوى الموضوع، التفاصيل (فقرتان أخريان)، التطوير (سائر الخبر باستثناء الفقرة الأخيرة ذات العنوان الفرعي «الأرباح») وهو ما يشير إلى الإجراءات التي ينبغي اتخاذها (للاطلاع على بناء المواد الخبرية انظر فان دييك، 1988م). ومن الجدير بالذكر أيضا أن بناء الموضوع يقوم على تقديم حل للأزمة؛ فالعنوان وجانب كبير من التقرير يعرضان الأزمة، والفقرة الختامية القصيرة تقدم الحل.
ويتسم التقرير بالتركيب فيما يتعلق بالأسلوب، فلنبدأ بالطريقة البلاغية، وهي تقديم المعلومات. ولنقل بمزيد من الدقة: إن النص يبني صورة مقدم الخبر باعتباره مصدرا للمعرفة والمعلومات، وصورة القارئ باعتباره المتلقي السلبي لها، ويتكون التقرير من مقولات قطعية مطلقة من النوع الذي عادة ما تنشره الصحف عن الأحداث، على الرغم من أن تلك الأحداث عادة ما تكون غير مؤكدة وتقبل شتى التفسيرات. ومن المهم في هذه الحالة أن ننظر كيف ترتبط الطريقة البلاغية بأبعاد الأسلوب المبنية على المدلول وعلى الشكل. فالأسلوب «عامي» من حيث المدلول، فالكتاب يحاكون كلام العامة، كما سبق أن ذكرت، كأنما كانت العلاقة بين مقدمي الأخبار ومتلقيها علاقة تناظر وعلاقة «عالم الحياة» (بالمعنى لدى هابرماس، 1984م). والأسلوب من النوع «المنطوق» ويشبه أسلوب المحادثة. وهذا التشكيل الأسلوبي يبدو متناقضا؛ لأن الطريقة البلاغية تنشئ مواقع غير متناظرة للذات، وتوحي بالملامح «الرسمية» للكتابة في المؤسسات العامة، وهي التي تتناقض مع العناصر غير الرسمية لأسلوب المحادثة في عالم الحياة.
وفي التقرير خطاب معين يلفت الأنظار إليه بصورة خاصة، وهو ما يمكن أن نصفه بأنه خطاب تجريم يكتسي طابعا عسكريا، وهو مبني على الاستعارة التي تقول: إن المجرمين «يحاربون» المجتمع، وعلى المجتمع «تعبئة قواته» لصدهم وقهرهم، ولكن هذا الخطاب والاستعارة يرتبطان في هذا التقرير بمطلب التعبئة العامة بالمعنى الحرفي، أي دعوة القوات المسلحة إلى القضاء على تجار المخدرات، وهو ما يؤدي إلى التباس المعنى في الجملة الافتتاحية: فهل تتوقع صحيفة
ذا صن
نشوب معركة حقيقية هنا؟
التناص والتحولات
ترتبط ببعض الممارسات المعينة داخل المؤسسات وفيما بينها «سلاسل تناصية» معينة، وهي سلاسل من أنماط نصوص يرتبط بعضها بالبعض من خلال تحولات معينة، بمعنى أن كل حلقة في السلسلة تتحول إلى حلقة أخرى أو إلى أكثر من حلقة واحدة بطرائق منتظمة يمكن التنبؤ بها (فيما يتعلق بالتحول، انظر كريستيفا، 1986م، أ؛ هودج وكريس، 1988؛ وانظر مناقشة علم اللغة النقدي في الفصل الأول عاليه). وهذه السلاسل تتابعية أو أفقية، على عكس علاقات التناص الرأسية التي نوقشت في القسم السابق تحت عنوان التداخل الخطابي. وتحديد السلاسل التناصية التي يدخلها نمط معين من أنماط الخطاب مفيد في تحديد «توزيعه»، ولك أن ترجع إلى المناقشة السابقة لإنتاج النصوص وتوزيعها واستهلاكها. ومن الأمثلة البسيطة السلسلة التي تربط ما بين الاستشارات الطبية وبين السجلات الطبية؛ إذ من المعتاد أن يحول الأطباء النوع الأول إلى النوع الثاني. ولما كانت توجد أعداد منوعة هائلة من الأنماط المختلفة للنصوص، فمن المحتمل، من ناحية المبدأ، أن توجد أعداد هائلة بل يصعب تحديدها من السلاسل التناصية فيما بينها. ومع ذلك فمن المحتمل أن العدد الفعلي لهذه السلاسل محدود، فالمؤسسات والممارسات الاجتماعية ترتبط بطرائق محددة، وهو جانب من جوانب البناء الاجتماعي الذي يمثل قيدا على السلاسل التناصية. (بل إن دراسة السلاسل التناصية الفعلية أسلوب من أساليب الفهم العميق لهذا البعد من أبعاد البناء الاجتماعي.)
وقد تتسم السلاسل التناصية بالتركيب الشديد، مثل ما يتعلق منها بنصوص الدبلوماسية الدولية والمفاوضات الخاصة بالأسلحة. فإذا ألقى الرئيس جورباتشيف خطابا رئيسيا، فسوف يتحول إلى نصوص من أنماط منوعة في أجهزة الإعلام في كل بلد من بلدان العالم، إذ يتحول إلى أنباء وتحليلات وتعليقات من جانب الدبلوماسيين، وإلى كتب ومقالات أكاديمية، وإلى خطب أخرى تشرحه، أو تقدم تفصيلات له، أو ترد عليه، وما إلى هذا بسبيل. ومن ناحية أخرى، فمن المحتمل أن يقتصر تحول مقولة قيلت أثناء محادثة عارضة إلى صيغ أعاد المشاركون في المحادثة صوغهم لها، وربما إلى أنباء يحملها الآخرون عنها. وهكذا فإن أنماط النصوص المختلفة تتفاوت جذريا فيما تدخله من شبكات التوزيع وسلاسل التناص، ومن ثم فيما تتعرض له من أنواع التحولات. وعلى الرغم من أن واضعي خطاب جورباتشيف لا يستطيعون التنبؤ بالتفصيل بالحلقات الكثيرة لإنتاج النصوص واستهلاكها، فمن المحتمل أن يبنوه بأسلوب مناسب لردود الأفعال المتوقعة من الأنماط الرئيسية للجمهور. وتعتبر أمثال هذه التوقعات المركبة، كما سبق أن ذكرت، مصدرا للالتباس وعدم التجانس، ومن الأرجح أن تكون النصوص ذات سلاسل التناص المركبة أقرب إلى الاتصاف بهذه الخصائص من غيرها.
وقد تكون التحولات بين أنماط النصوص في سلسلة تناصية ذات ضروب منوعة، فقد تتضمن أشكالا من التناص السافر، مثل التمثيل الخطابي، وقد تكون على العكس من ذلك غير مركزة؛ إذ إن ما يمكن تفسيره بأنه عناصر مشتركة بين أنماط نصية مختلفة قد يتجلى على مستويات مختلفة وبطرائق تتفاوت تفاوتا جذريا، فقد يتبدى في المفردات طورا، أو في السرد والاستعارات طورا آخر، أو في الاختيارات من الأشكال النحوية المتاحة، أو في طريقة تنظيم الحوار. فعلى سبيل المثال، قد نجد في كتاب عن النظرية التربوية وصفا نظريا لتمرين تعاوني يشترك الجميع فيه على قدم المساواة في قاعة الدرس، ونلاحظ أن الكتاب يركز على تشكيل مفردات موضوعه أساسا، في حين أن التمرين المذكور قد يعبر عن النظرية نفسها من خلال تنظيم الحوار بين المعلم والتلاميذ، وقد تظهر النظرية في حديث في غرفة الأساتذة (أو في مقابلات شخصية بحثية) في صورة الاستعارات التي يستخدمها المعلم في الحديث عن تلاميذه وعلاقته بهم (كأن تثار قضية عمل التلاميذ في «مجموعات» أو «فرق» أو حتى على شكل «فصائل أداء المهمات»).
فلننظر في مثال واقعي مقتطف من كتاب فيركلف (1990م، أ). كانت الخطب التي ألقاها اللورد ينج عندما كان وزيرا للتجارة والصناعة في الفترة من 1985م إلى 1988م عنصرا رئيسيا من عناصر بلورة مفهوم «ثقافة المبادرة الفردية» وممارساتها وسياساتها. وكان اللورد ينج هو الذي غير اسم وزارته إلى «وزارة المبادرة الفردية». وقد أخضع في خطبه تعبير «المبادرة الفردية» إلى عملية هندسة دلالية (وهي تناقش بمزيد من التفصيل أدناه، في الفصل السادس) بحيث غدت الكلمة تجمع عددا من الصفات المرتبطة بتنظيم العمل وإدارته، وفق مفهوم دعاة ثقافة المبادرة، بما في ذلك الاعتماد على النفس والإنجاز الفردي. وتوجد فيما يظهر علاقة في هذه الخطب بين البناء النظري للذوات القادرة على المبادرة، أي «النفس ذات الهمة»، وبين الدعاية التي قامت بها وزارة التجارة والصناعة لصالح «مبادرة الإنجاز الفردي» التي أتى بها ينج؛ إذ يتحول مضمون مفردات الخطب هنا إلى أسلوب توصيلي معين.
وقد أصدرت وزارة التجارة والصناعة كتيبا يتضمن مقالا يعالج «مبادرة التسويق» بصفة خاصة، وتلخصه على النحو التالي: «جوهر التسويق الجيد تلبية حاجات عملائك، لا إنفاق الوقت والمال في إقناعهم بالحصول على ما لديك. وهكذا فمن المهم، سواء كنت تبيع ما لديك داخل البلد أو خارجها، أن تفهم السوق وتفهم منافسيك.» ويأتي هذا الملخص في قسم التوجه الافتتاحي للمقال، وهو يشبه باقي أقسام التوجه في المقال، في أنه يتكون من مقولات مباشرة قاطعة عن الممارسة التجارية، وهي مقولات لا بد أن تبدو بديهيات لجمهور التجار الذي يخاطبه الكتيب، أو تتضمن تهديدا، مثل التهديد الوارد في الجملة الثانية، لبعض الأعمال التجارية. والملاحظ أنها جملة منفية بمعنى أنها تفترض سلفا أن بعض هذه المنشآت التجارية تبذل الوقت والمال في محاولة إقناع الناس بشراء ما لديها. ومن ثم فللمرء أن يتوقع أن يجد القراء من رجال الأعمال في أمثال هذه التوجهات مصدر ضيق و/أو إساءة لهم. لكنني أتصور أنهم سوف يفسرونها تفسيرا مختلفا تماما. فذو «الهمة» - بالمعنى الذي يقصده ينج - شخص يستطيع أن يتكلم وأن يصغي لغيره دون لف ولا دوران، وربما يكون الهدف الذي تحاول هذه التوجهات تحقيقه يجمع بين إضفاء هوية المبادرة على الوزارة المذكورة، وتقديم نموذج للشخص الذي يتمتع بالهمة وسلوك المبادرة إلى التجار. أي إن طبيعة «النفس ذات الهمة» تظهر، لا في مفردات الخطب وحسب، بل أيضا في أسلوب الكتابة (الذي يوحي بأسلوب الكلام) في الكتيب.
ومن المحتمل أن تشكل السلاسل التناصية علاقات تحويل مستقرة نسبيا بين أنماط النصوص (مثل العلاقات بين الاستشارات الطبية والسجلات الطبية أو النظم المعتادة لتحويل التقارير إلى مقالات صحفية)، ولكن هذه سرعان ما تصبح خطوط توتر وتغيير ، وقنوات استعمار واستثمار لأنماط النصوص، ومسارات للطعن في العلاقات ما بين أنماط النصوص. وهذا هو نهج تفسير السلاسل التناصية المرتبطة بثقافة المبادرة؛ إذ تتعرض النصوص في مجالات الرعاية الصحية والتعليم والخدمات الاجتماعية وأجهزة الإعلام، بل والدعاية الرسمية، مثل ما نشهده في كتيب وزارة التجارة والصناعة، للاستعمار من جانب معان مرتبطة بثقافة المبادرة النابعة من بعض المصادر، مثل خطب ينج، لإكسابها أيديولوجيات المبادرة والاستراتيجيات السياسية لليمين الجديد، أي إن الخطوط والقنوات القائمة داخل السلاسل التناصية تستغل لتحقيق أغراض استراتيجية.
التناص وترابط المعنى والذوات
تترتب على ظاهرة التناص آثار مهمة لقضية من القضايا الرئيسية في هذا الكتاب، ألا وهي تشكيل الذوات من خلال النصوص وإسهام الممارسات الخطابية المتغيرة في إحداث تغييرات في الهوية الاجتماعية (انظر كريستيفا، 1986م، ب؛ وثريد جولد 1988م، وطولبوت - تحت الطبع). فإن تناص النصوص يؤدي إلى تعقيد عمليات تفسير النصوص التي نوقشت عاليه، إذ يضطر المفسرون، في سبيل تحديد معاني النصوص، إلى إيجاد طرق للجمع بين العناصر المنوعة للنصوص؛ بحيث تشكل معنى كليا مترابطا، وإن لم يكن بالضرورة موحدا أو قاطعا أو بريئا من الالتباس. ومن اليسير أن نعتبر ذلك إنجازا حققه المفسرون وحسب، وهو ما يعني ضمنا وضع المفسرين باعتبارهم ذواتا خطابية فوق التناص وخارجه، أي بصفتهم قادرين على التحكم في عمليات خطابية منفصلة عنهم. ومثل هذه النظرة يفترض الوجود السابق لذوات اجتماعية خطابية - بصورة غير مفهومة - من قبل وقوع الممارسات الاجتماعية والخطابية، ويغفل إسهام هذه الممارسات في تكوين الذوات وفي تغييرها على مر الزمن. والموقف الذي سوف أتخذه هنا يقول: إن التناص، وعلاقات التناص التي تتغير باستمرار في الخطاب، لا مندوحة عنها في تفهم عمليات تكوين الذوات. وينطبق هذا على المقياس الزمني البيوغرافي، أي أثناء حياة الفرد، مثلما ينطبق على تكوين الفئات الاجتماعية والمجتمعات المحلية وإعادة تكوينها.
ويقدم كريس (1987م) مثالا يؤكد الأهمية الاجتماعية لمثل هذه العمليات الخطابية؛ إذ يحلل عينات من نصوص تعليمية ذات أنماط منوعة، ويقول: إن طبيعة تناصها تتضمن عناصر مشتركة مع الخطاب الإعلاني . إذ نجد، على سبيل المثال، أن الإعلانات عن مواد التنظيف المنزلية تشترك مع الكتب المدرسية المخصصة لدروس الإدارة المنزلية في خصيصة توزيع أو تقسيم خصيصة التنظيف ما بين فاعلين، الأول هو الإنسان - أي قارئ الإعلان أو الكتاب المدرسي - والثاني هو السلعة (مثل: «مسحوق صابون إيجاكس ينظف دون الشطف بالماء»، ومثل «المساحيق الدقيقة تستطيع امتصاص السوائل») وهو ما يوحي في الحالتين أن الشخص الذي يقوم بالتنظيف «يحتاج» إلى السلعة. وهكذا فإن الكتب المدرسية وغيرها من أشكال الخطاب التعليمي، تسهم في تكوين الذوات باعتبارهم مستهلكين، كما أن العملية التعليمية تؤدي، من بين ما تؤدي إليه، إلى تعليم القراء قراءة الإعلانات. وكما سبق أن ذكرنا أعلاه، نرى كيف تدل هذه الأمثلة على تكوين الفئات الاجتماعية والمجتمعات المحلية، وعلى اندماج الأفراد في مجتمعاتهم؛ ومن شأن أمثال هذه الممارسات الخطابية أن تولد في وقت واحد رؤية (استهلاكية) للعالم ومجتمع (من المستهلكين) يرتبط بهذه الرؤية. ويتفق هذا مع الرأي الذي يقول إن العمل الأيديولوجي للخطاب يولد في الوقت نفسه صورا تمثيلية للناس في مجتمعاتهم ونظما تحكم هذه المجتمعات (انظر ديبراي، 1981م؛ ومينجينو، 1987م، 42).
ويقع مفهوم ترابط المعنى في قلب معظم تعريفات التفسير. فليس ترابط المعنى من خصائص النصوص، كما سبق لي أن أوضحت، بل من الخصائص التي يفرضها المفسرون على النصوص، إذ إن اختلاف المفسرين (بمن فيهم منتج النص) قد يؤدي إلى توليد معان مترابطة مختلفة للنص نفسه، بل وينبغي ألا نفهم أن المعنى المترابط معنى منطقي مطلق، فنحن نرى أن النص ذا المعنى المترابط هو النص الذي يقدم معنى متسقا إلى حد معقول في نظر المفسر، وهو ما لا ينفي وجود حالات قلق والتباس في المعنى.
كنت قد استخدمت في الفصل الثالث مثالا لإيضاح استناد ترابط المعنى إلى الافتراضات التي يستعين بها المفسرون في عملية التفسير، ومن بينها افتراضات ذات طبيعة أيديولوجية. إذ نجد مثلا أن النص الذي يقول «سوف تترك عملها يوم الأربعاء القادم. إنها حامل» نص يقوم معناه على افتراض أن النساء يتوقفن عن العمل عند إنجاب الأطفال (وعند الحمل). وكنت قد ذكرت أن منتجي النصوص يتوجهون إلى الذوات المفسرة «القادرة» على الاهتداء إلى الافتراضات المناسبة وإقامة الروابط التي تكفل «قراءات» مترابطة المعنى. ومن الممكن توسيع نطاق هذه النظرة إلى ترابط المعنى ودوره في التوجه الأيديولوجي بحيث تتضمن التناص، بمعنى أن النصوص تفترض وجود ذوات مفسرة، وتهيئ لها مواقع تفسيرية مضمرة، باعتبار أنها «قادرة» على استخدام افتراضات مستمدة من خبراتها السابقة، لمساعدتها في إقامة الروابط بين العناصر التناصية المختلفة في نص من النصوص، وبذلك تنجح في توليد تفسيرات مترابطة المعنى. وينبغي ألا يعني ذلك ضمنا أن المفسرين ينجحون دائما في التوفيق الكامل بين المتناقضات في النصوص؛ بل إن المفسرين قد يأتون بتفسيرات تقاوم ما في النص (انظر أدناه). ويجوز أن يصل المفسرون إلى توفيق جزئي أو توفيق مصطنع يكفي لتلبية أغراضهم المباشرة، ولكن إذا نجح المفسرون في التوفيق بين المتناقضات في تفسيراتهم فإنهم يكونون بذلك قد شغلوا مواقع الذوات المركبة التي أنشأتها النصوص (أو اكتسبوا الدعم من النصوص لمواقعهم القائمة).
وتتولد التفسيرات القائمة على ترابط المعنى ما بين العناصر التناصية المنوعة في نص من النصوص لشتى أبعاد معناها في وقت واحد، أي البعد الفكري، وبعد العلاقة ما بين الأشخاص (وينقسم الأخير إلى معان فكرية ومعان خاصة بالهوية). فنجد على سبيل المثال أن العينتين الأولى والثانية أعلاه تتضمنان معاني علائقية مركبة ترتبط بالطرائق التي تمزج بها بين الأساليب والأنواع غير المتجانسة. والمفسرون هم الذين يجدون طرائق مقبولة للجمع بين هذه المعاني العلائقية المنوعة. ففي حالة العينة الأولى نجد أن الجمع بين المعاني العلائقية يتوسل بالتوفيق بين العلاقة القائمة بين مصدر المعلومات ومقدمها، وبين المتلقي السلبي للمعلومات، من جانب، ونجد من جانب آخر العلاقة بين المشاركين في الانتماء إلى عالم الحياة. وأما في العينة الثانية فإن ما يحتاج إلى الجمع هو العلاقة بين المعلن والمستهلك، والعلاقة بين المؤسسة بصفتها مصدر سن القوانين وبين أحد أفراد الجمهور باعتباره الذات (كالعلاقة بين البنك والعميل). ومن الأمثلة على النصوص التي تتضمن معاني مركبة متماثلة نص المقابلة الإذاعية مع السيدة مارجريت ثاتشر الذي سبق لي تحليله في فيركلف (1989م، أ). ويتكون موقع الذات المركب الذي يشغله القارئ من نطاق متنوع من العناصر (من بينها البريطاني الوطني، وربة المنزل الحريصة، والوالدان القلقان، والمقاول) ونقول مرة أخرى: إن على المفسر أن يجمع بين هذه الهويات المتناقضة في كيان مترابط المعنى. ويعلق هول (1988م) تعليقا مماثلا على خطاب ثاتشر، ومفهوم «التكثيف» عند لاكلاو (1977م)، يتناول عملية الجمع تفسيريا بين العناصر من حيث آثاره الأيديولوجية، وكل منهما يضع هذه القضايا داخل إطار نظرية للهيمنة. وأما ما يفتقر إليه تناولهما فهو وجود نصوص فعلية خاصة.
والمعنى المضمر فيما قلته إلى الآن يقول بوجود مفسرين طيعين، بمعنى أنهم يقبلون المواقع التي أعدت لهم في النصوص، ولكن المفسرين ليسوا جميعا طيعين. فبعضهم يتسم - إلى حد ما، وبصراحة متفاوتة المقدار - بالمقاومة. ولا يقتصر تعريف المفسرين، بطبيعة الحال، على كونهم «ذوات خطابية» في «عمليات خطابية معينة»، بل إنهم ذوات اجتماعية ولديهم خبرات اجتماعية متراكمة، ويتمتعون بموارد ذات توجهات منوعة إلى الأبعاد المتعددة للحياة الاجتماعية، وهذه المتغيرات تؤثر في طرائق تفسيرهم لنصوص معينة. ومن المتغيرات الأخرى إجراءات التفسير الخاصة المتاحة لهم، والتي يستفيدون بها، في ذلك المجال الخاص من مجالات الممارسة الخطابية؛ فالقدرة على القراءة النقدية، على سبيل المثال، ليست موزعة بالتساوي بين جميع المفسرين في جميع الظروف التفسيرية.
وقد تجنح القراءات «المقاومة»، إلى حد ما، إلى الفصل بين عناصر التناص المترابطة في نص من النصوص، فقد يبدي المفسر، على سبيل المثال، اعتراضا على العناصر الإعلانية في العينة الثانية، فيقرؤها قائلا: إن بطاقة «باركليكارد» «تحاول أن تبيع لي شيئا». وفي غمار هذه العملية يضيف المفسر بعدا آخر للتناص إلى النص باستحضار نصوص أخرى للتأثير في تفسيره، وقد تنتمي في هذه الحالة إلى تحليلات علم الاجتماع أو البحوث السياسية النقدية للنزعة الاستهلاكية. وتمثل «القراءات المقاومة» إحدى طرائق الصراع على الهيمنة فيما يتعلق بالترابط بين العناصر التناصية. وإذا كانت تؤدي في العادة إلى عمليات إنتاج نصوص تصور الصراع على الهيمنة بأشكال أشد صراحة، فإن ذلك ليس بالضرورة هو الحال دائما، ومن المهم أن ننظر في طرائق تفسير المفسرين للنصوص حتى نستطيع التوصل إلى التقييم السليم لفاعليتها السياسية والأيديولوجية. (ولك أن ترجع إلى انتقادي للغويات النقدية الذي يتبع نهجا مماثلا في الفصل الأول عاليه، وانظر استعمال مفهوم «القراء المقاومين/القراءات المقاومة» في كريس (1988م).)
الفصل الخامس
تحليل النصوص: بناء العلاقات الاجتماعية و«النفس»
يركز الفصلان الخامس والسادس على تحليل النصوص وما يرتبط به من الجوانب «الصغرى» للممارسة الخطابية، بحيث يطوران - على أسس انتقائية محضة - معالجة الفئات التحليلية التي سبق تقديمها في الفصل الثالث (باستثناء التناص الذي عولج في الفصل الرابع)، وهي المفردات، والنحو، والتماسك، والبناء النصي، والقوة، وترابط المعنى. والاختلاف بين الفصلين الخامس والسادس اختلاف في التأكيد؛ إذ يركز الفصل الخامس أساسا على الخصائص التحليلية للنصوص، وهي التي ترتبط خصوصا بوظيفة العلاقة ما بين الأشخاص من زاوية اللغة والمعاني، ويتناول الفصل السادس بصفة رئيسية جوانب تحليل النصوص، وهي الجوانب التي ترتبط خصوصا بالوظيفة الفكرية والمعاني الفكرية.
قلت في الفصل الثالث: إن الوظيفة الخاصة بالعلاقة ما بين الأشخاص يمكن تقسيمها إلى وظيفتين مكونتين لها أسميتهما الوظيفة «العلائقية» والوظيفة الخاصة ب «الهوية». وتتعلق هاتان بالطرائق التي تمارس بها العلاقات الاجتماعية، وتتجلى بها الهويات الاجتماعية في الخطاب، ولكنهما تتعلقان أيضا بكيفية بناء العلاقات الاجتماعية والهويات في الخطاب (وإعادة إنتاجها، والطعن فيها، وإعادة هيكلتها). وأريد أن أركز في هذا الفصل على بناء الهويات الاجتماعية، أو على بناء «الذات» في الخطاب، وبصفة أخص على الطرائق التي يسهم بها الخطاب في عمليات التغيير الثقافي، وهي التي تتعرض فيها الهويات الاجتماعية أو «الذوات» المرتبطة بمجالات ومؤسسات معينة لإعادة التحديد وإعادة التكوين. وأريد تأكيد هذا هنا؛ لأنه جانب خطابي بالغ الأهمية من جوانب التغيير الثقافي والاجتماعي، ولكن هذا الجانب لم يلق حتى عهد قريب الاهتمام الجدير به في تحليل الخطاب.
وسوف ينصب تركيزي على الخصائص التحليلية التالية للنصوص: التحكم في التفاعل (بما في ذلك تناوب أدوار الكلام، وبناء التبادل، والتحكم في الموضوع، والتحكم في البنود ، والصياغة) والنوعية، والتأدب، والجو الخلقي. وفي إطار الفئات التحليلية الواردة في الفصل الثالث عاليه، يعتبر التحكم في التفاعل بعدا من أبعاد بناء النص، وتعتبر النوعية بعدا من أبعاد النحو (وإن يكن مفهوم النحو هنا موجها بشدة نحو المعنى، مثل مفهوم هاليداي، 1985م) ويعتبر التأدب جانبا مما أسميته «القوة». وأما الجو الخلقي فيتجاوز هذه الفئات، كما سوف أشرح أدناه، ودافعه التركيز على الذات. وليس اختيار هذه الموضوعات المحددة للفحص اختيارا تعسفيا، إذ يمثل كل منها أساسا حافلا للنظر في جوانب التغيير ذات الدلالة الاجتماعية والثقافية في وظائف الخطاب العلائقية والخاصة بالهوية.
وكما فعلت في الفصل الرابع أبدأ بمناقشة عينات خاصة من الخطاب، وقد أخذت عينتين من نمط خطاب واحد، وهو نمط المقابلات الشخصية الطبية، لأنهما يظهران أسلوبين متضادين لبناء العلاقات بين الطبيب والمريض وبناء الهوية الاجتماعية للطبيب، «الذات الطبية» في المجتمع المعاصر. وأما العينة الثالثة فمن محادثة غير رسمية، وقد أدرجتها لأؤكد تضادا آخر بين العينتين الأوليين يرجع بنا إلى الفصل الأخير، أي الفوارق بين طرائق التناص.
العينة الأولى: مقابلة شخصية طبية «معيارية»
العينة الأولى مقتطفة من مقابلة شخصية بين طبيب ومريضة، وأستعيرها من دراسة للمقابلات الشخصية الطبية التي سجلها ميشلار (1984م) في الولايات المتحدة. فترات الصمت ترمز لها النقط. وكل نقطة تمثل عشر ثانية، والنقطتان الرأسيتان (:) تدلان على مط المقطع المنطوق، وضروب المقاطعة والتداخل تدل عليها الأقواس المربعة، وأما الأقواس المستديرة فتدل على كلام غير واضح. والأرقام الرومانية تقسم المقتطف إلى «دورات»، تتفق عموما مع «المبادلات» في النظام الذي وضعه سنكلير وكولتارد (ط: طبيب، م: مريضة).
سوف أبدأ بالتركيز على مجموعة منوعة سوف أطلق عليها «معالم التحكم في التفاعل»، وهي تتعلق عموما بضمان سلاسة التفاعل على مستوى التنظيم، بمعنى سلاسة تناوب أدوار الحديث، واختيار الموضوعات وتغييرها، وإجابة الأسئلة، وهلم جرا.
وأمامنا نقطة انطلاق واضحة، ألا وهي أن تنظيم التفاعل يستند إلى الأسئلة التي يوجهها الطبيب وتجيب عليها المريضة. وتسجيل المحادثة يتضمن التحليل الذي قام به ميشلار بتقسيم البيانات إلى تسع حلقات، تبدأ كل منها بسؤال من الطبيب. وتقسيم الحلقات
V ، و
VII ، و
IX (وقد اختصرت هذه الأخيرة) إلى حلقات فرعية يبين أنها تتضمن أيضا أسئلة «متابعة» من الطبيب تتطلب تفاصيل معينة في إجابات المريضة. وفي بعض الحالات (في السطور 10، و13، و27) يسبق سؤال الطبيب عنصر يتضمن إقرارا سافرا أو قبولا لإجابة المريضة السابقة. وسوف أسمي هذا «قبولا». وحتى حين يغيب ذلك فإن قيام الطبيب بطرح سؤال آخر، بدلا من سؤال متابعة، يمكن تفسيره باعتباره قبولا ضمنيا لإجابة المريضة السابقة. وهذا سبب اعتبار أسئلة الطبيب واقعة بين حلقات، إذ إنها تختتم إحدى الحلقات بالقبول الضمني لإجابة المريضة، وبالبدء في الحلقة التالية. ولنا أن نقول إذن، وفق تحليل ميشلار: إن هذه الحلقات تتسم ببناء أساسي ثلاثي يتكون من سؤال من الطبيب، ورد من المريضة، وقبول مضمر أو سافر للرد من الطبيب.
وإذن، فإن الطبيب يتحكم تحكما صارما في التنظيم الأساسي للتفاعل من خلال ابتداء كل حلقة واختتامها بقبول ردود المريضة أو إقرارها. ومن النتائج المترتبة على هذا أن الطبيب يتحكم في نظام تناوب الأدوار، أي توزيع أدوار الحديث بين المشاركين في التفاعل (فيما يتعلق بالتناوب انظر كتاب ساكس وشيجلوف وجيفرسون، 1973م، وشينكاين، 1978م). والمريضة لا تشارك في أدوار الحديث إلا عندما يقدمها الطبيب لها، أي عندما يوجه سؤالا إليها، ولكن الطبيب لا ينتظر تقديم أدوار إليه بل يأخذها عندما تنتهي المريضة من ردها عليه، أو عندما يقرر أن المريضة أجابت الإجابة الكافية في نظره (انظر أدناه).
وتترتب نتيجة أخرى على هذا التنظيم الأساسي، وهي تتعلق ب «التحكم في الموضوع». إذ إن الطبيب هو الذي يقدم، أساسا، موضوعات جديدة من خلال أسئلته، مثلما يفعل عندما يتحول في السطور 1-13 من معنى «حموضة المعدة» إلى موضع «الحرقان» ثم إلى السؤال عما إذا كان الألم يتحول إلى الظهر، وعن موعد الإحساس بالألم. ومع ذلك فالملاحظ أن المريضة تقدم موضوعا جديدا في السطرين 21-22، وهو شرب الكحول، وهو ما يتناوله الطبيب في السطر 24، وسوف أعود إلى هذا الاستثناء أدناه.
ومن الجوانب الأخرى للتحكم في الموضوعات ممارسة الطبيب لخياراته الخاصة في الاستجابة لردود المريضة من الأسئلة السابقة، ففي السطور 21-24 التي أشرت إليها لتوي، على سبيل المثال، تقر المريضة بأنها أخطأت باعتيادها شرب الخمر، ولكن الطبيب لا يتابع هذا الإقرار، إذ يبدو أنه غير مهتم إلا بتأثير الكحول في صحة المريضة. وعلى غرار ذلك نجد أن ردود المريضة في السطور 29-30 و42 تشير إلى بعض المشكلات لدى المريضة التي يتجاهلها الطبيب مفضلا النظر في التفاصيل الطبية الدقيقة. ويخالج المرء الإحساس بأن الطبيب يغير الموضوع ويحصره وفقا لنهج موضوع سلفا، وبأنه لا يسمح للمريضة بتغييره.
وتمثل طبيعة الأسئلة التي يطرحها الطبيب جانبا آخر من جوانب تحكمه في الموضوع، إذ إنها ليست أسئلة مفتوحة تتيح للمريضة حرية الكلام (كأن يقول مثلا «حدثيني عن حالك في الآونة الأخيرة») ولكنها أسئلة «مغلقة» إلى حد ما، بمعنى أنها تفرض حدودا صارمة نسبيا على إجابات المريضة. وبعض هذه الأسئلة ينتمي إلى ما يرد عليه بالإيجاب أو بالنفي، بمعنى تأكيد مقولة معينة أو إنكارها (مثل «هل تشعرين بالحرقان هنا؟») وبعضها الآخر تبدأ بحروف معينة مثل «ماذا»، و«متى»، و«كيف»، وهي الأسئلة التي تطلب تفاصيل محددة عن وقت شرب الكحول وكميته ونوعه.
ومن المفيد أيضا أن ننظر إلى العلاقة بين أسئلة الطبيب وإجابات المريضة. ففي السطر الرابع يبدأ الطبيب سؤاله قبل أن تنتهي المريضة من الكلام، فيقع التداخل. ويحدث ذلك أيضا في السطرين 20 و24، وإن كانت إجابة المريضة في هاتين الحالتين تتضمن وقفة ربما ظنها الطبيب دليلا على انتهاء الإجابة. وفي حالات أخرى يتبع دور الطبيب مباشرة كلام المريضة دون توقف، إما بإبداء تقدير للحالة متبوع بسؤال (السطران 10 و13) أو بسؤال فقط (السطر 16). ويختلف النسق في السطر 23 للأسباب التي أوردها أدناه. وهذا يؤكد أن الطبيب يعمل وفقا لنهج موضوع سلفا، أو أنه ينتقل من مرحلة إلى مرحلة أخرى حالما يرى أنه حصل على معلومات يعتبرها كافية، حتى ولو أدى ذلك إلى مقاطعة كلام المريضة. وإذا نظرنا إلى هذا النهج بعيني المريضة فربما وجدنا أنه يتكون من سلسلة من الأسئلة غير المتصلة التي يتعذر توقعها، وربما يكون هو السبب في أن إجابات المريضة عنها تسبقها لحظات تردد (السطور 15، 18، 29، 42)، على العكس من إجاباتها عن أسئلة الطبيب في القسم الأول من المقتطف.
والصورة الشاملة إذن، فيما يتعلق بمعالم التحكم في التفاعل، تدل على أننا نشهد حلقات تتكون كل حلقة منها من سؤال وإجابة وتقييم، وأن الطبيب يطبق من خلالها نهجا موضوعا سلفا، وأنه يستطيع بفضله أن يتحكم في أدوار كلام المريضة ومضمون كل دور وطوله، إلى جانب تقديم الموضوعات وتغييرها. ولأقدم الآن بعض التعليقات الموجزة على ثلاثة جوانب أخرى لهذه العينة، قبل معالجتها معالجة وافية في أواخر هذا الفصل، وهذه هي النوعية، والتأدب، والجو الخلقي.
والمقصود بالنوعية مدى التزام منتج النص بمقولاته، أو إقامته - على العكس من ذلك - مسافة تفصل بينه وبينها، أي تحديد درجة «ارتباطه» بالمقولة، وفق المصطلح الذي وضعه هودج وكريس (1988م)، ولكن الارتباط الذي يبديه منتج النص كما يبين هودج وكريس، بإحدى الصور التي تمثل العالم لا تنفصل عن العلاقة (و«الارتباط») بين منتج النص وغيره من المشاركين في الخطاب. ففي السطرين 2-3 مثلا تعرف المريضة «حموضة المعدة» بأنها «حرقان شيء مثل الحرقان يعني أو ما عداه» أي: إن المريضة تشرح ما بها أولا بتعبير طبي شعبي، ثم تقيم مسافة بينها وبين الشرح باختزاله في تشبيه («مثل الحرقان») ثم تزيد من المسافة التي تفصلها عنه ب «المراوغة» (براون ولفنسون، 1978م) بتعبير «أو ما عداه». والنوعية هنا تفيد ضعف الارتباط، ولكن التمييز عسير في هذه الحالة بين صدق المقولة وبين العلاقات الاجتماعية الكامنة في دوافع المريضة لقول ما تقوله: تراها تختار ضعف «النوعية» لأنها غير واثقة من دقة شرحها، أم لأنها عازفة عن قول شيء يشبه المعرفة الطبية في تفاعل مع خبير طبي معترف به؟ أي إن صدق المقولات والعلاقات الاجتماعية، بمعنى المعرفة والسلطة، ترتبط بروابط معقدة ويتعذر فصلها في مثل هذه الحالات.
فلأتحول الآن إلى التأدب: إن المريضة تقدم في السطرين 21-22 قضية شربها الخمر، وهي قضية يصعب الخوض فيها على ما يبدو ويمكن أن توقعها في حرج، باعتبارها إضافة ذيلت بها إجابتها عن سؤال من أسئلة الطبيب. ويقول ميشلار (1984م، 86) إنها تتكلم في هذه اللحظة بأسلوب فيه «ميوعة» أو «دلال» أو «لمسة طفولية» وهو ما يمكن تفسيره بأنه محاولة للتخفيف من التهديد لاحترامها لذاتها وللحفاظ على «ماء وجهها» بعد اعترافها بمعاقرة الشراب (انظر براون ولفنسون، 1978م، والقسم الخاص بالتأدب في مكان لاحق بهذا الفصل) وعلى العكس من ذلك، لا تتضمن أسئلة الطبيب عن شربها الخمر أي تخفيف، فهي أسئلة صريحة بل وحتى قاسية (السطر 41)، فهو يصف حالة المريضة بأنها حالة «إسراف في الشراب» في صياغة تفتقر إلى الدبلوماسية أو التخفيف (أعود لقضية الصياغة فيما بعد). أي إن أسئلة الطبيب تتسم بمستوى تأدب منخفض، وأنا أستخدم المصطلح بمعناه الواسع المستخدم في دراسات التداولية (انظر مثلا ليتش، 1983م؛ براون ولفنسون، 1978م) بحيث يعني التوجه والحساسية ل «الحياء» عند المشاركين واحترامهم لذواتهم، وخصوصيتهم واستقلالهم.
ولنا أن نربط بين التأدب وبين مفهوم الجو الخلقي الأعم والأشمل، وهو الذي يعني كيف يمكن للسلوك الكلي للمشارك - وهو الذي يعتبر كلامه (المنطوق أو المكتوب) وأسلوبه ونغمته جزءا منه - أن يعبر عن شخصيته ويشير إلى هويته الاجتماعية وذاتيته (مينجينو، 1987م، 31-35). والأطباء يظهرون في الممارسة الطبية المعيارية ما يمكننا أن نسميه الجو الخلقي العلمي (إذ يعتز الطب الحديث بأنه «العلم الطبي») وهو الذي يتحقق بأشكال مختلفة في الطرائق التي يلمسون بها المرضى وينظرون إليهم أثناء فحصهم، وفي الطرائق التي يستنبطون بها الموضوعات من أقوال المرضى، وغياب دقائق التلطف الخاصة بمعاني العلاقة بين الأشخاص مثل التأدب، وهي التي من شأنها الإيحاء بالتوجه إلى المريض باعتباره شخصا، لا التوجه العلمي إلى المريض باعتباره «حالة» (انظر إيميرسون، 1970م، حيث ترد فحوص أمراض النساء وفق التوجهات المذكورة وفيركلف 1989م، أ، 59-62 حيث ترد مناقشة لها).
كان تحليل العينة الأولى حتى الآن منحازا لجانب واحد في تركيزه على تحكم الطبيب في التفاعل. ويشير ميشلار إلى وجود طرائق لتحليل المقابلة الشخصية أكثر توجها إلى منظور المريض. والواقع أن هذه الطرائق أهم من زاوية التناص. سبق لي أن أشرت إلى أدلة التناقض بين المنظور الطبي ومنظور الخبرة العادية، والتي نجدها في الأسلوب الذي يستبعد به الطبيب أجزاء معينة من أقوال المريض، إذا بدت له خارج الموضوع. فإذا كان كلام الطبيب يظهر فيه باتساق «صوت» الطب، فإن أقوال المريض تمزج صوت الطب بصوت «عالم الحياة»، أو الخبرة العادية (وهذان المصطلحان من عند ميشلار الذي يقتبسهما من هابرماس). وأما التحليل البديل الذي يقترحه ميشلار فيركز على الجدلية، والتضارب والصراع داخل التفاعل بين هذين الصوتين. ويوحي هذا بالتوسع فيما قلته إلى الآن عن التناص؛ بحيث يسمح بإقامة علاقة تناص مجسدة في حوار صريح بين مختلف الأصوات التي يأتي بها مختلف المشاركين إلى حلبة هذا التفاعل.
فإذا نظرنا إلى التفاعل من هذه الزاوية بدا لنا أكثر تشتتا وأقل انتظاما من اعتباره تجليا لسيطرة الطبيب، إذ تتكرر مقاطعة الصوتين، صوت الطب (ط) وصوت عالم الحياة (ع) مرارا: أي إن «ع» يقاطع «ط» في السطر 21 (من «لم أقل الحقيقة») و«ط» يقاطع «ع» في السطر 24 («هل يزيد الشراب من سوء الحالة؟») و«ع» يقاطع «ط» في السطر 29 («ما يكفي حتى أنام») والعكس بالعكس في السطر 31 («كأس أو كأسان في اليوم؟») فإن «ع» يقاطع «ط» في السطر 42 («منذ أن تزوجت») والعكس بالعكس في 44 («ومنذ متى كان هذا؟») وتواصل المريضة نوبة حديثها التي بدأتها في السطر 45 بتفسير مطول عن سبب حاجتها إلى الكحول، ولماذا تلجأ إلى الكحول بدلا من الأقراص وحسب، ويتبع ذلك من جديد سؤال من «ط» (وهل تتناولينها (أي الأقراص) بكثرة؟) وفي هذا الجزء من المقابلة الشخصية يصبح «ط» و«ع» متنازعين، ويستخدم الطبيب تحكمه في الأسئلة لإعادة تأكيد صوت الطب. ومع ذلك فإن التدخلات المتكررة من جانب «ع» تقلق فيما يبدو نهج العمل الذي وضعه الطبيب، وانظر دلائل التردد التي بدأت تظهر قبل طرح أسئلة الطبيب (السطور 23-24، 27، 37، 41، 44). وإذا كان الطبيب نادرا ما يرجع إلى عالم الحياة، فإن المريضة تستخدم صوت الطب باستفاضة، وهي تبدي سعة صدر للطبيب بهذا المعنى أكبر مما يبديه هو لصوت عالم الحياة. والواضح أن الصوتين متضادان في المضمون؛ فصوت الطب يجسد العقلانية التكنولوجية التي تتعامل مع المرض من حيث كونه مجموعات لا سياق لها من الأعراض الجسدية، ولكن صوت عالم الحياة يجسد عقلانية «منطق الدنيا» التي تضع المرض في سياق جوانب أخرى لحياة المريضة. ويشير ميشلار (1984م، 122) إلى أن التضاد يتفق، فيما يبدو، مع التمييز الذي يقيمه شوتز (1962م) بين «الموقف العلمي» و«الموقف الطبيعي».
والتحليل من حيث تحكم الطبيب في التفاعل، والتحليل من حيث وجود جدلية بين صوتين، يعتبران معا من أساليب التعمق في النظر في الممارسة الطبية المعيارية على مستوى تحليلي متناهي الصغر، وفي الطب باعتباره صورة للممارسة المهنية. غير أن مهنة الطب، مثل غيرها من المهن تشهد تحولات كبيرة في المجتمع المعاصر. وربما يكون أهم ما يمكن لتحليل الخطاب أن يسهم به في هذا الصدد هو أن يكون وسيلة لبحث ما تمثله هذه التحولات «على الأرض»، بالنظر في أساليب التفاعل الحقيقية بين الأطباء والمرضى.
