أرح فؤادي من شك يكاد ينهشه وقلق أليم يساوره ويضايقه، وإن كنت تعلم أنه قد حم القضاء وجف القلم فلا تغيير ولا تبديل، فمن علي بضجعة لا يقظة بعدها تريح جسما واهيا، وتغيث قلبا داميا. (10) أيها البدر
هاجت الرياح وثارت السافيات مقلة سحبا مكفهرة من العجاج حجبت الشمس فاغبر وجه الأرض، واستتر جمال الطبيعة ونورها، وغطت زمجرة الرياح على ألحان العنادل والشحارير، وهدير الحمام، وغناء القمري، وحفيف الأشجار داعبتها الصبا، واستكنت الأوانس والأطفال في مغانيها، وانكمشت الأنعام في حظائرها، وأقفرت الرياض والخلوات، ولبس الجو ثوب حداد قاتم.
اعتكفت في داري ولم أتمتع بنصف هذا اليوم الذي أستريح فيه من عناء الأعمال، وطفقت أرقب هذا الجو الأغبر من وراء زجاج الكوى وهو يعبث بأزهار حديقتي ويلوثها بأدرانه، فساورني الضيق والسأم كالسجين المحزون.
ما لبثت السماء أن جادت بغيث هتان بدد الغبار، وغسل الأشجار، وأرجع إلى الأزهار نضارتها وزهاءها، فابتسم وجه الأرض، وصفا الجو، وعاد الطير إلى غنائه متنقلا على الغصون الميادة.
خرجت من سجن الحجر قبيل العشاء وكان الهواء ساكنا هادئا كليالي الربيع؛ فجلست في طنفي وقد أشرق البدر بسناه الناصع المتلألئ كأنه درة وهاجة فوق بساط من إبريسم لازوردي.
كشف البدر ما ستره الغبار، وأظهر جمال الطبيعة وبهاء الزهر الذي نشر عبيره الشذي فأنعشني بسرور وبشر لا يوصفان، ورمى علي أشعته الوضاءة فكساني بطيلسان فضي.
فتنني القمر بجماله الساحر، وخدر حواسي المضطربة من الحبس والضيق، وخيل إلي أن ضوءه الذي جللني يد حسناء فتانة تشفي جريحا ببسمات تخجل وميض البروق، وتمسحه بيدها الملطفة المسكنة.
لم أجد جليسا يؤنسني خيرا من البدر، فأطلت النظر إليه وناجيته بهذا النجاء: أيها البدر المختال بشبابه الغض وفتوته المتجددة! ليت شعري كيف يتمادى الجاحدون في طغيانهم وينكرون آيتك البينة! أمهلتهم من شهر إلى شهر حتى كرت الحقب وهم في غيهم يعمهون.
أيها القمر الجائل! يقولون إن الكواكب هي التي تسير العالم وتتصرف فيه، فسلط زحل على من يجأرون بجحود ران على قلوبهم ليخرس ألسنتهم، ويسلب عقولهم، ويتركهم يتخبطون في البؤس والشقاء.
أيها البدر! سلط سحبك المعتمة لتكون حائلا بينك وبين من أنعم الله عليهم فكفروا بأنعمه وأنكروه.
صفحة غير معروفة