الأبحاث الفلسفية والبسيكولوجية
(1) الموسيقى والفلسفة (1-1) مقدمة
نشأت وشبت معي عاطفة تجذبني نحو الكمال والجمال، وما فتئت هذه النفحة العلوية والجذوة الربانية تتوقد في فؤادي ويثور ثائرها كلما تجلى لها الكمال والجمال بأبهى مظاهرهما ومعانيهما في أي كائن كان من صنع الخالق، أو من مبتدعات فنون الإنسان.
أنارت هذه الشعلة بصيرتي وباصرتي، فأصبحت العين تنفذ في أعماق ما يفتنها فترى فيها جمالا ربما كان خفيا لا يدرك معناه كل من رآه، كما أنها لا تعزب عنها عيوب استترت تحت جمال كاذب يغر كثيرا من الجهلاء السذج.
شغفت بالموسيقى وحلت من فؤادي المحل الأرفع، فأصبحت لي في الداء شفاء، وفي الحزن سلوانا، وفي البؤس سعادة ترتاح إليها نفسي وينعم بها روحي.
رويدك أيها القارئ فلا تتهمني بالشطط والمغالاة؛ فإنك لا تلبث أن تسلم بما قلت حينما أرفع لك الأستار وأكشف الحجب عن محاسن تفتن القلوب، وجمال يسلب النهى، وقدرة عظيمة وأسرار مدهشة حجبها جهل فظيع ذهبت غشاوته بالأبصار، وانتقلت أعراضه إلى الآذان فأصمتها، وإلي القلوب فأعمتها، وأصبح الفن عندنا كالحسناء فتك بها الداء الدفين والفقر المدقع، فظلت هائمة على وجهها متسربلة بأطمار بالية سترت ما بقي فيها من آثار الجمال، فنفر منها مريدوها وهجرها محبوها.
اختلجت منذ سنين في صدري فكرة إظهار آيات جمال الموسيقى الخفية وأسرارها العلوية، فوجدتني عيا لا أستطيع أن أجهر بوجدان أشعر به غير كاف للتعبير، فهو وإن كان جله صادقا فإنه يعوزه الدليل القاطع والحجج الدامغة.
أردت أن أستعين بالمؤلفات الإفرنجية فنقبت طويلا فلم أعثر على ضالتي المنشودة؛ لأن هذا البحث لم يطرق إلا حديثا، فصبرت ردحا من الزمن إلى أن وفقني الله للعثور على بعض المؤلفات الجليلة التي تبحث في الموسيقى والفلسفة وكلها لأفاضل المعاصرين، فعمدت إلى دراستها جميعها لإنماء هذا الشعور وتهذيبه، وسأوافي القراء بصفوة ما أحرزته بعد تبويبها حسبما يلائم مشربنا متوخيا أسلوبا جليا واضحا تفهمه العامة قبل الخاصة، لعلي أكون بذلك قد أديت بعضا مما يفرضه علي الواجب الاجتماعي.
ليس المقام مقام بحث في الفلسفة وتعريفها وتقسيمها، ولا مقاما يتناول الموسيقى من الوجهة الفنية والعملية، بل مداره إظهار فضل الموسيقى وأسرارها وعلاقاتها بالفلسفة والشعر، وتأثيرها في الأخلاق والعادات، ونفوذها وقوتها في السحر وتأثيرها في الحيوان.
الموسيقى قوة عظيمة فتانة ساحرة، بل هي فن يعبر به الإنسان عن وجدانه وشعوره بأنغام أفصح من النطق وأبلغ من البيان وأقرب منهما تناولا للأذهان، الفكرة الموسيقية مظهر لإلهام عام عميق غامض ولكنه مفهوم لدى العالم الإنساني، الموسيقى هي لغة النفس التي تنعم بصفائها وسعادتها ومقرها أرقى من الحياة الحقيقية، وقد قال «لوتير»: «إنني أضع بعد الإلهيات مباشرة الموسيقى وأمنحها الشرف الثاني.» وزاد عليه «بيتهوفن» نابغة الموسيقيين، إذ قال: «الموسيقى وحي أعظم وأرفع من جميع الأخلاق والفلسفة، إن هي إلا رحيق ينعشنا ويؤهلنا لجديد الابتداع، بل هي الحياة الخيالية منضمة إلى الحياة المادية، وهي الموصل الوحيد إلى العالم الأعلى، عالم المعرفة الذي يشعر به الإنسان ولا يستطيع ولوجه، وبها ندرك العلم الكامل الإلهي.»
صفحة غير معروفة