العينة الثانية: مقابلة شخصية في إطار الطب البديل
ترمي العينة الثانية التي أقدمها إلى تناول بعض قضايا التحول في الممارسة الطبية. وهي أيضا مقابلة شخصية طبية، وإن كانت من نوع يختلف اختلافا جذريا. والنص يستخدم النقطة (أي الوقفة الكاملة) للدلالة على التوقف برهة قصيرة، ويستخدم الشرطة للإشارة إلى الوقفة الطويلة، والأقواس المربعة لتداخل الأقوال، والأقوال الدائرية للكلام غير الواضح.
وها هي ذي: و«م» ترمز للمريضة و«ط» للطبيب.
وينتمي الطبيب في هذه الحالة إلى مجموعة تمثل أقلية داخل مرفق الصحة القومي البريطاني، وهي مجموعة تقبل الطب البديل (مثل الطب الكلي) الذي يعني علاج «الشخص كله»، وهو ما يتفق مع استخدام تقنيات تقديم المشورة. والعينة الحالية تفتقر إلى الأبنية السافرة لتحكم الطبيب وسيطرته، على نحو ما شهدنا في العينة الأولى، كما تفتقر إلى التفاوت الواضح بين الأصوات المختلفة وتضاربها.
وأبرز اختلاف بين العينتين، من حيث معالم التحكم في التفاعل، غياب حلقة السؤال والجواب والتقييم من العينة الثانية، إذ إنها مبنية حول الوصف المطول على لسان المريضة، واقتصار دور الطبيب على ردود أفعال كثيرة تتخذ شكل الحد الأدنى من رموز الاستجابة («همم»، «لا»، «نعم»، «صحيح») وطرح سؤال يرتبط موضوعه بأقوال المريضة (السطران 6-7) وتقديم تقييم معين، لا لإجابات المريضة على الأسئلة، كما هو الحال في العينة الأولى، بل لبعض الإجراءات التي يقترحها طرف ثالث (السطر 29) واقتراح مقابلة شخصية أخرى معه.
وتناوب الأدوار في الحديث يقوم على التعاون، بدلا من أن يتحكم فيه الطبيب وحده. وفي النص ما يدل على الطبيعة التفاوضية لتوزيع الأدوار، مثل سؤال الطبيب (السطران 6-7) وهو يطرحه بسرعة وهدوء كأنه حديث جانبي، مما يدل على حساسية الطبيب ل «إقحام» نفسه أثناء «كلام» المريضة، وهي تعامله كما لو كان كذلك فتجيب إجابة موجزة عنه، ثم تستأنف روايتها. وفي النص دليل آخر على ذلك، وهو الوقفة الطويلة من جانب الطبيب في السطر 30 بعد أن قدم تقييمه، ويبدو أنها بمثابة إتاحة فرصة الكلام مرة أخرى للمريضة، حتى تواصل روايتها إذا شاءت، قبل أن ينتقل الطبيب إلى إنهاء المقابلة.
أما التحكم في تقديم الموضوعات وتغييرها، وهو الذي كان أساسا في أيدي الطبيب في العينة الأولى، فإنه انتقل هنا إلى المريضة. وطريقة تطوير الموضوعات تنتمي إلى طرائق المحادثة وعالم الحياة، فالمريضة تتحدث في عدة موضوعات من دون التزام بموضوع واحد، بل تتنقل ما بين عدد من الموضوعات التي لا يرتبط بعضها بالبعض، مثل ظلم والدتها، ومعاقرتها الخمر، والبدائل الممكنة عن الإقامة مع والدتها، وهلم جرا. وبذلك فهي تقدم تفاصيل تربطها علاقات معينة بالمعايير الخاصة بالمحادثة، ولكنها على الأرجح غير مترابطة طبيا، أي من منظور الطب التقليدي. ومن البداية للنهاية يبدي الطبيب ردود أفعال تدل على تركيزه وانتباهه وتوحي ضمنا بقبوله لهذا الأسلوب الخاص بالمحادثة في تطوير الموضوع.
ومع ذلك فلا يمكننا أن نستنتج ببساطة أن الطبيب قد تنازل للمريضة عن التحكم في التفاعل. فعلينا أن نلاحظ أولا أن الطبيب هو الذي يبادر دائما بتسليم قدر من التحكم إلى المريض في المقابلات الشخصية الطبية المنتمية إلى هذا النوع ، وهو ما يعني أن الأطباء لا يزالون يمارسون التحكم على مستوى معين، حتى بالشكل الذي يمثل مفارقة وهو التنازل عن التحكم، ولكن الواقع يقول: إن لدينا حتى في هذه الحال معالم تحكم سافرة؛ إذ إن طرح الطبيب السؤال المهم طبيا عن مواصلة المريضة شرب الخمر يتضمن تقييما، ويتحكم فعلا في استهلال المقابلة وإنهائها (وإن لم يتضح ذلك من هذه العينة) ويتحكم فيما ينبغي اتخاذه من إجراءات في المستقبل.
ولكنه يفعل ذلك بتحفظ واقتضاب على عكس ما تتميز به الممارسة الطبية التقليدية والعلاقات التقليدية بين الطبيب والمريض، وهو ما يأتي بنا إلى «النوعية» و«التأدب» و«الجو الخلقي». فالتقييم الوارد في السطر 29 يتضمن عبارة تميز النوعية «الذاتية» تمييزا صريحا («أظن ذلك») وهي توضح أن التقييم خاص برأي الطبيب فقط، وتخفف من درجة «سلطويتها» (انظر القسم الخاص بالنوعية أدناه): أي إن عبارة «ذلك من الحكمة» وحدها توحي باطلاع الطبيب على مصادر مضمرة وغامضة للأحكام المهنية. والسؤال الوحيد الذي يطرحه يتخذ شكل العبارة التي تقال عرضا كأنما يقولها الطبيب لنفسه، كما سبق أن ذكرت، وهو يتكون من صياغة مبدئية غامضة وغير مباشرة («هل رجعت الآن إلى ذلك، هل عدت إليه؟») وتتبعها صياغة صريحة («هل بدأت تشربين من جديد؟») ومعالم السؤال المذكورة تقلل من إمكان خدشه للحياء، وبهذا المعنى تزيد من تأدبه. واقتراح الطبيب بإجراء مقابلات شخصية أخرى يتسم بالتأدب أيضا بهذا المعنى. فالاقتراح غير مباشر إلى حد بعيد، فالواضح أن الطبيب يطلب من المريضة تحديد مواعيد مقابلات أخرى، لكنه يستخدم في الواقع تعابير غير قاطعة («أود أن ... إن كان ذلك ممكنا»)، أي إنه يريد أن يراها مرة أخرى. كما أنه يصوغ الغرض من المقابلات الشخصية التالية صياغة توحي بأنها زيارات اجتماعية («أن أرى كيف تسير الأمور») كما يستخدم المراوغة في اقتراحه باستخدام «كما تعرفين» مرتين، وإبداء التردد «أظن. كما تعرفين. أسمع» وهكذا يوحي بالتعثر في التعبير.
ولنا أن نربط بين هذه التعليقات وبين فكرة الجو الخلقي. فإذا كان أسلوب الطبيب في الكلام في العينة الأولى يتفق مع الخلق العلمي، فإن ما يبديه الطبيب في هذه العينة من تحفظ وتردد وتعثر ظاهري في التعبير يتفق مع الجو الخلقي لعالم الحياة؛ أي إن الأطباء يبدون في هذا اللون من المقابلات الطبية في صورة الرافضين لمذهب النخبة، والجو الرسمي وابتعاد شخصية العالم بالطب (عن الناس)، والذين يؤثرون صورة الشخص «العادي» «اللطيف» الذي «يجيد الإصغاء» (وهي الصورة التي كثيرا ما تكون مصطنعة). ويتفق هذا مع التحولات العامة في القيم الثقافية السائدة في مجتمعنا وهي التي تخفض من قيمة مذهب النخبة المهنية، وتعلي من قيمة طرح الرسميات والتصنع، واكتساب المسلك الطبيعي.
وتختلف العينة الثانية عن الأولى أيضا من حيث ما بها من تناص، إذ إنها تخلو من كل ما يشبه الجدلية بين صوت الطب وصوت عالم الحياة الذي لاحظته في العينة الأولى، بل إن الطبيب نفسه يبدو في صورة من يستعين بصوت عالم الحياة، وذلك مثلا عندما يشير إلى المقابلات المقترحة في المستقبل بقوله إنه يريد «أن يرى كيف تسير الأمور»، ويؤازر لجوء المريضة إلى هذا الصوت بإتاحة الفرصة لها حتى تقول ما تريد بأسلوبها الخاص، مشجعا إياها بردود أفعال ضافية.
ومع ذلك فإن الطبيب يمارس التحكم ولو بأسلوب لا يتميز به في الواقع، وهي حقيقة نستطيع أن نتبينها في التداخل الخطابي (أي التناص المكون) إذا افترضنا وجود التلاقي بين نوع المقابلة الطبية المعيارية وبين أنواع أخرى، وهو الذي يؤدي إلى الحفاظ على بعض معالم التحكم في التفاعل الخاصة بالنوع الأول، وإن كانت تتحقق بشكل مخفف وغير مباشر نتيجة تأثير الأنواع الأخرى، أي إن الأفعال نفسها تنبع من نوع معين وتنتمي صور تحقيقها عمليا إلى أنواع أخرى. ما هذه الأنواع الأخرى؟ أشرت من قبل إلى نوع المحادثة، ولكن المحادثة موجودة هنا باعتبارها من العناصر المكونة لنوع آخر، وهو جلسات المشورة. وهكذا فإن علاقة التداخل الخطابي الأولية في هذا النوع من المقابلة الشخصية الطبية تبدو علاقة تقع ما بين نوع المقابلة الطبية المعيارية وجلسات المشورة، أو ما يسميه تن هاف (1989م، وانظر أيضا جيفرسون ولي، 1981م) «الحديث العلاجي» في تحليل له بأسلوبي نفسه، إذ إن جلسات إسداء المشورة تؤكد إتاحة فرصة الكلام للمرضى (أو العملاء) والتعاطف العميق مع أقوالهم (وهي التي كثيرا ما يرجع المستشار صداها أو يعيد صوغها بصوت المريض) وعدم إصدار توجيهات لهم. وليس من قبيل المفاجأة أن يعجز البحث عن نماذج لجلسات المشورة عن الخروج من دائرة الخطاب المؤسسي إلى دائرة خطاب المحادثة حيث تتحقق هذه القيم على نطاق واسع (وهي البارزة هنا في تحفظ الطبيب وتخفيف اللهجة) ويكون ذلك على سبيل المثال في صورة الشخص الذي «يجيد الإصغاء» في عالم الحياة.
ولكن الأنواع المتباينة من المقابلات الطبية لا تتعايش وحسب، بل إنها تشتبك في علاقات تنازع وصراع، باعتبارها جانبا من الصراع الأعم الأشمل حول الممارسة الطبية، أي إن المقابلات الطبية من نوع العينة الثانية ترتبط بشفافية بقيم معينة، مثل معاملة المريض باعتباره شخصا لا مجرد حالة، وتشجيع المريض على أن يتحمل قدرا من المسئولية عن العلاج، وهلم جرا. والواقع أن القضية الحقيقية في الصراعات بين أنواع المقابلات الطبية قضية الحدود بين نظم الخطاب، مثل الحد الفاصل بين جلسة المشورة والمقابلة الطبية، وتبيان التداخل الخطابي بين بعض العناصر داخل نظم الخطاب.
ويبدو أن الاتجاه الأولي للتغيير داخل الطب المعاصر اتجاه نحو مقابلات قريبة الشبه بالعينة الثانية، ويتجلى في هذا بصفة خاصة ملامح التغيير في القيم الثقافية والعلاقات الاجتماعية التي أشرت إليها آنفا، وهي تغييرات في بناء «الذات الطبية» بناء يبتعد بها عن السلطة والخبرة السافرتين، وتغييرات تبتعد بالسلطة عن منتجي البضائع والخدمات وتقترب بها من المستهلكين أو العملاء، وتغييرات تفيد الابتعاد عن الطابع الرسمي والاقتراب من الطابع غير الرسمي وهلم جرا، ولكن التغيير لا يجري في سلاسة، ويتمثل أحد الأسباب في وجود اتجاهات فعالة متنافرة ومتناقضة، ونجد ثانيا أن بعض اتجاهات التغير الثقافي تستطيع التناغم مع بعض الاتجاهات على مستويات أخرى، أو تتنازع معها. فنجد على سبيل المثال أن تحويل الممارسة الطبية إلى ممارسة من النوع الموجود في العينة الثانية ذو تكلفة اقتصادية باهظة. فالطبيب يستطيع الانتهاء من «فحص» المرضى ب «كفاءة» وسرعة أكبر من خلال نهج محدد سلفا مثل الذي نجده في العينة الأولى، بدلا من تقنية إتاحة الوقت للمرضى ما داموا يشعرون بأنهم يحتاجون إليه في الحديث. ويتعرض الأطباء اليوم في بريطانيا وغيرها لضغوط هائلة لزيادة «كفاءتهم»، وتتضارب هذه الضغوط مع الاتجاهات السائدة على المستوى الثقافي (ارجع إلى الفصل السابع أدناه حيث المزيد من مناقشة الاتجاهات المعاصرة في التغير الخطابي).
العينة الثالثة: السرد في المحادثة
توضح العينة الثالثة بعدا آخر من أبعاد التناص، إنها مقتطف من محادثة يروي فيها زوجان إلى زوجين آخرين قصة ما حدث لهما مع مفتشي الجمارك عند عودتهما من عطلة في الخارج. ونسخ المحادثة منظم بحيث يقع على أربعة أسطر، إذ يختص كل مشارك بسطر واحد. وبعد السطور الأربعة الأولى، لن تضم السطور إلا كلام من يتحدث من هؤلاء. والكلام المتداخل يظهر في سطرين متتاليين أو أكثر، وفترات الصمت يرمز لها بنقطة (تفيد التوقف الكامل). وعلامة يساوي (=) تعني أن الكلام التالي يتبع الكلام الأول مباشرة. والبنط الأسود يفيد ارتفاع الصوت. وحرف الزاي «ز» يرمز للزوج، وحرف «ق» يرمز لقرينته. لاحظ أن بعض السطور في الجزء الأول لا كلام أمامها، والرمز «ز1» يعني الزوج الأول، و«ز2» الزوج الثاني، و«ق1» القرينة الأولى، و«ق2» القرينة الثانية.
في الفقرة قبل الأخيرة يطلب الزوج الأول من قرينته ألا تقاطعه، ويتوقف اعتبارنا أن ما تفعله القرينة الأولى أثناء السرد بمثابة مقاطعة على تصوراتنا للطبيعة الدقيقة للنشاط هنا. وتوجد عدة أنواع فرعية للسرد أو قص القصص، ومن الجوانب المهمة التي تتفاوت فيها ما إذا كان الراوي فردا واحدا أم عدة رواة. والقصص التي يقصها شخصان أو أكثر باعتبار أنها قصصهما أو قصصهم مألوفة في رواية القصص أثناء المحادثة. وربما يكون الزوج الأول في هذه الحالة قد افترض أنه يقدم قصة من جانب راوية واحد، في حين أن قرينته تفترض (مع الزوج الثاني) أنهما يقدمان القصة معا، وإن كان لنا أن نرى أن دورها دور «مساعد» فقط. ويبدو أن القرينة1 والزوج2 يتصوران أنهما يعملان في إطار نموذج لقصة «تفاعلية»، بمعنى المصطلح الإضافي للقصة التي تروى من خلال الحوار بين الرواة والجمهور. ويمكن اعتبار هذه الحالة حيث يعمل المشاركون المختلفون في إطار نماذج نوعية مختلفة أسلوبا آخر من أساليب التناص، إذ يشبه إلى حد ما الحالة في العينة الأولى، حيث يتوجه المشاركون المختلفون إلى أصوات مختلفة (ولك أن ترجع إلى التمييز بين طرائق التناص في بداية الفصل الرابع أعلاه).
ويختلف النوعان الفرعيان للسرد اللذان أقول بوجودهما، بطبيعة الحال، في نظم تناوب الحديث والتحكم في الموضوعات. فالسرد من جانب راوية واحد ينسب حقوق الحديث أثناء قص القصة إلى الراوية الأوحد، وهو ما يعني ضمنا أن المشاركين الآخرين لا حق لهم في أدوار حديث كاملة، وإن كان يتوقع منهم أن يستجيبوا بالحد الأدنى من ردود الأفعال، ومن ثم فليس لهم الحق في التحكم في الموضوعات. وأما القصة التي يشترك فيها أكثر من راوية فتقتضي اشتراك أكثر من متحدث، والمشاركة في حقوق تناوب الحديث وتقديم الموضوعات وتغييرها. ومحاولة الزوج الأول أن «يحمي» حقه في الكلام تبدو لنا ذات فظاظة بسبب عدم حساسيته لكون قرينته والزوج الثاني يعتبران أن القصة تروى بالمشاركة بين الزوجين.
إلى أي مدى يمكننا اعتبار مسألة الانتماء إلى أحد الجنسين ذات صلة بهذه الحالة؟ إن الزوج الثاني يشترك مع القرينة 1 في تصور أن السرد مشترك، وهذا في ذاته دليل ينفي اقتصار الرواة على الرجال دون النساء، حتى ولو كان ذلك صحيحا لأسباب أخرى. ومع ذلك فإن هذه العينة تقترب من تمثيل ما تدلني عليه خبرتي الخاصة من انتشار نسق معين لرواية القصص من جانب الزوجين، إذ يحكي الزوج القصة (ويسرق الأضواء ) في حين تلعب الزوجة دورا ثانويا، بتقديم تعليقات تؤيد رواية الزوج وتضيف إليها تفاصيل محدودة، من دون أن تحاول المشاركة في التحكم في الموضوعات، وفي إطار هذا النسق نرى أن القرينة1 قد تخطت الحدود بتقديم موضوعات وبالحوار مع الزوج الثاني. لاحظ تشابه هذا التحليل الثاني ذي التوجه إلى الزوج مع تحليل العينة الأولى من حيث سيطرة الطبيب.
أنتقل الآن من نماذج الخطاب إلى مناقشة منهجية لأنماط التحليل الناجمة عنها. (1) معالم التحكم التفاعلي
تكفل معالم التحكم التفاعلي سلاسة تنظيم التفاعل، أي توزيع أدوار الحديث، واختيار الموضوعات وتغييرها، وابتداء التفاعل وإنهائه وهلم جرا. ودائما ما يتعاون المشاركون في ممارسة التحكم في التفاعل إلى حد ما، وإن كانوا يختلفون في درجة التحكم الذي يمارسونه. وتعتبر أعراف التحكم في التفاعل الخاصة بنوع معين تجسيدا لمقولات محددة عن العلاقات الاجتماعية وعلاقات السلطة بين المشاركين. ومن ثم فإن البحث في التحكم في التفاعل وسيلة لإيضاح التمثيل العملي للعلاقات الاجتماعية ومعالجتها في الممارسة الاجتماعية. (2) تناوب أدوار الحديث
تختلف أنواع النصوص في نظم تناوب أدوار الحديث الخاصة بها. وقد أدى تحليل المحادثة بأسلوب التحليل «الإثنومنهجي» (انظر ساكس، شيجلوف وجيفرسون، 1974م، وشنكاين، 1978م؛ ومناقشتي لتحليل المحادثة في الفصل الأول عاليه) إلى وضع شروح بالغة النفوذ لتناوب أدوار الحديث في المحادثة باعتباره إنجازا تعاونيا تنظيميا من جانب المشاركين، بناء على مجموعة بسيطة من القواعد المرتبة: (1) المتحدث الحالي قد يختار المتحدث التالي، إما بمخاطبته أو بتسميته ... إلخ؛ (2) إذا لم يحدث هذا فقد يختار أي مشارك نفسه باعتباره المتحدث التالي؛ (3) إذا لم يحدث هذا فللمتحدث الحالي أن يواصل حديثه. وهذه الخيارات المرتبة متاحة لجميع المشاركين على قدم المساواة. وهي تنطبق في اللحظات التي يمكن اعتبار المتحدث الحالي قد انتهى فيها من دوره، كأن يصل، على سبيل المثال، إلى نهاية وحدة نحوية (جملة، عبارة، أو حتى كلمة) بتنغيم في الصوت يدل على الاختتام.
ولكن نظم التناوب، كما بينت العينة الأولى، ليست مبنية في جميع الحالات على المساواة في الحقوق والالتزامات بين جميع المشاركين ، فنظام تناوب أدوار الحديث في العينة الأولى تتميز به النظم التي يجدها المرء في ضروب منوعة من المؤسسات التي يتفاعل فيها المهنيون أو «العاملون داخلها» أو «حراسها» مع «الجمهور» أو «العملاء» أو «العاملين خارجها» أو طلاب العلم. وفي هذه الحالات يشيع بين المشاركين توزيع الحقوق والواجبات بين ذوي السلطة وبين غير ذوي السلطة: (1) قد يختار ذوو السلطة بعض غير ذوي السلطة، لا العكس؛ (2) قد يختار ذوو السلطة أنفسهم، ولكن غير ذوي السلطة لا يملكون ذلك، أو (3) قد تمتد نوبة حديث ذوي السلطة فتشمل أي عدد من المسائل التي يمكن استكمالها.
وقد انبرى تحليل المحادثة لشرح السيولة المرموقة في المحادثة العادية، حيث يستطيع الناس عموما أن يتحدثوا من دون تداخل كبير بين أحاديثهم ومن دون ترك ثغرات كبرى في تدفق الكلام. ومن المعالم الأخرى لعدم التناظر في نظم تناوب الحديث أن حالات التداخل ونشوء الثغرات قد تتوافر باعتبارها من الأدوات المتاحة لذوي السلطة، فمن حق هؤلاء أن يقاطعوا غير ذوي السلطة عندما «يخرج» هؤلاء عن الموضوع، وفقا لمعايير الصلة بين ما يقال وبين الموضوع، وهي المعايير التي يتحكم فيها ذوو السلطة، كما أن من حق هؤلاء أن يقاطعوا غير ذوي السلطة عندما «يخرج» هؤلاء عن الموضوع، وفقا لمعايير الصلة بين ما يقال وبين الموضوع، وهي المعايير التي يتحكم فيها ذوو السلطة، كما أن من حق هؤلاء لا من حق غير ذوي السلطة أن يحتفظوا بحق الكلام دون أن يتكلموا، وذلك، على سبيل المثال، أن يلتزموا الصمت باعتباره وسيلة لتأكيد تحكمهم أو أسلوبا لانتقاد الآخرين ضمنا. (3) بناء التبادل
يتجلى في كل حلقة تتضمن السؤال والرد والتقييم، وهي الحلقات التي حددناها في العينة الأولى نمط معين من أنماط التبادل، بمعنى وجود نسق متكرر لأدوار حديث المشاركين. وكنت قد أشرت في الفصل الأول عاليه إلى العمل الرائد الذي قام به سنكلير وكولتارد (1975م) في المبادلات في خطاب قاعة الدرس، إذ حددا بناء يقوم على «الابتداء والاستجابة ورد الفعل»، وهو شبيه ببناء التبادل في العينة الأولى. ولنا أن ندرج هنا أيضا بناء أقل تعقيدا وتحديدا يطلق عليه محللو المحادثة «ثنائية الجوار» (شيجلوف وساكس 1973م). وتعتبر ثنائية الجوار نمطا بنائيا عاما، لا ضربا خاصا من ضروب التبادل، إذ تعني وجود فئتين مرتبتين من فئات أفعال الكلام، بحيث يؤدي وجود الأولى إلى التنبؤ بوجود الثانية ، وإن كان الجمع بين الاثنتين يقوم على المغايرة، مثل السؤال والجواب، والتحية ورد التحية، والشكوى والاعتذار، والدعوة والقبول، والدعوة والرفض وهلم جرا. ولا تقوم الثنائية، كما أوضح المثالان الأخيران، على علاقة تبادل فردية في كل حالة؛ أي بين الطرفين الأول والثاني في كل «ثنائية جوار»، فالدعوة قد يعقبها قبول أو رفض، وإن كانت تنشأ حالات يكون فيها الرفض خيارا «غير مرغوب فيه» (شيجلوف، جيفرسون وساكس، 1977م، بوميرانتز، 1978م، ليفنسون، 1983م، 332-345). وتوجد ثنائية الجوار بصفة أساسية في الكثير من أنماط التبادل، ويجد المرء في بعض أنواع النصوص حالات تتابع من الأسئلة والأجوبة تكون أبنية رفيعة المستوى، ولنا أن نطلق عليها اسم «التعاملات» أو «الأحداث» (وفقا للمصطلح الذي وضعه سنكلير وكولتارد، 1975م). وهذا هو ما يحدث في قاعة الدرس؛ حيث تتكون أجزاء من الدرس من حالات تتابع للأسئلة والأجوبة حول موضوعات معينة، وعادة ما يتولى المعلم فيها فتح «المعاملة» وإقفالها؛ كما ينطبق ذلك أيضا، ولو بأسلوب مختلف على الاستجواب القانوني، حيث يستعين المحامي أو وكيل النيابة بأمثال هذه التتابعات في نقض شهادة أحد الشهود (أتكنسون ودرو 1979م).
وترتبط طبيعة نظام التبادل لا بتبادل الأدوار في الحديث فقط، بل أيضا بأنواع الأقوال التي يقولها الناس. فعلى سبيل المثال نجد أن المعلم عندما يبدأ التبادل قد يقدم معلومات إلى الطلاب أو يطرح عليهم أسئلة أو يحدد نهجا محددا للدرس، أو يتحكم في سلوك الطلاب. وأما الطلاب فيخضعون لقيود أكبر فيما يستطيعون أن يقولوه أو يفعلوه، فهم يقومون أساسا بإجابة الأسئلة، وأداء مهام معينة تطلب منهم، شريطة أن يلتزموا في هذا بحدود ما يدخل في الموضوع، ويعتبر عدد كبير من الأسئلة التي تطرح في قاعة الدرس أسئلة «مقفلة»، بمعنى أنها تتطلب الإجابة بنعم أو بلا، أو بأقل قدر من التفصيل. (4) التحكم في الموضوعات
يشير هارفي ساكس (1968م) إلى أن الحديث عن موضوع ما لا يعني وجود أبنية من الحديث حول «موضوع» معين. وعندما يقدم المرء موضوعا، فله أن يثق في أن الآخرين - إلا في ظل ظروف خاصة إلى حد ما - سوف يحاولون أن يتحدثوا في الموضوع الذي تحدث عنه، ولكنك لا تستطيع الثقة في أن الموضوع الذي قصدت إليه هو الموضوع الذي سوف يتحدثون عنه؛ إذ توجد دائما ضروب كثيرة منوعة من الموضوعات التي يمكن تفسيرها بأنها ذات صلة بأي موضوع يقدمه المرء وتعتبر تطويرا له. ويشير ساكس إلى أن المرء لا يستطيع التنبؤ أثناء المحادثة بالموضوع الذي سوف يختاره من يحادثه. والواقع أن موضوعات المحادثة، والطرائق التي يتبعها الناس في الربط بين الموضوعات عند الحديث عن قضية ما، يمكن أن تبصرنا بمشاغل الحياة العادية والمنطق السليم الذي يبنى عليه عالم الحياة. ومن المهم أيضا تأمل الآليات المستعملة في بناء موضوعات المحادثة (باتون وكيسي 1984م)، أي إن أحد المشاركين عادة ما يقدم موضوعا ما، فيقبله (أو يرفضه) مشارك آخر، ثم يطوره المشارك الأول، وهاكم هذا المثال (باتون وكيسي، 1984م، 167):
أ :
هل علمت؟
ب :
لم يصل إلا ليلة أمس.
أ :
آ... كنت تعلم.
أي إن (ب) يقدم الموضوع، و(أ) يقبله، ثم يواصل (ب) تطويره (فيما بعد). وقد بينت البحوث في التفاعل المنزلي بين الشركاء الذكور والإناث، على سبيل المثال، عدم التناظر في تناول المواضيع، فالمرأة تقدم موضوعات أكثر من الرجل، ولكن موضوعات الرجل أكثر قبولا عند المرأة من العكس (فيشمان، 1983م).
ولكن البحث الإثنومنهجي في الموضوعات يستند إلى المحادثة، وإلى افتراض المساواة في الحقوق والواجبات بين المشاركين. ووصف ساكس للحديث في موضوعات معينة، واستحالة التنبؤ بكيفية تطوير المشاركين الآخرين للموضوع الذي طرحه المرء، لا صلة له بحديث المرضي في مقابلة شخصية طبية عادية، أو حديث التلاميذ في قاعة الدرس. ففي أمثال هذه التفاعلات، كما سبق لي أن قلت في تحليلي للعينة الأولى، يتولى المشارك المهيمن وحده تقديم الموضوعات وتغييرها، وكثيرا ما يكون ذلك وفقا لنهج أو برنامج محدد سلفا، وهو ما قد ينص عليه نصا سافرا في الخطاب أو لا ينص عليه. (5) تحديد النهج ومراقبته
يعتبر تحديد النهج ومراقبته عنصرا مهما من عناصر التحكم في التفاعل، وعادة ما يحدد ذو السلطة النهج صراحة في بداية التفاعل. والمعلمون يفعلون هذا في بداية كل درس، أو في بداية التفاعلات داخل الدروس، وكثيرا ما تبدأ المقابلة الشخصية التأديبية بأن يشرح القائم عليها سبب عقد هذه المقابلة للشخص الذي سوف يتعرض ل «التأديب» (انظر توماس 1988م، حيث يوجد مثال على ذلك). وتحديد النهج يمثل جانبا من جوانب تحكم صاحب السلطة عموما في ابتداء التفاعل وإنهائه، وفي بنائه في صورة تعاملات أو أحداث.
ويخضع النهج الصريح والنهج المضمر أيضا للرقابة، بمعنى أن ذا السلطة يعمل على التزام المشاركين الآخرين بالنهج المخصص لكل منهم، بوسائل منوعة في خلال التفاعل. وسوف تجد في العينة الأولى صورة واحدة من صور الرقابة؛ فالطبيب يقاطع المريض أثناء حديثه عندما يتضح للطبيب، فيما يظهر، أن المريض قد قدم المعلومات اللازمة في تلك المرحلة من مراحل النهج المحدد، ونجد صورة أخرى في المقتطف التالي من أحد الدروس في قاعة الدرس (منقول من بارنز، 1976م)، حيث تحث المعلمة تلاميذها على الحديث عن مشكلات الزحام الشديد في المدن:
التلميذ :
دخان عوادم السيارات تؤدي إلى التلوث.
المعلمة :
التلوث. كلمة جيدة. قل يا موريس شيئا آخر عن المواصلات.
التلميذ :
الأرصفة تصبح (كلام غير واضح).
المعلمة :
لا، كنت أقصد الحديث عن شكل آخر من أشكال المواصلات. هل يمكن لأحدكم؟ فيليب.
التلميذ :
امم (كلام غير واضح).
المعلمة :
أتكلم عن المواصلات. أتكلم عن المواصلات. ديفيد.
التلميذ :
القطارات (كلام غير واضح).
المعلمة :
القطارات نعم.
ترفض المعلمة كلام التلميذ الثاني على الرغم من صلته الواضحة بالموضوع العام، وذلك استنادا فيما يظهر إلى أنه لا يتفق مع نظام تطوير الموضوع المحدد في النهج الذي تشير عليه المعلمة دون إفصاح ، أي إنها تطلب اسم شكل آخر من أشكال المواصلات. ويتحقق الرفض بأن تحدد المعلمة «موقعها» داخل النهج، ولكن لاحظ أنها تقاطع التلميذ، فيما يظهر، قبل أن ينتهي من كلامه. وهكذا فإن النهج، كما يتضح من نوبتي الحديث الأوليين، لا يقصد إلى تلقي معلومات محددة من التلاميذ وحسب، بل تلقي كلمات أساسية أيضا مثل «التلوث».
ومن الجوانب البارزة في التفاعل بين المعلمين والتلاميذ أن المعلمين يقومون في العادة بتقييم أقوال التلاميذ. فالمعلمة، في هذه الحالة، على سبيل المثال، تقيم استخدام موريس كلمة «تلوث» في أول نوبة حديث لها تقييما إيجابيا. ويتضمن بناء التبادل الثلاثي، أي الذي يتكون من «الابتداء والاستجابة ورد الفعل»، الذي يصف به سنكلير وكولتارد (1975م) خطاب قاعة الدرس، عنصر التقييم المذكور باعتباره جزءا من رد الفعل. ويعتبر مثل هذا التقييم المنهجي لأقوال الآخرين أسلوبا فعالا للرقابة على النهج الموضوع، كما إن استخدامه في قاعة الدرس لا يؤكد سلطة المعلم على التلاميذ وحسب، بل يبين أيضا مدى ما يذهب إليه نهج الممارسة المعتاد في قاعة الدرس من وضع التلاميذ في حالة اختبار أو امتحان، وفي هذا الشكل من أشكال خطاب قاعة الدرس يتعرض كل شيء يقولونه تقريبا للحصول على «درجة» شفوية.
وتوجد طرائق منوعة أخرى لقيام أحد المشاركين في تفاعل ما بفرض الرقابة على أقوال الآخرين، ومن بينها ما يصفه توماس (1988م) بأنه إرغام المتحدث على التعبير الصريح. ومن لا يتمتع بالسلطة قد يلجأ إلى قول ما يحتمل أكثر من وجه من وجوه المعنى، أو إلى الصمت، باعتبار ذلك من آليات الدفاع الكلاسيكية في اللقاءات غير المتكافئة، ويمكن الرد عليه بأن يقدم صاحب السلطة صياغات ترمي إلى إجبار من لا يتمتع بالسلطة على التصريح بالمعنى المقصود، أو إصرار ذي السلطة على أن يعترف من لا يملك السلطة بأنه فهم ما قيل (كأن يقول له: «ألا تفهم هذا؟») (6) الصياغة
تعتبر الصياغة جانبا من جوانب التحكم في التفاعل، وهو الجانب الذي اهتم به محللو المحادثة أكبر اهتمام (انظر هريتدج وواطسون 1979م ). ويصف ساكس الصياغة على النحو التالي: «قد ينظر أحد المشاركين إلى بعض أجزاء المحادثة باعتبارها فرصة لوصف تلك المناقشة، أو شرحها، أو تحديد طبيعتها، أو تفسيرها أو ترجمتها أو تلخيصها، أو تقديم فحواها، أو للإشارة إلى مراعاتها للقواعد أو القول بكسرها للقواعد» (1972م، 338). وباستثناء العبارتين الأخيرتين المرتبطتين بصياغة آليات رقابة مثل تلك التي وصفت في القسم السابق، تشبه الصياغة وفقا لما يقوله ساكس ، شكلا خاصا من أشكال تمثيل الخطاب، حيث يعتبر الخطاب جزءا من التفاعل الجاري لا سابقا عليه. وعلى أية حال فليست الحدود بين التفاعلات الجارية والتفاعلات السابقة واضحة بالصورة التي نتخيلها، فهل تعتبر أن المحادثة التي كنا نشترك فيها قبل مقاطعة مكالمة تليفونية عارضة، أو قبل تناول الغداء، أو في الأسبوع الماضي، تمثل جزءا من مناقشتنا الجارية الآن أم مناقشة مختلفة؟ لا توجد إجابة بسيطة على هذا السؤال.
وكثيرا ما تكون الصياغة شكلا من أشكال الرقابة، على نحو ما توحي به عبارتا ساكس الأخيرتان. فمن الطرائق الفعالة لإرغام من يشاركك الحوار على التخلي عن مراوغته لك أن تقدم إليه صياغتك لما قاله. وفيما يلي مثال مقتطف من مقابلة شخصية تأديبية بين شرطي وأحد كبار ضباط الشرطة (توماس، 1988م):
الضابط :
تقول إنك تحقق في عملك الم... المعايير السليمة. صحيح؟
الشرطي :
الواقع أني لم أتلق تعليقات غير ذلك.
الضابط :
هل تقول إن أحدا لم ينبهك من قبل إلى وجوه تقصيرك؟
إن الضابط يقدم في النوبتين صياغة لأقوال الشرطي، والنوبتان تعتبران (كما يتضح في الحالة الثانية من المقتطف عاليه) إعادة صياغة جوهرية لما قاله الشرطي في الواقع، وتهدفان بوضوح إلى جعل الشرطي يزيد من صراحة ما «يقوله».
وحتى حين تكون الصياغة غير متعلقة بالرقابة بصفة خاصة، فإنها تقوم في حالات كثيرة بوظيفة تحكم كبرى في التفاعل، ويتبدى ذلك في محاولات بعض المشاركين قبول غيرهم لمفهومهم عما قيل، أو لما حدث أثناء التفاعل، وهو ما من شأنه تقييد خيارات الآخرين لصالح من يقدمون تلك الصياغات، ولا يقتصر قيام الصياغة بهذه الوظيفة على المقابلات الشخصية الخاصة وجلسات الاستجواب، بل يشمل المقابلات الإذاعية أيضا. (7) الأبنية النوعية
إن صادفنا مقولة معينة عن العالم مثل مقولة «الأرض مسطحة»، فلنا إما أن نقبلها بعبارة قاطعة («إن الأرض مسطحة») أو ننفيها («ليست الأرض مسطحة») ولكن لدينا طرائق أقل دلالة على القطع في الأمر، وأقل حسما بدرجات متفاوتة للتعبير عن الالتزام بصدق هذه المقولة أو كذبها، كأن تقول «ربما تكون الأرض مسطحة»، أو «من المحتمل» أو «من الممكن» أو «من الجائز» على سبيل المثال. هذا هو مجال «النوعية»، وهو البعد النحوي للعبارة الذي يقابل وظيفة الصلة «ما بين الأشخاص» التي تقوم بها اللغة، أي إن على منتج النص أن يحدد عند نطقه بأية مقولة درجة «ارتباطه» بالمقولة، والارتباط هو المصطلح الذي وضعه هودج وكريس (1988م، 123)، وهكذا فإن لكل مقولة منطوقة خصيصة «نوعية» أو قل: إن قائلها يمنحها «نوعية» محددة.
وتقول تقاليدنا: إن النوعية في النحو ترتبط باستعمال «الأفعال النوعية المساعدة» (في اللغة الإنجليزية وأقرب ما يقابلها بالعربية هو الفعل «الناقص» يكون) («يجب»، «يجوز»، «يستطيع»، «ينبغي» وهلم جرا)، وهي وسائل مهمة لتحقيق النوعية، ولكن المدخل المنهجي للنحو الذي يستند إليه هودج وكريس (1988م) يؤكد أن استخدام الأفعال النوعية المساعدة يمثل معلما واحدا وحسب من المعالم الكثيرة للنوعية (انظر هاليداي، 1985م، 85-89). فالزمن معلم آخر، فالمثال الوارد في الفقرة الأخيرة يوضح دلالة الزمن الحاضر «البسيط» (الذي يعبر عنه بالإنجليزية الفعل «يكون» الذي لا يظهر في البناء العربي من المبتدأ والخبر)، إذ يدل على النوعية القاطعة ولدينا أيضا مجموعة من الأبنية النوعية التي يعبر عنها الحال (في الإنجليزية وأشباه الجمل بالعربية مثل «من المحتمل» و«من الممكن» و«من الواضح» و«من المقطوع به») أو الصفة المعادلة لها (بالإنجليزية وقد تقابلها أفعال مضارعة بالعربية مثل «يحتمل» و«يرجح» و«يمكن» «أن تكون الأرض مسطحة») وإلى جانب هذه البدائل، توجد طرائق منوعة لا تتميز بالتركيز للتعبير عن درجات ارتباط متفاوتة مثل أساليب المراوغة بعبارات مثل «نوع من»، و«إلى حد ما»، و«أو شيء من هذا القبيل»، ومثل أنساق التنغيم في النطق، ونبرات التردد، وهلم جرا. وقد مر بنا نموذج للمراوغة في العينة الأولى عندما شرحت المريضة «حموضة المعدة» بأنها «حرقان شيء مثل الحرقان أو شيء من هذا القبيل».
وقد تكون الصيغة النوعية «ذاتية»، بمعنى التصريح بالطابع الذاتي لدرجة الارتباط المختارة مع إحدى المقولات: «أظن/أتصور/أشك أن الأرض مسطحة» (ونحن نتذكر أيضا قول الطبيب «أظن أنه من الحكمة» في العينة الثانية). وقد تكون الصيغة النوعية «موضوعية»، بمعنى أن يكون هذا الطابع الذاتي مضمرا وحسب، «قد تكون الأرض/من المحتمل أن تكون مسطحة». ومن الواضح في حالة النوعية الذاتية أن الصيغة تعبر عن درجة ارتباط المتكلم بالمقولة، وأما في حالة النوعية الموضوعية فربما لا يتضح صاحب المنظور الذي تعبر عنه هذه الصيغة، أي إذا كان المتكلم يعبر عن منظوره باعتباره المنظور العام، أو إن كان ينقل منظور فرد آخر أو مجموعة أخرى، واستخدام صيغة النوعية الموضوعية كثيرا ما يوحي بشكل من أشكال السلطة.
من الشائع تحقيق الصيغة النوعية بعدد من المعالم في عبارة منطوقة أو جملة واحدة. انظر مثلا إلى القول التالي: «أظن أنها كانت مخمورة بعض الشيء، ألم تكن كذلك؟» تجد أن مستوى الارتباط المنخفض يتمثل في معلم النوعية الذاتية («أظن») وفي المراوغة («بعض الشيء») وبإضافة السؤال الختامي إلى القول «ألم تكن كذلك؟»
ولكن قضية النوعية لا تقتصر على التزام المتكلم أو الكاتب بالمقولات، إذ إن منتجي النص يفصحون عن التزامهم بالمقولات في أثناء تفاعلهم مع غيرهم، وكثيرا ما يصعب الفصل بين ما يعبرون عنه من ارتباط بالمقولات وبين إحساسهم بالارتباط بمن يتفاعلون معهم أو التضامن معهم، فإن العبارتين «أليست جميلة؟!» أو «إنها جميلة، أليست كذلك؟!» أسلوبان للتعبير عن مستوى الارتباط المرتفع بمقولة «إنها جميلة»، ولكنهما تعبران أيضا عن التضامن مع من يتكلم المرء معه. والأسئلة المنتمية إلى هذا النوع (السؤال المنفي، والمقولة المثبتة المذيلة بسؤال منفي، وكل منهما يتوقع إجابة مثبتة) تفترض سلفا أن المتكلم ومن يحادثه يشتركان في الارتباط الشديد بالمقولة (وإذا افترضنا أن إجابات الأخير معروفة مقدما) فإن أمثال هذه الأسئلة تطرح لتبيان هذا الارتباط والتضامن لا من أجل الحصول على معلومات. وهكذا فإن التعبير عن مستوى الارتباط العالي قد لا تكون له علاقة بالتزام المرء بإحدى المقولات، بل قد يقصد به التعبير عن التضامن (هودج وكريس، 1988م، 123). وعلى العكس من ذلك، نرى أن المثال المقتطف من العينة الأولى الذي أشرت إليه لتوي («حرقان شيء مثل الحرقان أو شيء من هذا القبيل») يبين أن انخفاض مستوى الارتباط بالمقولة قد يعبر عن نقص السلطة، لا عن نقص الاقتناع أو المعرفة، وأن ما يزعم بأنه معرفة (ومن ثم أنه تعبير عن ارتفاع مستوى الارتباط بالمقولة) يعتمد على علاقات السلطة. والنوعية تمثل إذن نقطة الالتقاء في الخطاب بين الدلالة على الواقع وبين التطبيق للعلاقات الاجتماعية، أو إذا عبرنا عن ذلك بمصطلحات علم اللغة المنهجي قلنا: إنها نقطة التقاء بين الوظائف الفكرية للغة ووظائف اللغة فيما بين الأشخاص.
