ولما أصبح الصباح لبس منصور العمامة من جديد وارتدى جبته وقفطانه وطرح البذلة جانبا، وأخذه والده إلى الشيخ يوسف إمام مسجد حيهم وأوصاه به خيرا، وطلب منه أن يصطحبه إلى مسجد أبي العباس المرسي ويقدمه إلى أساتذته.
كان الشيخ يوسف ضريرا، ركب فيه اللؤم والخسة، يتشدق في مجالس العامة ليوهم أنه من كبار العلماء والشعراء المفلقين، وكانت العامة تؤمه لينظم لهم تاريخ ميلاد أو تهنئة بزفاف أو غيرها وينقدونه بضعة دراهم، وفي بعض الأحيان لا تتجاوز العشرين، وكان يتعرف بالأسر ويتشدق عندهم بفكاهات محفوظة معدودة ليحظى بالغداء أو العشاء، وكان يفضل أن يسامر نساء من يتعرف بهم ثم يسلقهم بألسنة حداد، وقع منصور في مخالب هذا الذئب، فأراد أن يستغل سذاجته فأوهمه بأنه سيعلمه النحو والصرف وعلوم البلاغة والعروض، فيصبح بعد قليل من الزمن أديبا شاعرا، وأنه سيسحب ذيل النسيان على زملائه من الطلبة. صدق منصور هذه الأوهام واستمثل له، فجعل يسخره ليل نهار في شراء الجبن والفجل والفول المدمس، ولم يكتف بذلك بل أرجعه إلى السوق في يوم مطير ليزيد له البائع ما باعه من الطعام، وكان يقوده من المسجد إلى البيت والسوق.
تعرف منصور في حلقة الدرس بشاب يدعى إبراهيم، فقال له: إنك مغرور بهذا الشيخ وهو من الأبالسة، ولقد تعرف بنا وأضفناه وأكرمنا وفادته ولكنه أساءنا، وسأريك ما أنا فاعل به.
وبعد صلاة العصر نادى إبراهيم: لا تبرحوا مكانكم أيها المؤمنون، أيليق بالإمام أن يذكر أحاديث الفسق والفجور أمام السيدات والبنات، فاحمر الشيخ يوسف خجلا وثار قائلا: أخرجوا هذا الحشاش من المسجد.
كان منصور تحدثه نفسه أن التعليم في معاهد الإسكندرية ليس راقيا كالأزهر، فطمحت نفسه إلى الالتحاق به وحدث والده بذلك، وصادف في هذه الأنباء ورود خطاب من عمه مصطفى إلى أبيه ينبئه بأن ابنه هرب إلى الأزهر والتحق به، ويعرض على منصور أن يذهب إلى الأزهر على نفقته ليراقب ابن عمه، وإلى هنا انتهى الشطر الأول من حياة منصور وتعليمه الأولي، وللكتاب جزء ثان تحت الطبع وسنعود إليه عند ظهوره ونخصص له بحثا آخر.
الكتاب صورة ناطقة للطبقة السفلى، لم يترك كبيرة ولا صغيرة من طباعهم وعوائدهم وعاداتهم إلا حللها تحليلا دقيقا بسيكولوجيا، ولقد كتب بأسلوب رشيق لا يشوبه تكليف، تزينه النكات والفكاهات، وحوى من الوصف الدقيق ما يكاد يجسم لك الحوادث والعادات والأشخاص ليسيرها أمام القارئ صورا حية متحركة، فهو في مجموعه عمل عظيم جليل بليغ، وما هو في الحقيقة إلا تاريخ حياة الدكتور ضيف ومذكرات له عن صباه وأدوار تربيته وما مر عليها من التقلبات.
لقد سطت على هذا الجمال النادر ثآليل شوهته ونفرت منه النفوس، تعرض الأستاذ للدين في كثير من المواضع بمناسبة وبغير مناسبة، وطفق يتهكم على الشعائر الدينية.
وإن كانت الشعائر عند الأستاذ بدعة من البدع أو خرافة من الخرافات، فلم لم يكتب لنا بحثا عربيا يدون فيه نقده وملاحظاته على الدين وينشره بين قومه الذين انتقدهم؟ ما الفائدة العائدة من نشر هذا التهكم وتلك السخرية على الدين الإسلامي عند الفرنسيين؟ وأظن القارئ إن فكر معي قليلا في هذه المعميات والطلاسم عرف أن الذي حدا الأستاذ إلى هذا السلوك الشائن ليس إلا فكرة ترويج الكتاب بنشر هذه الأسرار الدينية التي يتطلع إليها الأجانب وخصوصا الفرنسيين ليتخذوها ملحا وفكاهات يهزءون بها في مجالسهم، وإني أحكم القراء بيني وبينه وأسرد لهم بعض جمل من الكتاب بكل أمانة دون أن أغير شيئا في التعريب.
قال في صفحة 16:
ها هو الحاج قد نزل عن مقعده الخشبي «الدكة» وذهب ليأخذ حصيره المطوي بجوار الحائط، وكان باليا تخرم في مواضع القدمين والكعبين والجبهة، فرشه في اتجاه القبلة بجانب البئر ثم نزع جلبابه واحتذى نعله الخشبي «القبقاب»، فأصبح عاري الجذع والساقين ولم تستره غير سراويله، ثم ذهب إلى البئر وملأ منها الدلو ووضعه على الأرض، وطفق يغترف الماء بيديه ليتوضأ ويغسل وجهه وذراعيه وقدميه، ثم يقف على حصيره والماء يقطر من أعضائه ويرفع يديه إلى رأسه وهو ناظر أمامه دون انحراف كأنه ينظر شيئا وراء الجدران التي تحد نظري، وسمعته يقول: الله أكبر! الله أكبر!
صفحة غير معروفة