لم يكن يؤلمني، كانت عظام رأسه مستديرة وناعمة تضغط برفق شديد فكأنما هي لا تضغط، وشعره الطويل الناعم كخيوط من حرير تلامس جلدي، فيسري في جسدي تيار ناعم أحسه في صدري كأرجل النمل الدقيقة تمشي وتتجمع في ثديي، وتمتد أصابعي لتلتف حول الحلمة السوداء، أصابع باردة ترتجف، على أطرافها شيء لا يزال عالقا كالحلم القديم، كملمس الحلمة الجافة العقيم، تنضغط تحت الأصابع، تحت الأصابع العشرة، وتنعصر فلا تخرج قطرة واحدة ولا نقطة، كحلم رأيته في المنام ونسيته منذ سنين لكن قلبي أصبح كالطبلة يضرب، وصدري يعلو ويهبط، وأصابعي العشرة تقلصت حول الحلمة كأصابع من حديد.
لا أظنك تتصورين ما الذي حدث في تلك اللحظة، فأنت طبيبة وليس لك ثدي لتعرفي، كانت أطراف أصابعي باردة مثلجة فإذا بشيء ساخن سخونة الدم ينزلق فوق أصابعي، لم يكن أحمر اللون كالدم، كان أبيض ناصع البياض كالضوء الأبيض، وكان يندفع من الثقب الضيق كنافورة، ويجري بين ذراعي كالنهر.
في هذه اللحظة اندفع جسدي في الشارع يركض، وسمعت صوت كعب حذائي وهو يقفز على الأسفلت ويطرقع، هذه الطرقات نفسها لا تزال عالقة بأذني من سنين طويلة، حين نجحت في الامتحان الأخير وجريت إلى أبي وأعطيته الشهادة، وتراءت لي العينان السوداوان، ومن تحت السواد الزرقة تترقرق كسطح البحيرة، ولم أذهب إلى بيتي، كنت أبحث عن عينيك لأرى فيهما فرحي، وحينما رأيت النور في نافذتك قفزت وكدت أنكفئ على وجهي، لكنك كعادتك نظرت إلي بعينيك الحجريتين ثم وضعت منظارك، كان الرأس المستدير بشعره الأسود الناعم محشورا بين العظمتين تحت عينيك، لم تكن شعرة في العين يمكن أن تهرب منك تحت الجفن، كان رأسا بأكمله بكل عظامه ولحمه وشعره، لكنك لم تريه، وصرخت في وجهك وضغطت بأصابعي على صدري فاندفع الخرطوم الأبيض الساخن في عينك، لكنك خلعت قفازك وغسلت يديك ومصمصت شفتيك ووضعت نغبشتك على الورقة وبدأت تستديرين لتعطيني ظهرك.
لكن ذراعي امتد وحده وأوقف دورتك حول نفسك، وأصبحت كفي فوق عنقك، كان العرق الطويل في عنقك ينبض، وكانت أصابعي باردة مثلجة ترتجف، على أطرافها شيء لا يزال عالقا كالحلم القديم، كملمس العرق النابض الطويل، ينضغط تحت أصابعي، وينضغط حتى يصبح كل شيء أبيض، وأصبح عنقك أبيض، ووجهك أبيض، وشعرك أبيض، ومعطفك وأصابعك وأظافرك كلها دهنت باللون الأبيض، ليس هذا البياض المألوف لأي شيء أبيض، ولكنه بياض غريب لا ينبعث من الشيء وليس هو باللون، ولكنه ينبعث من العين ذاتها، كأنما هو نقطة بيضاء التصقت منذ سنين بسواد العين.
لم أكن أعرف حتى تلك اللحظة أن الحرية كالجسد تولد في الألم، كنت أظن أن الناس تولد أحرارا دون أن تشعر بشيء، لكني عرفت أن الألم ضروري، وأن الحرية التي تولد بغير ألم لا تولد، أنها تظل فكرة مجردة تنبض في الرأس، كجنين في بطن أمه يرفث ولا يخرج، ككتلة من اللحم تتحرك كملايين الكتل المتحركة في الجو والبحر والأرض، كالهواء، كالسمك، كالتماسيح، كملايين البشر التي لم تعرف الحرية.