وتعتبر النوعية من الأبعاد الرئيسية للخطاب، وهي تتمتع بموقع مركزي وانتشار كبير فيه بصورة تفوق ما تنسبه التقاليد لها. ومما يدل على أهميتها الاجتماعية مدى ما تتعرض له النوعية في المقولات من منازعات ومدى ما تتيحه من صراعات وتحولات. فالتحولات في النوعية، على سبيل المثال، واسعة الانتشار في أنباء أجهزة الإعلام. ويقدم هودج وكريس (1988م، 148-149) مثالا من تصريح أدلى به مايكل فوت عندما كان رئيسا لحزب العمال البريطاني، وهو تصريح يتميز بصيغة نوعية بارزة تفيد انخفاض مستوى الارتباط (إذ يقول «أظن، بصفة عامة، أن أحد العوامل التي أثرت في الانتخابات كان يتعلق ببعض المسائل التي حدثت في المجلس المحلي لمدينة لندن الكبرى») وقد تحول هذا التصريح إلى عنوان صحفي يتسم بالحسم والقطع وهو «فوت يهاجم «كين» الأحمر لدوره في الهزيمة الساحقة في الانتخابات» (وأما «كين الأحمر» فالمقصود به كين ليفنجستون، رئيس إدارة حزب العمال في المجلس المحلي لمدينة لندن في أوائل الثمانينيات، وكان شخصية خلافية) (والأحمر تعني الشيوعي).
وإذا تجاوزنا الأمثلة المعينة، وجدنا خصائص عامة ترتبط بالنوعية في ممارسات أجهزة الإعلام، إذ تزعم هذه الأجهزة عموما أنها تتعامل مع الوقائع والحقائق وكل ما يتصل بالمعرفة، وهي تحول بانتظام أمورا لا تزيد عن كونها، في حالات كثيرة، مجرد تفسيرات لأحداث معقدة تثير البلبلة، إلى «وقائع» أو «حقائق». ويعني هذا، من زاوية الصيغ النوعية، إيثار الصيغ القاطعة، والمقولات المثبتة والمنفية، على نحو ما يوضحه المثال الأخير، ومن ثم فهي لا تتضمن إلا القليل نسبيا من عناصر الصيغ النوعية المألوفة (مثل الأفعال المساعدة النوعية، والأحوال والصفات وأدوات المراوغة وهلم جرا). ويعتبر هذا أيضا إيثارا للصيغ النوعية الموضوعية، وهي التي تسمح بتعميم المنظورات الجزئية.
فلنعرض لمثال محدد. كان مؤتمر القمة الذي عقده حلف شمال الأطلسي (الناتو) يوم 30 مايو 1989م قد ناقش قضية خلافية، وهي الموقف التي ينبغي للحلف أن يتخذه إزاء مفاوضات تقليل عدد مواقع الصواريخ النووية قصيرة المدى في أوروبا. وقد قيل: إن المؤتمر نجح في حل الخلافات مثلما قيل إنه أخفاها، كما فسره البعض بأنه كان يمثل انتصارا لبريطانيا أي للموقف المتشدد الذي اتخذته حكومة السيدة ثاتشر. وفيما يلي بعض العناوين الصحفية: اختتام مؤتمر قمة الناتو بحل وسط عسير (صحيفة
الجارديان )؛ الانتصار النووي لثاتشر في معركة بروكسيل (صحيفة
الديلي ميل )؛ بوش يرحب بوحدة حلف الناتو بعد تسوية الخلاف على الصواريخ (صحيفة
الديلي تليجراف ). إن كل عنوان يقدم «قراءة» مختلفة لمؤتمر القمة، ولكن كلا منها يستعمل صيغة نوعية قاطعة. لاحظ أن صحيفة
الديلي ميل «تفترض مسبقا» في الواقع أن ثاتشر قد حققت انتصارا نوويا في معركة بروكسيل، بدلا من القول بهذا، ولنا أن نعتبر أن الافتراض المسبق يتقدم بالنوعية القاطعة خطوة ما دام يسلم بأن الأقوال حقائق واقعة. وقد يعترض معترض على هذه الأمثلة قائلا: إن النوعية القاطعة قد اقتضتها طبيعة الاختصار والتلخيص في العناوين، وليست من نتائج خطاب أجهزة الإعلام في ذاته، ولكن أليست العناوين مجرد جانب أو مثال شديد الوضوح للاتجاه العام للخطاب الإعلامي؟ فالصحف أحيانا ما تقدم صورا متضاربة للحقيقة (وإن كانت كثيرا ما توفق بينها ) وتقوم كل صورة من هذه الصور على الزعم المضمر الفاسد الذي يقول إنه يمكن تمثيل الأحداث بشفافية وأسلوب قطعي، وإن المنظور يمكن تعميمه. هذه هي الخرافة التي يقوم عليها عمل أجهزة الإعلام: أي تقديم صور وفئات للواقع، وتحديد مواقع الذات الاجتماعية وتشكيلها، والإسهام في الغالب الأعم في السيطرة الاجتماعية وإعادة الإنتاج الاجتماعي.
وإن دل مثال الخطاب الإعلامي المذكور على شيء فإنما يدل على أن النوعية ليست مجرد مجموعة من الخيارات المتاحة للمتكلم أو للكاتب بهدف تسجيل درجات الارتباط، إذ إن هذا الاقتصار على هذا المنظور القائم على الاختيار وحده يعني تجاهل المغايرة بين ممارسات الصيغ النوعية التي نجدها بين أنماط الخطاب المختلفة، وتجاهل مدى ما يتعرض له من يستخدمون أنماطا خطابية معينة من فرض ممارسات صيغ نوعية محددة عليهم. والكتابة الأكاديمية مثال آخر: إذ إننا نجد في الكتابة الأكاديمية تقليدا مألوفا ولا يزال ذا نفوذ كبير (على الرغم من انتقاده على نطاق واسع) يقضي بتجنب الصيغ النوعية القاطعة، باعتبار ذلك من المبادئ الأساسية. وقد يقال: إن ذلك له أسباب بلاغية، إذ إن من ورائه دافعا يتمثل في رغبة الباحث في توخي الحذر، وهو صفة حميدة، واجتناب الذاتية، وتأكيد الجو المرتبط بالبحث الأكاديمي، لا الرغبة في التعبير عن انخفاض مستوى ارتباطه بمقولاته. (للاطلاع على بلاغة الكتابة الأكاديمية، والكتابة العلمية خصوصا انظر كتاب
الاقتصاد والمجتمع
1989م.) (8) التأدب
كان التأدب في اللغة من المشاغل الرئيسية لمبحث التداولية الأنجلو أمريكية في السبعينيات والثمانينيات (براون ولفنسون، 1978م؛ ليتش، 1983م، ليتش وتوماس، 1989م). وأكثر الدراسات نفوذا دراسة براون ولفنسون، فهما يفترضان وجود مجموعة عالمية لما يحتاجه الإنسان من (عوامل تشكيل) «ماء الوجه»، فالناس تريد «ماء الوجه الإيجابي» بمعنى أنهم يريدون أن يحبهم الآخرون ويفهموهم، ويعجبوا بهم ... إلخ، في مقابل «ماء الوجه السلبي»، أي إنهم لا يريدون أن يعتدي الآخرون عليهم أو أن يعيقوهم. وفي صالح الجميع، بصفة عامة، أن يتوافر الحفاظ على ماء الوجه. والباحثان ينظران إلى التأدب من حيث كونه مجموعات من الاستراتيجيات التي يتوسل بها المشاركون في الخطاب ابتغاء تخفيف أفعال الكلام التي يمكن أن تشكل تهديدا لماء وجههم أو لماء وجه من يحادثونهم، وهذا التحليل يمثل سمة أساسية من سمات التداولية التي ترى أن اللغة تشكلها مقاصد الأفراد ونواياهم.
ولكن هذا التحليل يفتقر إلى إدراك المغايرة في ممارسات التأدب ما بين الأنماط المختلفة للخطاب داخل ثقافة من الثقافات، وإدراك الروابط بين ممارسات التأدب المتغيرة، والعلاقات الاجتماعية المتغيرة، أو إدراك ما يتعرض إليه منتجو النصوص من قيود ممارسات التأدب. ويقدم بورديو (1977م، 95، 218) نظرة إلى التأدب تختلف كثيرا عن نظرة براون ولفنسون، إذ يقول: «إن تنازلات التأدب تنازلات سياسية في جميع الأحوال»، ويشرح ذلك قائلا: «إن امتلاك ناصية ما يسمى بقواعد التأدب عمليا، وخصوصا فن تطويع كل صيغة من الصياغات المتاحة ... حتى تتفق مع الفئات المختلفة لمن يمكن للمرء أن يخاطبهم، تفترض سلفا امتلاك ناصية شيء آخر امتلاكا مضمرا، ومن ثم الإقرار بوجوده، ونعني به مجموعة من «المعارضات» التي تشكل البديهيات المضمرة في نظام سياسي محدد بصورة قاطعة». ويعني هذا، بتعبير آخر، أن الأعراف المحددة تجسد علاقات اجتماعية وعلاقات سلطة محددة، وأن استخدام هذه الأعراف يعترف بها بصورة مضمرة (انظر كريس وهودج، 1979م) ولا بد أن تسهم، بقدر الاعتماد عليها، في إعادة إنتاج هذه العلاقات. ومما يترتب على هذا أن البحث في أعراف التأدب في نوع ما من أنواع النصوص أو نمط من أنماط الخطاب يعتبر من وسائل تفهم العلاقات الاجتماعية القائمة داخل الممارسات والمجالات المؤسسية المرتبطة بها. وليس معنى هذا أنني أستعيض عن تحليل براون ولفنسون القائم على الطوعية (1978م) لاستراتيجيات التأدب بتحليل بنيوي لأعراف التأدب، إذ إن مدخلي مدخل جدلي، يعترف بالقيود التي تفرضها الأعراف، ولكنه يعترف أيضا بإمكان إعادة صوغها إبداعيا في ظروف معينة ومن ثم تحويلها.
وعلى أية حال فإن عمل براون ولفنسون يتضمن وصفا ممتازا لمظاهر التأدب التي يمكن إدراجها في إطار نظري مختلف. والشكل
5-1
يلخص الملامح الأساسية للإطار الذي وضعناه، وهو الذي يميزان فيه بين خمس استراتيجيات عامة للقيام ب «أفعال تهدد ماء الوجه» (براون ولفنسون، 1987م، 60، الأفعال التي تهدد ماء الوجه):
شكل 5-1: استراتيجيات اتخاذ أفعال تهدد ماء الوجه.
فلنضرب مثلا من طلب المساعدة في تغيير إطار عجلة سيارة مثقوب، إذ يمكن أن يمثل الطلب إساءة إلى ماء وجه المخاطب، سلبيا، بمعنى أنه يمثل ضغطا عليه للتصرف بطريقة معينة، وإساءة لماء وجه المتكلم أيضا. وقد يكون الطلب «مجردا» (الاستراتيجية 1) أي من دون محاولة «التخفيف» من وقعه أي من دون اتخاذ «إجراءات تصحيحية» («ساعدني في تركيب هذا الإطار ») وقد يصاغ الطلب ب «تأدب إيجابي» (الاستراتيجية 2)، وهو في هذه الحالة «مخفف» أو «مصحح»، وقد يكون ذلك بإبداء الود أو التعاطف أو التضامن مع المخاطب («هلا تساعدني في تركيب هذا الإطار يا صاحبي؟») وقد يصاغ ذلك ب «التأدب السلبي» (الاستراتيجية 3) وهو في هذه الحالة مخفف من خلال إبداء الاحترام لخصوصية المخاطب، أو رغبته في عدم إزعاجه أو تكليفه بشيء ... إلخ («آسف لإزعاجك ولكن ترى تستطيع مساعدتي في تركيب هذا الإطار؟») وقد يكون الطلب «غير مسجل» (الاستراتيجية 4) ومعنى هذا أن يكون مضمرا ويقتضي استنباطه، بحيث يقبل القول تفسيرات بديلة «ترى كيف أستطيع الآن تركيب هذا الإطار؟» أو أن يتضمن تلميحا «هل لاحظت أن إحدى عجلات سيارتي مثقوبة؟» لاحظ أن مثال التأدب السلبي يستخدم صيغة فعلية مركبة («هل تستطيع مساعدتي؟») بدلا من فعل الأمر «ساعدني.» وهذه طريقة غير مباشرة لطلب شيء، فالسؤال في ظاهره يتعلق بقدرة المخاطب الافتراضية على المساعدة، وكما تشترك هذه الطريقة في خصيصة الصوغ غير المباشر مع استراتيجية الطلب «غير المسجل». ويعتبر قول الأشياء بطريقة غير مباشرة - استعمال أفعال الكلام غير المباشرة - جزءا مهما من سمة التأدب، ولكن إذا كانت الطبيعة غير المباشرة للأمثلة «غير المسجلة» قد تتطلب في الظاهر جهدا من المخاطب في تفسير المعنى، فإن صيغة «هل تستطيع المساعدة؟» - وهي صيغة غير مباشرة - قد أصبحت تقليدية ولا تمثل مشكلة في التفسير.
ومن أبعاد التغيير الذي ذكرت آنفا أنه بدأ يظهر في طبيعة المقابلات الشخصية الطبية، بعد يتعلق فيما يبدو بالتغير في أعراف التأدب، وقد رأينا بعض ما يشير إليه في العينتين الأولى والثانية. فالصيغة النوعية الدالة على انخفاض مستوى الارتباط والتي تتوسل بالمراوغة، في شرح المريضة لعبارة «حموضة المعدة» بأنها (حرقان شيء يشبه الحرقان أو شيء من هذا القبيل) يمكن تفسيره، كما قلت من قبل، بأنه عدم رغبة المريضة في أن تبدو واثقة كل الثقة، في وجه سلطة الطبيب وخبرته. وهذه الصيغة النوعية تعتبر أيضا من قبيل التأدب السلبي، ما دامت تتجنب التعدي على مجال سلطة الطبيب . ولنا أن ننظر إلى انتقال المريضة عدة مرات إلى صوت عالم الحياة في السطور 21-22 و29-30 و42 باعتبارها من ضروب التأدب. ويمكن اعتبارها تلميحات غير مسجلة للطبيب بشأن مجموعة من المشاكل الإضافية التي تكمن خلف المشكلة التي يركز عليها. ولما كانت غير مسجلة فإنها تحفظ ماء الوجه الإيجابي للمريضة، التي تبدو لنا عزوفا عن الحديث عن مشكلات كثيرا ما لا نأبه بها باعتبارها مشكلات «شخصية». وربما تعتبر أيضا موجهة إلى ماء الوجه السلبي للطبيب، ففي المقابلات الطبية التقليدية كثيرا ما ينظر إلى المشكلات «غير الطبية» باعتبارها مسائل خارجة عن نطاق عمل الطبيب، ومن ثم فإن الخوض فيها قد يفسر بأنه تكليف الطبيب بما يتجاوز واجباته المعتادة.
والطبيب في العينة الأولى لا يلتزم بالتأدب سلبيا أو إيجابيا. ومن الممكن أن يكون طرح الأسئلة عملا يهدد ماء وجه المخاطب، وبعض أسئلة الطبيب يمكن أن تهدد ماء الوجه الإيجابي للمريضة، فربما كانت تسبب في الحرج أو تتضمن إهانة من نوع ما (وأوضحها سؤاله: «كم مضى عليك وأنت تسرفين في الشراب هكذا؟») ولكن الطبيب لا يخفف من حدة هذه الأسئلة، وأسئلته مجردة بانتظام ومسجلة.
وأما في العينة الثانية فنحن نجد عكس أعراف التأدب المذكورة؛ إذ إن الطبيب هو الذي يبدي تأدبا إيجابيا وسلبيا للمريض، فهو يبدي التأدب الإيجابي في نفسه بأن يدخل في صوت عالم الحياة من زاوية الإنتاج (اقتراح إجراء مشاورات في المستقبل من أجل معرفة «كيف تسير الأمور») ومن زاوية التلقي (في رد فعله على كلام المريضة القائم على عالم الحياة). وهو يبدي التأدب السلبي في أشكال أسئلته المقتضبة والمخففة، وفي تقييمه للحالة واقتراح زيارات أخرى. والمريضة لا تبدي تأدبا سلبيا، بل إنها تقاطع - بصورة مباشرة - اتجاه الطبيب إلى اختتام الزيارة باستئناف روايتها (والعينة لا تتضمن هذه المقاطعة). ومع ذلك فهي تبدي تأدبا إيجابيا بالحديث إلى الطبيب بصوت عالم الحياة، وهو ما يوحي ضمنا بوجود أرضية مشتركة بينها وبين الطبيب.
والملخص إذن أن العينة الأولى تبدي تأدبا سلبيا للمريضة، ولا تبدي تأدبا سلبيا أو إيجابيا للطبيب، ولكن العينة الثانية تبدي التأدب الإيجابي والسلبي للطبيب، والتأدب الإيجابي للمريضة. وتتفق هذه الفوارق مع العلاقات الاجتماعية المتضادة للممارسة الطبية المعتمدة والممارسة الطبية «البديلة». ففي الممارسة الطبية المعتمدة نجد مغايرة واضحة في المعرفة والسلطة بين الطبيب والمريضة، وهو ما يوحي باحترام المريضة للطبيب وتأدبها السلبي. كما أن المريضة لا تعامل باعتبارها شخصا بل باعتبارها صاحبة مشكلة؛ وهو ما يبرر غياب التأدب السلبي من جانب الطبيب، وهو الذي كثيرا ما يتعرض للانتقاد على وجه الدقة باعتباره دليلا على عدم حساسية الطبيب للمريضة باعتبارها شخصا. وأما في الممارسة الطبية البديلة، فإن الطبيب يتظاهر بالتناظر، وغياب الطابع الرسمي، والتقارب الاجتماعي، وهو ما يحول دون إظهار التأدب السلبي من جانب المريضة، ويشجع التأدب الإيجابي المتبادل. ومعنى معاملة المريضة باعتبارها شخصا أن التأدب السلبي سوف يخفف من وقع الأفعال التي قد تشكل تهديدا لماء الوجه، وهي التي لا تنفصل عن معاملة الطبيب لأي مريض. (9) الجو الخلقي
أشرت أثناء مناقشتي للعينتين الطبيتين إلى الفوارق في الجو الخلقي، أي في أنواع الهوية الاجتماعية التي تبدو ضمنا عند الأطباء من خلال سلوكهم اللغوي وغير اللغوي. ومسألة الجو الخلقي مسألة تناصية، بمعنى أننا نحاول تحديد النماذج المستقاة من الأنواع النصية الأخرى وأنماط الخطاب الأخرى، والتي يستعان بها في تشكيل الذاتية (الهوية الاجتماعية، أو «النفس») للذين يشاركون في التفاعلات. فأما في حالة العينة الأولى فقد كانت النماذج مستقاة من الخطاب العلمي، وأما في حالة العينة الثانية فهي مستقاة من ضروب الخطاب في عالم الحياة.
ومع ذلك فمن الممكن أن ننظر إلى الجو الخلقي باعتباره يمثل جانبا من عملية «نمذجة» واسعة، حيث يتشكل مكان التفاعل وزمانه، وتتشكل مجموعة المشاركين فيه أيضا والجو الخلقي المشارك فيها، من خلال إسقاط بعض الروابط في اتجاهات تناصية معينة دون غيرها. ويضرب منجينو (1987م، 31-35) مثالا من خطاب الثورة الفرنسية (الخطب السياسية على سبيل المثال)؛ إذ كان ذلك الخطاب يقوم على نموذج الخطاب الجمهوري في روما القديمة، من حيث المكان والوقت و«المشهد» (بمعنى الظروف الشاملة للخطاب ) إلى جانب المشاركين والجو الخلقي للمشاركين.
وتعتبر العينة الثانية حالة تمثل درجة أقل من الامتداد التاريخي. فالطب «البديل» من هذا النوع يشكل خطاب الممارسة الطبية القائمة على نموذج من عالم الحياة وهو «الحديث عن المتاعب» (جيفرسون و«لي»، 1981م؛ تن هاف، 1989م) بين شخص لديه مشكلة ومستمع متعاطف. ومن المنطقي أن نفترض أن هذا النموذج قد وجد طريقه إلى الخطاب الطبي من خلال خطاب جلسات المشورة. وهو الذي يقوم على هذا النموذج. ويرتبط المشاركون بعلاقة تضامن وخبرة مشتركة، إن لم تكن صداقة، ويوحي بناء المشهد بأنه يقوم على أساس تخليص المرء من متاعبه. وإذا كان المكان طبيا بوضوح، ما دام غرفة الكشف في عيادة الطبيب، فإنه من الشائع للأطباء من ممارسي الطب البديل (وكذلك للمعلمين والمهنيين الآخرين الذين يتخذون مواقع مماثلة) أن يولوا اهتماما خاصا بمسائل أثاث الغرفة أو ديكورها، في محاولة لتغيير الطابع المؤسسي لها وجعل زوارهم يشعرون بالراحة أو ب «الألفة». والجو الخلقي الذي يوحي به حديث الطبيب، أو بأسلوب سلوك الطبيب في أمثال هذه المقابلات الشخصية بصفة أعم، جو الصديق المتعاطف الحريص على مصلحة الزائر، ما دام «يجيد الإصغاء» إليه.
ويتجلى الجو الخلقي إذن من خلال التعبير بالجسد كله لا بالصوت وحسب، ويقول بورديو (1984م، الفصل الثالث): إن لنا أن ننظر إلى اللغة باعتبارها «بعدا من الأبعاد الجسدية التي تعبر عن العلاقة الكاملة للمرء بالعالم الاجتماعي». فنجد على سبيل المثال أن «أسلوب التعبير لدى الطبقات الشعبية » لا ينفصل «عن العلاقة الكلية بجسد المرء، وهي التي يسيطر عليها رفضه لمظاهر التصنع والتأنق الشديد، وإعلاؤه للذكورة والفحولة». ومعنى هذا أن الجو الخلقي لا يتجلى فقط في الطريقة التي يتكلم بها الأطباء، بل في الآثار المتراكمة لأوضاعهم الجسدية كلها، أي كيف يجلسون، وتعبيرات وجوههم، وحركاتهم، وطرائق رد الفعل الجسدي لما يقال، وما يسمى سلوك الاقتراب (أي إن كانوا يقتربون من مرضاهم أو حتى يلمسونهم، أو يحافظون على الابتعاد عنهم).
الخاتمة
يمثل مفهوم الجو الخلقي المرحلة التي نستطيع فيها تجميع المعالم المختلفة، لا للخطاب وحده بل للسلوك بصفة أعم، وهي التي تسهم في بناء صورة معينة للنفس. وداخل هذا الإطار الشامل ينهض كل جانب من جوانب تحليل النص التي ركزت عليها في هذا الفصل بدور معين، والجوانب المقصودة هي التحكم في التفاعل، والصيغة النوعية، والتأدب. والواقع أن معظم - إن لم نقل جميع - أبعاد الخطاب والنص التي تقبل الفصل بينها عند التحليل تسهم إسهاما معينا، مباشرا أو غير مباشر، في بناء النفس.
ومع ذلك فإن هذه القضية تلقى التجاهل، كما ذكرت في بداية هذا الفصل، في دراسات اللغة وتحليل الخطاب، إذ إن معظم الاهتمام بالنفس عادة في الخطاب يتركز حول مفهوم «التعبير»، فمن الشائع تمييز الوظيفة «التعبيرية» أو «العاطفية» للغة، وهي التي تتعلق بطرائق الصياغة التي تبين مشاعر الناس إزاء أشياء معينة، أو مواقفهم تجاهها، ويوجد مفهوم واسع الانتشار عما يسمى «المعنى العاطفي»، وهو الذي يطلق على الجوانب «التعبيرية» لمعنى الألفاظ. وعلى سبيل المثال نجد أن وصف ياكوبسون لوظائف اللغة يميز وظيفة «عاطفية» أو «تعبيرية» قائلا: إنها «ترمي إلى التعبير المباشر عن موقف المتحدث تجاه ما يتحدث عنه» (1961م، 354). وأما ما يتجاهله هذا فهو المنظور النقدي البالغ الأهمية للبناء، أي دور الخطاب في تكوين النفوس أو بنائها. وعندما يؤكد المرء البناء تبدأ وظيفة اللغة في بناء الهوية تكتسب أهمية عظمى، لأن طرائق المجتمعات في تصنيف الهويات وبنائها لأفرادها تمثل جانبا أساسيا من جوانب عملها، وكيف تفرض علاقات السلطة وتمارس، وكيف يعاد إنتاج المجتمعات وكيف تتغير. وأما التركيز على التعبير فقد أدى إلى التهميش الكامل لوظيفة بناء الهوية فجعلها جانبا ثانويا من جوانب وظيفة الصلة «بين الأشخاص». ولهذا قمت بتمييز وظيفة الهوية في التعديل الذي أدخلته على شرح هاليداي (1978م) لوظائف اللغة، ومع ذلك فلا بد من الدفاع دفاعا تقنيا مفصلا عن ضرورة القول بوجود وظيفة مستقلة خاصة بالهوية، وأما في نظر هاليداي، فإن تحديد وظيفة مستقلة يقتضي أن يثبت المرء وجود مجال يتمتع باستقلال نسبي للتنظيم النحوي يتفق مع هذه الوظيفة.
الفصل السادس
تحليل النصوص: بناء الواقع الاجتماعي
يركز هذا الفصل أساسا على جوانب التحليل النصي المتصلة بالوظيفة الفكرية للغة وللمعاني الفكرية، أي ب «بناء الواقع الاجتماعي» على نحو ما ذكرته في العنوان. وإذن فإن مدار التأكيد هنا هو دور الخطاب في الدلالة والإحالة (ارجع إلى التمييز بينهما في أواخر الفصل الثاني) حيث تتضمن الدلالة دور الخطاب في تكوين نظم للمعرفة والعقيدة، وإعادة إنتاجها، والطعن فيها، وإعادة بنائها، ولكن المسألة لا تزيد على كونها مسألة تأكيد، فمن المحتوم أن تتداخل هذه مع الوظيفة العلائقية ووظيفة بناء الهوية، وهما اللتان ناقشتهما في الفصل الخامس.
وأنا أناقش هنا عينتين رئيسيتين للخطاب، الأولى مقتطفة من كتيب خاص بالرعاية السابقة للوضع، موجه إلى الأمهات الحوامل وأزواجهن، والثانية مجموعة الخطب التي أشرت إليها من قبل، وهي التي ألقاها وزير في الحكومة البريطانية، هو اللورد ينج، حول ثقافة «المبادرة الفردية». وأما الموضوعات التحليلية المحددة التي أعرض لها فهي: الروابط والتحاج، والتعدي والثيمة، ومعنى الكلمات، والصياغة، والاستعارة. فإذا نظرنا إليها من حيث انتماؤها إلى الفئات التحليلية الواردة في الفصل الثالث وجدنا أن الموضوعات الثلاثة الأخيرة يشملها عنوان عام هو المفردات، وأن الموضوع الأول ينتمي إلى التماسك، والثاني إلى النحو. (1) الروابط والتحاج
العينة التالية جزء من قسم حول الرعاية السابقة للولادة، من
كتاب الطفل (موريس، 1986م) وهو كتيب تصدره المستشفيات للحوامل وأزواجهن، وسوف أقدم أيضا أثناء التحليل مقتطفات من
كتاب الحمل ، (مجلس التعليم الصحي 1984م) وهو مطبوع مماثل أصدره مجلس التعليم الصحي. (وقد حذفت قسما فرعيا حول «طول مدة الحمل»، وهو الذي يوجد في الأصل قبل قسم فرعي عنوانه «الفحص».) (2) الرعاية السابقة للوضع
الهدف الأساسي للرعاية السابقة للوضع أن تكفل لك اجتياز فترة الحمل والوضع وأنت في تمام الصحة. ومن المحتوم إذن أن تتطلب سلسلة من الفحوص والاختبارات على امتداد فترة حملك. وكما ذكر عاليه، سوف تتلقين هذه الرعاية إما من المستشفى المحلي الذي تتبعينه، وإما من الممارس الطبي العام الذي تعتادينه، وهو الذي يعمل في حالات كثيرة بالتعاون مع المستشفى.
ومن المهم الحضور لإجراء أول فحوصك والتبكير بهذا قدر الطاقة؛ فقد يكون لديك بعض المتاعب الطفيفة التي يستطيع الطبيب تداركها فتعود بالفائدة على بقية فترة حملك. والأهم بصفة خاصة أنك بعد زيارتك لطبيبك وحجز مكان لك في مستشفى محلي سوف تتلقين في العادة تأكيدا بأن كل شيء يسير سيرا طبيعيا. (3) الزيارة الأولى
تتضمن زيارتك الأولى استعراضا شاملا لصحتك في الطفولة، وأيضا حتى اللحظة التي أصبحت فيها حاملا. وفي بعض الأحيان قد تعاني المرأة من متاعب طبية معينة لا تدري بها، مثل ضغط الدم المرتفع، ومرض السكري، وأمراض الكليتين - ومن المهم التعرف على هذه المشكلات في مرحلة مبكرة، إذ إنها قد تكون لها آثار خطيرة في مسار الحمل.
وسوف يحتاج الطبيب والداية إلى الإحاطة الكاملة بجميع مشكلاتك الصحية السابقة، وإلى مناقشة ظروفك الاجتماعية أيضا، ونحن نعلم علم اليقين أن الظروف الاجتماعية يمكنها أن تؤثر في نتيجة الحمل. ولهذا السبب سوف يطلبان منك التفاصيل الخاصة بمسكنك وبعملك الحالي. وسوف يحتاجان إلى أن يعرفا أيضا إن كنت تدخنين أو تشربين الكحول، أو إن كنت تتناولين أية عقاقير وصفها لك طبيب أو أصحاب الصيدليات، إذ إن جميع هذه المواد يمكن أحيانا أن تضر بتطور الجنين ونموه. (4) الفحص
سوف توزنين حتى يمكن تقدير الزيادة اللاحقة في وزنك، وسوف يقاس طول قامتك لأن القصيرات بصفة عامة لديهن أحواض أصغر قليلا من ذوات الطول الفارع، وهو أمر لا يدعو إلى الدهشة. وسوف تخضعين بعد ذلك لفحص جسدي كامل، يتضمن فحص ثدييك وقلبك ورئتيك وضغط دمك، وبطنك وحوضك.
والغرض من هذا تحديد أية ظواهر شاذة قد تكون موجودة، وإن لم تكن قد سببت لك أية مشكلات حتى الآن، ومن شأن فحص المهبل تيسير تقييم الحوض ابتغاء فحص حالة الرحم وعنق الرحم والمهبل. وكثيرا ما تؤخذ لطاخة مهبلية أيضا في هذا الوقت لفحصها واستبعاد وجود أي تغيير مبكر يؤدي إلى الإصابة بالسرطان مما قد يوجد في حالات نادرة.
وسوف نبدأ بتحليل بعض جوانب تماسك النص وبناء الجمل في هذه العينة؛ وذلك تمهيدا للنظر في الأسلوب المستخدم لإقامة الحجة، وأنواع معايير العقلانية التي تفترضها سلفا، وسوف يتيح لنا هذا النظر في أنواع الهوية الاجتماعية التي تبنى في النص، وخصوصا الصوت الطبي العلمي والجو الخلقي فيه.
ولنبدأ بطريقة بناء الجمل في القسم الأخير وعنوانه الفحص، وهو الذي يتكون من فقرتين، تتكون كل منهما من ثلاث جمل. فإذا استثنينا الجملة الأخيرة في الفقرة الأولى والجملة الأولى من الفقرة الثانية وجدنا أن كل جملة تتكون من عبارتين (أي إنهما جمل بسيطة) يربطهما حرف أو أداة تدل على الغرض أو السبب، والنظام المجرد هو:
العبارة الأولى ¬ حتى/لأن/ل (من أجل) العبارة الثانية.
بل إن الجملتين اللتين استثنيتهما ذواتا نسق يتفق جزئيا مع هذا النسق، لأن الرابط في كل منهما رابط يتعلق بالغرض، فالجملة الأولى في الفقرة الثانية تبدأ بعبارة «والغرض من هذا»، واسم الإشارة «هذا» يحيلنا إلى الجملة الأخيرة في الفقرة الأولى. والواقع أن نسق الجمل التي ترتبط برباط الغرض أو السبب، وكذلك العبارات داخل الجمل، نسق يتكرر على امتداد العينة كلها. والرسالة التي يرسلها هذا النسق رسالة بث الاطمئنان؛ أي إن كل شيء يحدث في إطار الرعاية السابقة للوضع له سبب قوي. وإذا كان من يراد اطمئنانه واضحا، فإن من يقوم ببث الاطمئنان، على وجه الدقة، أقل وضوحا.
فلنحاول تبيان ذلك بالنظر إلى المشاركين، أي من يشاركون في هذا النص باعتباره جزءا من الممارسة الخطابية، ومن يشاركون في عمليات الرعاية السابقة للوضع التي يصورها النص، وأما المشاركون في النص فهم (1) قراء النص الذين تعنيهم الرعاية المذكورة مباشرة في معظم الأحوال (باعتبار أنهم من النساء الحوامل) أو ممن يشاركون في هذه الرعاية (باعتبارهم أزواجهن) و(2) منتجو النص، واسم المؤلف غير مذكور، ولكن اسم المحرر (وهو أستاذ متخصص في أمراض النساء والولادة) وأسماء فريق التحرير مذكورة. وأما المشاركون في الرعاية السابقة للوضع فهم (1) الحوامل و(2) العاملون بالمهن الطبية. والعلاقة بين القراء باعتبارهم مشاركين، وبين النساء باعتبارهن مشاركات في الرعاية المذكورة واضحة، فمعظم القراء يوشكون أن يصبحوا مشاركين في هذه الرعاية ، ومعظم هؤلاء يوشكون أن يصبحوا من الطائفة الأولى، ولكن العلاقة بين منتجي النص والمشاركين في الرعاية المذكورة أقل وضوحا إلى حد ما، فمن ناحية المبدأ قد يتبنى منتجو النص منظور الحوامل، أو المشتغلين بالمهن الطبية، أو لا يتبنون هذا المنظور أو ذاك.
ومن الواضح في هذه الحالة أن منتجي النص ينتمون إلى المهن الطبية، وأكثر الأدلة تصريحا بهذا ما نقرؤه في الفقرة الثانية من القسم الذي يحمل عنوان «الزيارة الأولى»، فالجملتان الأولى والثالثة من هذه الفقرة تتنبئان بما سوف يحتاج أفراد المهن الطبية إلى معرفته والسؤال عنه. والجملة الثانية تشرح سبب السؤال، ولكن المعرفة الطبية التي يقيم هؤلاء ممارساتهم عليها تتخذ صيغة واضحة المغزى وهي «ونحن نعلم»؛ فإن كلمة «نحن» تمثل حلقة الانتقال الدقيق من الإشارة إلى منتجي النص باعتبارهم مشاركين في عملية الخطاب إلى الإشارة إلى أن أفراد المهن الطبية مشاركون في عملية الرعاية السابقة للوضع.
ومع ذلك فلدينا حالة واحدة تمثل الفصل بين هاتين الصفتين، وهي الجملة الثانية في الفقرة الأولى من القسم الذي يحمل عنوان «الفحص»، ونقصد بها التعليق المضاف في آخر الجملة، وهو «وهو أمر لا يدعو إلى الدهشة»، فهو تعليق يوحي لنا بأنه صوت عالم الحياة الذي ينطق به لسان «المريضة» المتوقعة، أو حتى لسان أفراد المهن الطبية إذا تنحوا عن صفتهم المهنية (ارجع إلى مناقشة ميشلار لأصوات عالم الحياة في تحليله لعينة الخطاب الطبي التي نوقشت أعلاه)، ولكن لاحظ التضاد بين الصوتين، الصوت الذي نسمعه هنا والصوت الذي نسمعه في الجزء الثاني من الجملة الأولى الذي يقول: ل «أن القصيرات بصفة عامة لديهن أحواض أصغر قليلا من ذوات الطول الفارع»، وهي العبارة التي تقدم السبب. فالصوت هنا صوت طبي؛ لأن كلمة «حوض» مصطلح طبي، والعبارة تتكون من مقولة قاطعة النبرة، نقول إنها تقوم على أدلة طبية. وهي تمثل المقتطف كله تمثيلا أصدق، إذ إن معظم الجمل السببية ينطقها الصوت الطبي. وأما الاحتراز في هذه المقولة («بصفة عامة») فترجع أهميته إلى أن به غموضا يوحي بالانتقال إلى صوت عالم الحياة، من ناحية، كما يوحي من ناحية أخرى بالحذر والتدقيق اللذين يتميز بهما الجو الخلقي الذي نربط بينه وبين الطب العلمي.
ومن الواضح أن الذين يبثون الاطمئنان هم أفراد المهن الطبية. فالجمل التي تقدم الأسباب أو تعبر عن الغرض، والتي ينطق الصوت الطبي بها بانتظام، تقدم لنا في الحقيقة الأفكار العقلانية والحجج المنطقية التي نتوقعها من أفراد المهن الطبية، وهو ما يسهم في بناء الجو الخلقي لعلم الطب في هذا المقتطف، ولنقارن بذلك المقتطف التالي من
كتاب الحمل : «سوف تجرى لك فحوصات منتظمة طيلة فترة حملك ... والغرض منها
التأكد من أنك وطفلك في صحة جيدة، والتأكد من أن الجنين ينمو نموا سليما، والحيلولة دون التعرض لأي سوء ... » (التأكيد من عندي). فالكلمات المطبوعة ببنط ثقيل أقرب، بوضوح وجلاء، إلى صوت عالم الحياة من انتماء التعابير المناظرة لها في
كتاب الطفل
إليه، لكنني أشعر، مع ذلك، بوجود التباس في الصوت الذي نسمعه في
كتاب الحمل ، والسبب في ذلك أن العاملين بالمهن الطبية كثيرا ما يتحولون تحولا جزئيا إلى الحديث بصوت عالم الحياة عندما يحادثون المرضى (ارجع إلى العينة الثانية أعلاه)، ولذلك فمن
الجائز
أن يستخدم أفراد المهن الطبية الكلمات المطبوعة باللون الأسود، ومن ثم فلا يتضح لنا إن كان كاتب
كتاب الحمل
يكتبه من منظور المريض أو من منظور (لموقع «مستحدث» بين) أفراد المهن الطبية.
ومن الأدلة الأخرى على امتزاج منتجي النص بأفراد المهن الطبية في
كتاب الطفل
الأبنية النوعية في النص، ففي الفقرة الأولى من القسم الذي يحمل عنوان «الفحص»، نجد أن الجمل الثلاث الأولى تبدأ بالحرف «سوف»، وهو الذي يعني التنبؤ القاطع - «هذا ما سوف يحدث» - ويوحي بأن منتج النص يكتب من موقع العارف ببواطن الأمور. وينطبق على استعمال «يمكن» (مثل «هذه المواد يمكن أحيانا أن ...») وكلمة «قد» («أي تغيير مبكر يؤدي إلى الإصابة بالسرطان، مما قد يوجد في حالات نادرة») إذ يقدم منتج النص هنا مقولات قائمة على الخبرة بشأن الاحتمالات الطبية. لاحظ أن تواتر استخدام صيغة الحال (بالإنجليزية) (مثل «أحيانا» و«نادرا») يزيد، على عكس ما يبدو، من سلطة هذه المقولات. ولاحظ أيضا عبارة «من المهم أن» (في الجملة الافتتاحية بالفقرة الثانية) وعبارة «من المحتوم أن» (الجملة الثانية بالفقرة الأولى) واستعمال تعبير «يؤدي إلى السرطان» وغيره من المصطلحات التقنية التي تدعم الإحساس بخبرة الكاتب.
وإذا شئنا التلخيص قلنا: إن تحليل التماسك النصي في هذه العينة يطلعنا على نوعية من التحاج (أي بناء الحجة) ونوعية من العقلانية، ومن ثم يسمعنا الصوت الطبي العلمي والجو الخلقي فيها. فإذا استندنا إلى هذا المثال في إصدار حكم عام قلنا: إن أنماط النصوص تتفاوت في أنواع العلاقات التي تنشئها بين عباراتها، وأنواع التماسك النصي التي تفضلها، وإن أمثال هذا التفاوت قد تكون لها دلالة ثقافية أو أيديولوجية. وتجتمع هذه الاختلافات في التماسك النصي مع غيرها، فتؤدي إلى اختلافات شاملة في «النسيج» (هاليداي، 1985م، 313-318) الخاص بأنماط النصوص، أي بالنوعية الشاملة لبناء العبارات لتكوين نص من النصوص. ومن الأبعاد الأخرى للتفاوت بعد «الثيمة»، التي تناقش في القسم التالي، والطرائق التي تتميز بها «المعلومات المفترضة» (أي التي يقدمها منتج النص باعتبارها معروفة أو ثابتة سلفا) عن «المعلومات الجديدة» (هاليداي، 1985م، 271-286؛ كويرك وآخرون 1972م، 237-243)، والطرائق التي تكتسب بها الصدارة بعض أجزاء النص، وتبقى أجزاء أخرى منه في خلفيته (هووي، 1983م). ومن جوانب التغير الخطابي التي ربما كانت أقل وضوحا من سواها ولكنها قد تكون جديرة بالبحث فيها، جانب التغييرات في النسيج والتماسك النصي، فهل من الصحيح، على سبيل المثال، أن بعض أنماط الإعلام الجماهيري التي استعمرتها أساليب الإعلان (مثل الدعاية الحكومية حول بعض القضايا مثل مرض الإيدز) تتجلى فيها تغييرات في هذه الجوانب، وإن صح هذا فكيف ترتبط أمثال هذه التغييرات بضروب التغيير في نوعيات العقلانية والجو الخلقي؟
ويشير فوكوه في فقرة سبق اقتطافها إلى وجود «نظم بلاغية منوعة للجمع بين مجموعات من الأقوال (أي كيفية الترابط بين الأوصاف، وضروب النتائج المستنبطة، والتعريفات التي يميز تتابعها البناء المعماري لنص من النصوص)» (1972م، 57)، أي إن تحليل التماسك النصي على مستوى معين يركز على العلاقات الوظيفية بين العبارات، ويمكن استخدامه في البحث في أمثال تلك «النظم البلاغية» في شتى أنماط النصوص، إذ نجد على سبيل المثال أن أحد الأنساق المهيمنة في المقتطف من
كتاب الطفل
نسق الوصف (لما سوف يحدث للمرأة الحامل) متبوعا بنسق الشرح (للأسباب الطبية لذلك). وأما البناء في المقتطف التالي، وهو افتتاحية إعلان نشر في إحدى المجلات، فيختلف اختلافا كاملا:
انظر لحظة واحدة في السبب الذي يدعو الدبلوماسيين ومديري الشركات في شتى أرجاء العالم إلى اختيار الانتقال بسيارات مرسيدس من طراز
S ، ربما يكون السبب أن هذا الطراز القيادي من سيارات مرسيدس-بنز يوحي بعلو المكانة من دون المظهرية الجوفاء، فإن تصميمها يستكمل سلوك الذين اغتنوا بوجودهم عن إثبات سمو منزلتهم. (مجلة
صنداي تايمز ، 21 يناير 1990م)
إن الإعلان يبدأ بسؤال، تتلوه إجابات متتابعة، أو بتعبير أدق، بسؤال غير مباشر للقارئ (أي طلب موجه إلى القارئ للنظر في سؤال ما) يعقبه إجابة مقترحة ممكنة (تتكون من جملتين)، وهذا نظام بلاغي يستخدم على نطاق واسع في الإعلانات. ومن المحتمل أن تتميز به النوعيات البلاغية المختلفة، مثل أنماط السرد، في النظم التي تستعملها.
