حولي بكل مكان منهم خلق
تخطي إذا جئت في استفهامها بمن
لا أقتري بلدا إلى على غرر
ولا أمر بخلق غير مضطعن
ولا أعاشر من أملاكهم أحدا
إلا أحق بضرب الرأس من وثن
حيرة
أخذت تباشير الصباح تبدو في الشرق كأنها نهر من نور تتهامس أمواجه، ويتلألأ فوقها حبابه، وآذن زنجي الليل بالرحيل فطفق يقتطف أزهار النجوم، فلم يترك إلا واحدة بقيت في الأفق لماعة وهاجة خفاقة، كأنها ترتعد فرقا من أن يغرقها سيل الصباح. وزجر الفارسان جواديهما فانطلقا مع الرياح كأنهما من الرياح، وانجردا كأنهما القضاء المنقض ليس له مرد ولا عنه محيد. وصبا السوط عليهما ظالمين فانصبا كما ينصب السيل هدارا عجاجا لا يقف في طريقه شيء، ورميا بطرفيهما إلى البعيد فأصبح قريبا، وكأنما أعدى عدوهما الأشجار والنخيل فعدت معهما إلى حيث يقصدان. وعجبت الطيور في السماء أن يكون منها طيور ذات قوائم، وعبس وجه الأفق بعد أن كاد غبارهما يسد معاطس الأفق، وشكت الأرض من ضرب سنابكهما المتلاحق، وظنت أنها تلاقي جزاء زلتها في أن ترضى بأن تكون أما لهذا الإنسان الذي خلق من طين!
أشرقت الشمس على الفارسين كأنها قرص من الذهب النضار، وبعثت إلى الكون نورا وحياة كعادتها في كل يوم، وهي لا تعرف ماذا يفعل الناس بالنور والحياة، ولا تعرف أن الحياة التي تمنحها فيها معنى الموت وفيها معنى الفناء، ولكن ما شأنها هي بمن يعيش أو بمن يموت؟ إنها سراج إلهي يستضيء به من أراد أن يستضيء، إنها تضيء للأعمى، وتضيء للبصير، وتشرق على البار والفاجر، ولكنها على أي حال خير من السحب البله التي تترك الرياض الظمأى، وتصب ماءها مدرارا على الأراضي السبخة التي لا تخرج زرعا ولا تنبت بقلا، وهي خير ألف مرة من الحديد الذي يخدم الإنسان ويقتله.
وأشرقت الشمس على الفارسين فكفكفا من عناني فرسيهما بعد أن جاوزا الفسطاط بأميال، وبدت الزروع والكروم والنخيل يداعبها النسيم، فينفض عنها غشية النعاس، واستيقظت القرى والدساكر ودب فيها ضجيج الحياة، بين ترنيم الطيور، وصياح الديكة، وبين ثغاء وخوار ونباح. وكان كل شيء في الكون مشرقا بساما، وكان كل شيء ضحوكا مرحا، وكان كل شيء يسطع بفطرته النقية على ما حوله فيزيده تألقا وابتهاجا، حب وسلام وجمال، هكذا خلق الكون ليكون، وهكذا يجب أن يكون، ولكن الإنسان المشئوم الشقي بنفسه ومطامعه، يقلب هذا الحب عداء وشكاسة، وهذا السلام حربا وصراعا، وهذا الجمال قبحا ودمامة. كان كل شيء في الكون جميلا مشرقا إلا المتنبي، فإنه كان واجما عابسا منتفخا بالشر مشحونا بالبغضاء، ناقما من الكون ومن كل من في الكون، يشكو ويهمهم:
صفحة غير معروفة