كانت حريتي وليدة طفلة لكنها استطاعت أن تدفع جسدي الكبير الطويل في الطريق، كنت أحرك ذراعي وساقي في الهواء كأنما أحركهما لأول مرة، وذهبت إلى الجريدة، وجلست إلى مكتبي، ورأيت أصابعي الطويلة تلتف حول القلم وتمشي به فوق الورق في بطء وثبات منتظم، كالخطوات البطيئة الراسخة، القدم تنتقل وراء القدم في ثقة، قدم عرفت المسافة خلفها والمسافة أمامها، وعرفت بالضبط أين تضع نفسها في الخطوة القادمة، فتضع نفسها في مكانها بكل حجمها وتثبت فيه بكل ثقلها، وكنت أنتقل من كلمة إلى كلمة، وتثبت عيناي على الجملة الواحدة ليخطر لي شيء، فإذا ما انتقلتا إلى الجملة الثانية خطر لي شيء آخر، كرءوس الدبابيس أو كأرجل النمل الدقيقة كانت الخواطر تمشي في رأسي وأكاد أسمع دبيبها، خواطر ليست جديدة، بل هي قديمة قدم الأزل، كأن يولد الإنسان من بطن أمه، أو أن يموت الإنسان ويدفن في قبر، لكن كل شيء أصبح عجيبا مثيرا للدهشة، ثم تأتي جملة جديدة تجعل الدهشة قديمة والحياة قديمة متكررة كالحلم القديم، وأكاد أحس البرودة على أطراف أصابعي وعتامة كالنقطة البيضاء فوق عيني، لكن السحابة سرعان ما تنقشع ويسطع الضوء فوق السطر، وأكاد أطمئن لحظة فإذا بنبضي يزيد وأنفاسي تسرع، وأحاول أن أسبق اللحظة وأختلس النظر إلى الكلمة الوليدة القادمة بشيء من الرهبة.
كالسحر، كالسر الخفي، يكمن في الكلمات المألوفة القديمة حين أضعها الكلمة وراء الكلمة فتصبح فوق السطر كلمات جديدة لم أسمعها ولم أقرأها من قبل، كلمات خاصة بي وحدي، تصنع لي دون الناس لغة أخرى، وأحزانا أخرى، وأفراحا أخرى، تبدو لي غريبة، لكني أعرفها، أكاد أحسها في نقطة بعيدة في أعماقي السحيقة، لها نبض كنبض القلب ولها ملمس ناعم مستدير كملمس الكبد.
وامتدت يدي تتحسس قلبي فإذا بأصابعي تلتف حول جسم صغير، له رأس مستدير شعره ناعم، وله عينان واسعتان يشف سوادهما من تحته لونا أزرق يترقرق كسطح بحيرة، تذكرت عيني أبي وهما تنظران إلي لحظة نجاحي.
وبدأ قلبي يدق دقته حين يفرح، وضممت ذراعي وكتفي ونهدي على الجسم الناعم الصغير، وضغطت وكدت أضغط أكثر وأكثر لولا أنه فتح شفتيه الصغيرتين وأخذ يلهث، ورأيت لسانه الصغير نديا أحمر كلسان العصفور، فانزلق ثديي وحده خارجا من فتحة الثوب، وارتجفت الحلمة السوداء لحظة في الهواء، على جلدها الأسود المجعد شيء لا يزال عالقا كالحلم القديم، كملمس لسان جاف صغير وفكين بغير أسنان ناعمين وصغيرين يضغطان ويضغطان، ثم اندست الحلمة داخل الفم الصغير فقبض عليها الفكان الصغيران الناعمان.
وأحسست شيئا ناعما دافئا يسري من مؤخرة رأسي إلى ثديي إلى الحلمة إلى داخل الفم الصغير كخيط رفيع من الدم الساخن يسري في شريان واحد طويل.
صفحة غير معروفة