ويقدم هاليداي (1985م، 202-227) إطارا تفصيليا لتحليل بعض الأنماط الرئيسية للعلاقة الوظيفية بين العبارات (انظر أيضا هوي، 1983)، ولكن إطاره لا يتضمن علاقة السؤال والجواب القائمة في المقتطف الأخير. ويمكن استعمال صورة أخرى من الإطار نفسه في تحليل العلاقات الوظيفية بين جمل كاملة (ص303-309). والخطوط العامة العريضة التي يضعها هاليداي للتمييز بين الأنماط الرئيسية الثلاثة للعلاقات بين العبارات تفيد التمييز بين «التفصيل»، وبين «التوسع»، وبين «التدعيم». أما التفصيل فيعني أن إحدى العبارات (أو الجمل) «تمثل تفصيلا لمعنى عبارة أخرى بزيادة تحديدها أو وصفها» إما بإعادة صوغها، أو تقديم أمثلة لها، أو إيضاحها وحسب. ومن الأمثلة على الوظيفة الأخيرة آخر جملة في الفقرة الثانية من نص الرعاية السابقة للوضع التي تبدأ بعبارة «ومن الأهم بصفة خاصة». وأما التوسع فيعني أن إحدى العبارات (أي الجمل) «تتوسع في معنى عبارة أخرى بإضافة شيء جديد إليها». وقد يكون هذا في صورة الإضافة المباشرة (التي يدل عليها حرف العطف، الواو، أو كلمات مثل «أضف إلى ذلك» ... إلخ)، وأما التدعيم فيعني أن إحدى العبارات (أو الجمل) «تدعم معنى غيرها بتخصيص دلالتها بعدد من الطرائق الممكنة، إما بالإحالة إلى الوقت أو المكان أو الطريقة أو السبب أو الشرط»، أي إن العلاقات الرئيسية هنا بين العبارات والجمل علاقات زمنية (أ ثم ب، أ بعد ب، أ عندما توجد ب، أ أثناء حدوث ب ... إلخ، على افتراض أن «أ» و«ب» عبارات أو جمل)؛ وأما العلاقات العلية (السببية) فنماذجها علاقات السبب والغرض (التي مرت بنا في تحليل
كتاب الطفل )؛ ومعنى العلاقات الشرطية هو (وجود فعل الشرط وجوب الشرط)؛ (إذا كان أ كان ب)؛ والعلاقات المكانية تعني (أ توجد حيث ب) والمقارنات (أ مثل ب، أ تشبه ب).
ومن المتغيرات المهمة بين أنماط النصوص درجة التمييز الصريح للعلاقات بين العبارات وبين الجمل، ويتمثل أحد الاختلافات بين
كتاب الطفل
وبين
كتاب الحمل
في أن العلاقات السببية (الأسباب والأغراض) متميزة بصراحة أكبر في الأول بصفة عامة، إذ توجد على سبيل المثال أدوات ربط أكثر فيه مثل «حتى» و«لما كان»، ويبدو أن هذه الصراحة تسهم في الهيمنة الواضحة في النص الأول للصوت العلمي الطبي والجو الخلقي العلمي الطبي أيضا.
وتدل المغايرة في التصريح أيضا على ضرورة التمييز بين مستويين في تحليل التماسك النصي: الأول تحليل علاقات التماسك الوظيفية، مثل التي وصفناها عاليه، والثاني تحليل علامات التماسك الصريحة الموجودة على سطح النص، مثل أدوات الربط المشار إليها. والأخيرة جديرة بالاهتمام أيضا لا لتحديد مدى صراحة تمييز العلاقات الوظيفية فقط، بل أيضا بسبب وجود اختلافات مهمة بين أنماط النصوص، وهي التي تظهر في أنماط علامات التمييز التي تشيع فيها. ويميز هاليداي (1985م، 288-289) بين أربعة أنماط رئيسية للعلامات المستخدمة في التماسك النصي السطحي وهي «الإحالة» و«الحذف» و«الربط» و«التماسك اللفظي». وهنا أيضا لا أستطيع أن أقدم إلا الخطوط العريضة لهذه الأنماط. أما الإحالة فتعني إحالة القارئ إلى جزء سابق من النص، أو إحالته إلى جزء مقبل من النص، أو إحالته إلى شيء خارج النص كسياق النص أو السياق الثقافي الأوسع نطاقا له، باستخدام وسائل معينة مثل الضمائر الشخصية، وأسماء الإشارة، وأداة التعريف. وأما الحذف فيعني استبعاد «مادة» يمكن الحصول عليها من جزء آخر من النص، أو الاستعاضة عنها بكلمة بديلة، بحيث تنشئ رابطة تحقق التماسك بين جزئي النص (انظر على سبيل المثال حذف «ورقة من نوع البستوني» (في لعبة من ألعاب الورق، أي الكوتشينة، تسمى البريدج) في الجزء الثاني من الحوار التالي: «لماذا لم تقدم ورقة من أوراق البستوني؟» - «لم يكن في يدي أي منها»). وأما الربط فقد أشرنا إليه من قبل إشارات كثيرة، فهو تحقيق التماسك باستخدام كلمات الربط وتعبيراته، وهي التي نطلق عليها وفق التقاليد أسماء حروف العطف وأدواته (مثل الواو والفاء، و«إذ إن» و«لما كان» ... إلخ) إلى جانب ما نطلق عليه - اصطلاحا - تعبير «التوابع الرابطة» (هاليداي، 1985م، 303) أو «الوصلات» (كويرك وآخرون، 1972م، 520-532) مثل «ومن ثم»، «وبالإضافة إلى هذا»، «أو بعبارة أخرى». وأما التماسك اللفظي فيعني تحقيق التماسك من خلال تكرار الألفاظ، أو الربط بين الكلمات والتعابير بعلاقات المعنى (انظر ليتش، 1981م) مثل الترادف (حمل المعنى نفسه) أو «الإدراج الدلالي» (ومعناه إدراج دلالة لفظ في دلالة لفظ آخر، كما هو الحال بين الأسماء العامة والخاصة) أو ربط الكلمات والتعبيرات التي «تتصاحب» أو يقترن بعضها بالبعض (هاليداي، 1966م)، أي تنتمي إلى المجال الدلالي نفسه، وعادة ما توجد معا (مثل «الغليون»، و«الدخان»، و«التبغ»).
ومن الخطأ أن نتصور أن أنماط علامات التماسك السطحي المذكورة مجرد خصائص موضوعية للنصوص. إذ لا بد أن يتولى مفسرو النصوص تفسير علامات التماسك في إطار بنائهم لقراءات مترابطة المعنى لكل نص من النصوص؛ فما التماسك النصي إلا عامل واحد من عوامل ترابط المعنى، فعلى سبيل المثال، لا يستطيع المرء أن يحدد الألفاظ المتصاحبة في نص من النصوص إلا إذا نظر في تفسير مفسري النصوص في هذا الصدد، أي تحديد العناصر التي يرى المفسرون وجود علاقات فعلية بينها، ولكن علينا أن ننظر نظرة دينامية أيضا إلى علامات التماسك، من منظور منتج النص، إذ إن منتجي النصوص يقيمون علاقات تماسك من أنواع محددة في غضون جعل المفسر يشغل موقع الذات. ومن ثم فإننا إذا نظرنا إلى التماسك النصي هذه النظرة الدينامية فربما اكتشفنا أنه من الطرائق المهمة ل «العمل» الأيديولوجي الجاري داخل النص.
ويعتبر الإعلان المنشور في المجلة، الذي أوردناه قبل صفحتين، مثالا يوضح هذه المسائل، إذ إن أي تفسير مترابط المعنى لتلك الفقرة يعتمد على جهد كبير في الاستنباط، الذي يرتكز على إعادة بناء روابط التماسك القائمة على الكلمات المتصاحبة، وهي التي ينشئها منتج النص، أي الربط بين «الدبلوماسيين ومديري الشركات»، وبين «يوحي بعلو المكانة من دون المظهرية الجوفاء»، وبين «سلوك الذين اغتنوا بوجودهم عن إثبات سمو منزلتهم»، أي إننا نستطيع أن ندرك معنى النص إذا افترضنا أن الإيحاء بعلو المنزلة من دون المظهرية الجوفاء سمة تميز الدبلوماسيين ومديري الشركات (بعد نقلها هنا إلى السيارة)، وأن الدبلوماسيين ومديري الشركات يسلكون سلوك من اغتنى بوجوده عن إثبات سمو منزلته. ولاحظ أن هذه العلاقات الخاصة بالتصاحب اللفظي ليست من النوع الذي يمكن أن تجده في أحد المعاجم (على عكس العلاقة مثلا بين «الكلب» و«ينبح»)؛ بل إن منتج النص هو الذي أنشأها في هذا النص . وعندما أنشأها المنتج فإنه كان يفترض في الوقت نفسه وجود مفسر «قادر» على إدراك علاقات التصاحب المذكورة؛ وفي حدود نجاح المفسرين في تلبية متطلبات الموقع الذي يشغلونه، ينجح النص في أداء العمل الأيديولوجي الخاص ببناء ذوات ترى أن هذه العلاقات تتفق مع المنطق السليم (انظر مناقشة الإخضاع في أواخر الفصلين الثالث والرابع). (5) التعدي والثيمة (المبتدأ)
عادة ما يشار إلى البعد الفكري للبناء النحوي للعبارة، في علم اللغة المنهجي، بمصطلح «التعدي» (هاليداي، 1985م، الفصل الخامس)، وهو يتناول أنماط النشاط المشفر في العبارات، وأنماط المشاركين فيها (وكلمة «المشارك» هنا تشير إلى عناصر العبارات). وقد لقي هذا الجانب، كما قلت في الفصل الأول عاليه، اهتماما بالغا في التحليلات التي أجريت في مبحث اللغويات النقدية (انظر فاولو وآخرين، 1979م؛ كريس وهودج، 1979م؛ كريس، 1988م؛ هودج وكريس، 1988م). ويوجد نمطان رئيسيان من هذا النشاط: أنشطة أو عمليات «علائقية»، إذ يحدد الفعل علاقة معينة بين العناصر (يكون، يصبح، ينتمي ... إلخ)؛ وأنشطة أو عمليات «فعلية»؛ حيث نجد فاعلا ومفعولا به يقع عليه فعل الفاعل، وسوف أقول في هذا القسم كلمة أو كلمتين عن «الثيمة»، وهو مصطلح يعني هنا بعدا من الأبعاد النصية لنحو العبارة، ويتعلق بالمواقع التي تشغلها عناصر العبارة وفقا لمدى صدارة أو بروز المعلومات التي يمثلها كل عنصر (أي إذا كان في موقع المبتدأ ذي الصدارة أم لا).
ومن الملامح الواضحة الخاصة بالعمليات القائمة على الفعل في المقتطف الذي أوردناه من كتيب الرعاية السابقة للوضع، أن النص نادرا ما يشير إلى الحوامل باعتبارهن «فواعل» في البناء النحوي. فأما الفواعل في العمليات القائمة على الفعل فهم أفراد المهن الطبية في حالات كثيرة (وبصورة مضمرة أيضا لأن العبارة مبنية للمجهول والفاعل «محذوف»، مثل «سوف توزنين») أو كيانات غير بشرية (مثل «الأحوال الاجتماعية» و«المواد» في الفقرة الثانية بالقسم الذي يحمل عنوان «زيارتك الأولى») وعلى العكس من ذلك نجد أن الحوامل أو سماتهن البدنية كثيرا ما يشار إليهن («أنت»، «طوق قامتك») في حالة المفعول به في العبارات «الفعلية »، ومن الصحيح أيضا أن الضمير «أنتن» (الذي يشير إلى الحوامل) نادرا ما يكون في موقع البداية ذات الأهمية الإعلامية في العبارة، أي في موقع الثيمة (أي المبتدأ) (وانظر ما يلي ذلك أدناه).
و
كتاب الحمل
مختلف في هذه الجوانب، فهو يتضمن عددا كبيرا من العمليات «الفعلية» التي يشغل فيها الضمير «أنت» موقع الفاعل، ويتضمن عدد كبير من عباراته هذا الضمير في موقع «الثيمة»، أي المبتدأ. وهاك مقتطفا منه:
سوف تريدين على الأرجح أن تطرحي أسئلة كثيرة أنت نفسك، عن الرعاية السابقة للوضع، وعن المستشفى، وعن حالة الحمل لديك. وربما أردت أيضا أن تقولي شيئا ما عما تتمنينه في الحمل وعند الوضع. أخبري القابلة (الداية) أي شيء ترين
أنت
أهميته. اكتبي مقدما ما تريدين أن تسألي عنه أو أن تقوليه.
تبدأ الجملة (الإنجليزية) بالضمير «أنت» التي تعتبر الفاعل للأفعال التالية: «يريد»، «يطرح أسئلة»، «يقول»، وضمنا للأفعال التالية «أخبري» و«اكتبي». وهذا الضمير المنفصل في النص الإنجليزي «أنت» يعتبر أيضا الثيمة (المبتدأ/الفاعل) في خمس عبارات (بما فيها العبارات الثانوية مثل «ما تتمنينه في الحمل عند الوضع»). ولنا أن نقول أيضا إنه الثيمة المضمرة في صيغة أفعال الأمر «أخبري» و«اكتبي». ووجود الضمير «أنت» المطبوع بالبنط الثقيل يؤكد تركيز نص
كتاب الحمل
على ضمير المخاطب، على عكس عدم التركيز على المرأة في
كتاب الطفل . ففي هذا الأخير، نجد عددا كبيرا نسبيا من الجمل المبنية للمجهول، حيث لا يذكر الفاعل صراحة، وأما
الفاعل
المضمر فهو من أفراد المهن الطبية، ونجد إلى جانب ذلك بعض الصيغ النوعية التي تتضمن تنبؤات قاطعة مثل التي أشرت إليها في القسم الأخير (وعبارة «سوف توزنين» تجمع بين هذين المعلمين، أي البناء للمجهول والصيغة النوعية القاطعة)، وهو ما يعني أن الحوامل يخضعن لإجراءات لا تتغير من جانب فواعل مجهولة. وجعل الضمير «أنت» ثيمة (مبتدأ/فاعلا) في
كتاب الحمل ، يبين من جديد أن الكتاب يتبنى (ولو كان في هذا بعض اللبس كما قلت في القسم الأخير) منظور النساء الحوامل، في حين أن منظور
كتاب الطفل
منظور العاملين بالمهن الطبية بلا مراء.
ومعلم التعدي الأخير هو درجة التعبير الاسمي، أي بالأسماء أو التراكيب الاسمية، في العينة. ومعنى التعبير الاسمي هو تحويل العمليات (أي الأحداث أو الأفعال) إلى أسماء، وهو ما يؤدي إلى الإحساس بوقوع «العملية» في الخلفية، وعدم الإشارة إلى زمنها أو صيغتها النوعية، وعدم تحديد المشاركين فيها عادة، بحيث يصبح الفاعل مضمرا مثل ما يفعله ومن يقع عليه فعل الفاعل. واللغة الطبية، وغيرها من الاستعمالات العلمية والتقنية للغة، تفضل التعبير الاسمي، ولكنها قد تكون تجريدية، أو تتضمن التهديد أو التعمية لغير المتخصصين، مثل قراء هذه العينة. و
كتاب الطفل
يزخر بالتعابير الاسمية، ومن الأمثلة في القسم الذي يحمل عنوان «الزيارة الأولى» ما يلي: «استعراض شامل لصحتك»، «متاعب صحية»، «أمراض الكليتين»، «مشكلاتك الصحية السابقة»، «نتيجة الحمل»، «تطور الجنين ونموه». والنسبة العالية للتعابير الاسمية مؤشر آخر على توجه هذا النص إلى الصوت الطبي.
وأناقش الآن القضايا التي أثارها هذا المثال بقدر أكبر من التعميم، فأبدأ بالتعدي، ثم أنتقل إلى البناء للمعلوم والمجهول، والتعبير الاسمي، والثيمة (المبتدأ/الفاعل).
توجد في
الواقع
عمليات ومشاركون فيها - من الأحياء والجماد - وتوجد في
اللغة
عمليات ومشاركون فيها، ولكننا لا نستطيع أن نستنبط من طبيعة إحدى العمليات في الواقع أسلوب الدلالة اللغوية عليها. وعلى العكس من ذلك، من الممكن الدلالة اللغوية على عملية واقعية بطرائق منوعة، وفق المنظور الذي تفسر به، إذ إن اللغة تميز بين عدد ضئيل من أنماط العمليات وما يرتبط بها من أنماط المشاركين فيها، وتتوقف دلالة عملية واقعية على استيعابها في نمط من هذه الأنماط اللغوية. ومن الدوافع الاجتماعية إلى تحليل التعدي هو أن يحاول المرء أن يحدد العوامل الاجتماعية أو الثقافية أو الأيديولوجية أو السياسية أو النظرية التي تتحكم في أسلوب الدلالة على عملية معينة في نمط معين من أنماط الخطاب (وفي أنواع مختلفة من الخطاب) أو في نص بعينه.
والأنماط الرئيسية للعمليات في اللغة الإنجليزية هي عملية «الفعل»، وعملية «الحدث»، والعملية «العلائقية »، والعملية «العقلية»، وقد سبق لي أن أشرت إلى عملية «الفعل» والعملية «العلائقية» عاليه. ونستطيع التمييز بين نمطين من عملية الفعل؛ الأول نمط الفعل «الموجه»، والثاني نمط الفعل «غير الموجه»، أما الأول فهو النمط الذي حددته في
كتاب الطفل ، حيث نجد فاعلا يقع فعله على هدف. وهو يتحقق بصورة عامة - ويتضح على سطح النص - في جملة متعدية (فاعل - فعل - مفعول به) مثل عبارة «أطلقت الشرطة النار على 100 متظاهر». وأما الفعل غير الموجه فيتضمن فاعلا وفعلا من دون مفعول به/هدف (مصرح به)، وعادة ما يتحقق في صورة جملة لازمة (غير متعدية) مثل عبارة «كانت الشرطة تطلق النار»، وأما عمليات الحدث فتتضمن حدثا وهدفا، وتتحقق عموما أيضا في صورة عبارات لازمة (غير متعدية)، مثل عبارة «مات 100 متظاهر» ولا تتميز عبارات الفعل عن عبارات الحدث تمييزا حاسما، ولكنها تختلف من حيث الأسئلة التي توجه بصورة طبيعية إليها؛ فالفعل غير الموجه يرتبط ارتباطا طبيعيا بسؤال يتخذ الشكل التالي: «ما الذي فعله «س» (= الفاعل)؟» وترتبط الأحداث بالسؤال التالي «ماذا حدث ل «س» (= الهدف/المفعول به)؟» وأما العمليات العلائقية فتتضمن علاقات الوجود، أو الصيرورة، أو الامتلاك بين الكيانات، مثل عبارة «موت 100 متظاهر». ونرى أخيرا أن العمليات العقلية تتضمن المعرفة (بأفعال مثل «يعرف» و«يعتقد») والإدراك الحسي («يسمع»، «يلاحظ») والعاطفة («يحب»، «يخاف»). وتتحقق عموما باعتبارها عبارات متعدية (مثل «خشي المتظاهرون الشرطة») وتتضمن ما يسميه هاليداي «المستشعر» (أي «المتظاهرون» في هذه الحالة، باعتبارهم الكيان الذي استشعر «الخوف» وهو العملية العقلية/النفسية) وإحدى «الظواهر» (وهي الشرطة في هذه الحال، باعتبارها مصدر ذلك الإحساس بالخوف والمفعول به أو الهدف في العبارة).
وقد يكون لاختيار نمط من أنماط هذه العمليات للدلالة على عملية حقيقية مغزى ثقافي أو سياسي أو أيديولوجي، على نحو ما ذكرت عاليه. ويقدم هاليداي مثالا أدبيا على المغزى الثقافي في دراسة لرواية
الوارثين
لوليم جولدنج (هاليداي، 1971م)، فهو يبين كيف يتوسل المؤلف بعمليات «أحداث» للدلالة على منظور «لوك» (الرجل النياندارتالي) (أي المنتمي إلى العصر الحجري الأول) ومن نتائج ذلك استحالة تمثيل «الفعل الموجه» وعلاقات الفاعل والعلية المرتبطة به، ومن شأن هذا إظهار البدائية الثقافية لشخصية «لوك»، وعجزه عن إدراك معنى الأفعال التي يقوم بها الناس (الإنسان العاقل).
وبعض الأمثلة التوضيحية التي استخدمتها عاليه «أطلقت الشرطة النار على 100 متظاهر» و«مات 100 متظاهر» و«موت 100 متظاهر» تدل على إمكان وجود مغزى سياسي وأيديولوجي لاختيار نمط العملية. فنجد على سبيل المثال أن إحدى القضايا ذات الأهمية الدائمة تتمثل فيما إذا كانت تقارير أجهزة الإعلام عن الأحداث المهمة تصرح بالفاعل، وبالعلية وبالمسئولية أم تتركها غامضة. وتصور الأمثلة الواردة أعلاه فئة معينة من الأحداث التي تبرز فيها هذه القضية باستمرار، وهي قضية العنف والعنف المؤدي إلى الموت. وهكذا يبين «ترو » (1979م) أن التوجه السياسي لإحدى الصحف يحدد اختيار أنماط العمليات الخاصة بالدلالة على حالات الموت أثناء المظاهرات السياسية في جنوب أفريقيا، ومن ثم يحدد إذا ما كانت المسئولية عن هذه الحالات منسوبة إلى فاعل صريح وهوية هذا الفاعل. وعلى غرار ذلك أن الحروب والبطالة والتدهور الصناعي والحوادث الصناعية يشار إليها أحيانا باعتبارها مجرد أحداث تقع وحسب، ويشار إليها في أحيان أخرى باعتبارها أفعالا لها فواعل، وقد تكون هذه البدائل مجالا للصراع السياسي والأيديولوجي. ويصدق هذا نفسه على دلالة العمليات الخاصة بالرعاية السابقة للوضع في المثال السابق، وقضية اعتبار الحوامل فواعل لأفعال معينة أم مجرد أهداف للأفعال.
وليس الشكل النحوي للعبارة دليلا مباشرا على نمط العملية فيها، إذ توجد، على سبيل المثال، حالات يصفها هاليداي ب «الاستعارة النحوية» (1985م، الفصل العاشر)، حيث يتخذ نمط عملية معينة صورة التحقيق النحوي الذي يميز غيرها. وفيما يلي مقتطفات من تقرير نشرته صحيفة «ذا مورننج ستار» (أي نجم الصباح) وهي صحيفة شيوعية بريطانية: «مظاهرات كبيرة تدعم الكفاح في سبيل مرفق الصحة» (عنوان)؛ «تظاهر عمال مرفق الصحة وعقدوا اجتماعات، وقاموا بمسيرات وإضرابات، ووزعوا المنشورات وقدموا التماسات»؛ «هوجم البرلمان بالمئات من أبناء الشمال». هذه فيما يبدو جمل «فعلية» توحي إيحاء قويا بالنشاط الهادف، فالأولى والثالثة جمل «متعدية» (فاعل - فعل - مفعول به)، وهي الصورة المعتادة لتحقيق الفعل الموجه، ولكننا قد نرى أنهما من البدائل الاستعارية لما يلي، مثلا «قامت أعداد كبيرة من الأشخاص بمظاهرات، الأمر الذي ساعد المكافحين في سبيل تقديم الخدمات الصحية»، و«قام المئات من أبناء الشمال بمخاطبة أعضاء البرلمان لاكتساب تأييدهم». وأما الجملة الثانية فتتكون فيما يبدو من عبارات «فعلية» غير موجهة، ولكنها يمكن أن تعتبر استعارية (أي بدائل لعبارة «شاركوا في مظاهرات»، و«عقدوا اجتماعات» ... إلخ) وفي هذه الحالة نجد دافعا واضحا للاستعارة النحوية في الموقف السياسي للصحيفة.
ومن المتغيرات الإضافية في عبارات الفعل الموجه قضية البناء للمعلوم أو للمجهول (كويرك وآخرون، 1972م، 801-811؛ هاليداي، 1985م، الفصل الخامس)، ففي الجملة المبنية للمجهول يصبح المفعول به نائب فاعل، وأما الفاعل فإما يتأخر بحيث يعتبر «فاعلا سلبيا» (في عبارة مثل «من جانب») أو يحذف تماما (وفيما يلي أمثلة للمبني للمجهول من
كتاب الطفل ، يذكر فيها الفاعل أو لا يذكر: «والرعاية السابقة للوضع سوف تقدم إما من جانب المستشفى المحلي أو من جانب الطبيب الممارس العام»، وعبارة «سوف يقاس طولك»). والمبني للمعلوم يمثل الخيار «غير المميز»، أي الشكل الذي يقع عليه الاختيار عندما لا تتوافر أسباب محددة لاختيار المبني للمجهول. ولاختيار المبني للمجهول دوافع منوعة، من بينها أن هذه الصيغة تسمح بحذف الفاعل، وإن كان لهذا الحذف نفسه أكثر من دافع، فقد يكون أوضح من أن يذكر، وقد لا تكون له أهمية، وقد يكون مجهولا. وقد يوجد سبب سياسي أو أيديولوجي لاستخدام المبني للمجهول مع حذف الفاعل، وهو تعمية الفاعل ومن ثم تعمية العلية والمسئولية، قارن عبارة «أطلقت الشرطة النار على 100 متظاهر فقتلتهم» بعبارة «قتل 100 متظاهر». وصيغت المبني للمجهول (باللغة الإنجليزية) تحول الهدف/المفعول به إلى ثيمة/مبتدأ في مستهل العبارة، وهو ما يعني عادة تقديمه باعتباره «معروفا» أي شيئا مسلما بوجوده؛ والصيغة (الإنجليزية) نفسها تحول الفاعل، إذ لم يحذف، إلى الموقع البارز في آخر الجملة؛ حيث عادة ما نصادف معلومات جديدة، فعلى سبيل المثال، نجد في عبارة «إن الرعاية السابقة للوضع سوف تقدم من جانب المستشفى المحلي أو من جانب الطبيب الممارس العام» أن «الرعاية السابقة للوضع» شيء مسلم بوجوده - فالمقتطف كله يدور حوله - وأن المعلومات الجديدة تتعلق بمن سوف يقدم هذا الشيء، والفاعل هنا (وهما بديلان في الواقع) يشغل موقع المعلومات الجديدة. ولمعرفة المزيد عن الثيمة/المبتدأ انظر أدناه.
ويشترك التعبير الاسمي مع المبني للمجهول في إمكان حذف الفاعل، وفي ضروب الدوافع المنوعة من وراء ذلك، وتعمل الصيغتان في الاتجاه نفسه في عبارة «الفحص الطبي الشامل سوف يجري بعدها»؛ وكما ذكرت من قبل نجد أن الجمع بين المبني للمجهول دون ذكر الفاعل مع صيغة النوعية ذات التنبؤ القاطع يدعم صوت الطب العلمي في الكتيب من خلال الإيحاء بأن المرأة تخضع لإجراءات مجهولة الفاعل ولا تتغير قط؛ والعبارة الاسمية («الفحص الطبي الشامل») هنا - من دون تحديد الفاعل - تدعم ذلك الإيحاء، وقد يتضمن التعبير الاسمي أيضا حذف مشاركين آخرين إلى جانب الفواعل؛ فعلى سبيل المثال نجد أن الفاعل والهدف/المفعول به محذوفان من العبارة التالية، «إذ إنها تتطلب سلسلة من الفحوص والاختبارات على امتداد فترة حملك».
فالتعبير الاسمي يحول العمليات والأنشطة إلى حالات وأشياء، ويحول المجسدات إلى مجردات، فعلى سبيل المثال، تختلف الإشارة إلى عمليات مجسدة في الحمل الذي قد لا يتطور تطورا طبيعيا عن الإشارة إلى تحديد «أية ظواهر شاذة قد تكون موجودة»، فهذه تنشئ فئة جديدة من الكيانات المجردة. ويعتبر إنشاء الكيانات الجديدة معلما من معالم التعبير الاسمي الذي يتسم بأهمية ثقافية وأيديولوجية كبرى، خذ مثلا إعلانا عن جراحة التجميل يقول في عنوانه الرئيسي: «جمال المظهر يمكن أن يستمر طول عمرك!» إذ إن عبارة «جمال المظهر» تعبير (مؤول من عمليات علائقية مجسدة مثل «إن مظهرك جميل!») أي إنه يحول صفة موضعية مؤقتة إلى حالة أو خصيصة راسخة، فيصبح لها كيان خاص يمكن الالتفات إليه والتلاعب به ثقافيا بعد ذلك (إذ يمكن مثلا غرسها وتنميتها ورعايتها؛ ويمكن أن يقال إن حسن المظهر يأتي للناس بالحظ الحسن، أو بالسعادة أو بالمتاعب )، ومن ثم يجد المرء أن التعابير الاسمية نفسها تقوم بدور الأهداف بل والفواعل في العمليات. (للمزيد من مناقشة خصائص التعبير الاسمي ارجع إلى كريس وهودج، 1979م، الفصل الثاني.)
سبق لي أن أشرت إلى الثيمة عند مناقشة دوافع اختيار العبارات المبنية للمجهول، والمعروف أن الثيمة تعني الجزء الأول من العبارة (المبتدأ أو ما يوازيه) وأن باقي العبارة يشار إليه أحيانا باسم «الريمة» (تعريبا للكلمة الأجنبية، التي تعني الخبر أو ما يوازيه) (كويرك وآخرون، 1972م، 945-955؛ هاليداي، 1985م، الفصل الثالث)، وتحليل العبارات بهذه الطريقة يعني النظر إلى وظائفها وكيف تبنى «المعلومات» بمفهومها العام، فالثيمة تمثل نقطة انطلاق منتج النص في عبارة من العبارات، وعادة ما تتفق مع ما يعتبر معلومات «مسلم بها» (وهو ما لا يعني أنها كذلك فعلا)، أي إنها معلومات معروفة سلفا أو ثابتة من وجهة نظر منتجي النص ومفسريه.
ويمكن للنظر فيما يختار عادة ليكون ثيمة في أنماط مختلفة من النصوص أن يساعدنا على إدراك الافتراضات القائمة على المنطق السليم بشأن النظام الاجتماعي والاستراتيجيات البلاغية، فلننظر أولا في الافتراضات القائمة على المنطق السليم؛ إن الاختيار «غير المميز» لثيمة معينة في عبارة خبرية (مقولة) يمثل مبتدأ/فاعل العبارة؛ وهذا هو الاختيار الذي يراه الكاتب ما لم يكن لديه سبب خاص لاختيار سواه. فلدينا في القسم الفرعي الذي يحمل عنوان «الفحص» مثلا في المقتطف الذي أوردناه من
كتاب الطفل
عدة ثيمات متتابعة (أي «بناء ثيمي») في العبارات الرئيسية في الجمل المذكورة، وهو الذي يكشف عن النهج الذي يعمل عليه أفراد المهن الطبية («طولك»، «فحص جسدي كامل»، «فحص المهبل»، «لطخة مهبلية») ويشير إلى الافتراضات القائمة على المنطق السليم الخاصة بخطوات الفحص. والعبارة الأولى في الفقرة الثانية، وثيمتها «الغرض من هذا»، تختلف بعض الشيء وتبين جانبا آخر من جوانب ثيمة محتملة؛ أي وجود أبنية نحوية تسمح بوضع عناصر محددة في موقع الثيمة، والشرح نفسه هو الذي يصبح الثيمة في هذا الحالة.
وكثيرا ما تكون الاختيارات المميزة للثيمة طريفة فيما تكشف عنه، لا بشأن الافتراضات القائمة على المنطق السليم فقط ولكن أيضا بشأن الاستراتيجيات البلاغية. فالجملة الثانية من المقتطف السابق من كتاب الطفل تبدأ بعبارة تقول «ومن المحتوم، إذن، أن تتطلب ...» تعتبر مثالا على هذا، فكلمتا «المحتوم» و«إذن» من الكلمات الرابطة (كويرك وآخرون 1972م، 420-506)، وتؤدي وظيفتها باعتبارها ثيمات مميزة. وتحويل بعض العناصر إلى ثيمات مميزة من أساليب تصديرها أي وضعها في موقع الصدارة، وهو هنا عقلانية الرعاية السابقة للوضع؛ وهذا، كما بينت في القسم الأخير، من شواغل منتجي النص، وهو يضفي المعنى على التماسك في المقتطف. ولدينا حالة تختلف اختلافا طفيفا، وهي الجملة الثانية من القسم الفرعي الذي يحمل عنوان «الزيارة الأولى»، فالثيمة هنا «في بعض الأحيان»، وتصديرها يوضح الانشغال الرئيسي في الرعاية السابقة للوضع باستباق المخاوف وتبديدها، وكثيرا ما يوحي ذلك بنبرة تعال معينة.
وتلخيصا لما سبق أقول: إنه من المفيد دائما الاهتمام بما يبدأ الكاتب به عباراته وجمله، لأن من شأن ذلك أن يبصرنا بالافتراضات والاستراتيجيات التي يصعب التصريح بها في أي موقع.
وأختتم هذا القسم بتحليل لعينة قصيرة تبين كيف يتفاعل اختيار أنماط العمليات، والتعبير الاسمي، والثيمات في النصوص. والمثال التالي مقتطف من إعلان عن ندوة حول الطاقة النووية في بريطانيا: (6) هل نستطيع فعلا تلبية احتياجاتنا من الطاقة دون اللجوء إلى الطاقة النووية؟
تضاعف استهلاك الطاقة على مستوى العالم كله نحو عشرين ضعفا منذ عام 1850م. وأمامنا رأي يقول إن الطلب على الطاقة في البلدان الصناعية قد يتضاعف ثلاثة أضعاف في الأعوام الثلاثين المقبلة. (صحيفة
الجارديان ، 14 أغسطس 1990م)
من الممكن اعتبار الجملة الأولى (العنوان) استعارة نحوية؛ فهي متعدية، وتبدو في صورة عبارة فعل موجه (فالضمير المستتر «نحن» هو الفاعل، و«احتياجاتنا من الطاقة» هدف)، ولكنها يمكن أن تعتبر إعادة صياغة استعارية لجملة مثل «هل نستطيع فعلا إنتاج المقدار الذي نريد استخدامه من الطاقة من دون اللجوء إلى الطاقة النووية؟» أي إن الصيغة الاستعارية تتضمن تعبيرا اسميا («احتياجاتنا من الطاقة») بصفته هدفا، وهو يعامل باعتباره مقولة يمكننا صوغها صياغة مختلفة (كالقول «بأننا سوف نواصل طلب المزيد من الطاقة») أي باعتبارها كيانا سبق افتراضه. وإذا كانت هذه المقولة تقبل المناقشة، فالافتراض المسبق لا يقبل ذلك. وفي الجملتين التاليتين أمور مماثلة، غير أن الكيانين المفترضين سلفا هنا في موقع الثيمة أيضا («استهلاك الطاقة على مستوى العالم كله»، و«الطلب على الطاقة في البلدان الصناعية»، والجملة الاسمية الأخيرة هي ثيمة العبارة الثانوية التي يسبقها الحرف «إن») وهو ما يدعم موقعهما باعتبارهما «معلومات مسلما بها»، أو معلومات يمكن اعتبارها كذلك. وهكذا فإن الاستعارة النحوية القائمة في التعبير الاسمي تتآمر مع الثيمة، إن صح هذا التعبير، على الزج بقضية معينة في الخلفية، وهي إن كنا في الواقع نحتاج إلى هذا الكم الكبير من الطاقة. (7) معاني الألفاظ
يواجه المرء، سواء كان منتجا أو مفسرا للنصوص اللغوية، وفي جميع الحالات، ما يسميه ريموند ويليامز «عناقيد» ألفاظ ومعان (ويليامز، 1976م، 19) لا ألفاظا أو معاني مفردة، وإن كان من المفيد أحيانا أن يركز المرء على كلمة مفردة لأغراض التحليل، على نحو ما أفعل أدناه. وتتميز العلاقة بين الألفاظ والمعاني بأنها ليست علاقة المفرد بالمفرد بل علاقة المفرد بالجمع والجمع بالمفرد، فاللفظ المفرد له في العادة معان متعددة، وكل معنى يصاغ عادة صياغات متنوعة (وإن يكن القول بهذا مضلل إلى حد ما؛ لأن اختلاف الصياغة يؤدي إلى اختلاف المعنى: وانظر القسم التالي)، ويعني هذا أننا حين ننتج نصا ما نواجه دائما مشكلة خيارات تتعلق بكيفية استخدام لفظ ما وكيفية صوغ أحد المعاني، وحين نفسر نصا ما نواجه دائما قرارات تتعلق بكيفية تفسير الخيارات التي انتهى إليها منتجو النص (أي البت في القيم التي نمنحها لها). وليست هذه الخيارات والقرارات ذات طبيعة فردية محضة: إذ إن معاني الألفاظ وصياغة المعاني من المسائل الخاضعة للتغير الاجتماعي والمنازعات الاجتماعية، وهي ظواهر لعمليات اجتماعية وثقافية أوسع نطاقا.
سوف أبدأ بالتركيز هنا على معاني الألفاظ لا على صياغة المعاني، ثم تنعكس الآية في القسمين التاليين، فلقد سبق أن أشار ويليامز إلى وجود «كلمات أساسية» معينة، تتميز ببروزها ثقافيا وتستحق التركيز عليها في البحث الاجتماعي، وسوف أناقش مثالا شائعا هو كلمة «المبادرة الفردية»، وسوف أستخدم «المعنى الكامن» في المصطلح للدلالة على نطاق المعاني المرتبطة تقليديا بالكلمة، وهي التي يحاول المعجم تمثيلها. فالمعاجم تنظم مداخل الكلمات بطرائق تدل ضمنا على النظرة التالية للمعنى الكامن: (1) إن المعنى الكامن ثابت؛ و(2) إن المعنى الكامن عام شائع، بمعنى أنه مشترك بين جميع أفراد جماعة لغوية معينة؛ و(3) إن المعاني القائمة في داخل المعنى الكامن لأحد الألفاظ معان منفصلة، بمعنى أنها يمكن تمييزها بوضوح عن بعضها البعض، و(4) إن المعاني القائمة داخل المعنى الكامن لكلمة معينة تتصف بعلاقة تكاملية تقول: «إما هذا المعنى أو ذاك»، أي إنها معان لا تجتمع معا.
وإذا كانت الخصائص الأربع المذكورة تحقق نجاحا لا بأس به في بعض الحالات، فإنها يمكن أن تكون مضللة إلى حد بعيد في حالات أخرى، خصوصا عند اشتباك الألفاظ والمعاني في عمليات تنازع وتغيير اجتماعي أو ثقافي، ففي أمثال هذه الحالات قد تتغير العلاقة بين اللفظ والمعنى بسرعة، إلى الحد الذي يؤدي إلى زعزعة ثبات المعاني الكامنة، وقد يؤدي هذا إلى الصراع بين المعاني والمعاني الكامنة التي تتضارب نسبتها إلى ألفاظ معينة (ويقول بيشوه، فيما اقتطفناه من كلامه عاليه: إن الاختلاف الدلالي مظهر من مظاهر الصراع الأيديولوجي وعامل من عوامله). أضف إلى هذا أن تغير المعنى والتنازع حوله يؤديان إلى بعض التغييرات في قوة الحدود القائمة بين المعاني الموجودة داخل المعنى الكامن لكلمة ما ووضوحها، بل إن التنازع قد يدور حول أمثال هذه الحدود. وقد يدور أيضا حول طبيعة العلاقة بين المعاني الموجودة داخل المعنى الكامن لأحد الألفاظ، أي حول ما إذا كانت العلاقة تكاملية في الواقع أو مراتبية، فإن كانت مراتبية فإنها تدور حول علاقات محددة بين المعاني تدل على هيمنة البعض، وعلى أن البعض الآخر يشغل مكانة ثانوية، ولسوف أضرب أمثلة توضح بعض هذه الإمكانيات فيما يلي.
أما الأدلة على هذه النماذج البديلة للمعنى الكامن فمصدرها النصوص، والنموذج المعجمي يتفق مع النصوص التي تنتج وتفسر من خلال التوجه المعياري إلى المعنى الكامن، إذ يعامله هذا التوجه بصفته شفرة يتبعها أو يختار ما يختاره من داخلها. وقد نجد أمثلة صالحة في البحوث أو المقالات التي يكتبها التلاميذ أو الطلاب في العلوم الطبيعية. وأما النموذج الذي أطرحه فيجد المساندة في النصوص ذوات التوجه الإبداعي للمعنى الكامن، إذ تعامله باعتباره موردا متغيرا ويمكن استغلاله كالمثال الذي أسوقه أدناه، فالنصوص الإبداعية تتميز بحالات غموض والتباس في المعنى، وبالتلاعب البلاغي بإمكانيات المعنى الكامنة للألفاظ. والنصوص الإبداعية تستخدم بالضرورة إمكانات المعنى الكامنة موردا لها، ولكنها تسهم في تفكيكها وإعادة هيكلتها، بما في ذلك إعادة ترسيم الحدود والعلاقات ما بين المعاني.
أبدأ الآن فحص كيفية استعمال كلمة «المبادرة» (الفردية) في خطب اللورد ينج، وزير التجارة والصناعة في حكومة السيدة ثاتشر (1985م-1988م)، وأحد الشخصيات البارزة في تصوير تلك الحكومة ل «ثقافة المبادرة» (الفردية) (انظر فيركلف، 1990م، أ، حيث تفاصيل الخطب والمزيد من التحليل). ولقد سبق لي من قبل أن أشرت إلى هذا المثال في الفصل الرابع إيضاحا للتحولات التناصية؛ ولكنني أفحصه هنا خصوصا باعتباره مثالا لمعالم معنى الألفاظ، وهو مثال يوضح كيف يمكن استثمار معنى كامن أيديولوجيا وسياسيا في غضون التكوين الخطابي لمفهوم ثقافي أساسي.
وتتعلق الملاحظات التالية بلفظ «المبادرة» (الفردية) باعتباره «اسم جنس»، أو اسما لا جمع له من لفظه (ك «الإنسان» بالعربية) أي باعتباره نوعا من الأسماء التي لا توجد إلا بصيغة المفرد، ولا تسبقها بالإنجليزية أداة تنكير (كويرك وآخرون، 1972م، 130)، ولكن «المبادرة» (الفردية) يمكن أن تستخدم اسما مفردا وله جمع («مبادرة» (فردية) و«مبادرات» (فردية) مثلا). ووفقا لمعجم أوكسفورد الكبير للغة الإنجليزية، نجد أن هذا اللفظ باعتباره اسم جنس له ثلاثة معان أصفها بأنها تختص به من زاوية «النشاط»، و«النوع»، و«التجارة»، وهي: (1)
النشاط: «الإقدام على أعمال جسورة أو شاقة أو هائلة.» (2)
النوع: «الميل أو الاستعداد إلى الاشتغال بأعمال تتميز بالصعوبة أو المخاطرة أو الخطر؛ جرأة الروح أو الهمة العالية.» (3)
التجارة:
هذا هو المعنى الذي تكتسبه «المبادرة» عندما توصف بأنها خاصة أو حرة، أي باعتبارها مشروعا تجاريا خاصا.
وأنا أشير إلى هذه المعاني الثلاثة مجتمعة باعتبارها معنى «المبادرة» (الفردية)، ولكن المعنى الخاص بالنوع يتضمن تضادا بين الصفات المتعلقة بالنشاط التجاري تحديدا (مثل القدرة على استغلال فرصة سانحة في السوق)، وبين الصفات الشخصية الأعم (مثل الاستعداد لخوض المخاطر).
وتستخدم كلمة «المبادرة» (الفردية) في خطب الوزير ينج بمعناها التجاري، ولكن من دون أن توصف بأنها «خاصة» أو «حرة»، وهو ما يزيد من الالتباس في معنى الكلمة؛ فمن ناحية المبدأ نجد أن أي استعمال للكلمة يسمح بتفسيرها بأي معنى من هذه المعاني الثلاثة أو بمعنى يجمع بين أكثر من معنى منها. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن معظم استعمالات «المبادرة» (الفردية) ذوات معان ملتبسة وتفيد الجمع بين المعاني الثلاثة ، فإن السياق يقلل من إمكان هذا الالتباس، بما في ذلك السياق اللغوي المباشر الذي تقع فيه الكلمة إلى حد ما. وللسياق اللغوي نوعان من التأثير؛ النوع الأول استبعاد معنى واحد أو أكثر، والنوع الثاني الإبراز النسبي لأحد المعاني من دون استبعاد المعنيين الآخرين، وسوف ترد الأمثلة على ذلك أدناه.
