نستنتج مما سبق أن جميع أشكال الكلام الإلهامي توجد في الكلام الفني وهو أساس فن الموسيقى.
سلمنا مبدئيا بالتعبير الموسيقي، فما هو إذن مبلغه من الصحة؟
الأصوات الموسيقية كمثيلاتها في الكلام الطبيعي صحيحة التعبير، وهما في التشابه كالألوان الصناعية التي يستعملها المصور وألوان الطبيعة، وهذا المثال في غاية الموافقة لسهولته، وهو الوحيد المعقول الصريح.
ليست الألحان والأوزان بالطرق الوحيدة للتعبير، بل توجد وسائل أخرى وهي قوة الأصوات ورنينها ولهما أهمية عظمى؛ إذ بواسطتهما يحصل التنويع دون تغيير شيء في الجمل الموسيقية التي تتركب منها القطعة، فالمغني يجب عليه استعمالها، كما يلزم المنتقد أن يدقق فيها النظر.
نشاهد في رواية «فيديليو» من مؤلفات «بيتهوفن» في فصلها الأول أن لحنا واحدا يغنيه بالتتابع «مارسولين» و«لييونور» و«روكو» و«جاكوينو»، فهل يتصور إذن أن «بيتهوفن» يطلب من أربعة أشخاص تعبيرا واحدا؟
إننا نعلم أن الكلام الطبيعي الذي هو أساس الكلام الموسيقي له معنى، ولكنه أقل وضوحا من كلام الفكر - أي الكتابة.
يجوز أن يعبر الصياح نفسه عن الخوف والغضب والدهش واليأس والحقد ... وأن يعبر الأنين عينه عن بائس ظفر به الألم، أو شهواني منغمس في ملذاته.
يصادف أحيانا هذا الغموض في التصوير والحفر، ولنضرب مثلا المرأة التي لدغها الثعبان للمصور الفرنسي الشهير «كليزينجيه»، فقد لاحظ فيها «تييوفيل جوتييه» الشاعر الفرنسي المعروف أن تعبير الألم فيها أشبه بالملذات حينما تبلغ منتهاها من الشدة، وأن شرذمة الجند التي تمثل العسس لنابغة المصورين «رامبران» اختلفت فيها الآراء حتى ظنها بعضهم أنها مارة بالنهار لا بالليل، ويوجد بمتحف التماثيل والحفر بمدينة «مونيخ» تمثال عظيم كبير القامة اختلفت فيه علماء الآثار؛ فظنه البعض رجلا، وظنه الآخرون امرأة، فهل لهذه الأسباب يستنتج أن التصوير والحفر لا يحرزان صحة التعبير؟
إن كان نفس هذا الغموض غير محدود في بعض أقسام الحياة الأدبية نفسها، فكيف نتطلب من الفن أن يكون أوضح من الطبيعة وأصدق من الحقيقة؟ هل جميع عواطفنا تتميز من بعضها البعض؟ أليس الحب إن بلغ منتهاه من الشغف صار أشبه بالبغض؟
وباختبارنا للاعتراضين الآتيين للمسيو «هنزليك» يتسنى لنا أن نبين قدرة التعبير بطريقة أدق وأوضح: (1) «ليست العواطف منعزلة بل تابعة لحالات فيزيولوجية وهي والعقل شيء واحد، فلا يتأتى أن يعبر عنها بفن لا يستطيع فيه التمثيل أن يمثل جميع الحركات البسيكولوجية.» يمكننا أن نجاوبه بالاستعانة بالتجارب قائلين له: إنني أشعر حق الشعور بفرحي وحزني وألمي ... دون أن يعتريني أقل شك في حالاتها الفيزيولوجية.
صفحة غير معروفة