لم تؤثر جميع هذه المحاسن الخلابة، والشمائل الجذابة، والمواهب العظيمة الفتانة في الدهر حتى يرق لها ويشفق عليها، بل ناضلها بفاجعاته وشقائه نضالا يشيب لهوله الولدان، ولم تجد في مشارق الأرض ومغاربها راحما ينتشلها من وهدة البؤس ويحميها من عدوان الزمان.
فكرت طويلا علي أفهم أسرار الزمان في مطاردته لأهل الأدب وأصمائهم بنبال الشقاء، والألم والبلاء، حرت في أمري فهرعت إلى طيف الشعر مسائلا: أيها الطيف الخالد، والخيال الجواب! لم يعادي الزمن أبناءك الأوفياء، ويسالم الجهلاء الأغنياء؟ - لولا هذا العداء لما اقتعد الأديب هذه الذروة الشماء، يطعنه الزمن بخنجره فيوقظ حواسه الهاجعة؛ فينبعث منه أنين الشعر الساحر كما يطعن الموسيقار مزهره بريشته فينطلق منه صوته الفتان بشجي الأنغام والألحان.
أفاض الله من نوره على بصره وقلبه وسمعه وشمه؛ فرأى جمال الطبيعة وهي عارية، وفهم نظامها وانسجامها، وسمع أنغام طيرها ورياحها، وشم عرف شذاها.
أرسله ربه هاديا للضالين، ومعلما للجاهلين، ومعزيا للمصابين، وملطفا لشقاء البائسين، أيحسد الأغنياء الأغبياء على ما أوتوه من حطام الدنيا وما مثلهم إلا كمثل الأنعام السائمة في المروج الخضراء، لا تدري من الدنيا إلا أن تملأ كرشها وتتمرغ في روثها.
خبر الشعراء أنهم إذا شاقهم تراث الدنيا هبطوا من مقام الملائكة الشريف الأعلى إلى زرب الأنعام النجس الأدنى؛ فينطفئ نور حجاهم، وتغلظ قلوبهم وأكبادهم، قل لهم أن لا يتركوا الشعر يرعد ويبرق في صدورهم لئلا يقضي عليهم وهم في ريعان شبابهم؛ فتحرم الخلائق من برهم وخيرهم.
أنبئهم بأن لا يكظموا أنينهم المطرب، ولا يخمدوا تأوهاتهم المشجية؛ فإنها عزاء لهم ولغيرهم من المنكودين، وتسبيح وتمجيد للخالق، وإن صادفت وقرا في آذان أهل الأرض فسيسمعها رب رحيم عادل. (7) الصداقة
كنت ذات ليلة ساهرا بغرفة مطالعتي أتمم قراءة القسم الأخير من كتاب «سان مار» لفخر شعراء فرنسا وحكمائها «ألفريد دوفيني»، وقد وجدتني من شدة التأثر زائد الحرارة، سريع التنفس، مستجمع الحواس هائج الأعصاب، وكأن حروف الكتاب قد تجسمت أمام عيني حتى خيل إلي أني أراها من وراء منظار، وكنت لا ألبث أن أبدأ الصحيفة حتى آتي على آخرها بسرعة غريبة دون أن يفوتني شيء من خفي معانيها، ودقيق مبانيها، وبعيد مراميها، وما وصلت لآخر الكتاب حتى زاد اضطرابي، وغاب صوابي، واغرورقت عيناي رحمة وحنانا لخاتمة فتيين جنى عليهما قلبهما الشريف الرحيم، وذكاؤهما الحاد العظيم.
ذهبت كالمحموم إلى فراشي، وطفقت أستعرض في مخيلتي صور ما تلوته من آيات البؤس وسطور الشقاء وأليم العذاب ما أخر نومي وأطال سهادي، ثم أغفيت عند تباشير الفجر، وأنقذني النعاس من متاعبي وآلامي فانتقلت إلى عالم الأحلام.
رأيتني سائرا في واد عظيم لم أر مثله في المقام الدنيوي يشقه نهر كبير، تحفه من الجانبين سلسلتان من جبال منحدرة جللتهما رياض غناء، وغابات غلباء، أشجارها كاسية من أزهارها البديعة، وبعضها مثقل بثمارها الدانية اليانعة، تصدح فوق أيكها بشجي أنغامها عنادل وشحارير تجلببت بمفوف الرياش، وقد انتثرت وسط هذه الجنان قصور شائقة شاهقة بنيت جميعها بذوق سليم، ونظام عجيب، وانسجام تام، فكانت لمحة من العين كافية لأن تلم بجميع هذه القصور المبثوثة في سفوح الجبال الخضراء، كأنها منظر من مناظر الطبيعة نقشته ريشة «كورو» وعلق فوق حائط أخضر.
رأيت النهر كالماس في صفائه، واستشف ناظراي قراره، فشاهدت فيه شعب المرجان وأصداف اللؤلؤ، وأسماكا سابحة تبهر الرائي بجمالها وألوانها.
صفحة غير معروفة