ويشكل المعنى الكامن للفظ «المبادرة» (الفردية) وإمكان التباس معناه «موردا» يستغله الوزير ينج في خطبه استغلالا استراتيجيا. فاختلاف الخطب يؤكد المعاني المختلفة لا بتشجيع معنى دون سواه، بل بتشكيل تجمعات معينة من المعاني، ومراتب معينة للعلاقات البارزة من بين معاني «المبادرة» (الفردية)، وهي التي يمكن أن تعتبر مناسبة لأهداف استراتيجية أوسع نطاقا، وخصوصا الإسهام في إعادة تقدير قطاع الأعمال الخاص الذي فقد بعض الثقة فيه بإقامة رابطة بين المشروعات التجارية الخاصة وبين الصفات التي تتمتع بقيمة ثقافية عالية لعلو الهمة، ويعتبر هذا مثالا للتداخل الخطابي الاستراتيجي، بسبب تأكيد عناصر مختلفة من المعنى الكامن للكلمة في الأنماط المختلفة للخطاب.
وفيما يلي مثال من خطاب ألقاه الوزير ينج في مارس 1985م، إذ قال: «مهمة الحكومة إيجاد الجو الذي يمكن للمبادرة (الفردية) تحقيق الرخاء فيه»، وتقع هذه الجملة مباشرة بعد فقرة تشير إلى المشروعات التجارية الخاصة، ومن ثم فهي تبرز المعنى التجاري من دون إقصاء المعاني الأخرى، أي إن المرء يمكن أن يستعيض عن لفظ «المبادرة» (الفردية) بأحد التعبيرات الثلاثة (المشتركة في معنى اللفظ) وهي «المشروعات التجارية الخاصة»، و«أنشطة المبادرات» و«الأفراد ذوو الهمم العالية»، من دون إحداث تناقض دلالي في السياق اللغوي للجملة. وفي حالات أخرى في الخطاب نفسه تنشأ علاقات الإبراز من خلال جوانب أخرى للسياق اللغوي، كأن يكون ذلك مثلا من خلال الربط بين «المبادرة» (الفردية)، وبين تعبيرات أخرى مثل «المشروعات التجارية الخاصة ومهمة خلق الثروة»، فهذه عبارة تؤكد المعنى التجاري، وأما عبارة «المبادرة الفردية والهمة العالية» فهي تؤكد المعنى الخاص بالنوع، وإن كان السياق اللغوي السابق يضعها في طرف السلم الخاص ب «الصفات التجارية».
ويركز خطاب ثان ألقي في يوليو 1985م على منشئي الأعمال التجارية (والمقاولات) وهو التركيز الذي يتجلى في أسلوب إقامة مراتب هرمية للفظة المبادرة (الفردية)، يزداد فيه إبراز المعنى الخاص بالنوع. ويتميز هذا الإبراز النسبي بنائيا في بعض الحالات من خلال الربط بين «المبادرة» (الفردية) وبعض التعبيرات التي تعزل المعنى الخاص بالنوع عن سواه، مثل ما يلي «فيه إضرار بالمبادرة (الفردية)، والهمم الغريزية العالية للأفراد»، و«تشجيع المبادرة (الفردية) وتشجيع الأفراد من ذوي الهمة العالية». ولكن أشد الجوانب بروزا هو الطرف الخاص بالصفات التجارية في سلم هذه المراتب، وهكذا نجد أن بناء معاني المبادرة (الفردية) يهيمن عليه المعنى التجاري، مثلما يحدث في الخطاب الأول.
وألقي خطاب ثالث في نوفمبر 1987م، ويشد الانتباه هنا عدد الحالات التي يقلل فيها السياق اللغوي من التباس المعنى، ويفرض المعنى الخاص بالنوع، كما نرى فيما يلي: «أدى إلى رفع مهارات الأفراد وشحذ هممهم»، «أن نعترف بالطابع المهني والهمة العالية للمديرين»، «أن نستفيد من مواهب الأفراد وهممهم». ففي كل حالة يفرض الوزير المعنى الخاص بالنوع من خلال التنسيق بين المبادرة (الفردية) وأحد الأسماء التي تدل على الصفات الشخصية، واستخدام أشباه جمل (بالإنجليزية) (مثل ل «الأفراد» (والمضاف إليه بالعربية لا يحتاج إلى حرف جر) وغيرها) وهي التي تنسب «المبادرة» (الفردية) باعتبارها صفة، بطبيعة الحال، إلى (فئات معينة من) الأشخاص. أضف إلى ذلك أن الصفات المشار إليها أقرب إلى الطرف الشخصي على سلم المراتب مما نجده في الخطابين السابقين. ومع ذلك فإن هذا مجرد اختلاف في الإبراز، إذ تظل نسبة كبيرة من الحالات متسمة بالالتباس والتردد بين المعاني الثلاثة، بل إن السياق اللغوي في بعض الحالات لا يزال يؤكد المعنى التجاري (مثل: «لقد تغير المناخ كله فيما يتعلق بخلق الثروة والمشروعات التجارية الفردية»).
ونستطيع أن نرصد في الخطب حركة داخلية في اتجاه إعادة هيكلة المعنى الكامن ل «المبادرة» (الفردية) نحو رفع مكانة المعنى الخاص بالنوع وبالصفات الشخصية العامة في طرف سلم المراتب الخاصة بالنوع. وهذه الحركة تمثل في ذاتها جانبا من جوانب تطور استراتيجية «المبادرة» (الفردية) لحكومة المحافظين على امتداد السنوات العشر الأولى من حكومة السيدة ثاتشر. ففي الجزء الأول من هذه الفترة، كان الافتراض القائم يقول بإمكان خلق ثقافة «المبادرة» (الفردية) من خلال الإجراءات الاقتصادية إلى حد كبير (مثل تخفيض مكانة السلطات المحلية في مجال الإسكان والتعليم العالي)، ولكن الوزراء بدءوا في نحو منتصف الثمانينيات يقولون: إن المطلوب مجموعة من التغييرات في «الثقافة وعلم النفس» (وهي عبارة نايجيل لوصون)، ومن ثم فقد بدءوا يضعون - من خلال مبادرات وزارة التجارة والصناعة، على سبيل المثال، ومن خلال عناصر «المبادرات» (الفردية) في التعليم والتدريب - نماذج لنشاط المبادرة (الفردية) والهمم العالية في النفوس، بحيث ترتبط ارتباطا جوهريا بالتجارة ولكنها تؤكد مجموعات من صفات المبادرات (الفردية) والهمم العالية (انظر موريس، 1990م، حيث يورد تحليلات تفصيلية لهذه التغيرات). ويتجلى استمرار تغيير التأكيد المذكور داخل التوجه التجاري أيضا في الخلط غير المتجانس بين معاني المبادرة (الفردية) الذي أشرت إليه في الخطاب الثالث عاليه.
ويوجد تماثل بين قيام الوزير ينج بإعادة الهيكلة الاستراتيجية للمعنى الكامن «للمبادرة» (الفردية) وإعادة هيكلة نظم الخطاب التي ناقشتها في الفصل الثالث عاليه من حيث نموذج الهيمنة. فالواقع أننا نستطيع فعلا تفسير النجاح في الظفر بقبول معان محددة للألفاظ، ولهيكلة معينة لمعناها الكامن، باعتباره نجاحا في تحقيق الهيمنة. ومن ثم فلنا أن نطلق على النموذج الذي وصفته في بداية هذا القسم «نموذج هيمنة» على معاني الألفاظ، وهو نموذج صالح للتطبيق لا على الخطب السياسية فقط، بل أيضا في البحث في معاني الألفاظ في التعليم والإعلان، وهلم جرا. (8) الصياغة
أنتقل في هذا القسم إلى الجانب الثاني من طبيعة العلاقة بين اللفظ والمعنى القائمة على المقابلة بين الجمع والمفرد؛ أي تعدد أساليب صوغ المعنى في ألفاظ (بالنسبة للصياغة انظر ماي، 1985م، 166-168، وعن وضع المعنى في ألفاظ انظر هاليداي، 1978م، 164-182). وقد سبق لي أن ذكرت أن منظور المفردات الذي يركز على الصياغة يتناقض مع النظرة القائمة على المعاجم إلى المفردات. فالمعاجم تمثل جزءا من جهاز توحيد وتقنين اللغات (ليث، 1983م) وهي ملتزمة دائما، إلى حد ما، بنظرية توحيدية للغة مجتمع من المجتمعات، ومفردات المعاجم مفردات معيارية بصورة مضمرة، إن لم تكن أيضا صريحة، ما دامت تعمد إلى تقديم الصياغات ومعاني الألفاظ السائدة باعتبارها الصياغات والمعاني الوحيدة.
ولكن القول ب «تعدد أساليب صوغ المعنى في ألفاظ» مضلل، إذ يوحي بوجود المعاني سلفا قبل صوغها في ألفاظ بطرائق منوعة وبأن المعاني ثابتة مهما تنوعت الصياغة. وهكذا فمن الأفضل أن نقول بوجود طرائق بديلة في جميع الأحوال ل «الدلالة» (كريستيفا، 1986م، ب) - أي لإضفاء المعنى - على مجالات معينة من الخبرة (البشرية) وهو ما يسمح ب «التفسير» بأسلوب معين، ومن منظور محدد، نظريا كان أو ثقافيا أو أيديولوجيا. فالمنظورات المختلفة لمجالات الخبرة تستتبع طرائق مختلفة لصوغها في ألفاظ؛ وهذه هي الزاوية التي ينبغي لنا أن ننظر منها إلى الصياغات البديلة، مثل التعبير عن قدوم المهاجرين (إلى بريطانيا) بلفظ مثل «التدفق» أو «الفيضان» لا باعتباره «نشدانا» لحياة جديدة، وإذن فإن المرء حين يغير الصياغة يغير المعنى في الحقيقة (ولكن أرجو ألا ينسى القارئ تحفظاتي السابقة على المبالغة في التعبير عن العملية الإيجابية للدلالة على الواقع أو تكوين هذا الواقع بطريقة تتجاهل وجود هذا الواقع سلفا وقدرته على المقاومة، باعتباره مجالا سبق تكوينه من «الأشياء» المشار إليها في الخطاب).
والصياغات الجديدة تولد «أبنية لفظية» جديدة (هاليداي، 1966م) وهذا مصطلح تقني يفضل البعض استخدامه أحيانا على استخدام «الألفاظ»؛ لأن الألفاظ تستخدم في أغراض كثيرة مختلفة في حين أن «الأبنية اللفظية» تشير بوضوح قاطع إلى التعبيرات التي اكتسبت درجة من درجات الثبات والاستقرار. ومن أنماط الصياغة التي تكشف عن هذه العملية بوضوح وجلاء نمط الصياغة الذي يتضمن التعابير الاسمية. فعلى سبيل المثال نجد أن صياغة الجملة الأولى أدناه تكتسب صلابة وثباتا من خلال البناء اللفظي الجديد وهو «رفع مستوى الوعي» في الجملة الثانية: (1)
عقدوا اجتماعات لتشجيع الناس على أن يزدادوا وعيا بحياتهم. (2)
عقدوا جلسات لرفع مستوى الوعي.
ويؤدي خلق الأبنية اللفظية إلى نقل بعض المنظورات الخاصة بمجالات معينة للخبرة إلى نطاقات معرفية أوسع، قد تكون نظرية أو علمية أو ثقافية أو أيديولوجية، وهي تولد في حالات مثل هذه الحالة فئات ثقافية جديدة مهمة، وربما كانت آثارها ضيقة النطاق، إذ يتضمن إعلان عن إحدى عيادات جراحات التجميل عددا من الأبنية اللفظية (مثل «إزالة جيوب العيون»، و«تهذيب الأنف»، و«بسط الغضون»، و«تصحيح الآذان الخفاشية») وهي أبنية ذوات دلالة أيديولوجية، بمعنى أنها تمنح جراحات التجميل مفردات «علمية»، والظهور على الأقل بمظهر العمل في مجال معقد؛ ومن ثم فإنها تزعم ضمنا أنها تتمتع بالمكانة الرفيعة للعلاج القائم على العلم.
ويمكننا الإفادة من النظر إلى تعدد الصياغات المتاحة باعتباره جانبا من جوانب التناص. إذ إن صياغة مجال من مجالات الخبرة توازي، على مستوى المفردات، تكوين تشكيل معين من العناصر التناصية في إنتاج نص من النصوص. والاختلافات في المفردات بين
كتاب الطفل
وبين
كتاب الحمل
أمثلة توضح معنى هذا، مثل إشارة كل منهما للغرض من أخذ «اللطخ المهبلية»، فالأول يقول إن الغرض «استبعاد وجود أي تغيير سابق على السرطان» (كتاب الطفل) ، والثاني يقول إن الغرض «اكتشاف التغييرات المبكرة في عنق الرحم، مما يمكن أن يؤدي في وقت لاحق إلى الإصابة بالسرطان» (كتاب الحمل) . فتعبيرا «استبعاد» و«سابق على السرطان»، بالطريقة التي يستعملان بها هنا، ينتميان إلى الخطاب الطبي، في حين أن «التغييرات ... «التي» يمكن أن تؤدي في وقت لاحق إلى الإصابة بالسرطان» تنتمي إلى خطاب عالم الحياة (أي خطاب المحادثة) (وتعبير «السابق على السرطان» ترجمة «حرة» للبناء اللفظي الإنجليزي «قبل سرطاني»). وتعتبر هذه الاختلافات في المفردات جانبا من جوانب الاختلاف في التناص في الكتيبين، ولنا أن نطبق تعليقات مماثلة على التقارير الإخبارية. ونحن نجد مثالا لذلك في العينة الأولى الواردة في الفصل الرابع أدناه حيث تستخدم صحيفة «ذا صن»
كلمات دارجة على الألسن في الإشارة إلى تجار المخدرات، كأنما تترجم المصطلح الفصيح إلى لغة العامة، ولنا أن نعتبر ذلك بعدا من أبعاد التشكيل التناصي الذي يرتكز على محاكاة الصحيفة ل «لغة الحياة العادية».
ولننظر في مثال آخر مقتطف من مقال عنوانه «التوتر ورجل الأعمال: سيطر على التوتر من أجل صحتك» (لوكر وجريجسون، 1989م)، وهو مقال يرجع أصداء مذهب الإدارة الجديد الذي يقول: إن مفتاح النجاح في الأعمال التجارية المعاصرة يكمن في جودة القوى العاملة والتزامها (أي الأشخاص باعتبارهم «موارد بشرية» إذا استعرنا ألفاظ المقال نفسها). (9) الاستثمار في إدارة التوتر
إدارة التوتر (أي السيطرة عليه) تيسر استخدام المهارات الشخصية الذي يؤدي بدوره إلى تحسين الأداء والتشغيل الفعال والإدارة الناجحة لأية منظمة، واستثمار مبلغ صغير في إعداد دورات وبرامج لإدارة التوتر كفيل بأن يؤثر تأثيرا كبيرا في مستوى أرباح المنظمة. لا شك في أن أعظم أرصدة المنظمة يتمثل في موظفيها، وصحتهم وأداؤهم هو ما نراه في كشوف الحساب في آخر المطاف. من يتحكم في التوتر، بالصحة والنجاح يظفر.
من الجوانب البارزة للتشكيل التناصي هنا مزج نوعين (من أنواع الكتابة): نوع المقال العلمي ونوع الإعلان (ويمثل الأخير السجع في «الشعار» الختامي)، ولكن قضيتي الرئيسية هي التشكيلة من أنماط الخطاب في النص. فلدينا أولا خطاب المحاسبة، وهو الذي يستمد النص منه الإشارة إلى الموظفين باعتبارهم «أرصدة» و«موارد». ولدينا ثانيا التوسع في خطاب إدارة المنظمات؛ بحيث يشمل مجال «النفس» الذي يتجلى في تعبير «إدارة التوتر». ولدينا ثالثا خطاب إدارة الأفراد، الذي يضم هو أيضا تطبيقا لخطاب تكنولوجيا الآلات على الأشخاص (إذ يحدد قيم الأفراد من حيث أداؤهم)، ويتوسع في مفهوم المهارات، إذ يجعله يتجاوز استعمالها التقليدي في الإشارة إلى قدرات العمل اليدوي حتى يشمل القدرات غير اليدوية، وإن كانت قدرات خاصة بصورة تقليدية («مهارات شخصية»).
ويمثل هذا المقتطف تحولا مهما يجري الآن في أماكن العمل، وهو تحول يرتبط بالتغير التكنولوجي وأساليب الإدارة الجديدة، إذ إن الخصائص «الشخصية» للموظفين، التي كانت تعتبر فيما مضى أمورا خاصة تقع خارج النطاق المشروع لتدخل أصحاب العمل، يعاد تعريفها اليوم باعتبارها مما يقع داخل نطاق التدخل المذكور. وهكذا أصبحت مشكلات توتر العاملين من القضايا التي يهتم بالنظر فيها - بصورة مشروعة - المسئولون عن شئون الأفراد. وتدل المقتطفات من هذا النوع على المحاولات التي تبذل لتوليد خطاب جديد خاص بمكان العمل وتتجلى فيه القضايا المذكورة، بحيث يستفيد من شتى أنماط الخطاب التي تنتمي تقليديا إلى مكان العمل (مثل المحاسبة، وإدارة المنظمات، وتكنولوجيا الآلات، وإدارة الأفراد). ويتجلى تشكيل أنماط الخطاب المذكورة في مفردات الحديث عن الموظفين وقدراتهم ومشكلاتهم (الصحية).
ومن المفيد مقارنة صياغة مجالات معينة من منظورات خاصة من حيث الكثافة النسبية، أي من حيث عدد الصياغات المختلفة (بما في ذلك الأبنية اللفظية) التي ولدتها هذه المجالات، والتي يعتبر عدد كبير منها أشباه مترادفات، وقد نشر هاليداي بحثا مهما (عام 1978م) يستخدم فيه مصطلح «التكدس اللفظي» في الإشارة إلى كثافة الصياغة في مجال من المجالات، وسوف أستخدم أنا مصطلح «التكدس الصياغي»، ويعتبر التكدس الصياغي مؤشرا على «الانشغال الشديد»، كما يدل على وجود «خصائص أيديولوجية» معينة في المجموعة المسئولة عنها (فاولر وآخرون، 1979م، 210)، ومن الأمثلة عليه صياغة القدرات اللغوية في تقرير كنجمان عام 1988م عن تعليم اللغة الإنجليزية في المدارس البريطانية (وزارة التعليم والعلوم 1988م). فمن بين الصياغات نجد «المقدرة»، و«الفعالية»، و«الإجادة»، و«السهولة»، و«الخبرة»، و«المهارة»، ويبدو أن هذا التكدس الصياغي يرتبط بانشغال التقرير برسم صوة أيديولوجية للغة باعتبارها مجموعة من المهارات التقنية المحددة التي يمكن تعليمها، ويمكن اكتساب المعرفة بها بأسلوب النماذج، وهذه نظرة إلى اللغة تؤكد الإنتاج التقليدي المناسب، وتفسير الجوانب الفكرية للمعنى (انظر فيركلف وإيفانيتش، 1989م).
وبالإضافة إلى التكدس الصياغي، يضع هاليداي (1978م) يده على ظاهرة أخرى يسميها إعادة الصياغة، بمعنى توليد صياغات جديدة وإنشائها باعتبارها بدائل عن الصيغ القائمة ومعارضة لها، ومصطلح إعادة الصياغة عنوان مفيد يمكن وضعه لوصف الطابع التناصي والحواري للصياغة. ويؤكد إديلمان (1974م) المنظور الذي تستند إليه الصياغات التقليدية لعلاج المرضى النفسيين بإعادة التعبير عن هذه الممارسات بصياغة جديدة تركز على معارضتها ومعاداتها، وقد رأينا في المقتطف الخاص بإدارة التوتر عاليه إعادة صياغة لقدرات الموظفين ومشكلاتهم بهدف إدراجها في إطار إدارة الأفراد، وأما في المقتطف التالي فلنا أن نرى أن إعادة الصياغة تعتبر جانبا من جوانب تسويق التعليم:
منتج الإعداد المهني عادة ما يكون برنامجا، ومن ثم فإن تصميمه وتنفيذه من العناصر الرئيسية لعملية التسويق، وينبغي أن يبدأ انطلاقه من حاجات من يمكن أن يصبحوا زبائن وعملاء ومن الفوائد التي ينشدونها. (وحدة التعليم المستمر، 1987م، 51)
تسير إعادة الصياغة هنا جنبا إلى جنب مع إعادة الهيكلة الدلالية التي ناقشتها في القسم السابق، وانظر كيف يحل «التصميم» بصراحة في مرتبة ثانوية بعد «التسويق» في الجملة الثانية، الذي يعتبر جانبا من عملية تتضمن مفهوم «تصميم برنامج التدريب» وتدرجه في معنى أعم ويرتكز إلى قاعدة تجارية للتصميم. (10) الاستعارة
النظرة التقليدية إلى الاستعارة تعتبرها معلما من معالم اللغة الأدبية، ولغة الشعر بصفة خاصة، ولا تراها مناسبة لأنواع اللغة الأخرى، ولكن الدراسات الحديثة للاستعارة (بمعنى لغة المجاز عموما) تقيم حججا قوية على خطأ هذا التصور (ليكوف وجونسون 1980م)، فلغة المجاز متغلغلة في جميع أنواع اللغة، وجميع أنواع الخطاب، حتى في الحالات التي لا تبشر إطلاقا بذلك، مثل ضروب الخطاب العلمي والتقني، أضف إلى ذلك أن العبارات المجازية ليست مجرد زخرفات أسلوبية سطحية للخطاب، إذ إننا حين نختار الدلالة على أمور معينة بتعبير مجازي معين دون غيره، فإننا نبني واقعنا بطريقة معينة دون سواها، وهكذا فإن لغة المجاز تبني الطريقة التي نفكر بها والطريقة التي نتصرف بها، ونظم معارفنا ومعتقداتنا، وذلك بأشكال عميقة وأساسية.
وتعتبر طريقة التعبير المجازي عن مجال معين من مجالات الخبرة قضية من القضايا المتنازع عليها داخل الممارسات الخطابية وحولها، إذ نجد على سبيل المثال أن بعض العاملين في مجال التعليم العالي يعارضون معارضة شديدة التعابير الاستعارية المستمدة من السلع والاستهلاك (كالقول بأن «المواد الدراسية لا بد من إعدادها في صورة حزم متكاملة؛ بحيث تصبح وحدات يريد المستهلكون شراءها») وكان من بين جوانب التغير الخطابي جانب ترتبت عليه نتائج ثقافية واجتماعية مهمة، وهو التغير في التصوير المجازي للواقع، فإذا أردنا متابعة هذا المثال قلنا: إن التشكيل المجازي للتعليم وغيره من الخدمات في صورة الأسواق يعتبر عنصرا قويا من عناصر التحول لا في الخطاب وحسب، بل أيضا في التفكير وفي الممارسة في هذه المجالات (انظر ما يلي).
وقد تكتسب بعض الاستعارات صورة طبيعية بالغة العمق في ثقافة من الثقافات حتى لا يدرك الناس أنها استعارات في معظم الأحوال، بل وقد يجدون صعوبة شديدة، حتى حين ينتبهون إلى وجودها، في الإفلات من قبضتها في كلامهم أو تفكيرهم أو أفعالهم، ويناقش ليكوف وجونسون البناء المجازي لأية حجة باعتبارها حربا (وهي التي تتجلى، على سبيل المثال، في عبارة مثل «مزاعم يتعذر الدفاع عنها (أي واهية)» «هاجم كل نقطة ضعف في حجتي»، «انتقاداته أصابت الهدف إصابة مباشرة»، «دمرت حجته») ويقولون إن هذا لا يقتصر على كونه مسألة سطحية تتعلق بالصياغة، إذ إن «عددا كبيرا من الأشياء التي
نفعلها
أثناء التحاج مبنية إلى حد ما على مفهوم الحرب» (1980م، 4)، وهكذا فإن إضفاء الطابع الحربي على الخطاب يعني إضفاءه أيضا على الفكر والممارسة الاجتماعية (شيلتون، 1988م) تماما مثل إضفاء صورة السوق على الخطاب في التعليم المشار إليه آنفا باعتباره إضفاء لصورة السوق على الفكر والعمل.
والمثال التالي لإضفاء الطابع الحربي على الخطاب يوضح إلى حد كبير فعالية الاستعارات في بناء الواقع بأسلوب معين، وهو مقتطف من دراسة للانتخابات العامة البريطانية عام 1987م، وبصفة أخص للطريقة التي عالجت بها وسائل الإعلام قضية الدفاع (جارتون ومونتجومري وتولسون، 1988م؛ مونتجومري، 1990م)، ويشير المؤلفون إلى وجود «تلاق» بين قضية الدفاع ذاتها وأسلوب تمثيل أجهزة الإعلام لها أثناء الحملة الانتخابية: فالصورة المجازية المهيمنة للحملة نفسها صورة الحرب، والأمثلة التالية المقتطفة من التغطية التليفزيونية والصحفية توضح المقصود (التأكيد من عندي): (1)
كانت قضية الدفاع
المحور الرئيسي لهجومها
على حزب العمال وزعيمه نيل كينوك (هيئة الإذاعة البريطانية، القناة الأولى، 26 مايو). (2)
بدأ الليلة في جنوب ويلز
الهجوم المضاد
الذي شنته السيدة ثاتشر (هيئة الإذاعة البريطانية، القناة الأولى، 26 مايو). (3)
كان هجوم السيدة ثاتشر جزءا من جهد حزب المحافظين
على جبهتين
لإيقاف تقدم حزب العمال (هيئة الإذاعة البريطانية، القناة الثانية، 26 مايو). (4)
قام حزب العمال
بالدفاع دفاعا مستميتا عن موقفه رغم انهزامه
يوم أمس (صحيفة فاينانشال تايمز، 27 مايو). (5)
كانت
حركة الكماشة
التي قام بها حزب المحافظين وحلفاؤه ضد حزب العمال تتضمن
هجمة
شرسة من جانب ديفيد أوين (صحيفة
ذا إندبندنت ، 26 مايو).
والقضية تقدم بطبيعة الحال استعارة حربية جاهزة إلى أجهزة الإعلام، ومن الآثار العملية لها، كما يبين المؤلفون، أن أصبح من بالغ الصعوبة على حزب العمال أو أي حزب آخر أن يدعو في أجهزة الإعلام إلى سياسة دفاعية مبنية على غير تلك النظرة التصادمية الفظة للعلاقات الدولية (المصوغة في صورة «التصدي للبلطجية»، والردع، وما إلى ذلك بسبيل؛ انظر أدناه).
أضف إلى ذلك أن الحملات الانتخابية لا تجري في الواقع على شكل مواجهات مباشرة أو تبادل الحجج بين الخصمين وجها لوجه، فما تلك إلا الصورة التي تبنيها أجهزة الإعلام، إذ تقوم هذه الأجهزة باختيار المادة وتنظيمها وتمثيلها، بحيث تختزل التعقيد والتشويش في الحملة وتنسقها في حجة جاهزة أو منازلة منتظمة تتتابع فيها الضربات والضربات المضادة. ومن ثم تبرز صورة هذا التراشق باعتباره واقعا يقتصر دور أجهزة الإعلام على نقله، بحيث تخفي آثار الجهود التي بذلتها أجهزة الإعلام نفسها في بناء ذلك الواقع. ومن الآثار العملية الأخرى أن التغطية الإعلامية نفسها تشكلها الاستعارة المذكورة، إذ نجد على سبيل المثال نسقا للتناوب في كل يوم بين «الهجمات» التي يشنها أحد الأحزاب و«الهجمات المضادة» التي يشنها حزب آخر، بل إن الأحزاب السياسية تكيف حملاتها حتى تتفق مع «الواقع» التي تبرزه صورتها في أجهزة الإعلام. فإذا صورت هذه الأجهزة أحد الأحزاب في صورة من سدد «ضربة» قوية يوما ما، شعر الحزب الآخر بضرورة إعداد مادة لتقديمها في مؤتمرات صحفية أو خطب معينة، إذا كان المستشارون الإعلاميون يرون أن هذه المادة يسهل تصويرها في صورة «ضربة مضادة». وهكذا، وباختصار، نجد أن للاستعارة آثارا في تغطية الحملة، وفي الحملة نفسها.
ويشير جارتون ومونتجومري وتولسون (1988م) أيضا إلى القوة الأيديولوجية ل «السيناريو» في تغطية قضية الدفاع في انتخابات عام 1987م، وهم يستخدمون مصطلح «نص التمثيل» الموازي عند غيرهم لمصطلح «القصة»، في الدلالة على السيناريوهات النمطية وسلاسل الأحداث المرتبطة بها، وهي التي تمثل جانبا من «المنطق السليم» ذي الجذور العميقة في ثقافة من الثقافات، والكثير من السيناريوهات تستند إلى قاعدة استعارية، إذ يناقش شيلتون (1988م، 64) على سبيل المثال كتيبا أصدرته وزارة الدفاع البريطانية لإقناع الناس بضرورة زيادة الأسلحة النووية البريطانية: (11) كيف تتعامل مع بلطجي
السلام من خلال الردع: الإجابة الوحيدة على تهديد البلطجي
اضطر العديد منا للتصدي إلى أحد البلطجية في مرحلة ما من مراحل حياتنا، والإجابة الوحيدة أن تقول له «ابتعد عني وإلا سوف تأسف»، وأن تملك القوة القادرة على إثبات صحة كلامك.
وهنا نجد أن ما يسميه شيلتون سيناريو البلطجة (بمعنى أن «البلطجي دائما ما يهاجم من هم أضعف منه، ولذلك فالطريقة الوحيدة لتجنب مهاجمتك هي أن تبدو قويا») يستخدم للتعبير الاستعاري عن العلاقات الدولية في صورة علاقات بين الأفراد، والنمط الأولى للبلطجة بالمعنى المقصود هو ما يسود بين تلاميذ المدارس (حيث يفرض الأضخم حجما سيطرته على من هم أضعف منه). ويبين جارتون ومونتجومري وتولسون (1988م) أن هذا السيناريو وغيره يمثل الطرائق التي استخدمتها أجهزة الإعلام في تحويل أحد التصريحات الرئيسية التي أدلى بها نيل كينوك، زعيم حزب العمال، إلى (استعارة حربية) وبناء هذه الاستعارة إعلاميا.
وطرائق التصوير المجازي للأحداث التي تخل بالتوازن الاجتماعي النسبي (مثل الحروب والأوبئة والكوارث البيئية غيرها) في أجهزة الإعلام وفي غيرها تعيننا على أن ننظر نظرة ثاقبة في قيم إحدى الثقافات ومشاغلها، فعلى سبيل المثال بحثت سونتاج (1988م) الصور المجازية لمرض الإيدز (نقص المناعة المكتسب). وهي تقول: إن الصورة المجازية الرئيسية للمرض هي صورة «الطاعون»، فالإيدز مثل الطاعون مصدره أجنبي، ويرتبط في أصوله بالأجانب، إذ يعتبر أنه نبع في أفريقيا، وتحيطه هالة عنصرية الروابط النمطية بين السود وبين «الطابع الحيواني والانحلال الجنسي». وترتبط استعارة الطاعون أيضا باستعارة حربية: فمرض الإيدز يمثل غزوا وهو غزو، بمزيد من التحديد، قام به العالم الثالث لأوروبا وأمريكا، وتفسير الإيدز يشبه تفسير الطاعون في كونه يمثل «حكما على أحد المجتمعات» بسبب التسيب الأخلاقي، وتضيف قائلة: إن البعض يستخدم مرض الإيدز بصورة سياسية ، وأسلوب ينم عن كراهية الميول الجنسية المثلية، بقصد قهر «مجتمع الإباحة»، ولكن هذه الاستعارة تتسم بجوانب متناقضة وإشكالية، إذ لا يتمتع أحد بالحصانة من الطاعون أو الإيدز، ومع ذلك فإن هذا التعميم يعرض للخطر البناء الأيديولوجي المهم للإيدز باعتباره مرض «الآخر»، بمعنى أن مرضهم يشكل تهديدا لنا «نحن».
الخاتمة
بهذا أختتم مناقشة الخصائص التحليلية للنصوص التي شغلت الفصلين الخامس والسادس. وسوف أضم الموضوعات التي ناقشتها بعضها إلى بعض في الفصل الثامن بصورة مختصرة باعتبارها جزءا من الخطوط الإرشادية اللازمة لتحليل الخطاب، ومن المناسب أن أذكر القراء هنا بالإطار الثلاثي الأبعاد لتحليل الخطاب الذي قدمته في الفصل الثالث، والأبعاد هي: تحليل الخطاب باعتباره نصا، وباعتباره ممارسة خطابية، وباعتباره ممارسة اجتماعية، حتى أؤكد أن تحليل النص ليس مما ينبغي عزله عن سواه. فمن اليسير أن ينغمس المرء انغماسا شديدا في تعقيدات النصوص إلى الحد الذي يجعله يرى أن تحليل النص غاية حميدة في ذاتها. ولا شك في وجود بعض أشكال تحليل الخطاب التي تنحو هذا المنحى، مثل الأشكال التي كان يعنيها بورديو عندما وصف تحليل الخطاب بأنه «انتكس فاتخذ أشكالا للتحليل الداخلي التي يتعذر الدفاع عنها» (1988م، 17)، فعلى العكس من ذلك أريد أن أؤكد أن التحليل لا يمكن أن يتكون فحسب من وصف النصوص بمعزل عن تفسيرها (وقد سبق لي أن ميزت بين هذه المصطلحات عاليه)، وهكذا فإنني دأبت على تفسير النصوص الموصوفة في هذا الفصل والفصل السابق. وللتفسير ضرورة على مستويين: أحدهما محاولة تفهم معالم أحد النصوص باعتبارها عناصر في ممارسة خطابية، وخصوصا باعتبارها «آثارا» لعمليات إنتاج النصوص (بما في ذلك الجمع بين العناصر والأعراف غير المتجانسة الخاصة بالتناص والتداخل الخطابي) وباعتبارها أيضا «مفاتيح» في عمليات تفسير النصوص. ويتشابه هنا وصفي لما يفعله المحلل، ووصفي في الفصل الثالث لما يفعله مفسرو النصوص، إذ إن المحللين يحتاجون أيضا إلى الموارد التي يتمتعون بها باعتبارهم أفرادا ذوي كفاءة في مجتمعاتهم، حتى ولو استخدموا هذه الموارد بانتظام أكبر، وأما المستوى الآخر للتفسير فهو محاولة فهم معالم أحد النصوص وتفسير المرء لكيفية إنتاجها وتفسيرها، من خلال اعتبارها جوانب دفينة في ممارسة اجتماعية أوسع نطاقا. وكنت في عمل سابق لي قد ميزت بين هذين المستويين للتفسير بالإشارة إلى الأول بمصطلح «التفسير» فقط، وإلى المستوى الثاني بمصطلح «الشرح» (فيركلف، 1989م، أ، 140-141).
ليس الوصف منفصلا عن التفسير على نحو ما يفترض في حالات كثيرة، فالمرء باعتباره محللا (وباعتباره مفسرا عاديا للنصوص) يقوم بالتفسير حتما طول الوقت، ولا توجد مرحلة من مراحل التحليل تعتبر وصفا محضا. ومن ثم فإن تحليل المرء لنص من النصوص يتشكل ويتلون بتفسيره لعلاقته بالعمليات الخطابية والعمليات الاجتماعية الأوسع نطاقا، بل إن نسخ نص منطوق يتضمن حتما التركيز على تفسير له (انظر الحديث عن النسخ في الفصل الأخير) واختيار المرء ما يصفه يعتمد على ما انتهى إليه من قبل من تفسير، وبالإضافة إلى ذلك فإن ما أسميه المعالم التحليلية للنص تتسم في حالات كثيرة بامتزاج شديد بينها وبين التفسير، فعلى سبيل المثال سوف تجد أن أنساق التلازم اللفظي في النصوص التي حللتها في إطار تحليل التماسك النصي ليست أنساقا موجودة وجودا موضوعيا في النص، بل هي، إن صح هذا التعبير، أنساق «وضعت» في النص نتيجة تفسير المرء له. وهكذا فإن الأمر لا يقتصر على أن الوصف والتفسير يلزم كل منهما للآخر، بل إنهما أيضا يمتزجان ويختلط أحدهما بالآخر.
ويتشابه المحلل والمشارك في جوانب أخرى، فالتحليل يؤدي إلى إنتاج نصوص يجرى توزيعها واستهلاكها اجتماعيا مثل غيرها من النصوص، وخطاب التحليل - مثل أي خطاب آخر - يمثل شكلا من أشكال الممارسة الاجتماعية: فله علاقة جدلية بالأبنية الاجتماعية، وله موقعه الذي تحدده علاقته بالصراع الاجتماعي، وهو يقبل الاصطباغ بصبغة أيديولوجية وسياسية، فالمحللون ليسوا فوق الممارسة الاجتماعية التي يحللونها بل إنهم في داخلها. ومن ثم فللمرء أن يتوقع أن يتسموا بأقصى قدر ممكن من الوعي الذاتي إزاء الموارد التي ينهلون منها في تفسير الخطاب، وإزاء طبيعة الممارسة الاجتماعية للتحليل نفسه، أي بالأبنية التي تتحكم فيها، وتوجهها إلى مواقع الصراع، ونتائج هذا التوجه وآثاره في ضروب الصراع والأبنية.
الفصل السابع
الخطاب والتغير الاجتماعي في المجتمع المعاصر
في إطار التوجه المزدوج للتغير الخطابي الذي ناقشته من قبل (في أواخر الفصل الثاني في قسم منفصل) ينصب تركيزي في هذا الفصل على التغير المستمر في نظم الخطاب لا في الأحداث الخطابية، وسوف أحدد اتجاهات عامة معينة في التغير الخطابي ذوات تأثير في النظام المجتمعي للخطاب، وأرجع هذه الاتجاهات إلى الدروب الأعم التي يسير فيها التغير الاجتماعي والثقافي، ونوع التغير الذي سوف أشير إليه يتسم في جانب منه بطابع دولي أو على الأقل عبر وطني، على نحو ما أشرت إليه في المقدمة. وأنا أعجب لضآلة الاهتمام بأمثال هذه الاتجاهات إلى التغيير في نظم الخطاب؛ ومن ثم فينبغي النظر إلى هذا الفصل باعتباره مدخلا استكشافيا إلى مجال بحث واسع يعاني من التجاهل إلى حد كبير، وسوف أناقش ثلاثة اتجاهات رئيسية: الأول إضفاء الديمقراطية على الخطاب، والثاني «تسليع» الخطاب، والثالث اكتسابه الطابع التكنولوجي. فأما الاتجاهان الأولان فيتعلقان بتغييرات موضوعية في الممارسات الخطابية، وأما الثالث فيقول إن التدخل المتعمد في الممارسات الخطابية من العوامل التي تزداد أهميتها في إحداث التغيير. ولهذه الاتجاهات تأثير شامل متغلغل في نظم الخطاب المعاصر، وإن كان تأثيرها يتسم بالتفاوت، وتوجد مظاهر تضاد شديد فيما بين نظم الخطاب المحلية المرتبطة بمؤسسات أو مجالات معينة.
ومن شأن التركيز على اتجاهات معينة أن يمهد لنا الطريق إلى تحديد أنساق محددة داخل العمليات المركبة والمتناقضة للتغير الخطابي الجاري، ولكن هذا طريق بالغ التجريد في النظر إلى التغيير، ويحاول القسم الأخير من هذا الفصل تصحيح ذلك إلى حد ما، وذلك بأن ننظر كيف تتفاعل الاتجاهات مع بعضها البعض، وكيف يمكن أن تظهر هذه الاتجاهات في عمليات الصراع على الهيمنة على هيكلة نظم الخطاب. وأنا أقدم تفسيرات مختلفة لهذه الاتجاهات من حيث اختلاف نماذج الممارسة الخطابية، وأسوق الحجة على أن نموذج الهيمنة الذي أدعو إليه قادر على تقديم تفسير أكثر إقناعا من نموذج «الشفرة» أو نموذج «الفسيفساء» (أي النموذج «التفاوضي»). (1) إضفاء الديمقراطية
أعني بإضفاء الديمقراطية على الخطاب إزالة مظاهر عدم المساواة وعدم التناظر في الحقوق الخطابية واللغوية، وفي التزامات المجموعات البشرية وصيتها، ولقد كان إضفاء الديمقراطية على الخطاب، مثل الأخذ بأسباب الديمقراطية بصفة عامة، من المعايير الأساسية للتغيير في العقود الأخيرة، ولكن العملية في الحالتين كانت تتسم بالتفاوت الشديد (ففي بريطانيا على سبيل المثال، اكتسب الناطقون باللغة الويلزية حقوقا أكبر من الناطقين باللغة الجوجوراتيه (لهجة هندية رئيسية))، وفي كلتا الحالتين ترددت تساؤلات عن مدى صدق التغيير ومدى كونه ضربا من التجميل الظاهري. وسوف أستعرض خمسة مجالات شهدت إضفاء الديمقراطية على الخطاب؛ الأولى هي العلاقة بين اللغات واللهجات المحلية، والثانية إمكان المشاركة في أنماط الخطاب ذوات المكانة الرفيعة، والثالثة التخلص من علامات السلطة السافرة في أنماط الخطاب المؤسسي المتسمة بتفاوت علاقات السلطة فيها، والرابعة الاتجاه نحو اللغة غير الرسمية، والتغييرات في الممارسات الخاصة بالجنسين في اللغة.
فمن الصحيح بصفة عامة أن بعض اللغات المختلفة عن اللغة الإنجليزية، وبعض اللهجات الاجتماعية المختلفة عن الإنجليزية المعيارية، إلى جانب طرائق نطق منوعة للإنجليزية، أصبحت تتمتع بالقبول أو بعدم الاعتراض عليها في شتى المناسبات العامة على نطاق واسع، بل إن هذا الاتجاه ازداد اتساعا منذ الحرب العالمية الثانية عما كان عليه قبلها، ولكن هذا لا يعني الزعم بأن عهد اليوتوبيا اللغوية قد أشرق، فلقد كانت هذه من منجزات الكفاح الاجتماعي، كما أنها واجهت بعض المقاومة ولا تزال تتعرض للمقاومة. أضف إلى ذلك أنها متفاوتة المستوى، إذ تعاني أشد الأقليات حرمانا، مثل شتى الجاليات الآسيوية في بريطانيا، من وجوه ظلم عنصرية في هذا المجال وفي غيره. ومع ذلك فقد كانت الديمقراطية ولا تزال تمثل قوة حقيقية في هذا الصدد، وعلى الرغم من أن جانبا كبيرا من الجدل لا يزال يدور حول الحالات التي لا يزال التعصب وعدم المساواة يتخذان فيها صورة صارخة، فإن مستوى الجدل وبروزه يشيران إلى أن أمثال هذه القضايا تشغل الأذهان فعلا. ومن الأمثلة التي يكثر إيرادها مثال الإذاعة، حيث أصبح بعض الأشخاص من ذوي اللهجات غير المعتمدة وطرائق النطق الإقليمية يشاركون فيها بصورة غير مسبوقة، وإن كان ذلك لايزال في حدود ضيقة إلى حد ما. فعلى سبيل المثال لا تزال إجادة الإنجليزية المعتمدة وطرائق ما يسمى ب «النطق المقبول» شرطا تقتضيه التقاليد لمذيعي نشرات الأخبار القومية، وعلى الرغم من أن المرء قد يصادف مذيعين من ذوي طرائق النطق (الإقليمية) الذين يقرءون، مثلا، الأخبار الإقليمية على الشبكات القومية للتليفزيون والإذاعة، فلن يصادف المرء أشخاصا ذوي طرائق نطق عمالية. وطرائق نطق الطبقة العاملة لا توجد إلا في برامج المسابقات وفي المسلسلات الدرامية. وعلى غرار ذلك نجد أنه إذا كانت الإذاعة تقدم برامج كثيرة باللغة الويلزية، فإن اللغات الآسيوية وغيرها من لغات الأقليات لا تحظى إلا باهتمام هامشي. فالواقع أن الإذاعة تبدي قدرا من الاحترام للمستويات غير المعتمدة من اللغة الإنجليزية ولغات الأقليات في مجال الحياة العامة، وإن يكن ذلك في القطاعات ذوات المكانة المتواضعة في ذلك المجال.
وتثير هذه الاتجاهات التساؤل عما إذا كانت هيمنة اللغة الإنجليزية المعتمدة التي تميزت بها الفترة الحديثة (ليث، 1983م) توشك الآن على الانتهاء، ترى هل نحيا اليوم في عصر ما بعد اللغة المعتمدة؟ (انظر جيمسون، 1984م.) ويوجد كذلك البعد الدولي لهذا السؤال، فإذا كان موقع اللغة الإنجليزية باعتبارها لغة عالمية غير رسمية يزداد قوة، فإن أنواعا مختلفة من اللغة الإنجليزية، مثل الإنجليزية الهندية والإنجليزية الأفريقية، التي لم تحظ إلى الآن بالقدر اللازم من الاعتراف بها، قد بدأت تظهر بقدر أكبر من المساواة مع الإنجليزية البريطانية والإنجليزية الأمريكية (وإن كان علينا ألا نبالغ في هذا الصدد، فما زالت الإنجليزية البريطانية والإنجليزية الأمريكية هما اللتين يتعلمهما الملايين في مدارس اللغات في شتى أرجاء العالم). وإذا صح وجود ابتعاد حقيقي عن المعايير الموحدة على المستويين القومي والدولي، فهل يمثل ذلك شرخا حقيقيا في الهيمنة داخل المجال اللغوي، أم إن الهيمنة تتخذ أشكالا جديدة وحسب؟ سوف نعود إلى أمثال هذه القضايا في المناقشة التالية للتغير الخطابي في سياق المناظرة بين الحداثية وما بعد الحداثة.
ويرتبط بهذه الصورة الأولى للديمقراطية نوع معين من ديمقراطية المشاركة في أنماط الخطاب ذات المكانة الرفيعة، ومواقع الذوات المتسمة بالرفعة والسلطة في داخلها، للمتحدثين بأنواع غير معتمدة من اللغة الإنجليزية، وللمرأة، وللسود وللآسيويين. ومن الأمثلة ازدياد عدد النساء اللاتي استطعن الحصول على مهن في سلك القضاء (وإن كانت مناصبهن تقتصر على قضاة الصلح والمحامين الذين يعدون المذكرات ولا يترافعون في المحاكم، ولا تشمل وظائف كبار المحامين أو قضاة المحاكم العليا) أو في سلك التعليم، أو في أجهزة الإعلام. والقضية الأساسية هنا، بطبيعة الحال، قضية الالتحاق بمؤسسات معينة والحصول على مواقع داخلها، وما المشاركة في الخطاب إلا جانب من جوانب هذه القضية. وكان من نتائج ذلك أن أصبحت اللهجات غير المعتمدة وطرائق النطق الإقليمية مقبولة، إلى حد ما، بما يتفق مع الممارسات الخطابية التي كانت تعتبر من قبل غير متسقة مع المناصب المذكورة، إذ أصبح من الممكن في هذه الأيام إلقاء محاضرة جامعية بلهجة سكان مدينة ليفربول (وإن لم تزل الإشكالية المرتبطة بذلك قائمة).
ومن ظواهر التغيير الملاحظ بصفة عامة ظاهرة ترتبط ارتباطا جوهريا بموضوع هذا الكتاب ألا وهي التخلص من العلامات السافرة على المراتب والتباين في السلطة في أنماط الخطاب المؤسسي الذي تتفاوت فيه علاقات السلطة. والتضاد بين المقابلة الشخصية القائمة على الطب المعتمد والمقابلة الشخصية القائمة على الطب البديل في العينتين السالف إيرادهما أعلاه يمثل ذلك؛ ففي الأولى كان الطبيب هو الذي يتحكم في تناوب أدوار الكلام وموضوعاتها من خلال سيطرته على دورات السؤال والجواب والتقييم، وأما في الأخيرة فقد غابت مظاهر هذا التفاوت. ويمكن العثور على حالات تضاد مماثلة بين الممارسات التقليدية والممارسات «الحديثة» في التفاعلات ما بين المحاضر والطالب، وما بين المعلم والتلميذ، وما بين المدير والعامل، وما بين أحد الوالدين وطفله. ومن بين أنماط العلامات الكثيرة التي يشيع التخلص منها: ألقاب المخاطبة غير المتناظرة؛ والتوجيهات المباشرة (بأفعال الأمر مثلا)، والاستعاضة عنها بأشكال غير مباشرة تحفظ للسامع ماء وجهه (براون ولفنسون، 1978م)؛ وكذلك عدم التناظر في الحق في المشاركة بطرائق معينة مثل تقديم موضوعات جديدة، وطرح الأسئلة؛ واستخدام ذوي السلطة من المشاركين مفردات لا يعرفها الآخرون، ومع ذلك فقد يستطيع المرء، بطبيعة الحال، أن يجد هذه المعالم جميعا إلى الآن في أنماط تفاعل معينة.
وقد يكون لنا أن نقول أيضا إنه في الوقت الذي أصبحت العلامات السافرة أقل ظهورا فيه، فإن قوة العلامات الخفية الدالة على عدم التناظر في السلطة تشتد، وهو ما يؤدي إلى ازدياد صعوبة إدراك عدم التناظر في السلطة بدلا من اختفائه. فإذا كنت، على سبيل المثال، الشخص المكلف بصوغ مفاد ما قلناه في مناقشة ما أو بتلخيصه (ومن ثم أقدم باستمرار مفهومي لما حدث) فإن هذا نهج يمثل عدم التناظر في السلطة، وصعوبة إدراك ذلك أكبر من تمتعي وحدي بالحق في الكلام دون أن يدعوني أحد. ومع ذلك فإن عدم التناظر هنا قوي إلى حد ما، ويستطيع المرء أن يستغله في التحكم في مجرى التفاعل. ويقول هريتدج (1985م) على سبيل المثال: إن من يجرون المقابلات الإذاعية يستخدمون حقوقهم في الصياغة باعتبارها أسلوبا لممارسة السيطرة، وتقييم ما قاله ضيوف المقابلة، من دون انتهاك التزامهم بعدم التعبير عن أحكامهم على ما قيل.
ويتمثل أحد طرائق تفسير أمثال هذه الحالات في القول بأن التخلص الظاهر من العلامات السافرة على وجود السلطة وعدم التناظر في التمتع بها، من باب التجميل في الحقيقة وحسب، وأن أصحاب السلطة و«حرس المداخل» بشتى أنواعهم يقتصر عملهم على استبدال آليات سيطرة خفية بالآليات السافرة، وفي هذا الرأي بعض الصدق، ولكنه يقدم نصف الحقيقة فقط. فأسلوب إضفاء الديمقراطية المذكور قد يكون من باب التجميل وحسب، ولكنه يمكن أن يكون حقيقيا، وأن يكون معناه مثار صراع، كما أقول أدناه.
ويرتبط الاتجاه نحو التخلص من العلامات السافرة للسلطة ارتباطا وثيقا بالاتجاه نحو التخلص من الطابع الرسمي، إذ إن عدم التناظر في السلطة والمكانة يزداد حدة وشدة بازدياد الطابع الرسمي للموقف. ومن الظواهر الرئيسية لازدياد التخلص من الطابع الرسمي أسلوب انتقال خطاب المحادثة، بالأمس واليوم، من مجاله الأولي وهو التفاعلات الشخصية في المجال الخاص، إلى المجال العام، إذ إن المحادثة تستعمر أجهزة الإعلام (كريس، 1986م؛ فاولر، 1988م، ب) وأنماطا مختلفة من الخطاب المهني/العام، والتعليم وهلم جرا، وأنا أعني بذلك أن الخطاب فيها يكتسب طابع المحادثة بصورة متزايدة، ويعتبر هذا جانبا من إعادة ترسيم كبرى للحدود بين المجالين العام والخاص.
ومن أبعاد ظاهرة التخلص من الطابع الرسمي المذكورة تحول معين في العلاقة بين الخطاب المنطوق والخطاب المكتوب، وقد رأينا أمثلة على ذلك من الصحف في الفصل الرابع عاليه؛ فالعينة الأولى تحاكي خطاب المحادثة في تقريب أفعال أصحاب السلطة وأقوالهم إلى قراء الصحيفة، والعنوان الذي يقول إن «قهرمان (رئيس الخدم في منزل) ديانا يستقيل ... لابسا حذاءه الرياضي» لا يستخدم فقط مفردات المحادثة ولكنه يستعين أيضا بحيلة شكلية وهي وضع ثلاث نقاط وسط الجملة لمحاكاة التوقف «الدرامي» (أي المسرحي) وسط الكلام. ولم يعد الفصل بين الكلام المنطوق والكلام المكتوب الفصل الذي يقتضيه المنطق السليم، كما يبدو، وعند التحول من أحدهما إلى الآخر. والتعبير الشائع الذي يصف حديث فرد ما بأنه «يتكلم مثل كتاب» يبين رؤية الناس لمدى تأثير اللغة المكتوبة في الكلام الرسمي، ونحن نجد التحول إلى لغة المحادثة لا في أجهزة الإعلام المطبوعة والإعلانات وحسب، بل أيضا في الأشكال الجديدة للاستمارات الرسمية، مثل استمارات طلب مدفوعات الرعاية الاجتماعية (فيركلف، 1989م، أ، 218-222). ربما يكون زمن تأثر المتحدثين بلغة الكتابة قد ولى، فأما القيم الثقافية المعاصرة فتعلي كثيرا من قيمة التخلص من الطابع الرسمي، والنهج المهيمن للتحول هو الاتجاه إلى أشكال تشبه الكلام المنطوق.
ولكن المحادثة تعتبر نموذجا قوي التأثير في الأنماط الأخرى من الخطاب المنطوق. وهذا يعني أن زيادة طابع المحادثة لا يقتصر على أجهزة الإعلام المطبوعة، بل يمتد إلى الأجهزة المذاعة، مثل الراديو والتليفزيون. وقد رصد تولسون (1990م) عملية اكتساب طابع المحادثة في المقابلات الشخصية الإعلامية. فلقد ازداد كثيرا مقدار المحادثات التي نستمع إليها ونشاهدها في أجهزة الإعلام (مثل برامج «الدردشة» (الشات) وغيرها) وهي كثرة تبين مدى ما تحظى به من تقدير، ولكن المذيعين «يتحادثون» أيضا بكثرة مع جماهير المستمعين والمشاهدين، كأنما يتحادثون مع أفراد في هذه الجماهير، كما أن أنماطا منوعة من المقابلات الشخصية، والمقابلات الأخرى، بين المهنيين و«جماهيرهم» تكتسب المزيد من سمات المحادثة، على نحو ما ذكرت عاليه، وكما هو الحال بالنسبة للتخلص من علامات عدم التناظر في السلطة، ينشأ التساؤل هنا عن مدى صدق الطابع غير الرسمي، أي مدى اتخاذه لأسباب استراتيجية؛ وسوف أعود إلى هذا التساؤل أدناه.
والمجال الأخير لإضفاء الديمقراطية الذي أريد الإشارة إليه هو العلاقات بين الجنسين في اللغة، وهو الذي ظل يمثل أبرز حالة من حالات الصراع المعلن حول الممارسات الخطابية في السنوات الأخيرة. فالدراسات الكثيرة التي تعالج «اللغة بين الجنسين» تتضمن ما يشير إلى عدم التناظر بين المرأة والرجل (وترجيح كفة الرجل) فيما يتصل بمقدار الكلام، ومناقشة الموضوعات، واحتمالات المقاطعة أثناء الكلام، وهلم جرا (كاميرون، 1985م؛ كوتس، 1986م؛ جرادول وسوان، 1989م)، وعلى سبيل المثال، تبين دراسة لمحادثة بين أزواج أمريكيين من ذوي البشرة البيضاء وجميعهم من المهنيين (فيشمان، 1983م) أن النساء أثرن موضوعات أكثر مما أثاره الرجال (47 و29 على الترتيب)، ولكن الموضوعات التي أثارها الرجال أصبحت كلها تقريبا (28) من مجالات المحادثة، في حين أن المحادثة لم تتناول أكثر من ثلث الموضوعات التي أثارتها النساء (17) إلا بقليل. وكان الرجال عندما يقدمون الموضوعات يجدون أن النساء يشرن إلى انتباههن (بردود موجزة مثل «نعم» والغمغمة) ويبدين قبولهن للموضوعات وردودهن عليها. وعلى العكس من ذلك وجدت الدراسة أن الرجال لا يبدون انتباههم عموما أثناء عرض النساء للموضوعات، أي أثناء كلامهن، وأنهم يبدون استجابة محدودة للموضوعات المقترحة (الأمر الذي لا يشجع المتحدثين على مواصلة النظر في الموضوع) عندما تنتهي النساء من الكلام.
وقد سجل الدارسون حالات كثيرة للتحيز للرجل في اللغة وفي استعمال اللغة (والتحيز مناف للديمقراطية) على نطاق واسع، مثل استعمال ضمير المذكر الغائب (متصلا أو منفصلا) كأنما هو ضمير يشير إلى الإنسان، ومن ثم استخدامه في الإشارة إلى المرأة والرجل جميعا، إلى جانب استخدامه في الصيغ المشهورة مثل «الرئيس» (جرادول وسوان، 1989م، 99-110). ولو كان الضمير المذكور «اسم جنس» حقا، لوجدناه مستعملا في الإشارة إلى مجموعات الأشخاص الذين يضمون الرجال والنساء معا، ومع ذلك فما أقل الحالات التي يستخدم فيها ضمير المؤنث الغائب على نطاق واسع بهذه الطريقة، كالمثال التالي: «إذا بدأت سكرتيرة تشكو من نوبات صداع، فالأرجح أن معدات المكتب التي تستخدمها معيبة.» إن ضمير المؤنث الغائب يستخدم بهذه الطريقة لأن «العضو النمطي» لمجموعة الأفراد التي ينتمي إليها امرأة، أي إن المعتاد أن يقوم بأعمال السكرتارية أو التمريض امرأة، ولكن إذا كان ضمير الغائب المؤنث المستخدم هنا للإشارة غير المخصصة يقوم على مثل هذا النمط المعتاد، أفلا يصدق هذا أيضا على ضمير الغائب المذكر؟ وإذا كانت اللوائح الجامعية تتضمن نصا كالتالي «إذا أراد الطالب قطع دراسته لأسباب شخصية أو صحية، فعليه مناقشة الأمر أولا مع المشرف عليه»، أفلا يكون النمط المفترض للطالب هنا ذكرا؟ لمن يريد أن يرجع إلى حجة تقول بها أن ينظر مارتينا (1978م).
وعلى الرغم من أن معظم النقاش قد ارتكز من جديد على استمرار الممارسات غير الديمقراطية والمنحازة للرجل، فإن سياق النقاش يمثل انفتاحا للعلاقات بين الجنسين وإضفاء الديمقراطية عليها، وهو سياق له جوانبه الخطابية، ونشهد هذه الأيام تدخل الكثيرين - لا من دعاة نصرة المرأة اللاتي يفعلن هذا عن وعي، بل من نساء أخرى كثيرات ورجال كثيرين - تدخلا فعالا للتقليل من ظاهرة الانحياز للرجل في استعمال اللغة، بحظوظ متفاوتة من النجاح. وقد يتخذ التدخل صورا متنوعة؛ منها إصدار خطوط إرشادية لتجنب الانحياز للرجل في المؤسسات؛ ومنها الكتابة والرسم في لافتات إعلانية أو على الجدران لإظهار الخطاب المنحاز للرجل والطعن فيه؛ ومنها الكفاح لتمكين المرأة من الظفر بمواقع وأدوار وممارسات ذات مكانة عالية، ومن الأشكال المهمة للتدخل الانخراط في ضروب كفاح ذوات هيمنة أكبر، ابتغاء تصحيح الممارسات في مؤسسات معينة مثل الاجتماعات النقابية أو مجالس الأقسام العلمية في الجامعات حتى يتيسر للمرأة المشاركة، أو اعتماد طرائق تفاعل تعاونية لا تنافسية وهي التي كثيرا ما تحظى بتقدير من المرأة يفوق تقدير الرجل لها، بل ولا ينبغي أن نغفل «لغة الصمت» باعتبارها من طرائق التدخل، فقد يفسر الناس ويظهرون ردود أفعالهم للخطاب بطرائق تعارضه حتى ولو عبروا تعبيرا صريحا عن معارضتهم. وقد يوجه الرجال تدخلهم أحيانا ضد أبعاد خطابية لمظاهر الذكورة، مثل افتراض أن «كون الرجل رجلا» يمنحه الحق في ممارسات خطابية عدوانية وبذيئة. وأمثال هذه الممارسات «التدخلية» أقرب إلى عادات شرائح معينة من الطبقة المتوسطة وأشد تأثيرا فيها عن غيرها.
ومسائل التدخل تذكرنا في الوقت المناسب بأن الاتجاهات التجريدية، مثل إضفاء الديمقراطية، تمثل جماع الصراعات المتناقضة التي قد تواجه فيها التدخلات لإعادة هيكلة نظم الخطاب مقاومة منوعة الأشكال، وقد تتعرض لاستراتيجيات احتواء مختلفة، بغرض الحفاظ على صور الهيمنة في مجال الخطاب، ومن أمثال هذه الاستراتيجيات استراتيجية التهميش، ومن الأمثلة التي ذاع صيتها قضية اقتران اسم المرأة بالمختصر
Ms (ينطق مز) وكان الهدف من ابتكار هذا اللقب أصلا فرض التناظر بين الجنسين على الألقاب، أي إنه يشترك مع
Mr (مستر) في عدم الإشارة إلى «الحالة الاجتماعية» (وهو التعبير الذي نطلقه على التمييز بين المتزوج والعزب)، ولكننا نرى أن الاستمارات الرسمية تطبع المختصر
Ms
جنبا إلى جنب مع المختصرين القديمين
Mrs (مسز أي السيدة)، و
Miss (مس أي الآنسة)، باعتبارها بدائل يمكن الاختيار من بينها. وهكذا يصبح اختيار «مز» «فعلا سياسيا» بمعنى أنه قد يؤدي في معظم المجالات إلى تهميش صاحبته. والصراع حول هذه الأشكال مستمر، وعلى الرغم من أن إضفاء الديمقراطية على الممارسات الخطابية المتعلقة بالجنسين عملية أبعد ما تكون عن السلاسة والتعميم، فإن عدم التناظر بين الجنسين في الخطاب قد سلب وضعه الطبيعي وأصبح إشكالية ذات نطاق لا يستهان به. (2) التسليع
التسليع يعني أن بعض المجالات والمؤسسات الاجتماعية التي لا تعمل بإنتاج سلع بالمعنى الاقتصادي الضيق للبضائع المعدة للبيع، تخضع رغم ذلك لتنظيمها وتصويرها في إطار إنتاج السلع وتوزيعها واستهلاكها. ولم يعد من المستغرب، على سبيل المثال، أن نسمع أن بعض القطاعات الفنية والتعليمية، مثل المسرح وتعليم اللغة الإنجليزية يشار إليها باسم «الصناعات» التي تعمل بإنتاج وتسويق وبيع سلع ثقافية أو تعليمية إلى «عملائها» أو «مستهلكيها»، وليس التسليع عملية جديدة بالمعنى المفهوم، ولكنها اكتسبت أخيرا قوة وكثافة جديدتين باعتبارها جانبا من جوانب «ثقافة المبادرة (والهمة التجارية)» (كيت وأبركرومبي، 1990م)، وقد أشار ماركس نفسه إلى تأثير التسليع في اللغة، فالإشارة إلى الأشخاص باعتبارهم «الأيدي العاملة» في السياقات الصناعية، على سبيل المثال، جزء من النظر إليهم بصفتهم سلعا مفيدة في إنتاج سلع أخرى، أي باعتبارهم قوة عمل مجسدة. أما من حيث نظم الخطاب فلنا أن نتصور أن التسليع استعمار لنظم الخطاب المؤسسية، وللنظام المجتمعي للخطاب بصفة أعم، من جانب أنماط خطابية مرتبطة بإنتاج السلع، وسوف أشير إلى نماذج من التعليم والخطاب التعليمي.
ومن معالم الخطاب التعليمي المعاصر المنتشرة على نطاق واسع معاملة المناهج أو البرامج الدراسية باعتبارها سلعا أو منتجات يجري تسويقها على الزبائن، والمقتطف الذي استعملته في الفصل السادس مثال لهذا النمط:
عادة ما يكون منتج الإعداد المهني برنامجا، ومن ثم فإن تصميمه وتنفيذه عناصر رئيسية في عملية التسويق، ويجب أن تتمثل نقطة انطلاقه في احتياجات الذين يمكن أن يصبحوا زبائن وعملاء له والفوائد التي ينشدونها (وحدة التعليم المستمر، 1987م، 51).
والرسالة الموجهة إلى مصممي البرامج والمعلمين صورة تطبيقية مفصلة للقاعدة التسويقية التي تقول: «قدم إلى الزبائن ما يريدون»، وأمثال هذه الصياغات تتسبب في النقل المجازي لمفردات السلع والأسواق إلى نظام الخطاب التعليمي، ولكن الاستعارة في بريطانيا المعاصرة ليست مجرد زخرفة بلاغية، بل إنها البعد الخطابي لمحاولة إعادة هيكلة الممارسات التعليمية استنادا إلى النموذج السوقي، وقد تكون لها (كما يتضح من هذا المقتطف) آثار ملموسة في تصميم المناهج وتدريسها، وفي الجهد والأموال المبذولة في التسويق، وهلم جرا.
ولكن الخطاب التعليمي «المسلع» عادة ما يتضمن من التناقض الذاتي قدرا أكبر مما يوحي به هذا الكلام. ونحن نجد لمحة من هذا التناقض في الجمع بين «الزبائن» و«العملاء» في المقتطف الوارد أعلاه، وهو ما يشي بغموض واسع الانتشار حول من سوف تباع لهم السلع التعليمية أو «الحزم» المغلفة المشار إليها. تراها سوف تباع إلى طالب العلم أم إلى الشركات التي يعمل فيها طلاب العلم حاليا؟ أو ربما التحقوا بالعمل بها في المستقبل؟ هذه الشركات يمكن اعتبارها فعلا «عملاء» بالمعنى المباشر الذي يفيد تحمل نفقات الدورة التدريبية للمتعلم، ومن ثم فإن الصورة المبنية لطلاب العلم صورة متناقضة، إذ يرسم لهم من ناحية دور إيجابي، أي دور الزبون الفطن، أو الزبون الذي يدرك ما «يحتاج» إليه ويتمتع بالقدرة على اختيار المناهج التي تفي باحتياجاته، ويرسم لهم من ناحية أخرى دور سلبي، وهو كون أمثالهم عناصر أو أدوات في عمليات الإنتاج (وهو ما يشبه تعبير «الأيدي العاملة» في مثال ماركس) إذ يستهدفون للتدريب على اكتساب «مهارات» أو «قدرات» معينة، من خلال مناهج ترمي إلى تحقيق «أهداف تحصيل» محددة، تصل إلى ذروتها برسم صور للدارسين، وجميعها يتخذ صورة مهارات مخصصة ومحددة بدقة. لقد انتشر اليوم هذا الإطار وانتشرت هذه المصطلحات على نطاق واسع، خصوصا في التعليم السابق للتدريب المهني، ولكن هذه تستخدم أيضا، على سبيل المثال، في «تقرير كوكس» عن تعليم الإنجليزية في المدارس (وزارة التعليم والعلوم 1989م). والوجود المتزامن للصورتين السلبية والإيجابية للدارس تسهل التلاعب بالأشخاص من خلال التعليم، وذلك بأن تكتسي مظهرا يمكن وصفه بأنه نبرات الحديث الفردية والاستهلاكية.
والخطاب التعليمي المسلع تسوده المفردات الخاصة بالمهارات، وهي لا تقتصر على كلمة «المهارة» وحسب، والكلمات المتصلة بها مثل «المقدرة» و«الكفاءة»، بل صياغة كاملة لعمليات التعلم والتعليم القائمة على مفاهيم المهارة، والتدريب على اكتساب المهارات، واستخدام المهارات، ونقل المهارات وهلم جرا (انظر كتاب فيركلف «تحت الطبع»، ب). ويعتبر مفهوم المهارة عاملا مهما في تمكين الصورتين المتناقضتين للمتعلم من التعايش دون عدم اتساق ظاهر؛ لأن المفهوم يتفق فيما يبدو مع النظرة الفردية والذاتية للتعلم، وفي الوقت نفسه مع النظرة الموضوعية للتدريب. ويتجلى هذا الازدواج الدلالي في تاريخ المفهوم داخل الخطاب التعليمي المحافظ المنتمي إلى المذهب الإنساني الليبرالي، وفي التاريخ الدلالي لكلمة «المهارة» نفسها. فمفهوم المهارة تترتب عليه من ناحية معينة معان فردية إيجابية؛ فالمهارات صفات عالية القيمة في الأفراد، ويختلف الأفراد في أنماط مهاراتهم ودرجاتها، ويتمتع كل فرد بحرية تشذيب مهاراته أو إضافة مهارات جديدة إلى ما لديه (وأقول بالمناسبة: إن هذا المفهوم ديمقراطي أيضا، مما يعني أن كل فرد لديه طاقة على التعلم والتطور بشرط واحد، وهو حصوله على التدريب)، ويترتب على مفهوم المهارة من ناحية أخرى دلالات معيارية سلبية موضوعية؛ فجميع الأفراد يكتسبون بعض العناصر من مخزون اجتماعي مشترك من المهارات، من خلال إجراءات تدريب معيارية، كما إنه من المفترض إمكان نقل المهارات عبر مختلف السياقات والمناسبات والمستخدمين لها بأسلوب لا يكاد يتيح للطابع الفردي مساحة تذكر.
والمفردات الخاصة بالمهارة ذات أصول عريقة مبجلة في علم اللغة واللغويات التطبيقية، حيث تشيع الفكرة التي تقول إن استعمال اللغة يقوم على أسس مجموعات من «المهارات اللغوية» (مهارات الكتابة والقراءة والكلام والاستماع)، وتساعد هذه الصيغة على تسليع مضمون تعليم اللغات، بمعنى أنها تيسر تقسيمها إلى وحدات منفصلة، بحيث يمكن تدريس كل منها على انفراد وتقييم نتائجه، كما يمكن أن تباع وتشترى باعتبارها بضائع متميزة داخل الإطار المتنوع للسلع المتاحة في سوق التعليم. ولا تقتصر هذه الوحدات على كونها فئات المهارات الرئيسية الخاصة بالكتابة والقراءة والكلام والاستماع، بل إنها تمثل أيضا أجزاء مخصصة من كل مهارة. فمهارات الكلام يمكن تقسيمها إلى تقديم المعلومات، والتعبير عن الرأي، والمشاركة في مناقشة جماعية، ومن الممكن تقسيم كل جزء من هذه الأجزاء إلى أقسام فرعية، وهلم جرا (انظر مثلا قائمة مهارات الاتصال الخاصة بمشروع تدريب الشباب في وحدة التعليم المستمر، 1987م، 38). ومن شأن هذا، وفقا للجانب الذي يجري تأكيده من بين الجوانب المتناقضة للدارس، تسهيل أحد أمرين؛ إما التحديد الدقيق لجوانب النقص وتصحيحها، وإما تقديم ما يلزم لتلبية احتياجات المستهلك بأكبر قدر ممكن من التخصيص. وصياغة تعليم اللغة بمفردات المهارات تعني أيضا استنادها إلى نظرة معيارية (إلى حد كبير) إلى اللغة باعتبارها مجموعة من الممارسات المحددة (على نحو ما أقيم عليه الحجة في كتابي المقبل «ب»).
ولكن تسليع الخطاب التعليمي ليس مسألة مفردات وحسب، بل يتعلق أيضا بالنوع، فالتعليم مجال من بين عدة مجالات يستعمر «نوع الإعلان» نظم الخطاب فيها (فيركلف، 1989م، أ، 208-211)، ونتيجة لذلك تكاثرت أنماط النصوص التي تجمع بين معالم الإعلان ومعالم أنواع أخرى. وقد سبق لنا الاطلاع على مثال لهذا في النص الخاص ببطاقة باركليكارد عاليه، حيث يمتزج الإعلان بالنظم المالية. وبعد صفحة أو صفحتين نجد مثالا مختلفا إلى حد ما من مجال التعليم، وهو مقتطف من اللائحة الداخلية لمرحلة الليسانس بجامعة لانكاستر عام 1990م. وينبغي ألا نولي أهمية خاصة لاختيار الجامعة أو المنهج الدراسي، إذ توجد اتجاهات مماثلة، بوضوح وجلاء، في غير هذه المناهج واللوائح.
ومن المعالم المشتركة للمناهج في هذه اللائحة وضع صورة فوتوغرافية بالقرب من بداية المدخل، وعبارة «سوف تحتاج إلى» وبعض الرسوم البيانية في آخره. والإدراج المنتظم للصور الفوتوغرافية في اللوائح الداخلية من التطورات الحديثة نسبيا ، ويتجلى فيه تأثير الإعلان. فالإعلان المعاصر عن السلع عادة ما يتكون من مزيج من اللغة والصور «البصرية»، والاتجاه الحالي زيادة إبراز الصور. وهذا يتفق إلى حد ما مع التطورات التكنولوجية في التليفزيون وفي الطباعة، ولكن احتمال استغلال التكنولوجيات استغلالا كاملا يتوقف على اتفاقها، كما سبق لي أن ذكرت، مع مسار التغيير الاجتماعي والثقافي. وإذن فما الذي يكسبه الإعلان من الصور «البصرية»؟ علينا إذا أردنا إجابة هذا السؤال أن ننظر نظرة شاملة إلى الخصائص العامة للإعلان باعتباره نوعا مستقلا.
يعتبر الإعلان الخطاب «الاستراتيجي» الأول بلا مراء، وفقا للتمييز الذي وضعه هابرماس بين اللغة «الاستراتيجية» ولغة «الاتصال» (1984م). فمهمة الإعلان بناء «الصور» بمعناها الآخر، أي طرائق تقديم الأشخاص إلى الجمهور، أو تقديم المنظمات والسلع إليه، وبناء هويات معينة، أو «شخصيات» لأي منها. وتقضي ظروف السوق المعاصرة بأن تقوم أعداد من الشركات بتسويق منتجات متشابهة إلى حد كبير، فإذا أرادت إحداها إثبات اختلاف ما تنتجه كان عليها أن تبني له هوية خاصة، ونرى في الوقت نفسه أن فئات الأشخاص الذين يحتمل شراؤهم لهذه المنتجات كثيرا ما يتعذر تحديد انتمائها إلى أنماط اجتماعية قائمة ومستقلة (كالطبقات، والجماعات الإقليمية والعرقية ، والانتماء إلى أحد الجنسين ... إلخ)، وإذن، فلا بد من بناء هذه الأنماط في الخطاب أيضا، بل ولا بد من بناء صورة منتجي السلع وبائعيها، بحيث تتفق مع صور المنتجات وصور من يمكن أن يستهلكوها. وهكذا نرى الجمع بين المنتج وما ينتجه والمستهلك له باعتبارهم مشاركين في أسلوب حياة معين، أي في جماعة استهلاكية (لايس، وكلاين وجهالي، 1986م) وهي الجماعة التي يبنيها الإعلان ويحاكيها.
وأما ما يكسبه المعلنون من الصور البصرية فهو طاقتها الإيحائية على محاكاة أسلوب حياة معين، وهي تتفوق على اللغة بصفة عامة في قوتها وتأثيرها المباشر، إذ تستطيع الصورة البصرية الناجحة أن تخلق فورا عالما يمكن أن يشترك المستهلك المحتمل مع المنتج وما ينتجه في الحلول داخله من قبل أن يقرأ القارئ (أو يسمع المشاهد) لغة الإعلان، وهكذا فإن معظم الصور الفوتوغرافية المطبوعة في الكتيب الذي يتضمن اللائحة المشار إليها، تصور طلاب الجامعة أثناء عملهم (في قاعات الدرس، أو أثناء استعمال المعدات العلمية، أو الدردشة، وهلم جرا) بحيث تقدم لمن يمكن أن يلتحق بالجامعة من الطلاب الجو المادي والاجتماعي الذي يستطيعون أن يتخيلوا أنهم قد دخلوه. والصورة التي طبعت في أعلى المثال المرفق لا تمثل نشاطا طلابيا، ولكنها تقدم منظرا يمثل بيئة طبيعية ذات جمال أخاذ يتيح للطالب أن يتصور أنه قد دخله (إذا قضى عاما في جامعة أمريكية في إطار دراسته للحصول على الدرجة)، أي إن الصورة البصرية تقدم صورة مغرية للمنتج (أي السلعة) والمقصود هو برنامج الحصول على الدرجة الجامعية، بحيث يتخيل الطالب المحتمل أنه ينتمي إلى هذه الصورة.
وأما الأشكال المرسومة تحت عنوان «ما سوف تحتاج إليه» في آخر الموضوع فلا تتمتع بالخصائص الإيحائية للصورة الفوتوغرافية، ولكنها تسهم من جانبها في البناء المشترك للطالب المحتمل، وللجامعة، وللمنهج الدراسي. والأشكال البيانية من هذا النوع أسلوب فعال لتقديم المعلومات في لمحة سريعة. واستعمال الأشكال البيانية يدل ضمنا على أن المؤسسة تأخذ بالأساليب الحديثة، وبأنها حساسة لما يحتاجه الطلاب، خصوصا بسبب ما تتسم به الكتيبات التي تقدم التخصصات الجامعية واللائحة الداخلية من تعقيد لا يساعد القارئ على هضم المعلومات، كما أن هذه الأشكال ترسم صورة للطالب باعتباره ذا حاجات وقيم معينة، مثل حاجته إلى المعلومات العملية في شكل ييسر هضمها، ومثل تقديره للوضوح والكفاءة في تقديمها إليه.
واستخدام الأشكال البيانية يساعد أيضا على التغلب على التناقض الذي ينجم عن استعمار الإعلان لمثل هذه الكتيبات، فقد تريد الجامعات أن «تبيع» أنفسها للطلاب، ولكنها أيضا تفرض قواعد وشروطا صارمة على الالتحاق بها. وهكذا فإن الطلاب يشغلون من ناحية موقع سلطة معينة باعتبارهم مستهلكين يتمتعون بحق الاختيار، ويشغلون من ناحية أخرى موقع طالبي الالتحاق الذين لا حول لهم ولا طول، ويؤدي تهميش شروط الالتحاق وتقديمها من خلال الشكل البياني، إلى أن يفسر القارئ «المتطلبات» التي تفرضها الجامعة (أي الشروط التي تطلب توافرها فيمن يحق له الالتحاق بها) باعتبارها حقائق لا يوجد فيما يبدو مسئول عنها. ولاحظ كيف يظهر ذلك أيضا في تفاصيل الصياغة، مثل استخدام عبارة «سوف تحتاج إلى» بدلا من «نحن نشترط» أو «نحن نطلب».
ولننتقل الآن إلى النص الرئيسي: إن ما يلفت النظر فيه هو مزج المعلومات بمحاولة الإقناع، أي إطلاع من يمكن التحاقهم من الطلاب على البرنامج الدراسي و«بيعه» لهم. ويتضح هذا من ترتيب الجمل في الفقرة الأولى، فالجملة الثالثة تصف تشكيل البرنامج ولكنها مسبوقة بجملتين تشكلان إطارا لها في سياق قصصي عن برنامج الدراسات الأمريكية في جامعة لانكاستر، هل هذا إعلان أو محاولة إقناع؟
من الممكن بطبيعة الحال، تفسير ذلك على أنه إعلام أو محاولة إقناع، فالمعلومات الخاصة بسجل الجامعة السابق في مجال الدراسات الأمريكية مهمة للمتقدمين، دون شك، ولكن التجديد يزداد جاذبية لو أنه أقيم على أسس المنجزات السابقة. والكتيبات الجامعية الصادرة في الثمانينيات أكثر حدبا من تلك الصادرة في السبعينيات أو ما قبلها على اختيار وتنظيم معلوماتها استنادا إلى الحسابات الاستراتيجية الخاصة بقدرتها على الإقناع. ولنا أن نقول دون شطط إن الحساب الاستراتيجي للمعلومات ليس فيه جديد، وأما الجديد حقا فإمكان جعل المعلومات استراتيجية ومقنعة بوضوح وجلاء، دون أن يعتبر ذلك قضية (أي من دون لفت الأنظار إلى ذلك)، فلقد أدى تأثير الإعلان باعتباره نموذجا ذا مكانة رفيعة إلى أن أصبح مزج المعلومات بأفانين الإقناع أسلوبا طبيعيا، وظهرت شروخ في الفواصل التي كانت تفصل بينهما في نظم الخطاب، ومن عواقب ذلك التغيير الجذري الذي نشهده في طبيعة «الإعلام» والمعلومات.
ويتضح مزج المعلومات بأساليب الإقناع أيضا في الفقرات الأخرى من النص المقتطف، وسوف أركز على الفقرة الثانية. أما الجملة الأولى فتبدو «إعلامية» بصورة مباشرة، حتى نصادف كلمة «المختارة» (التي توصف بها الجامعة الأمريكية)، إذ إنها تبين مدى حرص جامعة لانكاستر على مصلحة طلابها. وكلمة «الخاصة» في الجملة الثالثة تقوم بمهمة مماثلة إلى حد كبير. وفي الجملة الثانية يتضح التنظيم والتأطير، فالمعلومات الخاصة بطول المنهج الدراسي يسبقها ويؤطرها بل ويربطها رابط سببي بعبارة «العلاقات الأمريكية الوثيقة» مع جامعة لانكاستر، ونقول بالمناسبة: إن هذه العلاقات مفترضة سلفا، كأنما ينبغي أن يكون الطلاب ملمين بها. وكلمة «وثيقة» تلمح إلماحا خفيا إلى تفوق جامعة لانكاستر، وهو ما يعتبر جانبا من جوانب المقارنة المضمرة بين جامعة لانكاستر والجامعات الأخرى. وطباعة كلمة ثلاثة بحروف مائلة، والمقارنة السافرة بين جامعة لانكاستر والجامعات الأخرى، توحي بأن قصر المنهج الدراسي يقصد به أن يكون عاملا مساعدا على «التسويق». (3) إضفاء التكنولوجيا
تتسم المجتمعات الحديثة بالاتجاه إلى زيادة التحكم في المزيد من جوانب حياة الناس، وقد وصف هابرماس هذه الظاهرة بأنها استعمار ل «عالم الحياة» من جانب «نظم» الدولة والاقتصاد (1984م، 40) وما قلته عاليه عن التسليع يشير إلى جانب خطابي من جوانب الاستعمار الاقتصادي. كما تعرض فوكوه أيضا لهذا الاتجاه العام، إذ أعد قائمة ب «التكنولوجيات» و«التقنيات» التي تخدم «السلطة الحيوية» الحديثة (انظر الفصل الثاني أعلاه).
ومن الممكن التوسع في تحليل فوكوه لتكنولوجيات السلطة بحيث تتضمن الخطاب، ومن المفيد أن نعتبر أن «تكنولوجيات الخطاب» (فيركلف، 1989م، أ، 211-223)، و«إضفاء التكنولوجيا على الخطاب» (فيركلف، 1990م، ب) يمثلان خصائص نظم الخطاب الحديثة. وتتضمن أمثلة تكنولوجيات الخطاب المقابلات الشخصية، والتعليم، وجلسات المشورة ، والإعلان. وأما سبب إطلاقي هذه التسمية عليها فرغبتي في أن أبين أنها قد اتخذت، وتواصل في المجتمع الحديث اتخاذ طابع التقنيات «عبر السياقية» (أي التي تتجاوز سياقا بعينه)، وتعتبر من ثم موارد أو أدوات يمكن استخدامها لتطبيق استراتيجيات بالغة التنوع في سياقات كثيرة مختلفة، ويزداد باطراد استخدام تكنولوجيات الخطاب في مواقع مؤسسية محددة من جانب ممثلين لقوى اجتماعية معينة. كما بدأت تكتسب التكنولوجيين المتخصصين العاملين في مجالها وحده، مثل الباحثين في مدى كفاءتها، وواضعي التصميمات الجديدة، التي تمثل التحسينات التي تقتضيها نتائج البحوث العلمية وتغير متطلبات المؤسسات، إلى جانب المدربين الذين ينقلون هذه التقنيات إلى المتدربين. ومن بين هؤلاء التكنولوجيين أعضاء أقسام العلوم الاجتماعية في الجامعات، ومن الأمثلة الراسخة مشروع البحوث والتدريب في مجال «المهارات الاجتماعية» الذي يقوم بتنفيذه علماء النفس الاجتماعي (أرجايل، 1978م). وأما الذين يستهدفون للتدريب في تكنولوجيات الخطاب فهم في العادة معلمون، وبعض من يجرون المقابلات الشخصية، والمعلنون، وغيرهم من «حراس المداخل» وأصحاب السلطة، وأما تكنولوجيات الخطاب فالمقصود بها أن تحدث آثارا محددة في الجمهور (العملاء والزبائن والمستهلكون) الذين لم يتلقوا التدريب عليها.
وتقيم تكنولوجيات الخطاب علاقة وثيقة بين المعرفة باللغة والخطاب والسلطة، إذ يجري تصميمها وتشذيبها استنادا إلى الآثار المتوقعة لأدق تفاصيل الاختيارات اللغوية في المفردات، والنحو، ونبرة الإلقاء، وتنظيم الحوار وهلم جرا، إلى جانب تعبير الوجه، والإيماء، والوضعية الجسدية والحركات، وهي تأتي بالتغيير الخطابي عمدا وعن وعي كامل، وهو ما يعني أن التكنولوجيين يحيطون بالمعارف الخاصة باللغة والخطاب والسيمياء (السيميوطيقا) إلى جانب معارف علم النفس وعلم الاجتماع. ومن المتوقع أن يزيد محللو الخطاب وعلماء اللغة من ممارسة تكنولوجيات الخطاب أو أن يتيحوا لتكنولوجيي الخطاب الاستفادة من نتائج بحوثهم.
وتتضمن تكنولوجيات الخطاب فنون المحاكاة، وخصوصا محاكاة معاني العلاقات بين الأشخاص والممارسات الخطابية لتحقيق أغراض استراتيجية وعملية. ويرتبط هذا بتعليقاتي السابقة على إضفاء الديمقراطية على الخطاب، إذ إن أصحاب السلطة المؤسسية يستخدمون على نطاق واسع تقنيات محاكاة تناظر السلطة ونبذ الطابع الرسمي. ومن الأمثلة على ذلك نوع المقابلات الشخصية التي تجري مع المتقدمين لشغل الوظائف في المرافق العامة مثل المستشفيات وأجهزة الحكم المحلي والجامعات. وقد استخدمت في كتاب آخر لي مصطلح «الطابع الشخصي المصطنع» (فيركلف، 1989م، أ، 62) في الإشارة إلى محاكاة جوانب معينة من معنى العلاقات بين الأشخاص استنادا إلى الحساب الاستراتيجي للآثار المترتبة على ذلك. أي إن محاكاة العلاقات بين الأشخاص ناجمة عن إخضاع جميع الجوانب الأخرى للممارسة الخطابية ومعناها لتحقيق أهداف استراتيجية وعملية، وهذا هو نمط التفاعل الذي يصفه هابرماس بأنه «استراتيجي» تمييزا له عن التفاعل «التواصلي» (انظر أعلاه). ويرتبط إضفاء التكنولوجيا على الخطاب بتوسيع نطاق الخطاب الاستراتيجي حتى يشمل مجالات جديدة.
ويبدو أن إضفاء التكنولوجيا على الخطاب قد امتد واتسع، إذ انتقل من بعض الأنواع مثل المقابلة الشخصية، والمقابلات الشخصية تعتبر جماهيرية ما دامت ترتبط بشتى ضروب الوظائف المؤسسية الجماهيرية، إلى النوع الأساسي في المجال الشخصي، وهو المحادثة. ويتجلى في هذا استيلاء المؤسسات على المحادثة، وشحنها بمضمون سياسي وأيديولوجي محدد. والمقابلة الشخصية القائمة على الطب البديل مثال لذلك. ويتجلى فيها أيضا أسلوب انتقال المجالات الخاصة إلى المجال العام، حيث تستعمر «النظم» مجالات «عالم الحياة»، إذا استعرنا تعبير هابرماس. وهكذا نرى تحويل الترتيبات المنزلية والعلاقات الأسرية إلى المجال العام، ولو إلى حد محدود، وكثيرا ما يشار إليها باعتبارها مجالا خاصا من مجالات السياسة.
فلنزد هذه المسائل إيضاحا بالإشارة إلى كتاب يصف الأسلوب الذي يتيح للمديرين في مواقع العمل تحسين مهاراتهم في المحادثة (مارجريسون، 1987م). وموضوع الكتاب هو «مهارات التحكم في المحادثة»، وإن كانت «المحادثة» هنا تتضمن الاجتماعات والمقابلات الشخصية الخاصة بالعمل، إلى جانب المحادثة غير الرسمية بالمعنى الضيق، وترتبط بعض المهارات التي يناقشها الكتاب، مثل مهارة «التلخيص» (المرادفة تقريبا ل «الصياغة» التي سبق ذكرها) ارتباطا أساسيا بأنماط الخطاب المؤسسية الرسمية، ولكن بعضها الآخر ينتمي إلى المحادثة غير الرسمية، والحق أن «مهارات التحكم في المحادثة» لا تقتصر، فيما يقال، على أهميتها للعمل، بل تتعدى ذلك إلى إدارة العلاقات داخل الأسرة وفيما بين الأصدقاء.
ويولي الكتاب اهتماما بضروب منوعة من المهارات، إذ يتناول أحد فصوله مهارات الاستنباط التي تعني أن يدرك السامع وأن يستجيب ل «المفاتيح» اللفظية و«الإشارات» غير اللفظية التي تومئ إلى معان عبر عنها المتحدث تعبيرا غير مباشر أو ألمح إليها وحسب. وأمثال هذه الإشارات تقتصر على المشكلات المهمة، وذلك عندما يشعر الناس أنهم لا يستطيعون الحديث بصراحة عنها، كما أن عجز السامع عن التقاط هذه المفاتيح والإشارات قد تكون له عواقب وخيمة. ومن القضايا المرتبطة بذلك مهارات الاستئذان لدخول «أرض المحادثة» - أي المشاعر والحالات النفسية والأفكار الخاصة والدوافع الشخصية للآخرين - وهي التي قد تكون «محرمة على الغير»، ويركز فصل آخر من فصول الكتاب المذكور على تقنيات تحويل محادثة قائمة على المواجهة إلى محادثة تعاونية، بما في ذلك مهارات إدارة الاختلاف والرفض. وتتضمن عدة فصول بعض المهارات الخاصة بما يعرف بمصطلحي «التأدب الإيجابي» و«التأدب السلبي» في الدراسات المنشورة عن التداولية. وتتضمن هذه طرائق إظهار تقدير المرء لسامعيه وتفهمهم في المحادثة (وربما يكون ذلك أثناء محاولة المرء الحصول على موافقتهم على موقفه المعارض لموقفهم) وطرائق تخفيف الانتقادات الموجهة للآخرين. وفي الكتاب فصل يناقش كيف يمكن للمرء الطعن في افتراضات مسلم بها في المحادثات، وكيف يمكنه تأكيد موقفه من دون نبرات عدوانية. ويناقش فصل آخر طرائق التحكم في الموضوعات وتغييرها، خصوصا التحول من تحليل حالات الفشل السابقة إلى وضع خطط للمستقبل.
ويقول الكتاب إن مهارات التحكم في المناقشة يمكنها أن تسهم في النجاح التجاري وزيادة الأرباح، وزيادة السلامة في مكان العمل، والدوافع الحافزة للعاملين، وتحاشي المنازعات بين الإدارة والعمال، قائلا: «ومن ثم فإن التحكم في المحادثة ينهض بدور أساسي في إيجاد الظروف التي تمكن الناس من العمل الفعال معا»، وأما في إطار الأسرة والعلاقات الاجتماعية الأخرى فإن «الاختلافات في الرأي يمكن أن تؤدي إلى نشوء مجادلات ومنازعات جارحة أو أن تؤدي الإدارة الماهرة للمحادثات إلى تصفيتها»، ولكن هذه الإشارة الواضحة إلى إمكانات التحكم في المحادثة باعتبارها «تكنولوجية» معينة، تقترن في الكتاب بمزاعم غير مقنعة تقول إن الأمر «لا يتعلق بالتحكم في الآخرين بل بالتحكم في محادثتنا وسلوكنا نفسه»، وإن المسألة في الحقيقة مسألة «التأثير» في الناس من دون «التلاعب» بهم (ص193-194).
وتوجد علاقة وثيقة بين إضفاء التكنولوجيا على الخطاب وبين المهارات المذكورة، وكذلك النظرة القائمة على الكفاءة فيما يتعلق بتعليم اللغات والتدريب اللغوي الذي ناقشته عاليه باعتباره «تسليعا»، أي إن انتشار ذلك وتغلغله في المجالات الخاصة ومجالات عالم الحياة بل وفي مجال المحادثة يتفق، فيما يبدو، مع موجة التعميم الحالية للتدريب على اكتساب المهارات اللغوية، إذ كان التدريب على مهارات الاتصال مقصورا حتى عهد قريب على «حراس المداخل» وأصحاب السلطة في المؤسسات، إلى جانب الأشخاص الذين كانوا يعانون من عجز ما، بدنيا أو نفسيا، ولكن مهارات الاتصال اللغوي أصبحت تدرس الآن للجميع في بريطانيا المعاصرة، بسبب السياسات الجديدة الخاصة بالثانوية العامة، والمقررات الدراسية القومية في المدارس، وفي التعليم السابق للتدريب المهني (مبادرة التعليم التقني والحرفي، ومشروع تدريب الشباب ... إلخ) (انظر وحدة التعليم المستمر، 1987م؛ وزارة التعليم والعلوم، 1989م.) (4) كيف تفهم هذه الاتجاهات
يعتبر تجريد هذه الاتجاهات وعزلها على نحو ما فعلته عاليه، من أساليب إبرازها، ولكنني كنت ولا أزال أركز في هذا الكتاب على نظم الخطاب باعتبارها مركبة وغير متجانسة بل ومتناقضة، وإذن فعلينا أن نحاول أن نفهم هذه الاتجاهات في تفاعلها وتقاطعها، وعلينا في غضون هذا أن نسمح بالاختلافات الممكنة في آثار هذه الاتجاهات في شتى نظم الخطاب المحلية، وفي درجة قبولها أو رفضها، وهلم جرا، وعلينا أيضا أن نتيح مكانا لبعض الظواهر مثل «إضفاء الطابع الشخصي المصطنع» المشار إليه في القسم الأخير، والقضية العامة هي أن الاتجاهات قد تكون لها قيم متضادة وبالغة الاختلاف، استنادا إلى ما قد ترتبط به، إلى جانب كونها متاحة للاصطباغ بشتى الألوان السياسية والأيديولوجية.
وقد يبدو أن إضفاء الديمقراطية يتضاد تضادا بسيطا مع التسليع، ما دام الأول يعني ضعف السيطرة والأخير يعني تدعيمها، ولكن بعض الظواهر مثل إضفاء الطابع الشخصي المصطنع تبين أن العلاقة بينهما أشد تعقيدا مما يبدو. ومن الأسباب الأخرى التي تمنع اعتبارهما من الأضداد البسيطة أن التسليع في الواقع يعني إضفاء الديمقراطية ضمنا. ولنسترجع ما قلته عن النص الخاص ببطاقة الائتمان «باركليكارد» في الفصل الرابع والنص الخاص باللائحة الجامعية، وكيف أنهما يتضمنان تحولا جزئيا أو ابتعادا إلى حد ما عن العلاقات التقليدية بين صاحب السلطة والخاضع لها في إدارة المصارف والتعليم على الترتيب، واقترابا من «المستهلك» (الزبون والطالب المتوقع)، ويتجلى هذا التحول في الخطاب الديمقراطي؛ بمعنى أن البنك والجامعة لا يعبران تعبيرا سافرا عن سلطتهما، وأن ذلك يؤدي إلى وجود توترات في النصين سبقت لي الإشارة إليهما. والنصوص المسلعة المبنية على النماذج الإعلانية تتجلى فيها أيضا معالم أخرى للديمقراطية، من بينها التخلي عن الصبغة الرسمية والاقتراب من خطاب المحادثة.
وهذا التلاقي بين التسليع وإضفاء الديمقراطية غير كامل ويسير في اتجاه واحد، إذ أحيانا ما نجد الديمقراطية وحدها من دون التسليع، كما نرى في المقابلة الشخصية الخاصة بالطب «البديل» في العينة المقتطفة في الفصل الخامس. ومع ذلك فإن التلاقي يؤدي فعلا، فيما يظهر، إلى الكشف عن خصائص مشتركة على مستوى أعمق، وخصوصا تأثير هذه الاتجاهات في بناء الخطاب للذاتية أو للكيان النفسي، في سياق التحولات التي وثقها الباحثون (بحث ن. روز على سبيل المثال) في التكوين الاجتماعي للنفس في المجتمع المعاصر. وتسير هذه التحولات في اتجاه زيادة استقلال النفس وازدياد دوافعها الذاتية (أي نحو النفس التي تتمتع ب «التسيير الذاتي» على نحو تعريف «روز» لها). والواضح أن الاتجاهين يشتركان في التوجه نحو النفس التي تتميز ب «التسيير الذاتي»، فالطبيب في العينة المقتطفة من المقابلة الشخصية الخاصة بالطب «البديل»، ومؤلف الكتيب الذي يقدم اللائحة الجامعية، يخاطبون (ومن ثم يفترضون سلفا) صورا مضمرة من النفس المتميزة بالتسيير الذاتي. وهكذا فإن «المستهلك»، أي «المخاطب» القائم في حالات الإعلان وتوسعاته الاستعمارية في التعليم والمجالات الأخرى، صورة من صور النفس التي تتمتع بالتسيير الذاتي، وبالقدرة على «الاختيار» وإرادة «الاختيار». وذلك أيضا شأن «العميل - المريض» في المقابلة الخاصة بالطب البديل، إذ ينسب إليه كذلك الاستقلال والاختيار. فإذا كان التسليع وعمليات إضفاء الديمقراطية الأوسع نطاقا تتجه معا إلى بناء النوع عينه من هذه «النفس» فلن ندهش لتداخلهما في بعض المجالات مثل التعليم. وهكذا فإن طالب المستقبل الذي تبنى صورته باعتباره مستهلكا قد يجد أنه قد أصبح عند دخوله الجامعة «طالب علم يتمتع بالاستقلال».
وأنا أصف الاتجاه إلى إضفاء الديمقراطية والتسليع وصفا عاما باعتبارهما من خصائص النظام المجتمعي المعاصر للخطاب، وتأثيرهما - وفق ما ذكرت عاليه، في مختلف نظم الخطاب المحلية والمؤسسية - تأثير متفاوت؛ فبعض نظم الخطاب تكتسب قدرا كبيرا من الديمقراطية والتسليع أو من أحد هذين الاتجاهين، والبعض الآخر لا يكتسب القدر نفسه منهما أو من أحدهما. ومع ذلك فإن ما يبهرنا هو تغلغل هذين الاتجاهين في شتى المجالات، إذ يستطيعان عبور الحدود التي تفصل ما بين المؤسسات والمجالات. ويبدو أن البروز الحالي لهما يتفق لا مع نماذج الكيان النفسي التي يوحيان بها وحسب، ولكن أيضا مع حال خاصة من أحوال النظام المجتمعي للخطاب في المجتمع المعاصر، الأمر الذي يتيح طرح نماذج جديدة منها.
والحال المذكورة حال «تفتيت» نسبي للمعايير والأعراف الخطابية، وهي تؤثر في ضروب شتى من المؤسسات والمجالات. وأما ما أعنيه بالتفتيت فهو انهيار من نوع ما، أو فقدان الفاعلية، في بعض نظم الخطاب المحلية، الأمر الذي يتيح للاتجاهات العامة التغلغل فيها. ولأعبر عن هذا بمزيد من التفصيل، فأقول: إن التفتيت يتضمن (1) زيادة المغايرة في الممارسة الخطابية (فالمقابلات الشخصية الطبية تجري بطرائق أشد تغييرا)، و(2) انخفاض القدرة على التنبؤ بما سوف يلقاه المشاركون في أي حدث خطابي، ومن ثم ضرورة بذل الجهد لمعرفة المسار المحتمل لمقابلة من المقابلات على سبيل المثال، و(3) زيادة إمكان تغلغل أنماط الخطاب القادمة من خارج المجال المعني (مثل زيادة انفتاحه على خطاب المحادثة) والاتجاهات العامة. وتشير الدلائل على زيادة تفتت الخطاب التعليمي والطبي وخطاب موقع العمل، بهذا المعنى.
ومن المفارقات أن تفتت نظم الخطاب المحلية أصبح، فيما يبدو، من شروط زيادة إضفاء التكنولوجيا على الخطاب، بمعنى أن زيادة انفتاح النظم المحلية للخطاب تتضمن زيادة انفتاحها على العمليات التكنولوجية القادمة من خارجها. وأما المفارقة فهي أن التفتيت أصبح يعني، على ما يظهر، تخفيفا من النظم التي تحكم الممارسة الخطابية، في حين أن إضفاء التكنولوجيا يمثل، على ما يظهر، تعميقا لهذه النظم. ومن أساليب تفسير هذه العملية إدراك التحول في طبيعة النظم وموقعها. فحينما تكون نظم الخطاب ثابتة ومستقلة نسبيا، فإن تنظيمها يجري محليا وداخليا من خلال آليات سافرة للتنظيم أو من خلال ضغوط خفية، وهو الأكثر شيوعا، ولكن الاتجاه الآن هو أن يقوم خبراء البحوث والتدريب بتنظيم الممارسة في مختلف المؤسسات والمجالات. وإذن فهل يتسبب رجال تكنولوجيا الخطاب في احتلال اتجاهات التسليع وإضفاء الديمقراطية لنظم الخطاب المحلية؟ لا شك أن تأثير هذه الاتجاهات كثيرا ما ينتج عن احتلال تكنولوجيات الخطاب الرئيسية - وهي الإعلان، والمقابلات الشخصية وجلسات المشورة - ومن خلال التدريب على هذه التكنولوجيات باعتبارها مهارات منتزعة من سياقها.
ولكن هذا التفسير قاطع ومنحاز بأكثر مما ينبغي، إذ يعيبه العيب الذي انتقده تيلور (1986م، 81) في دراسات الأنساب عند فوكوه، ألا وهو اعتباره أن التغيير يقتصر على تقنيات السلطة التي يفسرها دون لبس أو غموض باعتبارها من أدوات السيطرة وحسب، أي إنه ينقصه ما يشير إليه فوكوه نفسه بعبارة «تعدد التكافؤ التكتيكي لضروب الخطاب» بمعنى أنها يمكن أن تكون لها قيم مختلفة في مختلف «الاستراتيجيات» (انظر الفصل الثالث أعلاه). ومن الحالات التي ينطبق هذا عليها حالة إعادة إضفاء الديمقراطية التي يمثلها اصطناع الصبغة الشخصية (في الحديث). ولأزد هذا المثال إيضاحا وتفصيلا.
تقول الحجة التي أسوقها إن إضفاء الديمقراطية يمكن أن يكون له أكثر من معنى، إما في إطار تخفيف القيود أو بسبب استعماله استراتيجيا باعتباره إحدى التقنيات، ولكن إضفاء التكنولوجيا، حتى في الحالة الأخيرة، قد لا يكون قاطعا؛ فقد يستولي أصحاب السلطة على إضفاء الديمقراطية، وإن كانت عملية الاستيلاء نفسها قد تؤدي إلى فتح ساحة جديدة من ساحات الصراع التي يمكن أن يتلقى فيها أصحاب السلطة بعض الهزائم. ومن زاوية معينة يمكن اعتبار تصنع الديمقراطية أو محاكاتها لأغراض استراتيجية استراتيجية ذات أخطار شديدة، كما أنها تمثل في ذاتها بعض التخلي لصالح سلطة قوى إضفاء الديمقراطية وكذلك، وفي الوقت نفسه، خطوة مناهضة لها. والواقع أن استعمال أشكال الخطاب الذي أضفيت عليه الديمقراطية - مثل استبعاد الدلائل السافرة على عدم التناظر من الخطاب، واستبعاد الطابع الرسمي، والاقتراب من الأرض المشتركة للمحادثة - يدل دلالات مضمرة على طبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة عمليا، وهي دلالات من المحال الإبقاء عليها إن كان إضفاء الديمقراطية مصطنعا، وقد تكون النتيجة تناقضا في الممارسة الخطابية بين أشكال الخطاب الديمقراطي ومضمونه، وهكذا فقد يغدو هذا ساحة للصراع.
وهكذا فقد تشتبك هذه الاتجاهات مع عمليات الصراع داخل الممارسات الخطابية وحول هذه الممارسات التي يمكن اصطباغها بألوان مختلفة. فإلى جانب الإمكانية التي أشرت إليها في الفقرة الأخيرة، أي إمكانية الاستيلاء عليها وقلبها رأسا على عقب، توجد فرصة مقاومتها ورفضها، أو قبولها وتهميشها. وإذا نظرنا إلى هذه التقنيات في إطار عمليات إضفاء التكنولوجيا على الخطاب، وجدنا أن هذه الاتجاهات تؤدي إلى ضروب بالغة التنوع من أشكال الخطاب المختلطة أو المهجنة، حيث تنشأ «حلول وسط» توفق بينها وبين الممارسات الخطابية التقليدية غير المسلعة وغير الديمقراطية. وقد سبق لي تحليل نص بطاقة الائتمان «باركليكارد» من هذه الزاوية. ومن مبررات اتخاذ مدخل إلى تحليل الخطاب يركز على التناص وعلى التداخل الخطابي، ويرتبط بأفكار معينة مثل عدم تجانس الخطاب والتباس معناه، أن نظم الخطاب المعاصرة حافلة بأمثال هذه النصوص المهجنة.
ومع ذلك فإن التركيز هنا لا يزال منصبا إلى حد كبير على إضفاء التكنولوجيا، حتى ولو تأكدت مقاومتها، إذ لا يزال الافتراض السائد يقول بوجود عمليات اجتماعية وخطابية مركزة نسبيا. ونجد في مقابل هذا تأكيدا في الدراسات المنشورة عن مذهب ما بعد الحداثة للقول بانهيار الهيكل الاجتماعي، الأمر الذي يوحي بتفسير مختلف بعض الشيء لعمليات التغيير الخطابي الجارية الآن. ومن شأن هذا التفسير أن يؤكد تفتيت النظم المحلية للخطاب التي أشرت إليها عاليه، باعتبار ذلك بعدا خطابيا لضرب من ضروب تفتيت النظام الاجتماعي. ومن شأنه أيضا أن يوحي بالنظر إلى العمليات التي أشرت إليها عاليه (قائلا إنها من قبيل إضفاء الديمقراطية) باعتبارها «تفتيتا»، أي بوصفها سلسلة مما يسميه جيمسون (1984م) «حالات طمس الاختلاف»، ويعني بهذا التعبير انهيار فواصل التمييز وحواجزه، من دون الإيحاء بأن حالات الانهيار المذكورة مجرد نواتج لاتجاهات التوحيد على مستويات أخرى، سواء كانت نحو إضفاء الديمقراطية أو التكنولوجيا. وقد تتضمن حالات طمس الاختلاف المشار إليها إزالة الحواجز بين المستويات المعتمدة وغير المعتمدة للغة، وقد توحي بعكس عمليات التوحيد التي كانت ولا تزال تمثل معلما رئيسيا من معالم المجتمع الحديث. ومن هذا المنظور تبدو التحليلات التي أوردتها حتى الآن حالات مبالغة في تفسير التغيير، ما دامت تقوم على افتراضات خاصة بعقلانية العمليات الاجتماعية وطابعها المركزي، وهو ما لم يعد يتحقق في المجتمعات المعاصرة.
الخاتمة
قدمت في الواقع ثلاثة تفسيرات مختلفة للاتجاهات التي حددتها، وهي تفسيرات تقول بوجود استعمار ذي خط واحد، وصراع على الهيمنة، والتفتيت، وكل تفسير يوحي ضمنا بنموذج خاص من نماذج الممارسة الخطابية، والقول بوجود استعمار وحيد الاتجاه يعني ضمنا وجود نموذج «شفري» للممارسة الخطابية. والصورة الكلاسيكية للنموذج الشفري يفترض وجود نظام محلي مستقر للخطاب، ووجود أعراف «مطبعة» تتحقق أمثلتها المعيارية في الممارسة، أي إن الممارسة تتبع المعايير وحسب، ولكن الاستعمار ذا الخط الواحد يعني ضمنا كذلك وجود نموذج شفري، وإن كانت الشفرات في هذه الحالة التي تتبع فيها معياريا تتعرض من جانب معين إلى التشكيل من الخارج من خلال استعمار تكنولوجيات الخطاب لها.
وأما التفسير الثاني، أي من خلال الصراع على الهيمنة، فيوحي ضمنا بوجود نموذج للممارسة الخطابية يقوم على الهيمنة، أي وجود نظرة للممارسة الخطابية باعتبارها قوة رابطة؛ إذ نشهد تمزيق التشكيلات القائمة لأنماط الخطاب وعناصرها، وإعادة الترابط الذي يكون تشكيلات جديدة تبرز التداخل الخطابي والتناص.
وأما التفسير الثالث، من حيث التفتيت، فيتفق مع ما يمكن أن يطلق عليه اسم «الفسيفساء» أو ربما أطلقنا عليه اسم النموذج «التفاوضي». وكل من هاتين الصورتين (المجازيتين) تحملان معنى مضمرا وهو تفتيت الأعراف، ولكن صورة «الفسيفساء» تؤكد وجود مساحة ناجمة تسمح بالنشاط الخلاق، وبالجمع بين عناصر الخطاب بطرائق تتجدد باستمرار لتحقيق نتائج مؤقتة، وكذلك بالمحاكاة، في حين أن صورة «النموذج التفاوضي» تؤكد أنه حيثما يصبح من المحال قبول الأعراف على النحو الذي تقدم به، تنشأ الحاجة إلى تفاوض المشاركين في التفاعل (بصورة مضمرة في جميع الأحوال تقريبا) حول عناصر الخطاب التي ينبغي الانتفاع بها. وصورة التفاوض المذكورة هي القابلة للتطبيق على نطاق واسع، إذ إن الممارسات الخطابية التي تقبل التفاوض بهذا المعنى، لا تتمتع جميعها بالخصائص التي توحي بها صورة «الفسيفساء»، ولكن الممارسة الخطابية التي تتمتع بهذه الخصائص (ومن المحتمل أن أوضح أن الأمثلة توجد في الإعلان) لا بد أن تقبل التفاوض، إذ لا بد من تحقيق اتفاق مضمر حول عناصر الخطاب القابلة للترابط بين منتجي النصوص ومفسريها حتى ينجح تأثير الفسيفساء.
كان ولا يزال وضع نموذج ممارسة خطابية يقوم على الهيمنة، خصوصا في مقابل النموذج الشفري السائد، من أهداف هذا الكتاب الرئيسية، إذ يبدو أن نموذج الهيمنة أقرب النماذج منطقيا إلى نظام الخطاب المجتمعي المعاصر بصورة شاملة، ولكنه ليس مجرد بديل مفضل على النموذجين الآخرين. فالواقع أن كل نموذج يبين جانبا مهما من جوانب نظام الخطاب المعاصر، وكل نموذج قادر، فيما يبدو، على النجاح النسبي في بعض مجالات الممارسة الخطابية، وأقل قدرة على النجاح في غيرها. ومن ثم ينبغي للبحوث في المستقبل ألا تختار نموذجا وترفض غيره، بل أن تركز جهودها على هذه المسألة المفيدة وهي تحديد النماذج القادرة على إيضاح بعض المجالات وتحديد المجالات المعنية، إلى جانب التركيز على ضروب التوتر بين النماذج، من دون استبعاد أي من اتجاهات التفسير الثلاثة المذكورة للتغير الخطابي الراهن.
الفصل الثامن
تحليل الخطاب عمليا
سوف يناقش هذا الفصل الجوانب العملية لتحليل الخطاب، وينبغي ألا ينظر إلى ما أقوله هنا باعتباره برنامجا جاهزا للتطبيق؛ إذ لا توجد إجراءات ثابتة للقيام بتحليل الخطاب، فمداخل الناس إليه تختلف باختلاف الطبيعة الخاصة لكل مشروع، وكذلك طبقا لنظرتهم الخاصة إلى الخطاب . ومن ثم فينبغي اعتبار الملاحظات التالية خطوطا توجيهية عامة، تحدد العناصر والاعتبارات الرئيسية التي تنطبق على تحليلات الخطاب استنادا إلى الموقف النظري الذي عرضته عاليه. وكنت أحيانا ما أكتب مفترضا أن القارئ يوشك أن ينهض بمشروع بحثي كبير للتحقق من ظواهر التغير الاجتماعي والخطابي، ولكنه ما دام من المحتمل أن يستخدم عدد كبير من القراء تحليل الخطاب في أغراض أكثر تواضعا، فأرجو ألا تثبط همتهم هذه الافتراضات «الهائلة»! وقد وضعت لنفسي ثلاثة عناوين رئيسية: البيانات، والتحليل، والنتائج. وتركيز هذا الكتاب بطبيعة الحال ينصب على التحليل، ولكن هذا الفصل سوف يتيح الفرصة للنظر في جوانب مهمة أخرى من تحليل الخطاب عمليا، وقد يود القراء أن يقارنوا هذه الخطوط التوجيهية بمثيلاتها في كتاب بوتر ووذريل (1987م) أو (فيما يتعلق بالتحليل فقط) في كتاب فاولر وآخرين (1979م). (1) البيانات: تحديد المشروع
ينبغي أن يكون تحليل الخطاب بصورته المثالية عملا بينيا، أي مشتركا بين عدة تخصصات علمية، بناء على مفهوم الخطاب الذي أدعو إليه، وهو الذي يبدي اهتماما بخصائص النصوص، وإنتاج النصوص وتوزيعها واستهلاكها، وبالعمليات الاجتماعية المعرفية لإنتاج النصوص وتفسيرها، والممارسة الاجتماعية في مختلف المؤسسات، والعلاقة بين الممارسة الاجتماعية وعلاقات السلطة، ومشروعات الهيمنة على المستوى المجتمعي. وتتداخل جوانب الخطاب المذكورة مع مشاغل علوم اجتماعية وإنسانية متنوعة، من بينها علم اللغة، وعلم النفس، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم الاجتماع، والتاريخ والعلوم السياسية.
وما تختص به ممارسة خطابية معينة يعتمد على الممارسة الاجتماعية التي تمثل الممارسة الخطابية وجها من وجوهها، ومن ثم فإذا أردنا وضع تعريف للمشروعات البحثية يمثل أقرب ما يقضي به المنطق قلنا إنه يتعلق أولا بالأسئلة الخاصة بأشكال معينة للممارسة الاجتماعية، وعلاقاتها بالبناء الاجتماعي، نظرا لما أبديته من تركيز على جوانب محددة من التغير الاجتماعي أو الثقافي. ويعني هذا أن التخصصات التي تعالج هذه المسائل - علم الاجتماع والعلوم السياسية والتاريخ - هي التي ينبغي أن نقصدها في المقام الأول عند تعريف المشروعات البحثية. وأفضل نظرة إلى تحليل الخطاب ينبغي أن تقوم على اعتباره منهجا لإجراء البحوث في مسائل وضع تعريفها خارجه، وسوف أضرب مثالا على ذلك بعد برهة، ولكن هذه طريقة تعتمد اعتمادا بالغا على النظر من «القمة إلى القاعدة» إليه، ففي حالات كثيرة قد تستطيع فرق من الباحثين في تخصصات مشتركة أن تعمل مثلا مع العاملين في مجال التعليم أو الصحة، في البحوث في القضايا والمشكلات التي يواجهونها أثناء التغيير. والحق أنه من الممكن الاشتغال بإجراء «بحوث مشتركة»، بحيث يشترك الأفراد أو الجماعات الخاضعة للبحث في تصميم خطط البحث وتنفيذها وكتابة نتائجها واستعمالها (انظر إيفانيتش وسيمسون، تحت الطبع). (2) «الكوربوس» (مجموعة النصوص)
ويعتبر منظور المباحث المتخصصة، ومنظور من تجري عليهم للبحوث، منظورا مهما أيضا في اختيار البيانات، وبناء «كوربوس» من عينات الخطاب، وفي تحديد أي بيانات تكميلية ينبغي جمعها واستعمالها. وتتفاوت طبيعة البيانات المطلوبة وفقا لأسئلة المشروع وأسئلة البحث، ولكن علينا أن نضع نصب أعيننا بعض المبادئ العامة. للمرء أن يصدر قرارا معقولا بشأن مضمون الكوربوس وبنائه على ضوء المعلومات الكافية عن «الأرشيف» (ويستخدم هذا المصطلح بطريقة توسع من معناه بحيث يتجاوز الدلالة التاريخية، أي بحيث يشير إلى مجموع الممارسة الخطابية، سواء ما سبق تسجيله في الماضي أو ما هو جار في الوقت الراهن، ما دام يدخل في إطار المشروع البحثي). وهذه مسألة عملية إلى حد ما، إذ تختص بمعرفة ما هو متاح، وطريق الوصول إليه، ولكنه يعتبر من زاوية أخرى مسألة تكوين صورة ذهنية لنظام الخطاب في المؤسسة أو المجال الذي يبحثه المرء، وكذلك عمليات التغيير التي يمر بها، باعتبار ذلك تمهيدا لاتخاذ قرار بشأن المكان الذي ينبغي أن تجمع فيه العينات التي تشكل الكوربوس. وقد يؤدي العمل في تشكيل الكوربوس، بطبيعة الحال، إلى تعديل الخريطة الذهنية المبدئية. وينبغي لمحلل الخطاب أن يعتمد على العاملين في التخصصات المرتبطة بعمله، والعاملين داخل موقع البحوث، لمساعدته في اتخاذ القرارات بشأن العينات التي تمثل ممارسة معينة خير تمثيل، والبت فيما إذا كان الكوربوس يتجلى فيه بالدرجة الكافية تنوع الممارسات والتغير فيها في الحالات المختلفة، وكذلك الممارسة المعيارية والتجديدية؛ وإذا ما كان الكوربوس يتضمن حالات محورية ولحظات أزمة (وهاتان الفكرتان مشروحتان أدناه). وتنشأ مشكلات خاصة في إعداد الكوربوس من مادة تبين عمليات التغيير، لأن المرء يحتاج في هذه الحالة - بوضوح - إلى إدراج مساحات زمنية معقولة في البيانات. (3) استكمال الكوربوس
توجد طرائق مختلفة لاستكمال الكوربوس ببيانات إضافية، إذ يمكن للمرء على سبيل المثال أن يحصل على أحكام بشأن بعض جوانب العينات في الكوربوس من «لجان» تتكون من أشخاص يرتبطون بروابط مهمة من نوع ما بالممارسة الاجتماعية قيد الفحص، فإذا كانت الدراسة تتعلق بممارسات قاعة الدرس وخطاب قاعة الدرس، فيمكن أن تتكون اللجان من معلمين وتلاميذ وآباء وأفراد جماعات الأكثرية والأقليات المختلفة، ورجال الإدارة التعليمية (ولمعرفة المزيد عن هذه اللجان انظر جومبيرز، 1982م). ومن الطرائق المستعملة على نطاق واسع لاستكمال الكوربوس اللجوء إلى المقابلات الشخصية، إذ يمكن للمرء أن يجري مقابلات مع المشاركين في عينات الكوربوس، لا من أجل الحصول على تفسيراتهم لهذه العينات، بل أيضا باعتبار ذلك فرصة تتاح للباحث حتى ينظر في بعض القضايا التي تتجاوز حدود العينات ذاتها، كأن يحاول مثلا أن يكتشف إن كان وعي أحد الأشخاص بالصبغة الأيديولوجية لأحد الأعراف الخطابية يزيد في بعض المواقف عن مستواه في مواقف أخرى. أو يمكن للمرء في البحوث المشتركة أن يطلع اطلاعا أوثق، وأكثر تحررا من الطابع الرسمي، على منظور الخاضعين للبحث. والذي علينا أن نؤكده أن المقابلات الشخصية واللجان وما إليها بسبيل تمثل عينات أخرى من الخطاب، وأنها تستكمل الكوربوس - من زاوية معينة - بأن تضاف إليه وحسب. وينبغي ألا ننظر إلى الكوربوس باعتباره قد اتخذ شكله المستقر والنهائي قبل بداية التحليل، بل يجب أن نعتبر أنه يقبل الزيادة والاستكمال المستمر استجابة للأسئلة التي تنشأ أثناء التحليل.
مثال
سوف أقدم هنا مثالا لمشروع بحثي يمكن تنفيذه حتى يرى القارئ صورا عملية لهذه القضايا؛ ولذا سوف أستخدم المثال الذي أشرت إليه في المقدمة عما شهدته الممارسة الخطابية من تغييرات مرتبطة بالتحول من نظام الإنتاج الفوردي (أي وفقا لما يسمى خط الإنتاج الذي يجعل العامل مجرد ترس في آلة) إلى الإنتاج بمنهج «ما بعد فورد» (الذي يسمح للعمال بالمشاركة في الإدارة والتخطيط). وسوف ينصب تركيزي على دراسة مقترحة لما يسمى «حلقات الجودة» (ويستند هذا المثال إلى التخطيط لإجراء مشروع مشترك يجمع بين علم الاجتماع وعلم اللغة في جامعة لانكاستر). ومن الخصائص المميزة لمنهج ما بعد فورد ازدياد الاهتمام بالتواصل فيما بين العمال، إذ بدأت تظهر أشكال جديدة للتفاعل بين العمال، والمشرفين على العمل والمديرين، مثل تشكيل «حلقات الجودة»، وهي فرق تتكون من عدد يتراوح بين خمسة وعشرة موظفين يعملون عادة معا ويعقدون لقاءات منتظمة لمناقشة طرائق رفع مستويات الجودة والإنتاج وقضايا العمل الأخرى. ومن الأسئلة التي لم تجد إلى الآن إجابة عنها بصدد حلقات الجودة سؤال يتصل بشكوك النقابات في جدواها وارتفاع معدلات فشلها، ويقول السؤال: هل تنجح حقا حلقات الجودة في إزالة الحواجز القديمة بين الموظفين ومنح العاملين المزيد من السلطة، أم إنها أداة تستخدمها الإدارة للانتفاع بالخبرة القيمة للعمال وإدماجهم في أولويات الإدارة. وما زلنا في حاجة إلى إجراء بحوث تبين لنا كيفية عمل حلقات الجودة في الواقع، أي كيف تختار المواضيع وكيف تناقش القضايا، وكيف تولد المقترحات وتقدمها إلى الإدارة، وإذا ما كان التحكم في هذه الأنشطة يقوم على المشاركة والتفاوض، أم إن الإدارة تمارسه ممارسة سافرة. ويمكن بحث هذه المسائل باستخدام منهج تحليل الخطاب. وقد يتكون الكوربوس اللازم لهذه الدراسة من تسجيلات بالفيديو لحلقات الجودة لمدة سنة تحسب من لحظة تشكيلها. وقد يركز البحث على أسلوب الدعوة إلى عقد الاجتماعات على امتداد العام، باعتباره جانبا من جوانب أوسع نطاقا لعلاقات السلطة في حلقات الجودة. ويمكن استكمال هذا الكوربوس بتسجيلات لتدريب المديرين على رئاسة حلقات الجودة أو إدارة جلساتها، وبتقديم مقترحات هذه الحلقات إلى لجان الإدارة، وبالحوار ما بين هذه الحلقات وأفراد قوة العمل من غير أعضائها. كما يمكن استكمالها أيضا من خلال المقابلات الشخصية حول حلقات الجودة مع أفراد هذه الحلقات، وكبار المديرين، وممثلي النقابات، وغيرهم من العمال. وللمحلل أن يشرك بعض أعضاء حلقات الجودة في وضع أسئلة البحث المحددة ومجال تركيزه. وسوف أضيف بعض التفاصيل الخاصة بهذا المثال عند مناقشة «النتائج». (4) النسخ
لا بد من نسخ الخطاب المنطوق، مثل الحوار، أثناء اجتماعات حلقات الجودة، بمعنى وضعه في صورة مكتوبة. والنسخ عملية صعبة وتستغرق وقتا طويلا، ووفقا لنظام النسخ المستخدم، فإن ساعة واحدة من الكلام المسجل قد يستغرق نسخها ما بين ست ساعات وعشرين ساعة أو أكثر. وتوجد نظم مختلفة للنسخ، وهي تمثل مختلف معالم الكلام، بدرجات متفاوتة من التفصيل، مثل النغمة، والنبر، والوقفات، وتغير ارتفاع الصوت وسرعة الإلقاء، وهلم جرا (أتكنسون وهريتيدج، 1984م، 9-16؛ تانين، 1989م، 202-204). ومن المحال أن يوجد نظام يبين كل شيء، والمسألة دائما تتوقف على الحكم، على ضوء طبيعة المشروع وأسئلة البحث، ومعالم الكلام التي ينبغي إثباتها، ومدى التفصيل المطلوب. والحد الأدنى من دقة النسخ يتضمن تداخل الحديث بين المتحدثين، والوقفات، ولحظات الصمت الكامل، وهو يصلح للكثير من الأغراض (وتوجد أمثلة في هذا الكتاب لنسخ مقابلات شخصية).
وربما لا نتبين بالوضوح نفسه أن النسخ يفرض بالضرورة تفسيرا معينا للكلام، ويقول أحد الأبحاث الخاصة بهذه القضية إن النسخ يعتبر «نظرية» (أوكس، 1979م). ولنتصور موقفا يتكلم فيه ثلاثة أشخاص، ويستأثر أحدهم بنسبة 80 في المائة من الكلام. وأمامنا أسلوبان لوضع هذا الكلام على الورق: الأول اعتباره «محادثة» يتحدث فيها الثلاثة بالتناوب، وإن كان أحدهم يحظى بنوبات أكثر وبوقت أطول في كل نوبة. والثاني اعتباره مونولوجا أي حديثا منفردا يقاطعه فيها المتكلمان الآخران أو يقدمان تعليقات مساندة لما يقول، وقد يتخذ نسخ ذلك صورة وضع كلام الثرثار في عمود في منتصف الصفحة، ووضع كلام الاثنين الآخرين في الهامش (انظر إديلسكي، 1981م، حيث الأمثلة من هذا النوع). وعلى غرار ذلك، إذا وجد الناس لحظات صمت في شريط التسجيل، فعليه أن يقرر أن يختار من ينسبه إليه من المتحدثين، وإذا تداخلت أقوال المشاركين، فإن عليه البت فيمن يقاطع منهما صاحبه. (5) تشفير العينات واختيارها داخل الكوربوس
من الباحثين من يفضل وضع شفرات معينة للكوربوس أو لأجزاء كبيرة منه ، لإيضاح دلالة عامة، أو ربما فضلوا تلخيص الخطاب، أو تشفيره من حيث الموضوعات الواردة فيه. وقد يلجئون إلى فحص الكوربوس كله طلبا لمعلم من نوع معين، مثل أنماط معينة من الأسئلة، أو من الصياغة، ولكن مفهوم الخطاب الذي قدمته، وصورة التحليل الذي سوف ألخصه أدناه، يتصلان اتصالا خاصا بالتحليل التفصيلي لعدد ضئيل من عينات الخطاب. ويثير هذا مشكلة اختيار العينات اللازمة للتحليل التفصيلي. والإجابة العامة تقول إنه لا بد من الدقة في اختيار العينات استنادا إلى المسح التمهيدي للكوربوس، واسترشاد الباحث بمشورة الذين يشملهم البحث إن أمكنه الحصول عليها، أو من الزملاء العاملين في مجالات العلوم الإنسانية المتصلة بمجال بحثه، حتى يتسنى له الاستفادة من نظراتهم الثاقبة في مدى إسهام الخطاب في الممارسة الاجتماعية قيد الفحص. ومن استراتيجيات الاختيار التي تتمتع بمزايا كثيرة استراتيجية التركيز على ما أسميته «المحاور» و«لحظات الأزمة» من قبل. وهذه لحظات معينة في الخطاب، يتوافر فيها ما يدل على أن الأمور لا تسير على ما يرام، إذ قد ينشأ سوء تفاهم يقتضي من المشاركين حل مشكلة من مشكلات التواصل، وقد يكون ذلك مثلا من خلال طلب تكرار ما قيل أو القيام بتكراره فعلا، أو من خلال قيام أحد المشاركين بتصحيح ما قاله مشارك آخر؛ وقد تنشأ حالة استثنائية من تعثر السيولة في إنتاج النص (مثل حالات التردد والتكرار وما إلى ذلك بسبيل) أو حالات الصمت؛ أو تغييرات مفاجئة في الأسلوب. وللمرء أن يستعين - إلى جانب الأدلة القائمة في النص وسلوك المشاركين في التفاعل - بأحكام اللجان أو أحكام المشاركين الاسترجاعية حول نقاط الصعوبة. ومن شأن لحظات التأزم المشار إليها أن تظهر بعض جوانب الممارسات التي قد تكتسب في العادة صبغة طبيعية، ومن ثم فقد يتعذر إدراكها؛ ولكنها تظهر أيضا وقوع التغيير في المسار، وتبين الطرائق الفعلية التي يتعامل بها الناس مع إشكاليات الممارسات. (6) التحليل
يتكون هذا القسم من ملخص لأنواع التحليل التي قدمتها وأوضحتها بالأمثلة في الفصول 3-7، ولكني لم ألتزم التزاما دقيقا بالنظام الذي نوقشت فيه الموضوعات في تلك الفصول، وإن كنت أتبع الانتقال العام نفسه من (1) تحليل الممارسات الخطابية (على المستوى «الكبير») بالتركيز على التناص والتداخل الخطابي بين عينات الخطاب؛ إلى (2) تحليل النصوص (إلى جانب الملامح «الدقيقة» للممارسة الخطابية)؛ إلى (3) تحليل الممارسة الاجتماعية التي يمثل الخطاب جزءا منها. ومن المحتوم أن تتداخل عمليا هذه الأبعاد الثلاثة للتحليل، فالمحللون يبدءون دائما، على سبيل المثال، بإدراك إطار عام للممارسة الاجتماعية التي تنطوي على الخطاب في باطنها، ولكن هذا المسار مفيد في تنظيم نتائج اشتباك المرء مع عينة معينة من الخطاب قبل تقديم نتائج هذا الاشتباك في شكل مكتوب أو منطوق. ولاحظ أنه يتضمن الانتقال من التفسير إلى الوصف ثم العودة إلى التفسير: من تفسير الممارسة الخطابية (أي من عمليتي إنتاج النص واستهلاكه)، إلى وصف النص، ثم إلى تفسير الممارسة والنص معا على ضوء الممارسة الاجتماعية التي تنطوي على الخطاب في باطنها. وليس من الضروري أن يتخذ المسار هذا الترتيب، إذ يستطيع المحللون أن يبدءوا بتحليل النص، أو حتى بتحليل الممارسة الاجتماعية. ويعتمد الاختيار على أغراض المحلل ونقاط تأكيده، ويبدو أن البدء بتحليل العمليات الخطابية مناسب بصفة خاصة، نظرا لاهتمامي الرئيسي هنا بالحركة والتغيير.
وكل عنوان رئيسي من عناوين الملخص الذي أورده أدناه يتلوه وصف موجز لنوع التحليل الذي يتضمنه، وبعده في معظم الحالات مجموعة من الأسئلة التي تقوم بوظيفة المؤشرات في أثناء تحليل عينات معينة من الخطاب. ولا تنس أن مسار التحليل يتضمن تناوبا مستمرا بين التركيز على خصوصية العينة الخطابية والتركيز على النمط النصي أو الأنماط النصية التي تنهل منها، وكذلك التركيز على تشكيلات أنماط النصوص التي تمثل توجها إليها. وينبغي توجيه التحليل إلى هذا وذاك معا؛ أي إن عليه أن يبين المعالم والأنساق والأبنية التي تمثل بدقة أنماطا معينة من الخطاب، واتجاهات إعادة البناء في نظم الخطاب، وطرائق استعمال هذه الموارد التقليدية التي تختص بها هذه العينة. ولاحظ، عند إجراء أي تحليل، أن بعض الفئات قد تكون ذات صلة أوثق، وفائدة أكبر من غيرها، ومن المحتمل أن يريد المحللون التركيز على عدد ضئيل منها. (7) الممارسة الخطابية
كل بعد من الأبعاد الثلاثة للممارسة الخطابية ممثل أدناه. ف «التداخل الخطابي» و«التناص السافر» يركزان على إنتاج النص، وتركز «سلاسل التناص» على توزيع النصوص، ويركز «ترابط المعنى» على استهلاك النصوص (انظر الفصل الرابع حيث المناقشة التفصيلية). وقد أضفت «أحوال الممارسة الخطابية» حتى أدرج الجوانب الاجتماعية والمؤسسية التي أشرت إليها إشارة مختصرة في الفصل الثالث.
التداخل الخطابي (انظر الفصل الخامس عاليه): الهدف تحديد أنماط الخطاب المستفاد منها في عينة الخطاب قيد التحليل وكيفية هذه الاستفادة. لا تتردد في استخدام المصطلح العام، أي «نمط الخطاب» إذا لم يتضح لك أن ما تحلله نوع أو نمط نشاط أو أسلوب أو خطاب. والطريق الوحيد لتبرير تفسير من التفسيرات هو تحليل النص وإثبات أن تفسيرك يتفق مع معالم النص وأكثر اتفاقا معه من تفسيرات أخرى، وقد سبقت الإشارة إلى أنواع أخرى من الأدلة تحت عنوان «استكمال الكوربوس».
هل توجد طريقة واضحة لوصف الخصيصة الشاملة للعينة (من حيث النوع)؟ (إذا كانت موجودة فماذا تدل عليه من حيث كيفية إنتاج العينة وتوزيعها واستهلاكها؟)
هل تستفيد العينة من أكثر من نوع واحد؟
ما نمط النشاط أو أنماطه، وما الأسلوب أو الأساليب، وما الخطاب أو ضروبه التي تستفيد العينة منها؟ (هل تستطيع تحديد الأساليب والتمييز بينها من حيث الموضوع، والشكل والنوعية البلاغية؟)
هل عينة الخطاب تقليدية بصورة نسبية من حيث خصائص التداخل الخطابي فيها أم هي تجديدية نسبيا؟
سلاسل التناص : الهدف هنا تحديد توزيع (نمط من) عينة الخطاب من خلال وصف سلاسل التناص التي تشترك فيها أي سلسلة أنماط النصوص التي قد تتحول إليها أو تنشأ منها.
ما أنواع التحويلات التي تحدث لهذا (النمط من) العينة الخطابية؟
هل السلاسل التناصية والتحولات ثابتة نسبيا أم متغيرة أم مثار تنازع؟
هل توجد أدلة على أن منتج النص يتوقع أكثر من نوع واحد من الجمهور؟
ترابط المعنى : الهدف هنا هو النظر في التفسيرات المترتبة على خصائص التناص والتداخل الخطابي في العينة الخطابية. وقد يؤدي هذا إلى قيام المحلل بإجراء ما يسمى ب «بحوث القراء» وهي البحوث التي تنظر في تفسير القراء فعلا للنصوص.
ما مدى عدم تجانس النص ومدى التباس معناه في عيون مفسرين معينين، ومن ثم مقدار الاستنباط المطلوب؟ (ويؤدي هذا مباشرة إلى الأبعاد التناصية الخاصة ببناء الذوات في الخطاب: انظر «الممارسة الاجتماعية» أدناه.)
هل تقبل هذه العينة قراءات مقاومة؟ وما نوع القراء في هذه الحالة؟
أحوال الممارسة الخطابية : الهدف هنا تحديد الممارسات الاجتماعية الخاصة بإنتاج النصوص واستهلاكها، والمرتبطة بالنمط الخطابي الذي تمثله العينة (والذي قد يكون ذا صلة ب «النوع» الذي تنتمي إليه: انظر السؤال تحت عنوان التداخل الخطابي أعلاه).
هل يتسم النص بإنتاجه (واستهلاكه) فرديا أم جماعيا؟ (هل توجد مراحل يمكن تمييزها لإنتاجه؟ هل المحرك والمؤلف والمصدر شخص واحد أم أشخاص مختلفة؟)
ما أنواع الآثار غير الخطابية التي في هذه العينة؟
التناص السافر : يعتبر التناص السافر منطقة «رمادية» بين الممارسة الخطابية والنص، فهو يطرح أسئلة بشأن ما يحدث عند إنتاج نص من النصوص، ولكنه يتعلق أيضا بالملامح «السافرة» على سطح النص. والهدف تحديد النصوص الأخرى المستفاد منها في تكوين النص قيد التحليل، وكيفية هذه الاستفادة. «فالأنواع» تختلف في أشكال التناص السافر المرتبطة بها، ومن الأهداف استكشاف أمثال هذه الاختلافات.
تمثيل الخطاب :
هل هو مباشر أم غير مباشر؟
ما الذي يمثل: جوانب من السياق والأسلوب أم مجرد المعنى الخاص بالجانب الفكري؟
هل الخطاب الممثل يتضمن حدودا واضحة؟ هل هو مترجم إلى صوت الخطاب الذي يمثله؟
كيف بني سياقه في الخطاب الذي يمثله؟
الافتراض المسبق :
ما المفاتيح التي تشير إلى الافتراضات المسبقة في النص؟
هل تمثل روابط بالنصوص السابقة للآخرين، أو بالنصوص السابقة لمنتج النص نفسه؟
هل تقوم على الصدق أم على التلاعب؟
هل هي جدلية (مثل الجمل المنفية)؟
وسؤال واحد آخر:
هل توجد نماذج للميتاخطاب أو السخرية؟ (8) النص
التحكم في التفاعل (انظر الفصل الخامس أعلاه): الهدف هنا وصف الخصائص التنظيمية الواسعة النطاق للتفاعلات، وهي التي يعتمد عليها انتظام عمل التفاعلات والتحكم السليم فيها. ومن القضايا المهمة تحديد من يتحكم في التفاعلات على هذا المستوى: وإلى أي مدى يعتبر التفاوض حول التحكم إنجازا مشتركا من جانب المشاركين فيه، وما مدى عدم التناظر الذي يمارسه مشارك واحد؟
ما القواعد المطبقة بخصوص تناوب أدوار الحديث؟ هل تتسم حقوق المشاركين والتزاماتهم (فيما يتعلق بتداخل الكلام أو بالصمت مثلا) بالتناظر أم بعدم التناظر؟
ما هيكل التبادل المعمول به؟
كيف تقدم الموضوعات وتطور وترسخ؟ وهل يتسم التحكم في الموضوعات بالتناظر أم بعدم التناظر؟
كيف يحدد نهج العمل؟ ومن الذي يحدده؟ وكيف تجري مراقبته؟ ومن الذي يراقبه؟ هل يقوم أحد المشاركين بتقييم أقوال الآخرين؟
إلى أي مدى يقوم المشاركون بصوغ مقولات التفاعل؟ وما الدور المنوط بهذا الصوغ؟ ومن من المشاركين يتولى الصوغ؟
ترابط المعنى (انظر الفصل السادس): الهدف تبيان كيفية الترابط بين الجمل والعبارات في النص. وهذه المعلومات مهمة لوصف «النوعية البلاغية» للنص (انظر الفصل الرابع) وتمييزها من حيث البناء أي تحديد كونها قائمة على عرض حجة ما، أو سرد قصة ... إلخ.
ما العلاقات الوظيفية بين العبارات والجمل في النص؟
هل توجد في النص علامات تماسك صريحة على السطح بحيث تحدد العلاقات الوظيفية؟ وما أكثر أنماط العلاقات المستخدمة شيوعا؟ (هل هي إحالية، أم قائمة على
الحذف ، أم على الربط بحروف العطف أم لفظية؟)
التأدب (انظر الفصل الخامس): الهدف تحديد أكثر استراتيجيات التأدب المستعملة في العينة، والتثبت من وجود اختلافات بين المشاركين في هذا الصدد، وما تعنيه هذه المعالم فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية بين المشاركين.
ما استراتيجيات التأدب المستعملة (تأدب سلبي، تأدب إيجابي، إشارات هامشية) ومن الذي يستعملها ولأية أغراض؟
الجو الخلقي (انظر الفصل الخامس): الهدف هو تجميع المعالم المنوعة التي تسهم في بناء «الذوات» (أو النفوس) أو الهويات الاجتماعية، في العينة. فالجو الخلقي لا يقتصر على الخطاب بل يشمل التعبير بالجسد كله. وأي فئة من الفئات التحليلية المذكورة هنا يمكن أن تكون لها علاقة بالجو الخلقي.
النحو : ينبغي التمييز هنا بين ثلاثة أبعاد من «نحو » العبارة وهي «التعدي»، و«الثيمة»، و«النوعية»، وتتفق هذه الأبعاد، على الترتيب، مع وظائف اللغة الثلاث: الوظيفة «الفكرية»، والوظيفة «النصية»، ووظيفة العلاقة «بين الأشخاص».
التعدي (انظر الفصل السادس): الهدف هو الكشف عن إمكان التفضيل في النص لأية أنماط محددة للفعل والمشاركين فيه، وتحديد اختيارات البناء للمعلوم أو للمجهول، ومدى دلالة المعاملة الاسمية للأفعال. ومن القضايا الرئيسية قضية «الفاعل»، والتعبير عن العلية، ونسبة المسئولية.
ما أكثر أنماط الفعل استعمالا (العمل، الحدث، النمط العلائقي، النمط الذهني) وما العوامل التي يمكن أن تفسر ذلك؟
هل الاستعارة النحوية معلم ذو دلالة كبرى؟
هل تكثر في النص العبارات المبنية للمجهول، أو الاسمية؟ وإذا كان هذا صحيحا فما وظائفها؟
الثيمة (انظر الفصل السادس): الهدف أن نرى إن كان البناء «الثيمي» للنص يدل على وجود نسق واضح فيما يتعلق باختيار ثيمات العبارات.
ما البناء الثيمي للنص، وما الافتراضات التي يقوم عليها (بشأن بناء المعرفة أو الممارسة مثلا)؟
هل يكثر في النص وجود الثيمات المبينة بعلامات معينة؟ وإن صح هذا فما الدوافع من ورائها؟
النوعية (انظر الفصل الخامس): الهدف تحديد أنساق معينة في النص وفقا لدرجة الارتباط التي تعبر عنها المقولات من خلال النوعية (أي استعمال الأفعال المساعدة النوعية وما يجري مجراها). ومن القضايا الرئيسية تحديد المضمون النسبي لمعالم النوعية ودلالته لأمرين أولهما (أ) العلاقات الاجتماعية في الخطاب، وثانيهما (ب) التحكم في الصور التي تمثل الواقع.
ما أكثر الصيغ النوعية استعمالا؟
هل يغلب على الأساليب النوعية الطابع الذاتي أو الموضوعي؟
ما المعالم النوعية الأكثر استعمالا في النص (الأفعال المساعدة النوعية، صيغة الحال النوعية ... إلخ)؟
معنى الألفاظ (انظر الفصل السادس): التركيز هنا يقع على الكلمات الأساسية ذات الدلالة الثقافية العامة أو الدلالة الثقافية المحلية؛ وعلى الألفاظ التي تتغير معانيها وتتحول؛ وعلى المعنى الذي يمكن للكلمة أن تعبر عنه - وهو بناء خاص من أبنية معانيها - باعتباره طرائق الهيمنة وموقعا من مواقع الصراع.
الصياغة (انظر الفصل السادس): الهدف أن نقارن صياغة المعاني في النص بطرائق صياغتها في نص آخر (أو أنماط أخرى) من النصوص.
هل يتضمن النص ألفاظا (أو تراكيب لفظية) جديدة؟ وإذا صح هذا، فما الدلالة النظرية أو الثقافية أو الأيديولوجية التي تحملها؟
ما علاقات التناص المستفاد بها في صياغة النص؟
هل يتضمن النص أدلة على الإسهاب أو إعادة الصياغة (وهذه تختلف عن مجرد كونها صياغة أخرى) لمجالات معينة من مجالات المعنى؟
الاستعارة : الهدف تحديد طبيعة لغة المجاز المستعملة في عينة الخطاب، في مقابل لغة المجاز المستعملة للتعبير عن معان مماثلة في نصوص أخرى، وتحديد العوامل (الثقافية والأيديولوجية ... إلخ) التي تحدد سبب اختيار هذه المجازات، وينبغي النظر أيضا في تأثير الاستعارات في التفكير وفي الممارسة. (9) الممارسة الاجتماعية (انظر الفصلين 3 و7)
يواجه المرء صعوبة أكبر في حصر تحليل الممارسة الاجتماعية في قائمة مرجعية، وهكذا فينبغي اعتبار العناوين التالية مجرد خطوط إرشادية عامة إلى حد كبير. والهدف العام هنا تحديد طبيعة الممارسة الاجتماعية التي تشكل الممارسة الخطابية جزءا منها، وهذا هو الأساس اللازم لإيضاح سبب اتخاذ الممارسة الخطابية طابعها الحالي، وآثار الممارسة الخطابية في الممارسة الاجتماعية.
الإطار الاجتماعي للخطاب : الهدف تحديد العلاقات والأبنية الاجتماعية القائمة على الهيمنة، والتي تشكل الإطار لهذا النموذج المحدد من الممارسة الاجتماعية والخطابية؛ وتحديد علاقة هذا النموذج بهذه الأبنية والعلاقات (هل هي تقليدية ومعيارية، أم إبداعية وتجديدية، أم موجهة إلى إعادة هيكلتها، أم معارضة ... إلخ؟) وما الآثار التي تسهم فيها، من حيث إعادة إنتاجها أو تحويلها.
نظم الخطاب : الهدف هنا تحديد العلاقة بين النموذج الحالي للممارسة الاجتماعية والخطابية وبين نظم الخطاب التي تستفيد منها، وآثار إعادة إنتاج نظم الخطاب التي تسهم فيها أو تحويلها، وينبغي الانتباه إلى الاتجاهات الواسعة النطاق التي تؤثر في نظم الخطاب التي سبقت مناقشتها في الفصل السابع عاليه.
الآثار الأيديولوجية والسياسية للخطاب : من المفيد التركيز على الآثار المحددة التالية، وهي الخاصة بالأيديولوجيا والهيمنة (انظر الفصل الثالث عاليه):
نظم المعارف والمعتقدات.
العلاقات الاجتماعية.
الهويات الاجتماعية («النفوس»).
دائما ما توجد بدائل للتحليلات الممكنة لعينات الخطاب، وينشأ السؤال هنا عن كيفية تبرير المحللين للتحليلات التي يقترحونها (أي كيف يثبتون «صحتها»). ولا توجد للسؤال إجابة بسيطة، وكل ما يستطيعه المرء هو أن يقرر اختيار التحليل الذي يراه أصلح البدائل المتاحة استنادا إلى الأدلة المتوافرة. وتوجد عوامل متنوعة ينبغي أخذها في الاعتبار، ومن بينها مدى تفسير التحليل المقترح لطابع العينة الخطابية: هل يشرح معالمها جميعا، حتى المعالم التفصيلية منها، أم يتجاهل شرح بعض المعالم، أم يبدو مناقضا لها؟ ويتمثل عامل آخر فيما يلي: هل يستند التحليل المقترح إلى ما يفعله المشاركون في التفاعل؟ فإذا زعم المرء مثلا أن أحد النصوص يتسم ببناء متناقض، أي إنه يستفيد من أنواع غير متسقة، فهل يقدم المشاركون بالفعل أدلة على أنهم يجدون فيه إشكالية معينة؟ ويمكن للمرء أيضا أن يحسب حساب ردود أفعال المشاركين إزاء التحليل، فإن كانوا يجدونه معقولا، ويجدون أنه يساعدهم على شرح جوانب أخرى من نمط الخطاب قيد التركيز، كان ذلك في صالح التحليل. ومن الاعتبارات ذات الصلة بذلك مدى ما يلقيه التحليل من ضوء على بيانات أخرى للمحلل، وإذا ما كان يمثل أساسا (أو حتى نموذجا) في أعين المحللين الآخرين (انظر بوتر وويذريل، 1987م، 169-172 حيث ترد مناقشة تتسم بالمزيد من التفصيل للقضايا المتصلة بإثبات صحة التحليل). (10) النتائج
أول ملاحظة أبديها هنا هي أنه إذا كان المحللون يتمتعون بقدر من التحكم في كيفية استعمال النتائج، فإنهم من المحال أن يتمتعوا بالتحكم الكامل فيها بمجرد إعلان نتائجهم على الناس، ويمثل هذا معضلة أدركها إدراكا عميقا، وإن لم أستطع أن أجد لها حلا كاملا إلى الآن. سبق لي أن تحدثت في الفصل السابع عن إضفاء التكنولوجيا على الخطاب باعتباره ظاهرة واسعة الانتشار، وهو ما يعني استخدام البحوث الخاصة بالخطاب في إعادة تصميم أشكال الممارسات الخطابية وتدريب الناس على استخدام ممارسات خطابية جديدة. وتكنولوجيات الخطاب مورد للهندسة الثقافية والاجتماعية، وسوف يعترض الكثير من محللي الخطاب على استعمالها، ودون شك على الطرائق التي تستعمل بها، ولكن كيف أضمن، أو يضمن غيري من المحللين، عدم استخدام البحث الذي أجريه في هذه السياقات؟ الإجابة الصادقة، على ما بها من ألم، أنني لا أستطيع ضمان ذلك؛ إذ إن محللي الخطاب يشتركون مع الأكاديميين في مجالات أخرى كثيرة في التعرض بصورة متزايدة إلى خطر إدماجهم في أعمال بيروقراطية أو إدارية. وكما أشرت أثناء مناقشتي لإضفاء التكنولوجيا على الخطاب أقول: إن هذا الاتجاه لا يتجلى إلا بصورة متقطعة في مختلف المؤسسات والمجالات، لكنني أشعر أنه سوف يكتسب قوة دفع، وربما اكتسبها بسرعة، الأمر الذي من شأنه مواجهة المحللين بمعضلات أشد إلحاحا في المستقبل غير البعيد.
وللمرء، بطبيعة الحال، أن يتوقف عن إجراء البحوث، أو يجري البحوث في مجال مختلف، لكنه من الصعب أن نجد مجالات بحثية نضمن عدم إساءة استعمال (نتائجها). كما توجد حلول يتعذر على معظمنا اللجوء إليها، وربما ينبغي لي أن أخفف من نبرة هذا التشاؤم؛ إذ إن تكنولوجيات الخطاب، مثل غيرها من صنوف التكنولوجيا، تتيح إمكانيات في اتجاهات متنوعة، وتزيد فائدة بعضها لغالبية الناس عن البعض الآخر. ولقد وصفت إضفاء التكنولوجيا على الخطاب باعتبارها الاستخدام البيروقراطي أو الإداري للمعرفة عن الخطاب في فرض التغيير، ولكن هذه المعرفة يمكن استخدامها لإحداث التغيير من المستوى الأسفل. وفي هذا الصدد أقمت الحجة مع عدد من زملائي في غير هذا المكان (كلارك وآخرون، 1988م؛ فيركلف وإيفانيتش، 1989م؛ فيركلف، تحت الطبع، أ) على إدراج عنصر خاص ب «الوعي النقدي باللغة» في تعليم اللغات لجميع التلاميذ، فمن شأن هذا أن يمنحهم المعرفة اللازمة لإحداث التغيير، بداية، في ممارساتهم الخطابية والممارسات الخطابية في مجتمعهم المحلي.
ويهدف «الوعي النقدي باللغة» إلى أن يستند إلى خبرات التلاميذ باللغة والخطاب ابتغاء مساعدتهم على أن يزدادوا وعيا بالممارسة التي يشاركون فيها باعتبارهم منتجين للنصوص ومستهلكين لها؛ أي الوعي بالقوى والمصالح الاجتماعية التي تشكل هذه النصوص؛ وبعلاقات السلطة والأيديولوجيات التي تصطبغ بها؛ وبآثارها في الهويات الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية، والمعارف والمعتقدات؛ وبالدور الذي ينهض به الخطاب في عمليات التغير الثقافي والاجتماعي (بما في ذلك إضفاء التكنولوجيا على الخطاب). ومن خلال الوعي يمكن أن يزداد إدراك التلاميذ للقيود المفروضة على ممارستهم، وإمكانيات التحدي الفردي والجماعي لهذه القيود ومخاطر ذلك وتكاليفه، ابتغاء الاشتباك في ممارسة لغوية «تحررية». ويتضح من هذا الوصف الموجز كيف يمكن للوعي النقدي باللغة أن يستفيد من تحليل الخطاب الذي أدعو إليه في هذا الكتاب، ولكن الوعي يتضمن أيضا الوعي بالتنوع اللغوي؛ أي بالوعي التاريخي بعمليات الهيمنة الخاصة بتوحيد مستويات اللغة، والمصالح الكامنة وراء هذا التوحيد؛ والوعي بفرض الصورة المعتمدة للغة (مثل اللغة الإنجليزية المعتمدة) في سياقات رفيعة المنزلة؛ والوعي بأن أمثال تلك القيود تحرم من المزايا من يستخدمون الأنواع (المستويات) الأخرى للغة؛ والوعي بالإمكانيات والمخاطر الكامنة في الاستهانة بها، والطعن في هيمنة المستوى المعتمد. وكما يوحي به ذلك كله، نجد أن الوعي النقدي باللغة يرى أن تنمية الوعي باللغة يدعم الممارسة اللغوية مثلما تدعمه هذه الممارسة.
وقد يود المحللون أن يواصلوا علاقتهم بالأشخاص الذين خضعوا للبحوث بعد انتهاء هذه البحوث بالمعنى المفهوم، وقد يتضمن ذلك على الأقل صوغ النتائج صياغة يمكن أن يفهمها هؤلاء الأشخاص ويستخدموها، وربما استطاع المحللون أن يبدءوا حوارا معهم بشأن النتائج المذكورة وما يترتب عليها. بل قد يقتضي الأمر اشتباكا في عمل طويل الأجل يقرره هؤلاء الأشخاص بناء على هذه النتائج. فإذا كان المشروع، على سبيل المثال، مختصا بدوائر الجودة في الصناعة، وهو الذي أشرت إليه آنفا، وكان يهدف إلى تبيان أن المديرين يتحكمون إلى حد كبير في اجتماعات حلقات الجودة المذكورة (ربما من خلال أنماط السيطرة على التفاعل المذكورة عاليه) فربما يقرر العمال (أو المديرون أو الطرفان معا) أن يحاولوا وضع أساليب للتفاعل تسمح بزيادة المشاركة في التحكم وزيادة نسبة التفاوض بين الجانبين. وقد ينجح محللو الخطاب في تحويل قدراتهم التحليلية إلى المساعدة في تصميم أشكال التفاعل.
وهكذا فإن الإمكانيات متاحة للمحللين حتى يتحكموا إلى حد ما في استعمال النتائج التي توصلوا إليها، ولكنني أعتقد أن اختتام كتابي بهذه النغمة المتفائلة أمر مضلل، فإذا اشتد ساعد إضفاء التكنولوجيا على الخطاب وفق نبوءتي، فسوف يشق على محللي الخطاب أن يحولوا دون الاستيلاء على مداخلاتهم القائمة على النوايا الحسنة، من جانب من بأيديهم زمام السلطة ويملكون الموارد والمال.
المراجع
Althusser, L. 1971: Ideology and ideological state apparatuses. In L. Althusser (ed.),
Lenin and Philosophy and Other Essays , London: New Left Books.
Antakki, C. 1988:
Analyzing Everyday Explanation: a casebook of methods.
London: Sage Publications.
Argyle, M. 1978:
The
3
rd
edn. Harmondsworth: Penguin Books.
Atkinson, J. M. and Drew, P. 1979:
Order in Court: the organization of verbal interaction in judicial settings.
London: Macmillan.
Atkinson, J. M. and Heritage, J. 1984:
Structures of Social Action.
Cambridge: Cambridge University Press.
Authier-Révuz, J. 1982: Hétérogenéité montrée et hétérogenéité constitutive: éléments pour une approache de l’autre dans le discourse.
DRLAV , 32.
Bagguley, P. 1990: Post-Fordism and enterprise culture: flexibility, autonomy and changes in economic organization. In Keat and Abercrombie 1990.
Bagguley, P. and Lash, S. 1988: Labour relations in disorganized capitalism: a five-nation comparison.
Environment and Planning D: Society and Space , 6, 321-38.
Bakhtin, M.:
1981:
The Dialogical Imagination,
ed. M. Holquist, trans. C. Emerson and M. Holquist. Austin: University of Texas
1986:
Speech Genres and Other Late Essays,
ed. C. Emerson and M. Holquist, trans. V. W. McGee. Austin: University of Texas
Barnes, D. 1976:
Teachers and Pupil Talking.
Videocasette. Milton Keynes: Open University.
Bennett, T. and Woollacott, J. 1987:
Bond and Beyond: the political career of a popular hero.
London: Macmillan.
Benson, D. and Hughes, J. 1983:
The Perspective of Ethnomethodology . London: Longman.
Bernstein, B. 1981: Codes, modalities and the process of cultural reproduction: a model.
Language in Society,
10, 327-67.
Billig, M., Condor, S., Edwards, D., Gane, M., Middleton, D. and Ridley, A. 1988:
Ideological Dilemmas: a social psychology of everyday thinking.
London: Sage
Bourdieu, P.:
1977:
Outline of a Theory of Practice,
trans. R. Nice. Cambridge: Cambridge University Press.
1982:
Ce que Parler Veut Dire.
1984:
Distinction: a social critique of the judgement of taste , trans. R. Nice. London: Routledge.
1988:
Homo Academicus,
trans. Peter Collier. Cambridge: Polity
Brown, G. and Yule, G. 1983:
Discourse Analysis.
Cambridge: Cambridge University Press.
Brown, P. and Fraser, C. 1979: Speech as a marker of situation. In K. Scherer and H. Giles (eds),
Social Markers in Speech , Cambridge: Cambridge University Press.
Brown, P. and Levinson, S. 1987:
usage.
Cambridge: Cambridge University
Buci-Glucksmann, C. 1980:
Gramsci and the State , trans. D. Fernbach. London: Lawrence and Wishart.
Button, G. and Casey, N. 1984: Generating topics: the use of topics initial elicitors. In Atkinson and Heritage 1984.
Button, G. and Lee, J. R. E. 1987:
Talk and Social Organization.
Clevedon: Multilingual Matters.
Cameron, D. 1985:
Feminism and Linguistic Theory . London: Macmillan.
Chilton, P. (ed.), 1985:
Language and the Nuclear Arms Debate . London: Pinter
Chilton, P. 1988:
Orwellian Language and the Media.
London: Pluto
Clark, R., Fairclough, N., Ivanic, R. and Martin-Jones, M. 1988: Critical language awareness.
Centre for Language in Social Life Research
, 1. University of Lancaster.
Coates, J. 1986:
Women, Men and Language . London: Longman.
Coulthard, M. 1977:
An Introduction to Discourse Analysis . London: Longman.
Courtine, J-J. 1981: Analyse du discours politique (le discourse communiste adressé aux chrétiens).
Languages , 62 (whole vol.).
Courtine, J-J. and Marandin, J-M. 1981: Quel objet pour l’analyse du discourse? In
Materialités Discursives , Lille: Presses Universitaires de Lille.
Davidson, A. I. 1986: Archaeology, genealogy, ethics. In D. C. Hoy (ed.),
Foucaults: a critical reader , Oxford: Basil Blackwell.
de Beaugrande, R. and Dressler, W. 1981:
Introduction to Text Linguistics . London: Longman.
Debray, R. 1981:
Critique de la Raison Politique . Paris: Gallimard.
Department of Education and Science:
1988:
Report of the Committee of Inquiry into the Teaching of English Language (Kingman Report) . London: HMSO.
1989:
English from Ages 5 to 16 (The Cox Report).
London: HMSO.
de Saussure, F. 1959:
Course in General Linguistics,
trans. Wade Baskin. New York: McGraw Hill.
Dews, P. 1987:
Logics of Disintegration.
London: Verso.
Downes, W. 1984:
Language and Society . London: Fontana.
Dreyfus, H. and Rabinow, P. 1982:
Michel Foucault: beyond structuralism and hermeneutics . Brighton: Harvester
Economy and Society , 18 February 1989. Special number of rhetoric.
Edelman, M. 1974: The political language of the helping professions.
Society , 4, 295-310.
Edelsky, C. 1981: Who’s got the floor?
Language in Society , 10, 383-421.
Emerson, J. 1970: Behaviour in private places: sustaining definitions of reality in gynaecological examinations. In H. P. Dreizel (ed.),
Recent Sociology No. 2,
New York: Collier-Macmillan.
Fairclough, N.:
1988a: Register, power and
Functions of Style , London: Pinter
1988b: Discourse representation in media discourse.
Sociolinguistics , 17, 125-39.
1988c: Linguistic and social change, and consequences for language education.
Centre for Language in Social Life Research
, 2. University of Lancaster.
1989a:
Language and
. London: Longman.
1989b: Language and ideology.
English Language Research Journal , 3, 9-27.
1989c: Discourse in social change: a conflictual view. Working paper, Department of Linguistics, University of Lancaster.
1990a: What might we mean by “enterprise discourse”? In R. Keat and N. Abercrombie 1990.
1990b: Technologization of discourse.
Centre for Language in Social Life Research
, 17. University of Lancaster. (ed.), forthcoming a:
Critical Language Awareness.
London: Longman.
forthcoming b: The appropriacy of “appropriateness”> In N. Fairclough (ed.) forthcoming a.
Fairclough, N. and Ivanic, R. 1989. Language education or language training? A critique of the Kingman model of the English language. In J. Bourne and T. Bloor (eds),
The Kingman Report,
London: Committee for Linguistics in Education.
Fishman, P. M. 1983: Interaction: the work women do. In B. Thorne, C. Kramarae and N. Thorne (eds),
Language, Gender and Society,
Rowley Mass: Newbury House.
Foucault, M.:
1971:
L’ordre du Discours.
1972:
The Archaeology of Knowledge.
London: Tavistock
1979:
Discipline and
Harmondsworth:
1981:
History of Sexuality,
vol. 1. Harmondsworth: Penguin Books.
1982: The subject and power. Afterword to Dreyfus and Rabinow.
1982, 1984: The order of discourse. In M. Shapiro (ed.),
Langage and
Oxford: Basil Blackwell.
Fowler, R.:
1988a: Notes on critical linguistics. In R. Steele and T. Threadgold (eds),
Language Topics , vol. 2 Amsterdam: Benjamins.
1988b: Oral models in the press. In M. MacLure et al. (eds),
Oracy Matters , Milton Keynes: The Open University press.
Fowler, R. Hodge, B., Kress, G. and Trew, T. 1979:
Language and Control . Routledge: London.
Fraser, N. 1989:
Unruly
theory.
Cambridge: Polity Press.
Frow, J. 1985: Discourse and power.
Economy and Society , 14.
Further Education Unit 1987:
Relevance, Flexibility and Competence . London: Further Education Unit.
Garfinkel, H. 1967:
Studies in Ethnomethodology.
Englewood Cliffs, New Jersey:
Garton, G., Montgomery, M. and Tolson A. 1988: Media discrouse in the 1987 General Election: ideology, scripts and metaphors. Working paper. Programme in Literary Linguistics, Strathclyde University.
Giddens, A. 1984.
The Constitution of Society . Cambridge: Polity
Goffman, E. 1974:
Frame Analysis . New York: Harper Colophon Books.
Graddoll, D. and Swann, J. 1989:
Gender Voices.
Oxford: Basil Blackwell.
Gramsci, A. 1971:
Selections from the prison notebooks,
ed. and trans. Q. Hoare and G. Nowell Smith. London: Lawrence and Wishart.
Gumperz, J. 1982:
Discourse Strategies.
Cambridge: Cambridge University
Habermas, J. 1984:
Theory of Communicative Actions , vol. 1, trans. T. McCarthy. London: Heinemann.
Hall, S. 1988: The toad in the garden: Thatcherism among the theorists. In Nelson and Grossberg 1988.
Hall, S., Critcher, C., Jefferson, T., Clarke, J. and Roberts, B. 1978:
Crisis . London: Macmillan.
Halliday, M. A. K.:
1961: Categories of the theory of grammar.
Word,
17, 241-92.
1966: Lexis as a linguistic level. In C. Bazell, J. C. Catford, M. A. K. Halliday and R. H. Robins (eds),
In Memory of J. R. Firth,
London: Longman.
1971: Linguistic function and literary style: an enquiry into the language of William Golding’s
The Inheritors.
In M. A. K. Halliday 1973.
1973:
Explorations in the Functions of Language . London: Edward Arnold.
1978:
Language as Social Semiotic . London: Edward Arnold.
1985:
Introduction to Functional Grammar . London: Edward Arnold.
Halliday, M. A. K. and Hasan, R.:
1976:
Cobhesion in English.
London: Longman.
1985:
Languag, Context and Text: Aspects of Language in a Social-Semiotic
. Geelong, Victoria: Deakin University
Harris, Z. 1963:
Discourse Analysis.
La Haye: Mouton and Company.
Hartley, J. 1982:
Understanding News . London: Methuen.
Hasan, R. 1988:
Linguistics, Language and Verbal Art.
Oxford: Oxford University Press.
Health Education Council 1984:
. London: Health Education Council.
Henriques, J., Hollway, W., Urwin, C., Venn, C. and Walkerdine, V. 1984:
Changing the Subject . London: Methuen.
Heritage, J. 1985: Analyzing news interviews: aspects of the production of talk for overhearing audiences. In van Dijk 1985a, vol. 3.
Heritage, J. C. and Watson, D. R. 1979: Formulations as conversational objects. In G. Psathas (ed.),
Everyday Language: Studies in ethnomethodology,
New York: Irvington.
HMSO 1985:
Fifth Report from the Home Affairs Committee . London: HMSO.
Hodge, R. and Kress, G. 1988:
Social Semiotics.
Cambridge: Polity
Hoey, M. 1983:
On the Surface of Discourse.
London: George, Allen and Unwin.
Hoy, D. C. (ed.), 1986:
Foucault: a critical reader . Oxford: Basil Blackwell.
Ivanic, R. and Simpson, J. forthcoming: Who’s who in academic writing? In N. Fairclough (ed.), forthcoming a.
Jakobson, R. 1961: Concluding statement: linguistics and poetics. In T. Sebeok (ed.),
Style in Language,
Cambridge, Mass: The MIT
Jameson, F. 1984: Postmodernism, or the cultural logic of late capitalism.
New Left Review , 146, 53-92.
Jefferson, G. and Lee, J. R. 1981: The rejection of advice: managing the problematic convergence of “troubles-telling” and a “service encounter”.
Journal of
, 5, 339-422.
Keat, R. and Abercrombie, N. (eds) 1990:
Enterprise Culture . London: Routledge.
Kress, G. 1986: Language in the media: the construction of the domains of public and private.
Media, Culture and Society , 8, 395-419.
Kress, G. 1987: Educating readers: language in advertising. In J. Hawthorn (ed.),
London: Edward Arnold.
Kress, G. 1988:
Linguistic
. Oxford: Oxford University Press.
Kress, G. 1989: History and language: towards a social account of language change.
Journal of Pragmatics , 13, 445-66.
Kress, G. and Hodge, R. 1989:
Language as Ideology . London: Routledge.
Kress, G. and Threadgold, T. 1988: Towards a social theory of genre.
Southern Review , 21, 215-43.
Kristeva, J.:
1986a: Word, dialogue and novel. In T. Moi (ed.),
The Kristeva Reader , Oxford: Basil Blackwell, 34-61.
1986b: The system and the speaking subject. In T. Moi (ed.),
The Kristeva Reader,
Oxford: Basil Blackwell, 24-33.
Labov, W. and Fanshel, D. 1977:
Therapeutic Discourse: psychotherapy as conversation . New York: Academic
Laclau, E. 1977:
and Ideology in Marxist theory . London: New Left Books.
Laclau, E. and Mouffe, C. 1985:
Hegemony and Socialist Strategy . London: Verso.
Lakoff, G. and Johnson, M. 1980:
Metaphors We Live By . Chicago: University of Chicago Press.
Larrain, J. 1979:
The Concept of Ideology . London: Hutchinson.
Lecourt, D. 1972:
Critique de l’Epistemologie . Paris: François Maspero.
Leech, G. N.:
1981:
Semantics , 2
nd
edn. Harmondsworth: Penguin Books.
1983:
. London: Longman.
Leech, G. N., Deuchar, M. and Hoogenraad, R. 1982:
English Grammar for Today . London: Macmillan.
Leech, G. N. and Short, M. 1981:
Style in Fiction . London: Longman.
Leech, G. N. and Thomas, J. 1989: Language, meaning and context: pragmatics. In N. E. Collinge (ed.),
An Encyclopaedia of Language , London: Routledge.
Leiss, W., Kline, S. and Jhally, S. 1986:
Social Communication in Advertising.
London: Methuen.
Leith, D. 983:
A Social History of English . London: Routledge.
Levinson, S.:
1979: Activity types and language.
Linguistics , 17, 365-99.
1983:
Cambridge: Cambridge University
Looker, T. and Gregson, O. 1989: Stress and the businessman: stresswise for health success.
Business Enterprise News , 7.
Macdonell, D. 1986:
Theories of Discourse: an introduction.
Oxford: Basil Blackwell.
Maingueneau, D.:
1976:
Initiation aux Méthodes d’Analyse du Discours.
Hachette.
1987:
Nowvelles Tendances en Analyse du Discours . Paris: Hachette.
Maldidier, D. 1984: Hommage: Michel Pecheux: une tension passionnee entre la langue et l’histoire. In Histoire et Linguistique. Paris: Editions de la Maison des Sciences de l’Homme.
Margerison, C. 1987:
Conversation Control Skills for Managers . London: Mercury Books.
Martyna, W. 1978: What does
he
mean: use of the generic masculine.
Journal of Communication , 28, 131-8.
Mey, J. 1985:
Whose Language? A study in linguistic pragmatics . Amsterdam: John Benjamins.
Mishler, E. 1984:
The Discourse of Medicine: dialectics of medical interviews . Norwood, New Jersey: Ablex Publishing Company.
Montgomery, M. 1990:
Meanings and the Media . Ph.D. thesis, University of Strathclyde.
Morley, D. 1980: Texts, readers, subjects. In S. Hall, D. Hobson, A. Lowe and P. Willis (eds),
Culture, Media, Language,
London: Hutchinson.
Morris, N. (ed.), 1986:
The Baby Book.
London: Newbourne Publications Ltd.
Morris, P. 1990: Freeing the spirit of enterprise: The genesis and development of the concept of enterprise culture. In Keat and Abercrombie 1990.
Nelson, C. and Grossberg, L. (eds) 1988:
Marxism and the Interpretation of Culture . London: Macmillan.Ochs, E. 1979: Transciption as theory. In E. Ochs and B. Schieffelin,
Developmental Pragmatics , New York: Academic
1982:
Languages, Semantics and Ideology . London: Macmillan.
1983: Sur les contexts epistemologiques de l’analyse de discourse.
Mots ,
9, 7-17.
1988: Discourse: structure or event? In Nelson and Grossberg 1988.
C. 1979: Un exemple d’ambiguité ideologique: le rapport Mansholt.
Téchnologies, Idéologies, et
, 1.2, 1-83.
Schenkein 1978.
Discourse and Social Psychology: beyond attitudes and behaviour.
London: Sage
Quirk, R., Greenbaum, S., Leech, G. and Svartvik, J. 1972:
A Grammar of Contemporary English . London: Longman.
Rabinow, P. (ed.), 1984:
the Foucault Reader . Harmondsworth: Penguin Books.
Robin, R. 1973:
Histoire et Linguistique.
Colin.
Rose, N. MS: Governing the enterprising self. Paper given at conference, Values of the Enterprise Culture, University of Lancaster, September 1989.
Rose, N. and Millar, R. MS: Rethinking the state: governing economic, social and personal life. 1989.
Sacks, H.:
1967-71:
Mimeo Lecture Notes .
1972: On the analyzability of stories by children. In J. Gumperz and D. Hymes (eds),
Directions in Sociolinguistics,
New York: Holt, Rinehart and Winston, 325-45.
Sacks, H., Schegloff, E. and Jefferson, G. 1974: A simplest systematics for the organization of turn-taking in conversation.
Language,
50, 695-735.
Schegloff, E. and Sacks, H. 1973: Opening up closings.
Semiotica , 8, 289-327.
Schegloff, E., Jefferson, G. and Sacks, H. 1977: The preference for self-correction of repairs in conversation.
Language,
53, 361-82.
Schenkein, J. (ed.), 1978:
Studies in the Organization of Conversational Interaction . New York: Academic
Schutz, A. 1962:
Collected
The Hague: Martinus Nijhoff.
Shapiro, M. 1981:
Language and Political Understanding.
Yale: Yale University
Sinclair, J. and Coulthard, M. 1975:
Towards an Analysis of Discourse: the English used by teachers and pupils . Oxford: Oxford University
Sontag, S. 1988:
Aids and its Metaphors.
Harmondsworth: Penguin Books.
Spender, D. 1980:
Man Made Language . London: Routledge.
Spender, D. and Wilson, D. 1986:
Relevance.
Oxford: Basil Blackwell.
Stubbs, M. 1983:
Discourse Analysis . Oxford: Basil Blackwell.
Talbot, M. forthcoming: The construction of gender in a teenage magazine. In Fairclough forthcoming a.
Tannen, D. 1989:
Talking Voices: repetition, dialogue and imagery in conversational discourse.
Cambridge: Cambridge University
Taylor, C. 1986: Foucault on freedom and truth. In D. C. Hoy (ed.),
Foucault: a critical reader , Oxford: Basil Blackwell.
ten Have, P. 1989: The consultation as a genre. In B. Torode (ed.),
Text and Talk as Social
, Dordrecht-Holland: Foris Publications, 115-35.
Thomas, J. 1988: Discourse control in confrontational interaction.
Lancaster
50. University of Lancaster.
Thompson, J. B.:
1984:
Studies in the Theory of Ideology . Cambridge: Polity
1990:
Ideology and Modern Culture . Cambridge: Polity
Threadgold, T. 1988a: Changing the subject. In R. Steele and T. Threadgold (eds),
Language Topics,
Vol. 2, Amsterdam: Benjamins.
Threadgold, T. 1988b: Stories of race and gender: an unbounded discourse. In D. Birch and M. O’Toole,
Functions of Style,
London: Pinter
Tolson, A. 1990:
Speaking from Experience: interview discourse and forms of subjectivity.
Birmingham.
Trew, T. 1979: Theory and ideology at work. In Fowler et al. 1979.
Urry, J. 1987: Some social and spatial aspects of services.
Society and Space , 5, 5-26.
van Dijk, T. (ed.):
1985a:
Handbook of Discourse Analysis , 4 vols. London: Academic Press.
1985b:
Discourse and Communication: new approaches to the analysis of mass media discourses and communication.
Berlin: Walter de Gruyter and Co.
van Dijk, T. 1988:
News as Discourse.
Hillsdale, New Jersey: Erlbaum.
Volosinov, V.I. 1973:
Marxism and the Philosophy of Language . New York: Seminar Press.
Weedon, C. 1987:
Feminist
Oxford: Basil Blackwell.
Widdowson, H. 1979:
Explorations in Applied Linguistics . Oxford: Oxford University Press.
Williams, R. 1976:
Keywords: a vocabulary of culture and society . London: Fontana/Croom Helm.
Zima, P. 1981: Les méchanisms discursifs de l’idéologie.
Revue de L’Institut de Sociologie (Solvay), 4 .
صفحة غير معروفة